تقول عن صديقك: إنك «تفهمه» وتستطيع تفسير سلوكه في المواقف المختلفة، حين تضع إصبعك على مبدأ عام يسري في تصرفاته ويكون محورا لشخصيته، كأن تعرف فيه مثلا حبه للمال أو حبه للظهور، وعلى ضوء هذا المبدأ أو ذاك تفسر سلوكه وأفعاله مهما تنوعت الظروف المحيطة به، وتقول عن ظاهرة اجتماعية إنك «تفهمها» حين تستطيع ردها إلى مبدأ عام يشملها هي وغيرها من الظواهر. كأن تقول - مثلا - عن ظاهرة التعطل إنها مفهومة؛ لأنها نتيجة زيادة عدد السكان على موارد الإنتاج، وهكذا؛ فالذي تصنعه حين تريد أن «تفهم» شيئا كائنا ما كان هو أن تبحث عن المقدمة المنطقية التي يكون الشيء نتيجة محتومة لها. وهكذا الأمر إذا أردت فهم العالم، فما هي المقدمات المنطقية التي يتحتم أن يجيء العالم نتيجة لها؟ ونسأل السؤال بعبارة أخرى فنقول: ما هي الشروط التي كان لا بد من توافرها حتى يتكون العالم بكل ما فيه؟
إن الأشياء الجزئية في ذاتها لا تفسر نفسها، فما الذي دعا - مثلا - إلى وجود هذه الشجرة أو تلك، وإلى وجود هذا الفرد من الناس أو ذلك؟ لكي «أفهم» فلا بد لي - كما أسلفنا القول - من البحث عن مبدأ عام حتم وجوده وجود الأشجار، ومبدأ عام آخر حتم وجوده وجود أفراد الناس، وهكذا، فما هي المبادئ العامة التي اقتضى وجودها وجود الأشياء على اختلافها؟ وخير وسيلة تعينك على الإجابة عن هذا السؤال هي أن تأخذ الأشجار مثلا ثم تسأل: ما الذي جعل الشجرة شجرة؟ أنا لا أقول عن المصباح الذي أمامي إنه شجرة لأنه يفقد الصفة أو الصفات التي تجعله كذلك، فما هي الصفة أو الصفات التي إذا وجدت في شيء جعلته شجرة؟ إنها ليست الأوراق؛ لأن أوراق الشجر تختلف بل قد تزول في الشتاء دون أن يمتنع أو يتأثر وصفنا للشيء بأنه شجرة، وليست هي نوع الثمار؛ لأن الثمار قد تختلف في الأشجار المختلفة وتظل الأشجار أشجارا. وهكذا تستطيع أن تمضي في استبعاد الصفات التي لا يؤثر وجودها أو عدم وجودها في أن يكون الشيء شجرة؛ لتستبقي في النهاية الصفات التي لا بد من وجودها في كل شجرة كائنة ما كانت، وأنت بعدئذ على حق حين تقول إنه يستحيل على شجرة أن توجد إلا إذا وجدت قبلها هذه الصفات؛ لكي تمتزج تلك الصفات بمادة الشيء فيكون شجرة.
هذه الصفات التي لا بد من وجودها أولا حتى يمكن لأي شجرة أن توجد ليست بالشيء الجزئي؛ لأنها - كما ترى - قائمة في كل الأشجار على السواء، وإذن فهي عامة وليست خاصة بشجرة دون أخرى، أو هي «كلية»؛ لأنها تشمل «كل» الأشجار بغير استثناء.
نعم، نحن على حق إذ نقول - وإن بدا قولا غريبا - إنه لا بد من وجود الصفات الكلية أولا حتى يمكن أن توجد الأشياء الجزئية المتصفة بتلك الصفات، لكن هذه الصفات حين لا يلبسها شيء جزئي معين لا تكون قائمة إلا في العقل، وإذن فهي مدركات عقلية قبل أن تمتزج بالأشياء المحسوسة التي تتصف بها؛ أي أنها تكون «أفكارا» قبل أن تدخل في دنيا الأشياء الحسية؛ أي أن «الفكر» لا بد أن يسبق «الأشياء» التي تأتي مطابقة لذلك الفكر، وها هنا تضع إصبعك على ركن هام من أركان المذهب المثالي في المعرفة، وهو أسبقية الفكر في الوجود على الأشياء الجزئية التي تصادفها الحواس.
