فأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطء والعسف. فعجب كسرى مما أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في إقليمك ولما هو أفضل. ثم كساه من كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة. فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقيص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، وجماعة من رءوس العرب سماهم، فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم حال هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منهم، وقد سمعت من كسرى مقالة أتخوف أن يكون لها غدر ... واقتص عليهم مقالة كسرى وما رد عليه فقالوا: وفقك الله أيها الملك، ما أحسن ما رددت عليه، وأبلغ ما حججته به! فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت. قال النعمان: إنما أنا رجل منكم ، وإنما ملكت وعززت بمكانكم، وبما يتخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إلي مما سدد الله به أمركم وأصلح به شأنكم. والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط، وتنطلقوا بكتابي هذا إلى باب كسرى، فإذا دخلتم عليه نطق كل واحد منكم بما حضره؛ ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته به نفسه. ووصاهم بوصايا، فذهبوا إليه. وقد ساق القصة صاحب العقد وأوردها البلوي في كتاب ألف با. •••
ومن حجة الشعوبية على العرب أن قالت: إنا ذهبنا إلى العدل والتسوية، وإن الناس كلهم من طينة واحدة، وسلالة رجل واحد، واحتججنا بقول النبي - عليه الصلاة والسلام: «المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»، وقوله في حجة الوداع، وهي خطبته التي ودع فيها أمته وختم بها نبوته: «أيها الناس، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.» وهذا القول من النبي - عليه الصلاة والسلام - موافق لقول الله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، فأبيتم إلا فخرا، وقلتم: لا تساوينا وإن تقدمتنا إلى الإسلام، ثم صليت حتى تصير كالحني، وصمت حتى تصير كأوتار. ونحن نسامحكم ونجيبكم إلى الفخر بالآباء الذي نهاكم عنه نبيكم
صلى الله عليه وسلم
إذا أبيتم إلا خلافه؛ وإنما نجيبكم إلى ذلك، لاتباع حديثه وما أمر به
صلى الله عليه وسلم ، فنرد عليكم حجتكم في المفاخرة ونقول: أخبرونا إن قالت لكم العجم: هل تعدون الفخر كله أن يكون ملكا أو نبوة، فإن زعمتم أنه ملك قالت لكم: وإن لنا ملوك الأرض كلها من الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة، وهل ينبغي لأحد أن يكون له مثل ملك سليمان الذي سخرت له الإنس والجن والطير والريح، وإنما هو رجل منا، أم هل كان لأحد مثل ملك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها وبلغ مطلع الشمس ومغربها، وبنى ردما من حديد ساوى به بين الصدفين، وسجن وراءه خلقا من الناس تربي على خلق الأرض كلها كثرة؛ لقول الله - عز وجل:
حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فليس شيء أدل على كثرة عددهم من هذا، أو ليس لأحد من ولد آدم مثل آثاره في الأرض، ولو لم يكن له إلا منارة الإسكندرية التي أسسها في قعر البحر، وجعل في رأسها مرآة يظهر البحر كله في زجاجتها. وكيف ومنا ملوك الهند الذين كتب أحدهم إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك، والذي تحته بنت ألف ملك، والذي في مربطه ألف فيل، والذي له نهران ينبتان العود والفوة والجوز والكافور، والذي يوجد ريحه على اثني عشر ميلا؛ إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئا، أما بعد، فإني أردت أن تبعث إلي رجلا يعلمني الإسلام ويوقفني على حدوده والسلام.
وإن زعمتم أنه لا يكون الفخر إلا بنبوة، فإن منا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة هودا، وصالحا، وإسماعيل، ومحمدا، ومنا المصطفون من العالمين: آدم ونوح، وهما العنصران اللذان تفرع منهما البشر، فنحن الأصل وأنتم الفرع، وإنما أنتم غصن من أغصاننا، فقولوا بعد هذا ما شئتم وادعوا.
ولم تزل للأمم كلها من الأعاجم في كل شق من الأرض ملوك تجمعها ومدائن تضمها، وأحكام تدين بها، وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة، ورمانة القبان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل، ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون، والإسطرلاب الذي يعدل به النجوم، ودوران الأفلاك وعلم الكسوف. لم يكن للعرب ملك يجمع سوادها، ويضم قواصيها، ويقمع ظالمها، وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة، ولا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر وقد شاركتها فيه العجم؛ وذلك أن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن والعروض. فما الذي تفخر به العرب على العجم؛ فإنما هي كالذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثوقون في حلق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل ، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي، قال بجير، يعير العرب باختلافها في النسب واستلحاقها للأدعياء:
زعمتم بأن الهند أولاد خندف
نامعلوم صفحہ