الواقعية والبراجماتية كلتاهما - كما رأيت - تفسر طبيعة المعرفة بالاستناد إلى شيء واقع خارج العقل، على اختلاف بينهما في نوع العلاقة التي تقوم بين العقل العارف والشيء المعروف، فبينما يجعلها الواقعيون علاقة الصورة بأصلها يجعلها البراجماتيون علاقة سلوكية؛ أي يجعلون المعرفة - أيا كان نوعها - خطة يتبعها الشخص العارف في سلوكه وفي معالجته للأشياء الخارجية.
لكننا الآن إزاء مذهب يختلف عن الواقعية والبراجماتية معا اختلافا يتناول الأساس، فلئن اعترف هذان المذهبان بوجود عالم خارجي من أشياء، وجودا مستقلا عن الإنسان، بحيث يظل موجودا سواء وجد فيه الإنسان الذي يعرفه أو لم يوجد، ترى المذهب المثالي - الذي نحن الآن بصدد عرضه فيما يختص بطبيعة المعرفة - لا يعترف بوجود شيء خارج العقل، فلا وجود إلا لما يدركه عقل ما، وما ليس يدركه عقل ما يستحيل أن يكون موجودا؛ وإذن فمعرفة الشيء ووجوده جانبان لحقيقة واحدة. وبذلك يكون جواب السؤال المطروح أمامنا في هذا الباب وهو: «ما طبيعة المعرفة؟» هو «طبيعة المعرفة هي نفسها طبيعة الوجود»، لا فرق بين الشيء باعتباره كائنا من كائنات العالم وبينه باعتباره مدركا من مدركات العقل، فمعرفتي لهذا المصباح الذي أمامي الآن هي نفسها المصباح؛ أي أنه ليس هناك أصل في الخارج وصورة عقلية في الداخل، بل كل الموجود عن المصباح هو الصورة العقلية وحدها. حلل ما يحدث عند رؤيتي للمصباح - حتى من وجهة نظر الواقعيين أنفسهم - تفهم الرأي الذي يذهب إليه المثاليون؛ تنتقل موجات ضوئية إلى شبكية عيني، فتتأثر هذه الشبكية لهذا المؤثر الطارئ، وتنتقل منها اهتزازات دقيقة خلال العصب البصري إلى المخ؛ حيث مركز الإبصار، وهناك يحدث في خلايا المخ من الحركة ما أسميه أنا «مصباحا». وهنا يقول الواقعيون: إن هذه الحركة العصبية التي حدثت داخل المخ قد أحدثت فيه «صورة» للمؤثر الخارجي الذي هو المصباح نفسه، ويرد المثاليون على هذه الدعوى بقولهم: من ذا أدراك أن ما لديك صورة لشيء خارج جسدك؟ إن كل ما تعرفه وكل ما يمكن أن تعرفه هو هذه الصورة - أو قل هو هذه الفكرة - التي هي في داخلك، وكل ما عدا ذلك فهو استدلال قد تخطئ فيه وقد تصيب، إنه يستحيل على إنسان أن يخرج من جلده لينظر إلى العالم الخارجي من غير طريق نفسه، ولا سبيل أمامه إلى معرفة شيء إلا أفكاره التي في رأسه. إنني حين أنظر إلى برتقالة وأقول إني قد «عرفتها» من حيث لونها وشكلها وصلابتها، فلست أعني بالطبع أن البرتقالة نفسها قد تسللت داخل رأسي، بل كل ما أقصده أن آثارا معينة قد انتقلت داخل جسمي خلال الأعصاب، بادئة سيرها من العين أو من الأصابع؛ فالذي أعلمه - إذن - عن البرتقالة هو ما بداخلي فقط، هو الآثار التي أحدثتها اهتزازات الخلايا العصبية، أو قل هو «فكرتي» التي تكونت عن البرتقالة، ولو لم تكن لي العين التي تبصر أو الأصابع التي تلمس؛ لما كان للبرتقالة عندي وجود، وإذن فوجودها هو إدراكها، وبغير الإدراك العقلي للشيء لا يكون له وجود.
قد تسأل: وماذا يقول المثاليون عن وجود البرتقالة إذا تركتها ورائي في الغرفة لا أراها ولا ألمسها ولا أحسها بأية حاسة أخرى، أينعدم وجودها لغيابي؟ والمثاليون يجيبون عن هذا السؤال بقولهم إن البرتقالة حين لا تدركها أنت فقد يدركها سواك من الناس، وإذا لم يكن يدركها إنسان فهنالك العقل الإلهي يدركها مع سائر الكائنات.
