74

وإذا تجاوزنا الصفات الجسدية إلى صفات العقل والخلق، فالواقع الذي لا جدال فيه أن الحضارات العالمية جميعا لم تنشأ في قطر من أقطار الشمال، وأن أعظم هذه الحضارات قد نشأ في الجنوب على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وبعضها قد نشأ في الشرق الأقصى بين الشعوب الصفراء أو في البلاد البابلية والفارسية والهندية، وهي متعددة العناصر والأجناس. وقد ظهر من اختلاف العادات والتقاليد أنها لا ترجع في أساسها إلى اختلاف أصيل في التكوين، وأن الناس قد يخجلون من بعض الأمور ولا يتفقون على تلك الأمور في كل أمة ولا في كل زمن، ولكن شعور الخجل موجود بينهم جميعا، وإن كان بعضهم يخجل من شيء وبعضهم يحسبه من المألوفات التي لا ضير فيها، فلا يمكن أن يقال من أجل هذا: إن هذه الأمة تعرف الأخلاق وتحترمها، وإن تلك الأمة تجهلها ولا تكثرت لها، فمثل هذا يحدث في اختلاف الأطعمة على حسب المواقع الجغرافية والمحاصيل الزراعية، فتعيش جماعة من الناس على لحوم الصيد والماشية، وتعيش جماعة أخرى على لحوم الأسماك، ويعيش غيرها على النبات، وقد يحرم أكل الحيوان، ويتناول غيرهم جميع هذه الأطعمة حسبما يتيسر منها لديهم، ولا يقال من أجل ذلك: إن هذه الأمة تعرف الجهاز الهضمي وتلك الأمة لا تعرفه، ولا يقال من أجله: إن تكوين المعدات والأجسام في أساسه مختلف لا يقبل التغير والتطور، وربما حدثت من تنوع مواد الغذاء قابليات جسدية محسوسة الأثر، بل ربما حدث لجماعة من الجماعات المتعددة أن تصاب بالمرض من أكله تسيغها جماعة أخرى وتنتفع بها، ثم يقف الأمر عند ذلك ولا يعدوه إلى التفرقة بين هذه الجماعات في أصول التركيب وفي أجهزة الجسم ووظائف الجوارح والأعضاء، وعلى الجملة يحق لنا بعد تجارب العلم الحديث في هذه السنين أن نردد قول شاعرنا أنهم جميعا أسرة واحدة «أبوهم آدم والأم حواء» مهما يكن تفسير العلم الحديث لمعنى تلك الأبوة وتلك الأمومة، وكل ما ثبت من الفروق - حتى الفروق الوراثية - يعود في وقت قريب أو بعيد إلى أسباب مكتسبة تتغير مع البيئة والزمن وطول الاختلاط بين الأمم والقبائل، فليس للسيادة صفات ثابتة في جنس دون جنس، ولا في أمة دون أمة، وقد سادت في القارة الأوروبية أمم من المغول والساميين، وساد أناس من السود بين أناس من البيض، ودارت الحضارة دواليك من شرق إلى غرب ومن جنوب إلى شمال، ومهما تتعدد أجناس الإنسان، فالنوع الإنساني واحد والخصائص الإنسانية عامة مشاعة غير محتكرة ولا مقصورة مدى الزمن على بقعة دون بقعة، ولا على سلالة دون سلالة.

ولا ننسى موطن العبرة في هذا الاتجاه الصالح الذي يتجه إليه علم الأجناس بعد الحرب العالمية الثانية، فإن العلم قد تطغى عليه السياسة حقبة تطول أو تقصر، ولكنه يتخلص من طغيانها ليجري في مجراه. •••

هذه آراء علمية من ولائد القرن العشرين، لم يكن يقابلها في القرن التاسع عشر غير دعوات إنسانية تتمثل في المناداة بتحرير الأرقاء أو إنصاف الشعوب المحكومة من جنس الحاكم المتسلط عليها أو من غير جنسه، ولم تكن منها دعوة تستند إلى البحث في خصائص الجنس أو تكوين السلالة أو شواهد العلم التي تقارب بين أبناء النوع الإنساني في الخصائص والتكوين، وقصاراها من الإنصاف - إنصاف العاطفة والمروءة - أنها كانت تنادي بأن العبيد أكرم من الحيوان، فلا يجوز أن يباعوا ويشتروا في الأسواق كما تباع الماشية العجماء، ولا يمنع هذا أن يكون المنادي بتفضيل الإنسان الأسود على الحيوان مناديا عن يقين وثقة برسالة الرجل الأبيض وأمانته المنوطة بجنسه دون سائر الأجناس البشرية، وهي أمانة السيادة على جميع تلك الأجناس.

أما البحث العلمي الذي يسفر عن التسوية في الأصول والفروع بين أبناء النوع الإنساني فهو - كما تقدم - من ولائد العشرين لم يسبق إليه فيما مضى من القرون، وهو إحدى علامات الزمن، ولو قيل: إنه بلغ ما بلغه في القرن العشرين لحداثة البحث في علم الإنسان وعلم الأجناس، فإن الاهتمام بهذا البحث هو نفسه علامة كبرى من علامات الزمن جاءت في أوانها على قدر مع سائر البحوث التي تجنح بالأمم طوعا أو كرها إلى التضامن والوحدة الإنسانية.

