ولنتأمل بعض الاعتراضات التي وجهها نيتشه إلى الاشتراكية، لنستخلص منها الروح الكامنة من وراء نقده لها. ولنلاحظ من بداية الأمر أن هذه الاعتراضات تكون سلسلة متصلة متماسكة الحلقات، فهي في آخر الأمر اعتراض رئيسي واحد، والكثرة فيها إنما هي أوجه مختلفة لهذا الاعتراض الواحد. (1)
إن الاشتراكية في رأي نيتشه، تجهد نفسها في إصلاح حال أناس ليسوا في حاجة إلى هذا الإصلاح. وقد يبدو ذلك غريبا، ولكن الطبقات الدنيا هي عنده أقل الطبقات شعورا بما هي فيه من عوز وحاجة. «فالاشتراكيون يخطئون حين يعتقدون أنهم قد وضعوا أنفسهم موضع هذه الطبقات الدنيا، وأحسوا بما هم فيه من آلام؛ ذلك لأن الآلام تزيد بارتفاع المستوى الثقافي. والطبقات الدنيا هي الأقل إحساسا. وعلى ذلك فرفع مستواها يعني زيادة إشعارها بالآلام.»
1
والنتيجة الطبيعية لرأي نيتشه هذا، هي أن الدعوة الإصلاحية في الاشتراكية تناقض نفسها على الدوام؛ فهي كلما رفعت مستوى هذه الطبقات الدنيا، ازدادت مطالبها اتساعا، وكلما عجزت عن تحقيق هذه المطالب تضاعفت آلامها.
فما هو البديل الذي يقدمه نيتشه عن هذا الإصلاح الاشتراكي؟ إن الاشتراكية هي «مطالبة» الطبقات الدنيا بإصلاح حالها، ولكن هذه المطالبة في رأي نيتشه لا تكفل العدالة على الإطلاق؛ إذ إنها ما صدرت إلا عن الحقد والحسد، وعن التطلع إلى ما في أيدي الغير، أما العدالة الحقة في نظره فهي أن يفيض من يملك على من لا يملك؛ فالطريقة الوحيدة التي يمكن أن تقوم بها اشتراكية ترتكز على العدالة، هي أن «تمنح» الطبقة الحاكمة حق المساواة للآخرين. أما أن يطالب الآخرون بالمساواة، كما هو الحال في الاشتراكية المألوفة، اشتراكية «الطبقات المكبوتة»، فما هذا في حقيقة الأمر إلا حقد وطمع. ويقدم نيتشه لفكرته هذه تشبيها عنيفا، فيتساءل: «إذا ما قربت من الحيوان المفترس قطعة دامية من اللحم، ثم أخذت تبعدها عنه حتى يخور في آخر الأمر؛ أتسمي هذا الخوار عدالة؟»
2
وإذن فالطبقات الدنيا إذا تركت لذاتها لما طالبت بشيء. وإذا أصلح حالها تطلعت إلى الآخرين في حقد وحسد، وسعت إلى أن تلتهم منهم ما في أيديهم؛ ومن هنا لا يوافق نيتشه على رفع مستوى هذه الطبقات على نحو يمكنها من المطالبة بإصلاح حالها، وإنما يدعو إلى أن «تمنحها» الطبقة الحاكمة قدرا من المساواة، وتتفضل عليها بما قد تطالب به لو أحست بحاجتها إليه.
ولست أدري على أي نحو تمكن نيتشه من أن يبرر لنفسه رأيه هذا في الطبقات الدنيا، ودعوته إلى تركها وشأنها حتى لا تتطلع إلى ما فوقها؛ ففي هذا الرأي من الأنانية ما لا يكاد الذهن يتصوره. وهو ينطوي في واقع الأمر على خوف كامن من وعي هذه الطبقات، ومما يؤدي إليه هذا الوعي من عواقب على الطبقات «العليا»؛ فهو دعوة إلى إبقاء الأمور على حالتها الراهنة، والاعتراف بتقسيم النصيب، سواء في الميدان الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. وما كان ضمير الإنسانية ليقبل على الإطلاق دعوة تحض من يملكون السلطة أو الجاه على أن يحرصوا على ما يملكون، ويدافعوا عنه إلى النهاية ضد من يتطلعون إليه، حتى لو اقتضى الأمر إبقاء هؤلاء الناس في أحط مراتب الحياة.
وليس لنا أن نلتمس لنيتشه عذرا بأنه لم يكن على علم بالحالة السيئة التي كان يجتازها في عصره أولئك الذين يسميهم بالطبقات الدنيا؛ فقد كان على وعي تام بما هم فيه من بؤس؛ ودليل ذلك النص الذي يقول فيه: «أما أننا نؤثر إرضاء غرورنا على كل إرضاء آخر لمشاعرنا (كالاستقرار، وغيره من المزايا)، فهذا ما يتضح - على نحو يبعث على السخرية - من أن الجميع يرغبون في القضاء على الرق (ما لم يكن الأمر راجعا إلى عوامل سياسية) ويجزعون أشد الجزع من أن يروا غيرهم في مكانة الرقيق، بينما ينبغي على كل امرئ أن يوقن بأن حياة الرقيق هي من جميع الأوجه آمن وأهنأ من حياة العامل الحديث، وأن الرق ينطوي على عمل أقل بكثير مما ينطوي عليه حياة العمال.»
3
نامعلوم صفحہ