قيمة النقد الأخلاقي
وأخيرا، فليس من العسير أن يفاضل المرء بين قيمة الجانب السلبي والجانب الإيجابي في تفكير نيتشه الأخلاقي. فبينما تنتمي نظرية الإنسان الأرقى أو إرادة القوة إلى نيتشه وحده، نجد أن نقده الأخلاقي قد أصبح يكون جزءا أساسيا من تاريخ الأخلاق؛ فالقيمة الكبرى لتفكير نيتشه في هذا الميدان إنما ترجع إلى قدرته على الهدم أكثر مما ترجع إلى قدرته على البناء.
على أن من الضروري أن نفرق بين وجهي النقد عنده؛ أعني الوجه الذي ينقد فيه الأخلاق الشائعة، وذلك الذي ينقد فيه الأخلاقية بوجه عام. فإذا كان نيتشه قد ارتكب ما يعد من وجهة نظرنا أخطاء، في نقده للأخلاق الشائعة، فقد نبهنا إلى هذه الأخطاء في موضعها بما فيه الكفاية، وما زالت له علينا في هذا الصدد كلمة تقدير ختامية؛ ذلك لأن المرء مهما اختلف مع نيتشه في تفصيلات نقده للأخلاق السائدة، فلا بد أن يتفق معه على أن تلك الأخلاق تستحق النقد. ولا شك في أن أسباب عدم اكتفاء الناس بهذه الأخلاق سوف تختلف باختلافهم؛ غير أن المفكرين الأمناء منهم على الأقل سوف يشعرون بنقص معين فيها. والحق أن العيوب التي أخذها نيتشه على أخلاق عصره هي في عمومها عيوب حقيقة. وليست مجرد انتقادات خلقها خياله. وإذا كان المجتمع الأوروبي اليوم لم يعد يشعر بتلك العيوب بمثل هذا الوضوح، فما ذلك إلا لأن الفترة التي انقضت بعد نيتشه، على قصرها، كانت فترة حافلة بالثورة والتجديد، ثبتت فيها أركان ذلك النقد الأخلاقي حتى غدا جزءا من تراثه الفكري. أما من كان يعيش في عصر نيتشه، فلا شك أنه كان يدرك أهمية الاحتجاج الصارم الذي وجهه إلى مبادئ عصره الأخلاقية. فمن المؤكد أن الأخلاق الفلسفية الموروثة عن المذاهب العقلية التقليدية، كانت توغل في التجريد، وفي اقتلاع الإنسان من التربة التي أنبتته في هذا العالم، وأعانتها الأخلاق الدينية في هذا السبيل، حتى أصبحت الدعوات الأخلاقية تتنافس في خلق إنسان تجريدي يكاد يكون غريبا عنه تماما، ونحن ما زلنا نعاني من مثل هذه الصورة الغريبة التي تصور الأخلاق بها الإنسان في الشرق، بل إنها عندنا لأبعد عن حقيقتنا مما كانت عندهم. فللفيلسوف إذن كل الحق في أن ينقد تلك الأخلاق الشائعة من أساسها، ويحمل على ادعائها السمو بالإنسان، مع أنها في الواقع تبعده عن واقعه الحي، وترسم له مثلا عليا خيالية، ويظل هو حائرا بين هذه المثل البعيدة وبين الواقع الفعلي الذي لا يلمس لها أثرا فيه، وتتولد من حيرته هذه شتى أنواع الانحرافات. ولو اكتفينا من نقد نيتشه للأخلاق الشائعة بحملته على نزعتها التجريدية ودعوته إلى رد اعتبار المحسوس، والاعتراف به عنصرا أساسيا في الطبيعة الإنسانية؛ لو اكتفينا بذلك وحده، لكان فيه ما يبرر رفع نيتشه إلى مصاف كبار المفكرين الأخلاقيين.
أما حين يوجه نيتشه نقده إلى الأخلاقية بوجه عام، فإن محاولته تهدد بالوقوع في التناقض في كل لحظة من لحظاتها؛ ذلك لأن الأخلاقية بمثل هذا المعنى الشامل ليست حالة طارئة، بل هي المظهر الأساسي للنشاط التقويمي في الإنسان. والذي لا شك فيه أن نقد نيتشه للأخلاقية كان بدوره راجعا إلى دوافع أخلاقية؛ فهو حين يحمل على ما تتضمنه الروح الأخلاقية من شعور بالطاعة واكتفاء باتباع القواعد المصطلح عليها دون تجديد، إنما يرمي من ذلك إلى خلق أفراد «أفضل» هم الذين يتحكم «الخطر» في حياتهم، ويخلقون قاعدة سلوكهم في كل حالة، وهؤلاء الأفراد «الأفضل» هم أرفع من غيرهم في سلم الأخلاقية، بمقياس نيتشه الخاص. فمثل هذا التقويم إلى خير وشر ليس أمرا عارضا، بل هو كامن في ذهن الإنسان بوجه عام، حتى في ذهن أولئك الذين ينقدونه. أما في تفصيلات نقده للأخلاقية، حين يحمل على الشعور بإطاعة قواعد سلوكية عامة، فلا شك أن هذا ليس إلا مظهرا من مظاهر تلك الفكرة التي لازمت نيتشه دائما؛ وأعني بها النفور من كل ما هو عام، والارتياح إلى الفردية المطلقة. وحسبنا هنا أن نلاحظ أن القاعدة لم تصبح عامة إلا لأن التجربة الإنسانية الطويلة قد أثبتت صلاحيتها، وأن اتباع القاعدة العامة لا يتنافى على الإطلاق مع إمكان التصرف الفردي في تطبيقاتها الخاصة. أما التخلي عن كل مبدأ عام في السلوك، فقد يصلح لتنظيم حياة فرد منطو على نفسه، لا يتعامل إلا مع أفكاره ولا يمارس أخلاقيته إلا عليها، أما المجتمع الذي يحيا فيه الإنسان حياته الفعلية، فإنه ينهار من أساسه لو أصبح التجديد الدائم في القواعد الأخلاقية التي يسلك الأفراد بمقتضاها غاية في ذاتها.