وكل علامة من علامات الزمن لها شأنها ولها دلالتها، ولكننا لا نغلو بها فنجعلها في قوة الحكم الملزم للناس بالطاعة والاتباع، فقد يؤمن الناس بالأخوة في الأسرة - فضلا عن الأخوة في النوع بأسره - ولا يؤمنون بالمساواة أو بالإنصاف، ولكن دلالة الزمن إذا اقترنت بنتائج الواقع كانت هي قوة الحكم الملزم للناس بالطاعة والاتباع، ومن نتائج الواقع في القرن العشرين أن يخفق دعاة العدوان باسم العصبية العنصرية، وأن يتعذر تسخير العصبيات للعصبيات بالقوة أو بالحلية، ولا نعرف في التاريخ قرنا تعذر فيه حكم الجنس للجنس المغاير له كما يتعذر هذا الحكم في القرن العشرين، وقد جربت دعوة الجنس الآري للغلبة على غير الآريين، وجربت دعوة الجنس الأصفر لسيادة أمة من الأمم على القارة الآسيوية على مبدأ «آسيا للآسيويين» فلم يجد أصحاب هذه التجارب من ثمراتها ما يغريهم بالمعاودة والتكرار، ولم يظهر لنا من قبل - ولا يظهر لنا الآن - أن اصطدام سلالة بسلالة خطر يجتاح العالم ويشطر بني الإنسان معسكرين أو عدة معسكرات.

كلا، بل يظهر لنا اليوم أن الخطر الذي ينذر باجتياح العالم ويوشك أن يشطره إلى معسكرين متناحرين، إنما هو خطر واسع يطوي الأجناس والطوائف في برنامج شامل يعده كل من الطرفين المتقابلين لتطبيقه على جميع الشعوب من جميع الأجناس والألوان.

كل على طريقته يبشر بالوحدة العالمية، وقد ينقسم أبناء الوطن الواحد والجنس الواحد فريقين متقابلين، يريد أحدهما أن يوحد العالم الإنساني على هذه الطريقة، ويريد مخالفوه ومناقضوه أن يحققوا هذه الوحدة على الطريقة الأخرى.

هنا أيضا يتراءى لنا أن تيار الوحدة العالمية هو الغالب على كل تيار يعترضه وينثني به عن مجراه، فلا تناقض في الوجهة، وإنما التناقض في الدفة التي تسير بالسفينة إليها.

ولا يرى حتى الآن أن المعسكرين «وهما - كما هو ظاهر - معسكر الديمقراطية ومعسكر الشيوعية» يتباعدان في التطبيق ويولي كلاهما إلى الطرف الأقصى من دعواه، بل يرى على خلاف ذلك أن المستقبل كفيل بالتقريب بين الديمقراطية والشيوعية في مسألة المسائل بين المذهبين وهي مسألة الطبقات؛ لأن معسكر الديمقراطية يقل التفاوت فيه بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء وتتوزع الثروات الكبيرة فيه بين أصحاب الحصص والسهوم، فلا يتمكن فيها أحد من حصر الثراء في يديه أو من الاستئثار بنفوذ المال، ونفوذ الحكم والجاه، ويقابل هذا في المعسكر الشيوعي أن الطبقات تتعدد ولا تتوحد، وأن العمال يتفاوتون كما تتفاوت الأعمال، وأن الاحتكار ينتقل من أيدي الأفراد والشركات إلى أيدي الدولة، ويوشك أن يثير عليها رعاياها ويضطرها إلى النزول عن كثير من السلطان المطلق الذي يمكنها منه احتكار المال والصناعة، وليس هنالك من تضارب أساسي بين أسلوب المعيشة الذي يؤدي إليه توزيع السلطة، وتوزع العمل، وتوزع الثروة على كلتا الطريقتين: طريقة الديمقراطية، وطريقة الشيوعية على وجهتها التي تتجه إليها. •••

وغير بعيد - مع الممهدات الكثيرة للتوفيق بين مذاهب الشرق والغرب - أن يقع المحظور قبل بلوغ الأمد المنظور، فإن الخطر لا يطرأ من تباين المذاهب أو البرامج في جميع الأحوال، بل كثيرا ما يطرأ من تنازع القائمين عليها والمتولين لتنفيذها؛ خوفا على أنظمة الحكم التي تسندهم أو عجزا عن التفاهم بينهم وبين أعدائهم في الداخل والخارج، أو صرفا لأنظار الشعوب عن أسباب القلق والشكاية، وما هي إلا خطوة تزل بها القدم فيستعصي على حكمة العالم كله أن يأمنوا عواقبها قبل فوات أوانها، وقد حدث ذلك في التاريخ القريب كما حدث في التاريخ البعيد، فوقعت الحروب لغير ضرورة عامة تستلزمها، ولم يكن من الحتم وقوعها لأسبابها العارضة، فما يحسب أحد من المؤرخين لحوادث الحربين العالميتين يعتقد أن حادثة سيراجيفو أو حادثة دانزج كانتا توجبان الحرب ضربة لازمة لولا سوء التقدير من الحاكمين وولاة الأمور، ومثل هذا قد يحدث غدا فتتبعه الحرب الثالثة، وتدفع بالعالم الإنساني إلى الهاوية التي لا نجاة له منها كما نجا من الحروب الغابرة، قبل اختراع القذائف النووية والصواريخ الموجهة، وما إليها من أسلحة الفناء والدمار.

نامعلوم صفحہ