والمتعلمات في مصر الآن يزددن عددا وفيهن من يصح أن تلقى إليهن قيادة أخواتهن، وسيجيء زمن ينشأ فيه جيل من النساء غير جيل (السحر والزار والرقى)، وهؤلاء يثمر فيهن البذر، فإذا أتعب الباحث نفسه في نصح النساء الآن قد يجد من تسمع، ولكنه لا يجد من تسمع وتعقل، ولا يبعد أن يكون من بين سامعات خطبة عبد الحميد أفندي من قد تقلدت وتزيت بزي الإفرنج وسارت في الشوارع تفاخر بأنها من ذوات الفكر الحر ومن صاحبات التمدين الحديث.
والخلاصة، أن خروجنا بغير حجاب لا يضر في نفسه إذا كانت أخلاقنا وأخلاق رجالنا على غاية الكمال. وأظن هذا مستحيلا أو بعيد الحصول، فإذا حصل التمازج وكان على هذا الشرط فلا اعتراض لي عليه.
وهناك قوم يشددون في تقدير الحجاب، فيحبسون المرأة مؤبدا ويمنعونها من زيارة جاراتها، ويضيقون عليها بحيث لا تستنشق إلا هواء بيتها الضيق الدائرة فتفسد صحتها وتكسل عن الحركة، ومنهم من يفتخر بأن امرأته لم تبرح بيتها طول عمرها. وهؤلاء أيضا متطرفون؛ لأن المرأة لها رجلان يجب أن تتحركا وعينان يجب أن تبصرا، فإذا صاحبها أبوها أو أخوها أو زوجها مثلا في نزهة وأراها محاسن الطبيعة ودقائق الموجودات وجدد قواها بالحركة واستنشاق الهواء الجيد، وهي بمئزرها محتشمة، فلا يخرج ذلك عن معنى الحجاب «وهنا استسمح الخطيب الأديب في استعمال لفظة حجاب على غير ما مر؛ لأننا لو رددنا كل المجازات إلى الحقيقة لصارت اللغة أضيق من سم الخياط».
على أن هذه المسألة واختلاف الآراء فيها قاضيها العادل الزمن والمستقبل، فكم من مسألة أبى قوم إلا اتباعها وآخرون نبذوها نبذ النواة؛ فاختلفوا وجاء الزمن مؤيدا فيها لفريق دون فريق، فصارت له القوة ورجع له الحول فاتحدوا فيها. ورأيي أن الوقت لم يأن لرفع الحجاب؛ فعلموا المرأة تعليما حقا وربوها تربية صحيحة وهذبوا النشء وأصلحوا أخلاقكم بحيث يصير مجموع الأمة مهذبا، ثم اتركوا لها شأنها تختار ما يوافق مصلحتها ومصلحة الأمة. وإن هذا الموضوع وأمثاله لمما يدعونا إلى التفكر والتبصر فإننا بدأنا أن نجاري الإفرنج في كل شيء، والمجاراة ليست ضارة في حد ذاتها ماديا، ولكن ضررها اجتماعي محض، فضلا عن كل ما بينت في مقالي هذا فإننا لو سلمنا بما يقترحه الكاتب من ضرورة تقليد الغربيين في أمور معاشنا ولباسنا وزي بلادنا مما قد لا يوافق روح الشرق، فإننا نندمج فيهم ونفقد قوميتنا بمرور الزمن، وهذا هو ناموس الكون إذ يفنى الضعيف في القوى، وإنه لمن العار أن نهمل هذا الأمر يجري مجراه، فأدعو الكتاب والباحثين للتفكير فيه، وفي إيجاد مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده ولا تعوقنا عن اجتناء ثمار التمدين الحديث. (3) ما ذنبنا؟
رد على ما كتبه حضرة (الخانقاه) في الجريدة بشأن تبادل إرسال النشء والمصاهرة بين الترك والمصريين. •••
كتب حضرة الأديب (الخانقاه) يقترح على الأمة المصرية أن تتبادل مع تركيا إرسال النشء من بنين وبنات، وقد رد عليه كثيرون مصوبين فكرته ومخطئين لها على أنهم لم يحيطوا بالموضوع من جميع أطرافه، وعذرهم في ذلك أنهم رجال وقد لا يعود عليهم بالذات ضرر ما من تنفيذ ذلك المشروع، ولا يهتم بدرس اقتراح كهذا خطير إلا من قد تقع عليه أضراره فيما لو نفذ، ونحن - معشر النساء المصريات - أكثر الناس تعرضا لمثل ذلك الخطر.
أنا لا أعترض على الموضوع في ذاته، ولكني أعترض على بعض لوازمه المربوطة به، على أني أوافق حضرات الكتاب الذين أبانوا أن بيوتنا لا تصلح لأن يقتبس منها التركي أو التركية شيئا يزيده معرفة أو علما، ولكن بصرف النظر عن هذه الحقيقة المؤلمة فإن الاختلاط الشديد بين الأمتين بهذه النسبة التي يتمناها (الخانقاه)، لا بد وأن ينتج عنها المصاهرة بين أفرادهما، وإن كانت النساء التركيات أغلبهن متعلمات بعكس أخواتهن المصريات، فيكون للأول الرواج في سوق الزواج الآن، أما الآخر فعليهن العفاء ولهن الكساد.
وإن من يتصفح تاريخ المرأة المصرية الحديثة يرى أنها كانت دائما مظلومة مهضومة الحقوق؛ ففي عصر إسماعيل هجم علينا جيش الشركسيات انهزمنا أمامه، وخرج ظافرا منا بأحسن رجالنا فلم يكن شريف أو نابه بمصر إلا وأم ولده جارية شركسية من شراء إسماعيل.
ثم ابتدأ رجالنا فيما بعد ذلك الزمن يتزوجون بالأوروبيات، وليتهن من ذوات الشرف، ولكن كان أكثرهن - إن لم نقل كلهن - من فريق الراقصات والخادمات وأضرابهن. كل ذلك يجري ونحن ساكنات ننظر ولا نتكلم خيفة الريب، ولكن نساء ذلك العهد كن جاهلات لا يفقهن شيئا، وربما كان ذلك خير قصاص منهن على الجهل (على أن هذا لم يكن من جنايتهن على أنفسهن ولكن جناه الوالدون عليهن)، أما وقد صار بمصر الآن من المتعلمات من يصلحن للزواج بأبناء جلدتهن، أفليس من العار أن تقدر على أن تجعل ابنك شريفا من أم ذات حسب؛ فتختار أن يكون ابن جارية شركسية أو راقصة أوروبية؟ ثم أليس من العار أن تشرئب دائما لما في يد غيرك وعندك أحسن منه؟
ألا رب معترض يقول: إن الرق قد بطل الآن، وإن من يصاهر الترك يصاهر أكفاء. هذا صحيح، ولكن الأم تغذي الطفل بأميالها وطباعها كما تغذيه بلبنها، فإذا ما حنت التركية لوطنها (وكل يحن بالطبع لوطنه) نشأ متشبعا بأميالها يحب تركيا ويميل عن مصر وهو معدود من رجالها.
نامعلوم صفحہ