الفصل الخامس
فلسفة نيتشه الاجتماعية
أصدرنا في مستهل بحثنا هذا حكما عاما على نيتشه، بأنه لم يكن من المفكرين الذين تعكس فلسفتهم تجاربهم العميقة في الحياة، بل من أولئك الذين تقتصر تجاربهم في الحياة على فلسفتهم وعلى مشاكلهم الفكرية فحسب. وهذا الحكم العام لا ينبغي أن يلجأ إليه في تفسير حياة نيتشه وعلاقتها بتفكيره فحسب، بل إنه قد أثر أبلغ الأثر في طبيعة هذا التفكير ذاته. ولا جدال في أن الأثر الأكبر لتلك الصفة التي تميزت بها شخصية نيتشه، يتبدى أوضح ما يكون في فلسفته الاجتماعية؛ ذلك لأن التفكير السليم في المشاكل الاجتماعية التي تشغل الأذهان في عصر ما يقتضي - كأول وأبسط شرط له - أن يكون المفكر مشاركا لمعاصريه في معاناة هذه المشاكل، مساهما معهم في محاولة حلها. وهذا الشرط الأول البسيط لا يتوافر في نيتشه؛ فقد كان العالم الذي يحيا فيه نيتشه، والذي ينفعل به بكل حواسه ومشاعره، عالما خالصا؛ ومن هنا يحس المرء في كل كتاباته الاجتماعية بأن تلك الآراء صادرة عن ذهن لا يعيش مع العالم المعاصر له على الإطلاق ، وإنما يحيا في عالم نظري خالص (برغم كراهيته لهذه الكلمة)، وتتعلق مثله العليا بتلك الأنماط من الحياة التي يصادفها خلال تفكيره العقلي، كالنمط اليوناني في الحياة على الخصوص، ولا يدرك مدى التباين الهائل بين ذلك العالم الفكري الذي لم يتجاوزه ذهنه، وبين العالم الحديث الذي يحيا فيه، وإنما يأتي لمشاكل هذا العالم الأخير بحلول مستمدة كلها من روح العالم الأول.
ولن ندرس هنا إلا نماذج محدودة لفلسفة نيتشه الاجتماعية، وحسبنا من هذه النماذج أن نشير إلى مدى تأييدها لهذا المبدأ العام الذي أوضحناه، وأن نبين الاتجاه العام الذي تتجه إليه حلول نيتشه لمشاكل المجتمع، في ضوء فهمنا العام للعلاقة بين حياة نيتشه وبين المجتمع المحيط به.
نيتشه والاشتراكية
كانت الاشتراكية في عهد نيتشه مذهبا لم يثبت أقدامه بعد. وإن الناقد الحالي لنظرة نيتشه إلى الاشتراكية ليتعرض منذ البداية لاعتراض أساسي، ينبهه إلى الفارق بين الدور الذي تلعبه الدعوات الاشتراكية في عصرنا الحالي، حين أصبحت عاملا رئيسيا في التوجيه السياسي والاقتصادي للعالم، وبين دورها الضئيل في عصر نيتشه. وهكذا يواجه كل نقد لآراء نيتشه في هذا الصدد بسؤال هام هو: ترى هل كان نيتشه يقف من الاشتراكية نفس الموقف، لو كان يعيش في عصرنا الحالي؟ وليس لنا على هذا السؤال من رد سوى أن نقول إن الاعتراضات التي وجهها نيتشه إلى الاشتراكية هي بعينها تلك التي لا يزال خصومها يوجهونها إليها حتى اليوم. وهذا التشابه بين موقف نيتشه وموقف الناقدين المعاصرين للاشتراكية، يحملنا على الاعتقاد بأنه لم يكن ليغير آراءه لو أنه شهد الاشتراكية من خلال المنظور الحالي، بل ربما كانت حملته على هذا المذهب الذي يبغضه تزداد عندئذ حدة، وذلك حين يراه يزداد انتشارا وتوسعا.
نامعلوم صفحہ