82

نداء الحقیقت

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

اصناف

ولهذا يحاول هيدجر أن يعيد الفكر إلى عنصره، أي يعلمه السباحة من جديد في بحر الوجود الذي استمد منه قوته وطاقته وأصالته في فجر الفلسفة! وإن شئنا الدقة قلنا إنه يرجع الوجود إلى الفكر لكي يستولي عليه، ويزوده بالقدرة والطاقة، ويعرفه بجوهره الذي نسيه وغفل عنه في غمرة انشغاله بالموجودات، بهذا يتم التحول الذي ننتظره من التفكير الفلسفي الحق، ويتغير التصور السائد منذ القدم، فبدلا من أن نفكر في الوجود - وهذا بالطبع هو واجبنا المحتوم - نحاول أن يفكر الوجود فينا، أن يصبح الفكر شيئا «يحدثه» الوجود بعد أن يسلم له نفسه وينفتح عليه بكل طاقته وينصت لندائه ويقف منه موقف التلقي والخشوع، وليس التفكير في الإنارة والأسلوب الذي أنارت به عند هذا الفيلسوف أو ذاك الشاعر، في هذا العصر أو غيره، سوى نوع من الإنصات لنداء الوجود.

لن نحاول إذن أن نفهم الإنسان باعتباره «ذاتا» تفسر الموجود من حولها تفسيرات مختلفة، كما فعلت النزعات الإنسانية على اختلافها، بل سنسير في الاتجاه الآخر ونجتهد في فهم الإنسان من ناحية الوجود نفسه كما نجتهد في فهمها من خلال علاقة الإنسان به، وسيكون علينا أن نتخلى عن مجال الميتافيزيقا - أو نقهرها ونتحداها! - لأنها وإن تكن قد فكرت في وجود الموجود-أو موجوديته، فقد عجزت عن إدراك الفارق الأساسي بينهما، ولم تسأل عن حقيقة الوجود نفسه، ولا سألت عن العلاقة الحميمة بين ماهية الإنسان وبين الحقيقة، وسيكون علينا أن نفكر في الوجود الذي نعيش دائما في قربه وجواره، والذي يقربنا من الموجودات كما يقربنا من أنفسنا، وليس هذا الموجود كما قلنا إلا «الإنارة» التي لا بد من افتراضها حتى يتسنى للموجود أن يظهر كما يتسنى لنا أن نلتقي به.

وسنخطئ لو تصورنا أن هذه هي الغاية ونهاية المطاف؛ لأن مهمتنا ستبدأ في الواقع من هذه «المعرفة» - إن جاز لنا أن نسميها بهذا الاسم - التي ستمكننا من النظر إلى ماهية الإنسان على ضوء الإنارة التي تحدث في التاريخ، ولا شك أن هذه الإنارة قد تغيرت أساليب ظهورها وتجليها باختلاف الفلاسفة والعصور والشعوب، وكانت مهمة الإنسان دائما أن يتحملها ويواجهها ويصمد لها وينفتح عليها، لا أن يصطنعها أو يخلقها من العدم، لقد كانت قدرا - كما قال الفيلسوف - وما قدر على فرد أو شعب لا يلزم فردا أو شعبا آخر كل الإلزام، فهل آن لنا أن نفكر في وجودنا والإنارة التي سطع بريقها في طرقات تاريخنا؟ هل نأمل أن نحتشد ونتجمع لنتحمل قدرنا ونواجه مصيرنا ونعرف حقيقتنا بعد أن طال الرقود والركود، والتقصير والنسيان؟ (4-4) حقيقة اللغة

الشعر والفكر واللغة، هذا هو المجال الذي بقي علينا أن نستكشفه على هدي الحقيقة، وبنعمة نورها وتجليها، فلعلنا أن نجد فيها الإنقاذ من المحنة التي تتهدد تاريخنا المعاصر، أو لعلنا أن نشارك بأنفسنا في هذا الإنقاذ.

والكلام عن الشعر والفكر واللغة يحتاج للرجوع إلى دراسات هيدجر المتعددة وشروحه المختلفة لنصوص الشعراء، ابتداء من «الوجود والزمان» إلى «الأصل في العمل الفني»، و«هلدرلين وماهية الشعر»، وتفسير بعض قصائد هذا الشاعر الكبير مثل «العودة»، و«إلى الأقارب»، و«كما في يوم عيد»، و«ذكرى»، فضلا عن بعض أشعار «رلكه» و«تراكل» وجئورجه، ولما كان هذا أكبر من أن يتسع له المجال، فسوف نكتفي ببعض ما جاء في كتابه «على الطريق إلى اللغة»

164

ونتناول بوجه خاص محاضراته عن ماهية اللغة وتفسيره لقصيدة «الكلمة» للشاعر ستيفان جئورجه.

يقول هيدجر في مقدمة محاضراته الثلاث عن «ماهية اللغة» إن هدفه هو «الدخول في تجربة مع اللغة»، وليس معنى هذا بطبيعة الحال أن نقوم بتجارب على اللغة أو نجمع معلومات عنها، كما يفعل علماء اللغة وما بعد اللغة، بل معناه أن ننتبه إلى علاقتنا باللغة، ونتفكر في «سكننا في اللغة»، ونستوضح طبيعة شيء يتعلق بصميم وجودنا، وهو يؤكد فضلا عن هذا أن سؤاله عن ماهية اللغة لا ينتهج مسالك الميتافيزيقا الحديثة التي تتقيد بها بحوث «ما بعد اللغة»،

165

فهذه البحوث هي ميتافيزيقا السيطرة التقنية التي تنشر سلطانها على جميع اللغات لتشغيل أدوات التوصيل والأعلام التي تصل بين الكواكب المختلفة.

نامعلوم صفحہ