تتبعت خطبة الأديب عبد الحميد أفندي حمدي عددا عددا في الجريدة، فشكرت له اهتمامه بترقية المرأة، وأثنيت على اجتهاده وشجاعته الأدبية، وقد وجدت خطبته صحيحة المقدمات متينة المبنى، إلا أن لي رأيا أبديه فيها، وقد يمر بخلد أحد القارئين أننا ننتقد الخطيب حبا في النقد أو تمسكا بحب القديم وجمودا منا عليه، لكن الحقيقة لا هذا ولا ذاك، وكل امرئ حر في فكره، حر في قبول فكرة غيره أو رفضها حسبما يشاء، بشرط أن لا يضر ذلك الرفض أو القبول بالغير.
أما ما يرجوه الكاتب من تعليم المرأة تعليما صحيحا، فإني أوافقه فيه تمام الموافقة ويجب أن نحث غيرنا عليه بما نستطيع، وقد أصبح هذا القبول بديهيا لا يحتاج لأن أطيل فيه الكلام لا سيما وقد وفاه الخطيب حقه في خطبته؛ فجزاه الله عنا خير الجزاء. بقيت مسألة الحجاب، وهي تلك المسألة العويصة التي قامت من أجلها منذ سنين حرب قلمية عنيفة وضعت أوزارها على غير جدوى فلم يفز فيها (المحافظون) على القديم ولا (الأحرار).
ولست أنتقد اقتراح السفور من الوجهة الدينية؛ لأني أعلم أن الدين لم يحرجنا في هذه المسألة، كما بين ذلك حضرة الخطيب، ولا من الوجهة الاقتصادية فإن باقتراحه أن نلبس لباسا يضارع ما ترتديه الراهبات المسيحيات لتوفير كبير لما كنا عسانا نصرفه في تأنيق اللباس الخارجي كما يفعل نساء الفرنجة مثلا. كذلك لست أنتقده من الوجهة الأدبية فإن ذلك اللباس وبساطته لأليق بتأزرنا به من تلك الحبر المهلهلة، كما سماها الخطيب، ولأدل على حشمة صاحبته - وإن كانت سافرة - مما تلبسه الآن مبرقعة، وشتان بين هذا البرقع الوهمي والبرقع الصحيح.
إذن، لم يبق للموضوع إلا وجهة واحدة وهي الوجهة الاجتماعية، وإذا انتقدته من تلك الجهة فإني لا أقلد فيه ولا أتبع عادة رأي غيري، بل أصرح بما أشاهده عيانا، وبما أعرفه من أحوال شتى جربت فيها النساء المختلفات، والتجارب يجب أن تقدم أوامرها على أوامر البحث والتخيل؛ إذ هي لم تعدم بعد أن تترك أثرا في النفس لا يزول، أما التخيل فقد لا يطابق الحقيقة، وإن طابقها فقد لا يعلق كثيرا بالذهن؛ لأنه لا أثر إلا في المخيلة بعكس التجارب فأثرها يبقى على الحواس والذاكرة. فإذا نصحت طفلا أن لا يلمس النار لئلا تحرقه فإن ولعه بالحركة والاستكشاف لا يزال يغريه بلمسها حتى يفعل ولا تنفع نصيحتك له، أما إذا لمسها مرة وأحرقت أصابعه فإنه يبتعد عنها كلما رآها ولو أمر بلمسها. وعليه فلسنا متبعات رأي من يأمرنا بالحجاب ولا رأي من يقول بخلعه لمجرد أن هذا تعب وكتب، وذاك نقب وخطب، إلا إذا تبينا الرشد من الغي، وعلمنا من التجارب أولى الخطتين بالاتباع. وأمامنا الطبقات المختلفة والأجناس العديدة يجب أن نبحث كلا منها على حدته، ونجمع منها كلها حكما واحدا نحكم به على أنفسنا إما بالحجاب أو بالسفور، أو غير ذلك مما سنوضحه بعد. وطبقات النساء (كالرجال) في كل أمة ثلاث: العامة والخاصة والوسط، وأصحها آدابا فيها كلها على الإطلاق الوسط، ولا بد لذلك من سبب. نعم؛ السبب راجع إلى التربية؛ فالخاصة أو طبقة الغنيات يرخين لأنفسهن العنان في الملاهي والملاذ، والجدة مفسدة في الغالب خصوصا إذا اقترنت بالفراغ، وهؤلاء عندهن من الخدم من يقوم بشؤون بيوتهن وأمور أولادهن، وقد يعودن عيش الكسل والراحة.
والطبقة الدنيا تجد من حاجتها باعثا لها على طرق الطرق المختلفة لتجلب ما تسد به الرمق، ويختلط نساؤها برجالها في المصانع والمزارع وغيرها، وهذه الطبقة شر على الآداب في كل أمة حتى في الإفرنج، وهم ليسوا مقيدين بحجاب ولا عادة يقال معها إنهم لما خالفوها وقعوا في شر منها كما يجوز تطبيق ذلك علينا.
