195

فصاح بها السيد: قلت ما فيه الكفاية دون حاجة إلى آرائك.

فعادت إلى ما بين يديها، وجعل السيد يحدق فيها متوعدا حتى اطمأن إلى صمتها، فالتفت إلى كمال متسائلا: مفهوم؟

قال كمال بلهجة موحية بالثقة: بكل تأكيد.

إذا أراد أن يكتب بعد اليوم فعليه بالسياسة الأسبوعية حيث لا تمتد يد أبيه الوفدي، أما عن أمه وعدها في سره بأن يكرس حياته لنشر نور الله، أليس هو نور الحقيقة؟ بلى، وسيكون في تحرره من الدين أقرب إلى الله مما كان في إيمانه به، فما الدين الحقيقي إلا العلم، هو مفتاح أسرار الكون وجلاله، ولو بعث الأنبياء اليوم ما اختاروا سوى العلم رسالة لهم، هكذا يستيقظ من حلم الأساطير ليواجه الحقيقة المجردة، مخلفا وراءه تلك العاصفة - التي صارع فيها الجهل حتى صرعه - حدا فاصلا بين ماض خرافي وغد نوراني، بذلك تتفتح له السبل المؤدية إلى الله، سبل العلم والخير والجمال، وبذلك يودع الماضي بأحلامه الخادعة، وآماله الكاذبة، وآلامه البالغة.

34

بعناية واهتمام جعل يتفحص ما تقع عليه عيناه وهو مقبل على سراي آل شداد، فلما عبر مدخلها تضاعفت عنايته واهتمامه بتفحص ما حوله، فقد آمن أخيرا بأن هذه الزيارة ستكون آخر عهده بالبيت وآله وذكرياته، كيف لا وقد انتزع حسين في النهاية موافقة أبيه على سفره إلى فرنسا؟ تأمل بملء عينيه ووجدانه الممر الجانبي المفضي إلى الحديقة، والنافذة المطلة عليه، وكان طيفها الرقيق الأنيق يطالعه منها بنظرة حلوة لا تعني شيئا كنظرات النجوم، أو تحية رقيقة لا يقصد بها شخصه كتغريد البلبل المشغول بفرحته عن السامعين، ثم المنظر الكلي للحديقة المبسوط بين مؤخر القصر، والسور العريض المشرف على الصحراء، وما بين هذا وذاك من أعراش الياسمين، وجماعات النخيل، وشجيرات الورد، وأخيرا الكشك العتيد الذي تملى تحت سقفه بنشوات الحب والصداقة . وذكر المثل الإنجليزي الذي يقول: «لا تضع كل بيضك في سلة واحدة»، وابتسم ابتسامة حزينة، فإنه وإن حفظه منذ عهد بعيد إلا أنه لم ينتفع به، فوضع عن سهو أو حماقة أو قضاء وقدر كل قلبه في هذا البيت، بعضه للحب، وبعضه للصداقة، وقد ضاع الحب، وها هو الصديق يحزم أمتعته استعدادا للرحيل، ومن الغد سيلقى نفسه بلا حبيب ولا صديق. كيف يمكن أن يتعزى عن هذا المنظر؟ قد انطبع في صدره، وعلق بقلبه، وبات ذا ألفة وحنين، القصر والحديقة والصحراء، جملة وتفصيلا، كانطباع أسماء عايدة وحسين شداد في حافظته، فكيف ينقطع عنه أو يقنع برؤيته من بعيد كسائر المارة؟ هو الذي لشدة ولعه بالبيت دعا نفسه يوما مداعبا بالوثني!

وكان حسين شداد وإسماعيل لطيف جالسين على كرسيين متقابلين أمام المنضدة التي وضع عليها الدورق التقليدي والأكواب الثلاثة، وكانا كعادتهما في الصيف يرتديان قميصا مفتوح الطوق، وبنطلونا من الفانلة البيضاء، فطالعاه بوجهيهما المتناقضين: حسين بوجهه الجميل الوضيء، وإسماعيل بوجهه الحاد القسمات ونظراته التهجمية، فأقبل عليهما ببدلته البيضاء ممسكا بطربوشه الذي تدلدل زره وتصافحوا، ثم جلس جاعلا ظهره إلى البيت، البيت الذي ولاه - من قبل - ظهره! وسرعان ما قال إسماعيل مخاطبا كمال وهو يضحك ضحكة ذات معنى: يتعين علينا الآن أن نبحث عن مكان جديد نتقابل فيه.

ابتسم كمال ابتسامة باهتة. ما أسعد إسماعيل بسخريته التي لم تعرف الألم، وهو وفؤاد الحمزاوي اللذان بقيا له، صديقان يؤنسان القلب ولا يمازجانه، يهرع إليهما هربا من الوحشة، ولا حيلة إلا أن يرضى بما قسم له. - سنلتقي في المقاهي أو الطرقات ما دام حسين قد قرر هجرنا.

هز حسين رأسه في أسف، أسف الفائز بأمنية عزيزة وهو يجامل بإعلان حزنه على فراق يهون، ثم قال: سأغادر مصر وفي قلبي حسرة على فراقكما، الصداقة عاطفة مقدسة، إني أقدرها من أعماق قلبي، والصديق هو القرين الذي يعكس نفسك فيكون صدى لعواطفك وأفكارك، لا يهم أن نختلف في كثير ما دام الجوهر متشابها، لن أنسى هذه الصداقة أبدا، وستصل الرسائل ما بيننا حتى نعود إلى اللقاء مرة أخرى.

كلام جميل هو العزاء للقلب المكلوم المهجور، ألم يكن ما أصابه على يد أخته كافيا، هكذا تتركني وحيدا بلا صديق حقيقي، وغدا يقتل المهجور ظمأ إلى الألفة الروحية الساخرة. تساءل في كآبة: متى نعود إلى اللقاء مرة أخرى؟ لم أنس بعد تطلعك الحار إلى السياحة الدائمة، فمن يضمن لي ألا يكون ذهابك إلى الأبد؟

نامعلوم صفحہ