بغير هذه الأولوية المنطقية للفكر - أي الأولوية المنطقية للصفات العامة أو المعاني الكلية - تصبح معرفة أي شيء جزئي مستحيلة (من وجهة نظر المثاليين)؛ لأننا - كما أسلفنا القول - نعرف أي شيء بصفاته، وإذن فلا بد من إدراك الصفات أولا، والصفات مشتركة؛ أي عامة، فهي في العقل قبل أن تكون في الجزئيات التي تتصف بها. ولزيادة التوضيح: حلل موقفك حين تنظر إلى برتقالة فتعرف أنها برتقالة، كيف عرفتها؟ عرفتها بلونها الأصفر واستدارتها وملمسها ... إلخ، لكن اللون الأصفر ليس قاصرا عليها بل هو متمثل في أشياء كثيرة غيرها. وإذن كان لا بد لك قبل أن تعرف في البرتقالة لونها الأصفر أن تسبق ذلك بمعرفة للون الأصفر أينما كان؛ أي أن تسبق ذلك بمعرفة اللون الأصفر كفكرة عامة أو كمعنى كلي؛ حتى تستطيع بعد ذلك أن تطبق تلك الفكرة العامة على هذا الشيء الجزئي الذي أمامك وهو البرتقالة. وهكذا قل في سائر الصفات التي بواسطتها عرفت أن ما أمامك برتقالة، ومعنى ذلك هو أن البرتقالة في حقيقة أمرها هي عبارة عن مجموعة من معان كلية تجمعت في مركز واحد، والمعاني الكلية إدراكها من شأن العقل لا الحواس.
هذه المعاني الكلية هي شروط لا بد أن تتوافر قبل أن تتم معرفة كائنة ما كانت. وهي نوعان: فمنها معان قوامها الصفات التي يمكن إدراكها بالحواس كاللون الأصفر مثلا؛ ولذلك نجد من الفلاسفة المثاليين أنفسهم من يقول إن أمثال هذه المعاني الكلية تتكون بعد الخبرة الحسية بالأشياء التي تحيط بنا، لكن هنالك معاني كلية أخرى لا مندوحة لنا عن افتراض وجودها في العقل قبل أي خبرة حسية؛ لأنها شرط ضروري لكل معرفة، فقبل أن تبدأ في خبرتك الحسية بالأشياء لا بد أن تعرف - مثلا - أن الشيء، أي شيء، يستحيل أن يكون في مكانين في وقت واحد.
هذا النوع الثاني من المعاني الكلية خال من الصفات الحسية وهو لذلك فكر خالص، وهو الذي أراد هيجل أن يبحث عنه؛ لأنه اعتقد أنه هو المبدأ الأول الذي يفسر كل معرفة؛ إذ لا تكون معرفة بغيره، وهذا النوع من المعاني الكلية هو الذي يصطلح الفلاسفة على تسميته بالمقولات، أو إن شئت فقل عن المقولات إنها القوالب التي لا بد من وجودها لتنصب فيها معارفنا جميعا. وإن قلنا عن هذه المقولات إنها شرط منطقي لا بد من توافره لكي يستطيع الفكر أن يفكر، فقد قلنا بالتالي إنها شرط منطقي لا بد من توافره لكي يمكن وجود العالم الواقع؛ لأن الفكر يسبق العالم الواقع، كما أسلفنا.
لكن أين تكون هذه المقولات الأولى التي هي شرط المعرفة؛ وبالتالي فهي شرط الوجود كله؟ أتكون في عقلي أنا أو في عقلك أنت؟ لكننا قد نزول غدا أو بعد غد، وتظل شروط المعرفة قائمة، وإذن فوجودها لا يتقيد بوجودي أنا أو بوجودك أنت أو بوجود أي فرد آخر من أفراد الإنسان، بل إن وجودها مطلق من قيود المكان والزمان جميعا، وإن يكن متمثلا في عقول الأفراد؛ أي متمثلا في الطريقة التي يفكر بها هؤلاء الأفراد.
وألخص ما قد أسلفته في عبارة توجز رأي هيجل في المعرفة وطبيعتها، فأقول: الشيء المعين؛ كالبرتقالة مثلا، هو مجموعة مركزة من معان كلية، والمعاني الكلية لا يدركها إلا عقل؛ وإذن فأي شيء لا يكون إلا فكرة في عقل، ولما كانت «الفكرة» هي نفسها من طبيعة «العقل» كان هنالك تشابه في النوع بين الذات العارفة والشيء المعروف، فوجود شيء ما معناه أن يكون فكرة موضوعه أمام ذات عاقلة تفكر فيها؛ أي أن وجود شيء ما متوقف على عقل يعيه؛ ومن ثم كان التطابق الذاتي بين أن يكون الشيء موجودا وأن يكون معروفا، واستحالة أن يوجد شيء دون أن يكون مدركا؛ فالأشياء هي أفكارنا عنها، والمنطق الذي تجري عليه أفكارنا هو نفسه المنطق الذي تجري عليه الأشياء.
الباب الثاني
نامعلوم صفحہ