196

فآمن إسماعيل على قوله قائلا: قلبي يحدثني بأن العصفور لن يعود إلى القفص.

ضحك حسين ضحكة قصيرة، غير أنها وشت بسروره، ثم قال: لم أظفر بموافقة أبي على سفري حتى وعدته بمواصلة دراستي القانونية، ولكني لا أدري إلى أي مدى سيمكنني المحافظة على وعدي! لا استلطاف بيني وبين القانون، أكثر من هذا يخيل إلي أني لن أصبر على الدراسة النظامية، لا أريد إلا ما أحبه، وقلبي موزع بين معارف شتى لا تجمعها كلية واحدة كما قلت مرارا وتكرارا، أريد أن أتلقى محاضرات في فلسفة الفن، وأخرى في الشعر والقصص، وأن أرتاد المتاحف ومعازف الموسيقى، وأن أعشق وألهو، فأي كلية تحوي هذه الألوان جميعا؟! وثمة حقيقة أخرى تعرفانها وهي أني أفضل أن أسمع على أن أقرأ، أريد أن يشرح غيري لأستمع أنا، ثم أنطلق بحواس مجلوة وعقل مضيء إلى سفوح الجبال، وشواطئ البحور، والمشارب والمقاهي والمراقص، وسوف تصلكما تباعا تقاريري عن هذه التجارب الفذة.

كأنه يصف الجنة التي نبذ هو الإيمان بها! بيد أنها جنة سلبية تأخذ ولا تعطي، وهو يطمح إلى مثال آخر، أما حسين فهيهات أن يحن إلى مغناه القديم، إذا ضمته تلك الحياة الوردية إلى صدرها الرغيد. وكأن إسماعيل كان يردد خواطره حين قال مخاطبا حسين: لن تعود إلينا، الوداع يا حسين! حلمنا واحد على وجه التقريب، دع جانبا فلسفة الفن والمتاحف والموسيقى والشعر وسفوح الجبال ... إلخ، فنكون شخصا واحدا! أذكرك للمرة الأخيرة بأنك لن تعود إلينا.

وحدجه كمال بنظرة متسائلة، كأنما تطالبه برأيه فيما قال إسماعيل، فقال: بل سأعود كثيرا، ستكون مصر ضمن سياحتي الطويلة لأرى الأهل والأصدقاء، (ثم موجها الخطاب إلى كمال) سوف أنتظر سفرك إلى الخارج بجزع أكاد أشعر به من الآن.

من يدري لعل كذبته تصدق فيجوب تلك الآفاق، مهما يكن من أمر فقلبه يحدثه بأن حسين سيعود يوما، وأن هذه الصداقة العميقة لن تضيع هباء، إن قلبه الصدوق يؤمن بهذا كما يؤمن بأن الحب لا تقتلع جذوره من القلب وا أسفاه! قال برجاء: سافر وافعل ما تحب، ثم عد إلى مصر لتجعلها مقامك، على أن تخرج منها سائحا كلما طابت لك السياحة.

فأمن إسماعيل على رأيه: لو أنك ابن حلال حقا لقبلت هذا الحل الوجيه الذي يوفق بين رغبتك ورغبتنا.

قال حسين وهو يطامن رأسه كأنما قد اقتنع: سينتهي بي المطاف إلى هذا الحل فيما أعتقد.

كان يصغي إليه وهو يملأ من منظره ناظريه، خاصة العينين السوداوين اللتين تشبهان عينى عايدة، ولفتاته الجامعة بين السمو واللطف، وروحه الشفاف الذي يكاد يتمثل أمامه خلقا يرى ويحس، إذا غاب هذا العزيز فماذا يبقى من نعمة الصداقة وذكرى الحب؟ الصداقة التي تلقنتها على يديه ألفة روحية وسعادة مطمئنة، والحب الذي ألهمه على يد أخته فرحة سماء وعذاب جحيم؟ وعاد حسين يقول وهو يشير إليهما واحدا بعد الآخر: عندما أعود إلى مصر ستكون أنت محاسبا في وزارة المالية، وأنت مدرسا، ولا يبعد أن أجدكما والدين! ما أعجب هذا!

فتساءل إسماعيل ضاحكا: هل تستطيع أن تتخيلنا موظفين؟ تصور كمال مدرسا! (ثم موجها الخطاب إلى كمال) يجب أن تسمن كثيرا قبل أن تواجه التلاميذ، سوف تلقى جيلا من العفاريت نحن نعد بالقياس إليهم من الملائكة، وسوف تجد نفسك وأنت الوفدي العنيد مضطرا بحكم الوظيفة إلى معاقبة المضربين بأمر الوفد.

أخرجته ملاحظة إسماعيل عن مجرى التفكير الذي كان مسترسلا فيه، فوجد نفسه يتساءل: كيف يستطيع مواجهة التلاميذ برأسه وأنفه المشهورين؟ وجد امتعاضا ومرارة، وخيل إليه - قياسا على شواذ المدرسين الذين عرفهم في حياته - أنه سيلتزم القسوة في معاملة التلاميذ ليحمي شخصيته المهددة. غير أنه تساءل : ترى هل يسعه أن يكون قاسيا على غيره كما يقسو على نفسه؟ قال ارتجالا: لا أظن أنني سأمتهن مهنة التدريس إلى النهاية.

نامعلوم صفحہ