5
السمة التي تتميز بها هاتان القيمتان المتقابلتان هي أنهما لا تعبآن مطلقا بأن يكون الفعل خيرا بمعنى أنه «طيب»، وإنما يكون مقياس أخلاقية الفعل هنا هو أن يعبر عن روح القوة التي يستشعرها المرء في ذاته، وأن يلائم تلك النفوس الزاخرة التي تشعر بأنها هي مانحة القيم وخالقتها. فإذا ما صدر عنها الخير، فهو لا يصدر عن خوف أو إكراه أو ضغط، وإنما يصدر عن إحساس قوي بالوفرة والامتلاء والقوة الفياضة الباذلة.
على أن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا النحو، بحيث يسود الأقوياء وتتحكم شريعتهم، وإنما يتكتل عليهم الضعفاء، الذين يسيئهم أن يسيطر الأقوياء ويحققوا وحدهم كل ما تتسع له شخصيتهم من ممكنات؛ فينقلبوا عليهم، وسرعان ما تكون الغلبة لهم بحكم كثرتهم العددية. وهكذا تسير الدورة التاريخية للأخلاق؛ كل فترة من أخلاق السادة تعقبها فترة من أخلاق العبيد. وليس يلزم أن يتحقق هذا الانقلاب بالقوة المادية، بل قد يكون ذلك بالانحلال المعنوي فحسب. وعلى أية حال، ففي أخلاق العبيد تثور الأكثرية الضعيفة وتسعى إلى خلق مبادئ تلائم حدودها الضيقة، فتعم روح الشفقة والغيرية والمساواة، وهي الصفات التي يعدها نيتشه مظهرا من مظاهر «ضعف» الفرد وحاجته إلى الاستناد إلى غيره، ويصبح التقابل الأخلاقي الرئيسي هو التقابل بني الخير والشر
gut und böse ، وهنا يظهر الخوف والإلزام والجزاء؛ فالشر هو ما يخيف، والخير هو ما نتقي به ذلك الخوف. ومعنى ذلك أن الإنسان الخير في هذه الأخلاق هو ذلك الحمل الوديع الذي يسلم منه الناس؛ ومن هنا كان تقريب اللغات، في أخلاق العبيد، بين كلمة «طيب
gut » ومغفل أو أبله
dumm ؛ فالطيبة والغفلة هنا صفتان متقاربتان إلى أبعد حد.
6
ولما كانت أخلاق العبيد انقلابا للكثرة العاجزة على الأقلية الرفيعة، فإنها تركز اهتمامها دائما على المجموع السوي الذي لا يعرف التطرف في القوة والسيطرة، وتختفي فيها تماما كل روح فردية؛ فالفرد هنا لا تقاس قيمته إلا من حيث هو وسيلة من أجل الجماعة، والفردية في هذه الحالة خروج عن شريعة المجتمع. والسعي إلى تقوية الذات هو بعينه ما يوصف بأنه شر؛ لأنه لن يتم إلا على حساب الأوساط والضعفاء. وعلى هذا النحو يعلل نيتشه سيادة الديمقراطية في عصرنا الحديث، ويصفها بقوله: «لا راعي، وقطيع واحد! كل يريد نفس الشيء، وكل يماثل الآخر، ومن أحس غير ذلك، يدخل طوعا في زمرة المجانين.»
7
ولسنا نريد أن نسترسل مع نيتشه في وصف خصائص أخلاق السادة وأخلاق العبيد؛ فليس في هذا الجزء من فلسفته ما يحبب المرء إلى الاسترسال فيه! ولكن علينا أن نلاحظ أن نيتشه لم يضع هذا التقابل على أنه هدف يسعى إلى تحقيقه، بل تكون لديه عن طريق استقراء؛ فهو يقول: إنه قد تأمل النظم الأخلاقية في الأمم المختلفة، وخرج منها كلها بتلك النتيجة؛ أعني تناوب أخلاق السادة وأخلاق العبيد في السيادة.
نامعلوم صفحہ