يلعن دين
هل أنا أول من وضع هذه الشتيمة على الورق؟! إن كنت ذلك الكاتب فأنا لست بخجول، لا أريد أن أبرئ نفسي أو فعلتي هذه بالقول: إن كبريات مجلات أميركا وصحفها بدأت في السنوات الأخيرة تطبع العبارات السفيهة، ولكني أقول: إن «يلعن دين» هي شتيمة، غير أنها ليست بالشتيمة القذرة، ومن منا لا يستعملها؟ وأنا إذا استعملت «يلعن دين الورق»، لم أشتم شخصا ولا دينا. فلماذا لا أذكر عبارة بليغة في تأدية المعنى، وأرجع إلى مثل «لحاك الله» بدلا منها؟! ألا لحاني الله حتى لأتعثر بلحيتي إن أمكنني استعمال «يلعن دين»، واعتضت عنها ب «لحى الله». أما كلمة «قحبة» فهي قاموسية، وهي «العاهرة» بعينها، ولكني آثرت الأولى؛ لأنها فصيحة وعامية معا؛ ولأن أنين القاف الصلبة إذا جاورت فحيح الحاء أقرب إلى أداء معنى الفحش والزنا من «عاهرة»، وهذه كلمة موسيقية عذراء، مثل «طاهرة، وشاعرة، وساهرة.»
والسبب الآخر في فشل الدرامة عندنا
هو أن هذا الفن يقتضي التعاون في أبلغ درجاته، فالنحات والشاعر والمصور والموسيقي لا يحتاج إلى رفاق. أما الدرامائي، فهو حين يفرغ من حبك درامته، ينتهي من بناء أول درجة من سلم ينطح الجوء، المخرج والممثلون والأوركسترا والخياطون، حتى والجمهور هم الرفقة المتممون لكل درامة. فالسبب الذي من أجله لم نتعاون ولم نصر أمة حتى اليوم، هو السبب الذي من أجله لم يثبت أمام جمهورنا مسرح ولا درامة. متى أردنا إخراج درامة، فالكل يريد دور البطل، ثم نتنافر، ثم لا نتمرن كفاية اعتدادا بأنفسنا، والاعتداد هو «سبور» قومي عندنا، ثم لا يتعاون الممثل ورفيقه الممثل، ثم لا نجتمع في ساعة الاجتماع، ثم - وكم ثم تطلب حتى تهدم رواية، وواحدة تكفي للهدم؟! لهذا لا يستغرب أن معظم الروايات يمثلها التلامذة؛ إذ إن الحسد والتباغض والكسل تكون على أقلها في عذارى نفوسهم. أما من الوجهة التجارية، فإن سوق الدرامة موجودة عندنا إذا قام عندنا مؤلف، وتعاونت معه فرقة، إذ إن شعبنا شعب متعطش للهو، متعشق للأدب، وهذه دور السينما والفرق الأجنبية تستغل شعبنا رابحة. الدرامة لا تشيع إلا بالتعاون، ونحن شعب متخاذل. خذ حملة الأقلام عندنا. لقد قردوا الأدب بحرب أهلية، أثاروها بينهم، وانصرفوا عن الإنتاج إلى التشاتم والانتقاص، وتهديم بعضهم بعضا. تسألني: وكيف تكتب؟ بل أنت لم تسألني، ولا تريد أن تسمع، ولكن صبرك لحظة، فلن أقول لك: إنني أكثر التدخين والقهوة، وإنني يجب أن أكون في حالة جسدية تامة، وأنني أروض ذهني بسماع الموسيقى، أو التطلع إلى حسناء، أو قراءة أدب عال، أو أستعيد ذكرى مفرحة أو ظفرا غابرا، أو أنغمس بحلم جميل. هذا كله ليس بالجديد عليك، ولكنك لعلك لم تسمع أن أجمل ما كتبته كان بعد لعبة بوكر خاسرة. فإن أعظم مثير لهمتي، وجامع لأفكاري، ودافع بي إلى العمل، هو توبيخ الضمير إذ أقترف موبقة، أو أقصر في تنفيذ واجب، فيصيبني من الندم والتحسر ما يهيجني إلى التكفير عن إثمي بإنتاج شيء أعتقده ثمينا. لا بأس عليك إذا سكرت مرة، بشرط أن لا تصبح سكيرا، وبشرط أن يبقى ضميرك حيا، فتتطلع بالمرآة في صباح اليقظة بعد مساء السكر، فتخاطب الوجه في المرآة: «هذا شحوب الضعة في اصفرارك، وهذه الحياة تتناثر من زئبق عينيك. هيا يا مجرم، كفر عن معاصيك بعمل مجيد.» أنا لا أجد من دافع إلى العمل مثل ضمير حي يشعر بالندم. فإن أنت أمنت من وجدانك بالصلابة، فليس أنفع لك من اقتراف الخفيف من الإثم حينا بعد حين.