وطبقة الوسط، وهذه دائما أحسن الطبقات آدابا وأكثرهن حشمة ووقارا، ولرب معترض يقول: ما لنا وللطبقات وآدابها وما نسبة ذلك للحجاب وقد أدخلت في حكمك هذا الأمم حتى التي لا حجاب عندها؟ فأقول: متى عرفنا ذلك التقسيم وقارنا بين درجة اختلاط النساء في كل طبقة برجالها علمنا تماما أن الأكثر اختلاطا هن الأشد فسادا.
وإنك إذا استقصيت حوادث النساء في مصر وجدت أكثرها في الطبقة الدنيا منها بما فيها الفلاحات اللاتي وصفهن الخطيب الفاضل بالنزاهة والحشمة، وقد رأيت القرويات كثيرا وحادثتهن واستخلصت من أحوالهن أن ظاهرهن الجد دائما؛ وذلك لعدم رؤيتهن من يقتدين به في أسباب الخلاعة، وقد سمعت أن كثيرات منهن يهمن برجال ممن يختلطن بهم، فلو كانت القرى كالمدن فيها متنزهات بعيدات عن أعين الرقباء، أو كانت الفتاة يستغني أهلها عن شغلها وتعبها قليلا لأفنت ولساوت طبقة المدنيات السفلى (وأعني بهن بائعات البرتقال ومثيلاتهن) في الفساد والوقاحة؛ فهؤلاء فسادهن من سوء التربية لا محالة، ولكن الاختلاط بالرجال زادهن فجورا.
وإذا رجعت لغنيات مصر وهن (الذوات)، ويقلدهن بعض نساء الوسط، فهؤلاء يتفنن في الملابس ويكثرن من الخروج تحككا لأن يسمح لهن برفع الحجاب، ولكن على طريقة بعيدة من الأدب، فإنهن لو كن يطلبن ذلك رغبة في الحرية الشريفة مثلا أو إنهن يشعرن أن الحجاب يمنعهن من الاستفادة من العلماء، أو غير ذلك من الأسباب الجائزة لوجب إعطاؤهن ما يطلبن بغير تكلف البحث والعناء. أما ونساء مصر على هذا الجهل المطبق ورجالها، إلا القليل، على هذا الفساد المستحكم فلا يجوز مطلقا إباحة الاختلاط، على أن الإفرنج - وهم المتعلمون نساء ورجالا - يشكون من فساد مجتمعهم وقلة وفاء أزواجهم. وإذن، نعلم أن الطبيعة البهيمية في الإنسان تجتاز عقبات التربية وتخترق سياجها إلا الشاذة، والشاذة لا حكم لها.
بقيت مسألة واحدة أجملها إجمالا، وهي المثل القائل: (في الطفرة محال)؛ فنساء مصر متعودات الحجاب فلو أمرتهن مرة واحدة بخلعه وترك البرقع لرأيت ما يجلبنه على أنفسهن من الخزي وما يقعن فيه بحكم الطبيعة والتغير الفجائي من أسباب البلاء، وتكون النتيجة شرا على الوطن والدين، وإذا أردت هدم بناء أفلا تهدمه قليلا قليلا إلى أن يتم الهدم فتبنى على أنقاضه أحسن منه. فإذا فرضنا محاولة هدم البناء دفعة واحدة (مستعملين الطرق والآلات التي نستعملها الآن) تصورنا كيف يستحيل ذلك مع بقاء المارة والبنائين سالمين، فضلا عن الأنقاض كزجاج الشبابيك والخشب وما أشبه ذلك، فهذه الباقيات الصالحات في المرأة هي العفة والحياء والمنزل البالي حجابها الآن، والسابلة الوطن والدين والفضائل.
فناشدتك الله أيها الأديب، كيف تأمرنا الآن بالسفور ونحن إذا مشت إحدانا في طريق لا تزال تنصب عليها عبارات الوقاحة، ويرشقها هذا بنظرة فاجرة، وذاك ينضح عليها من ماء سفالته حتى يتصبب عرقها حياء؟! فمجموع رجال مثل مجموعنا الحالي لا يصح بحال ما أن يوكل إليه أمر امرأة وتترك عرضة لسبابه وقلة حيائه، ومجموع نساء كنسائنا الآن لا يفهمن إلا ما يفهمه الرضيع؛ يصبح سفورهن واختلاطهن بالرجل بدعة لا انتهاء لشرها. ثم أفدني أيها القارئ بالله، ماذا تقول امرأة جاهلة أو متعلمة تعلما ناقصا لشاب تجتمع به؟ أتباحثه في العلوم وهي لا تدرك أهميتها أو تعلم منها قشورا لا يعتد بها، أم تناضله في السياسة وهي لا تعلم أين إنكلترا من جزائر الأرخبيل، ولا يمكنها أن تفسر لفظة دستور أو استعمار مثلا؟ أم ماذا تفعل اللهم إلا أنها لا تجد شيئا تقوله إلا ما قد تستحسنه من هيئته وحسن بزته وهناك الضلال الكبير؟!
نامعلوم صفحہ