لماذا تدهش إذا قيل لك إن الأشياء التي تقع في خبرتك الآن - من مرئيات ومسموعات ... إلخ - وجودها منحصر في نفسك أنت، على حين أنك لا تدهش إذا قيل لك القول نفسه عن خبراتك الماضية، فأين ماضيك؟ أين المرئيات التي مرت بك والمسموعات وما لمست وما طعمت؟ أليست هذه الخبرة عن الماضي كله كائنة فيك، وليس هنالك في الخارج الآن شيء يقابلها؟ إذن فما نقوله لك عن خبرة اللحظة الحاضرة شبيه بما نقوله عن خبرة اللحظات التي مضت، وجودها لا يكون إلا في نفسك، والخروج من نفسك لترى ماذا يقع خارجها محال، وكذلك محال - في رأي المثاليين - أن يتصور الإنسان شيئا ما لا يقع في خبرة كائن ذي إدراك، وإن شئت فحاول - مثلا - أن «تتصور» شجرة موجودة دون أن تكون هذه الشجرة جزءا من إدراك أحد، تجد أن هذه المحاولة تنقض نفسها بنفسها؛ لأنك في الوقت الذي تريد أن تعزل تلك الشجرة عن كل إدراك تجعلها جزءا من إدراكك أنت.
وإذا كان وجود الشيء متوقفا على أن يدركه مدرك ما، وإذا كانت مجموعة المدركات العقلية عند الفرد من الناس هي كل ما يستطيع أن يعرفه عن الوجود، كان كل فرد دنيا نفسه، فالعالم الذي أعيش فيه أنا هو مدركاتي، والعالم الذي تعيش فيه أنت هو مدركاتك، وهكذا. وهنا يجد الناقدون فرصة للهجوم على هذا المذهب؛ إذ لو كان كل إنسان دنيا نفسه، ولو لم يكن هناك عالم خارجي موضوعي نحتكم إليه عند اختلافنا في المعرفة؛ لاستحال أن يلتقي فردان من الناس على اتفاق؛ إذ كيف يكون الاتفاق بينهما إذا كان كل منهما منحصرا في ذاته وما فيها من مدركات وأفكار؟ لكن بعض أتباع المذهب المثالي يردون على مثل هذا النقد بقولهم: إن عقول الأفراد ليست في الحقيقة أشتاتا فرادى، بل هي أجزاء من عقل واحد يشملها جميعا ومن ثم يتساوى إدراكها للأشياء. كما يرد بعضهم الآخر بقوله: إن كل عقل مستقل عن العقول الأخرى استقلالا لا سبيل معه إلى الاتصال، فكأنما كل عقل غرفة مقفلة على نفسها ليس في جدرانها نوافذ تطل منها على الغرف الأخرى، لكن مدركاتها مع ذلك تتشابه؛ لأن كلا منها صورة مصغرة لحقيقة كبرى هي الله.
هكذا يلتقي المثاليون في المبدأ الذي يطابق بين المعرفة والوجود فيجعلها شيئا واحدا، لكنهم يختلفون فيما ينتهون إليه من تفصيلات، وسنسوق لك مثلا واحدا منهم؛ هو «هيجل»
1
الذي يعد من أعظم الفلاسفة المثاليين في العصور الحديثة، وسنحصر حديثنا عنه في موضوعنا فقط؛ وهو طبيعة المعرفة:
المهمة الرئيسية للمعرفة هي أن تفسر لنا العالم، بحيث نهتدي خلال ما نعرفه إلى حقيقة هذا العالم الذي نعيش فيه، لكن «التفسير» نفسه ما معناه؟ متى تقول عن حقيقة يراد تفسيرها إن هذا التفسير قد تم ولم تعد الحقيقة المشار إليها بحاجة إلى تفسير؟
التفسير أو التعليل هو باختصار نسبة الشيء المراد تفسيره إلى حقيقة أعم منه تشمله وتحتويه، فإن كانت هذه الحقيقة الأعم هي نفسها بحاجة إلى تعليل نسبتها إلى ما هو أعم منها ويشملها مع غيرها، وهكذا دواليك حتى ينتهي الصعود إلى مبدأ أول يفسر نفسه ويفسر كل شيء يترتب عليه، ولو استطعنا أن نهتدي إلى هذا المبدأ الأول بالنسبة للكون كله أمكننا بذلك أن نفسر الكون ونفهمه.
نامعلوم صفحہ