غير أنني لا «أجلس لأكتب»، فكل ما أضعه على الورق أنقله من مذكرات في دفتري أو خاطري جاهزة أفكارا وعبارات وكلمات، ولست أقعد إلا لأؤلف بينها، وقد أزيد أو أنقص، ولكن الفكرة الرئيسية جاهزة بكل معداتها. أما «نخب العدو» فقد ولدت أشخاصها أجنة، وكبروا، وكبرت معهم، وعايشتهم هاتين السنتين، ففي مقدرتي أن أقص عليك سيرهم، ولو أني رسام لصورتهم لك. لا أنسى منذ أيام إذ لقيت في الشارع مواطنا، فهرعت إليه أسلم عليه سلام الأحباب. قال: «يا أفندي، أشكر لك بهجتك بلقائي، ولكنني أنا من جبال القدس، فيها قضيت كل حياتي، ولم أصل هذا المهجر إلا البارحة، ولا أعتقد أن الله أنعم علي بلقائك قبل اليوم»، فانصرفت أسائل نفسي: من هذا الرجل؟ يستحيل أن لا أكون أعرفه، إلى أن انبثق النور أمام عيني - بلى «هذا شمدص جهجاه»، كما تخيلته في «نخب العدو». حتى أحلام الليل صارت تهبط علي في شكل درامة - على مسرح وأمام نظارة، يرتفع الستار عن حادثة، وينزل على حادثة.
تسألني، وهل أنت تخلق أشخاصك خلقا، أم هم أحياء منقولون؟ أجيب: إن كلا الأمرين ميسور وموافق، فرب صورة فوتوغرافية لغادة يقصر عن استيحاء نظيرها من خياله أعظم الرسامين، ورب دون كيشوت تعرفه أشد إضحاكا في مهازئ مغامراته الحقيقية من دون كيشوت الأصلي، وما دام في وسعي أن أمسخ، وأشوه، وأن أكون من شخصيتين أو أكثر شخصية تلائم قصتي، فلماذا أسمر نفسي إلى طريقة واحدة ؟! ولعل أقرب أشخاص الرواية إلى الأشخاص الحقيقيين هو دور «الدكتور نجيب»، الذي كرسته لذكرى الرجل العظيم المرحوم الدكتور نجيب الصليبي.
أما الدرامة، فتنشب في رأسي غوغاء من مشاهد وأشخاص وحوادث، فقد يخلق المشهد شخصية، أو الشخصية حادثة، أو الحادثة عبارة، أو العبارة قصة. أي مؤلف يدري كيف يؤلف؟ أنا كثير الاستنجاد بعقلي الباطن، فكل ما صعب علي، لا أيأس منه، بل أودعه عقلي الباطن، وأقول: «المروءة يا هذا، أخوك الواعي عجز، وأنا في حاجة ماسة إلى تلك اللفظة أو الحادثة، فاشتغل بها، ومتى ظفرت نادني.» وفي هدأة الليل، أو في التاكسي، أو في أي مكان وزمان تفاجئني اللفظة أو الحادثة. أطلق لمخيلتي العنان، فتزخر أمامي مشاهد وأصوات ومواكب غريبة شتى؛ نابليون أمام الأهرام، لندبرغ يقطع الأتلانتيك، نعش حبيب حي، باخرة تغرق، حرب أهلية في السودان، معركة في حانة، سكير في مدرسة، طفلة بين عجلات الترامواي، مدرسة تحترق، أبيات من الشعر، حسن الزيلعي على المنبر، والمحامي صياح العبود مضرب عن الطعام في السجن. ومن هذه المشاهد الجنونية المتناثرة، تنبت جرثومة، فغرسة، فشجرة. أطلق لحصان فكرك العنان فقد يفر، ويكر، ويعرض، ولكنه في نهاية الأمر يركض بك إلى هدف معلوم.
ولئن تركت هذه الرواية في نفسي من حسرة، فهي أنني أرغمت على خلقها قزماء، ولم أتركها تنشأ هيفاء، ممشوقة القوام. ليت جمهورنا واسع الصدر، بعيد عن التعصب، إذن لجعلت «الحموي والحمصي» بيت «الخوري وعبد النبي»، مسلمين ونصارى، وحملتهم الأسلحة وتركتهم يتقاتلون ويتناحرون ويتشاتمون، ثم ألفت بين قلوبهم، فإذا هم عصبة دفنت الأحفاد، ولكنني أؤلف لمسرح، ولا أريد أن ألعب بالقذائف، فأي أحمق يجسر أن يضع على أفواه أشخاص روايته كلمة، قد يفسرها جاهل أنها تحقير لجماعة، أو مدح لمذهب على حساب مذهب؟ هذه الرواية - على ما أعلم - هي المحاولة الأولى في العربية لبث دعاية الألفة في مؤلف أدبي، ولا عجب إن جاءت المحاولة مبتورة بحكم الفن، مغمغمة بسبب توتر الأعصاب. «الحذر هو ثلثا البأس.»
تستفهمني سرا عن مذاهب أشخاص «نخب العدو ». أجيب : لو أني أعرف أنا دين أحدهم لعرفته أنت، وما اضطررت إلى سؤال. حينما شرعت أدون مذكراتي كان «الحموي والحمصي»، «الحداد والنجار»، وهما اسمان مشتركان بين جميع الطوائف، غير أني خشيت، وكل معارفي الحدادين مسيحيون، أن يأتي بنو الحداد في «نخب العدو» - ولو على الرغم مني - نصارى. فاستبدلت الاسمين، إذ أنا لا أعرف في الدنيا لا «حموي» ولا «حمصي». إن من بحث الأديان في لبنان وسوريا، وجب عليه أن يمشي على الأخمصين، ويضع المخمل في الكفين، ويطلي بالعسل الشفتين، فأين التسامح عندنا أين؟
هل هذه الدرامة محلية؟ أصيح بك بشراسة جبلية: لا! ففكرتها الرئيسية هي إنسانية شاملة طرقها قبلي - عفوك يا قارئ - شكسبير في روميو وجولييت، وعالجها الإغريق قبل شكسبير في روايات عدة، ولئن جاءت حوادثها في «وادي الأرز»، وفي مهجر من مهاجر بني وادي الأرز، فلا يعني أنها «أرزية»؛ إذ إن الحوادث تتطلب مكانا ما تقع فيه، والحكم على محليتها أو على شامليتها يكون بموضوعها وحوادثها وأفكارها، وليس بمكانها. غير أني لا أنكر أني لو أبحت لنفسي أن أشرد عن الفن قليلا، وأغراني من كثرة السذج تملقهم فخامة العبارة الجوفاء، ومواقف البطولة الفارغة، ونعتهم «بالولدنة» المجبون، وهو في نظري أرقى أنواع الأدب وأعسره؛ إذ فيه دراسة وعظة وترويح للنفس، لعريتها من حلاوة نكات، ونزعت عنها الكثير من مألوف الكلام، وأرسلتها في الناس طنطانة، وألبست كلا من أشخاصها حلة ذات لون واحدة، وحقا لقد نظرت في أن أفعل هذا، وقلت: لماذا أصور نفسي في عيون الكثيرين روائيا لبنانيا، أو سوريا، وفي أسهل ميسوري أن أحذف القليل، وأنقخ القليل، وأملح المشاهد بشيء من بديهيات القول، فيرضى الذين يحسبون الشحم عضلا - وهم كثرة - ويقولون: هذا درامائي عربي بل عالمي! وهممت أن أزين «نخب العدو» على النحو الذي ذكرت، فأبصرت حبري قد اصفر جبنا، ويدي بدم الإثم ترشح، وهتف بي ذلك الخفير القابع في زاوية نفسي: «ستأتي طنطنتك مزيفة، وللصدق حيلة على الظفر لا نفهمها، ولكنها فائزة في نهاية الأمر، فالزم النزاهة، وإن كان الإبداع نصيبك، فسيأتيك متفجرا من إلهام نفسك، لا حلة عارية منسوجة من خيوط تفكير سواك.»
نامعلوم صفحہ