نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
اصناف
26
لم تخص أي من مواد الإعلان بالذكر حقوق جماعات بعينها، فعكس كلمات «الناس»، و«الإنسان»، و«كل إنسان»، و«جميع المواطنين»، و«كل مواطن»، و«المجتمع»، و«أي مجتمع» هو كلمات «لا أحد»، و«لا شخص»، و«لا إنسان»؛ فكان معناها الحرفي إما الجميع أو لا شيء. ولم يكن هناك ذكر للطبقات، والأديان، والأجناس في الإعلان. ومع أن غياب التخصيص ما لبث أن خلق المشكلات، فلا ينبغي أن تكون عمومية التأكيدات مثارا للدهشة؛ إذ كانت لجنة صياغة الدستور قد باشرت في الأصل إعداد ما يصل إلى أربع وثائق مختلفة حول الحقوق: (1) إعلان حقوق الإنسان. (2) إعلان حقوق الأمة. (3) إعلان حقوق الملك. (4) إعلان حقوق المواطن في ظل الحكومة الفرنسية. وقد مزجت الوثيقة التي تبنوها الإعلان الأول والثاني والرابع من دون وضع تعريف محدد لأهليات المواطنة. وقبل أن يخوض النواب في التفاصيل (بشأن حقوق الملك أو أهليات المواطنة)، سعوا أولا إلى وضع مبادئ عامة للحكومة بأكملها. وفي هذا الصدد، تعد المادة الثانية مثالية: «غرض كل اجتماع سياسي حفظ الحقوق الطبيعية التي للإنسان والتي لا يجوز مسها.» ابتغى النواب وضع الأساس لكل اجتماع سياسي؛ ليس للنظام الملكي، أو الحكومة الفرنسية، وإنما لكل اجتماع سياسي. ولسوف يضطرون إلى اللجوء إلى الحكومة الفرنسية عما قريب.
27
لم يحل الإعلان كافة القضايا؛ وإنما في حقيقة الأمر عجل بضرورة النظر في بعض القضايا - كحقوق غير ذوي الممتلكات أو الأقليات الدينية على سبيل المثال - وأثار قضايا جديدة حول بعض الجماعات، مثل الرقيق والمرأة، التي لم تنعم بأي وضع سياسي فيما مضى (سنتناول هذا الموضوع في الفصل التالي). ولعل أولئك المعارضين للإعلان كانوا قد استشعروا أن الإعلان في حد ذاته سيكون له تأثير محفز. فعملية الإعلان فعلت ما هو أكثر من مجرد توضيح الحقوق؛ فمن خلال الإعلان، امتلك النواب زمام السلطة. ونتيجة لذلك، أفسح الإعلان مجالا لنقاش سياسي لم يكن من الممكن تخيله من قبل: فإذا كانت الأمة هي مصدر السلطة، فما دور الملك، ومن أفضل من يمثل الأمة؟ وإذا كانت الحقوق هي عماد الشرعية، فما الذي يسوغ اقتصارها على أشخاص في سن معينة أو طبقة اجتماعية محددة أو جنس بعينه أو دين معين أو ثروة ذات قدر معلوم؟ كانت لغة حقوق الإنسان قد ترعرعت بالفعل بعض الوقت وسط الممارسات الثقافية الجديدة لاستقلال الفرد والسلامة البدنية، غير أنها عندئذ جاشت فجأة في وقت التمرد والثورة. ومن ذا يجدر به أن يضبط الآثار المترتبة عليها، أو من عساه يفعل أو حتى يستطيع أن يفعل ذلك؟
وكان لإعلان الحقوق عواقبه خارج فرنسا أيضا؛ «فإعلان حقوق الإنسان والمواطن» بدل لغة كل إنسان تقريبا بين عشية وضحاها. ويمكن اقتفاء أثر التغيير بوضوح شديد في كتابات وخطب ريتشارد برايس، الواعظ البريطاني المنشق الذي أثار الجدل بحديثه عن «حقوق الإنسانية» تأييدا لسكان المستعمرات الأمريكيين عام 1776. وسار كتيبه الذي صدر عام 1784 «ملاحظات على أهمية الثورة الأمريكية» على نفس المنوال؛ إذ قارن فيه حركة الاستقلال الأمريكية بانتشار المسيحية، وتنبأ أنها سوف «تحدث انتشارا عاما لمبادئ الإنسانية» (على الرغم من مسألة العبودية التي أدانها بشدة). في إحدى المواعظ التي ألقاها في نوفمبر عام 1789، أقر برايس المصطلحات الفرنسية الجديدة قائلا: «لقد عشت حتى رأيت حقوق الإنسان تحظى بالقبول أكثر من أي وقت مضى، والأمم تلهث وراء الحرية، التي بدا في وقت من الأوقات وكأنها فقدت معناها ... وبعد أن شاركت في جني ثمار ثورة سابقة [الثورة الإنجليزية عام 1688]، أبقاني الله لأشهد ثورتين أخريين [الأمريكية والفرنسية] مجيدتين.»
28
وبدوره أثار كتيب إدموند بيرك «تأملات في الثورة الفرنسية» (1790)، الذي كتبه ردا على برايس، جدلا محموما حول حقوق الإنسان في لغات متعددة. أكد بيرك أن «إمبراطورية النور والمنطق الغازية الجديدة» لم يمكنها أن تقدم أساسا متينا لحكومة ناجحة، وهي الحكومة التي لا بد أن تقوم على أساس راسخ من التقاليد العريقة للأمة. وفي اتهامه للمبادئ الفرنسية الجديدة، خص بيرك إعلان الحقوق باستهجان شديد. فأثارت لهجته ثائرة توماس بين، الذي استغل هذه الفقرة المشينة في رده المتقد بالغضب عام 1791 «حقوق الإنسان: ردا على هجوم السيد بيرك على الثورة الفرنسية».
كتب بين يقول: «أساء السيد بيرك بغضبه المعتاد إلى إعلان حقوق الإنسان والمواطن ... في هذا يقول: «قصاصات ورق حقوق الإنسان الحقيرة الغامضة.» فهل يقصد السيد بيرك أن ينكر أن للإنسان أي حقوق؟ إن كان يقصد ذلك، فلا بد أنه يعني أنه لا يوجد شيء اسمه الحقوق في أي مكان في العالم، وأنه هو نفسه ليس له أي حقوق؛ لأنه لا أحد في العالم سوى الإنسان؟» ومع أن الرد الذي كتبته ماري وولستونكرافت بعنوان «المطالبة بحقوق الرجل، في خطاب موجه إلى جناب المبجل إدموند بيرك؛ ردا على كتيبه تأملات في الثورة الفرنسية» ظهر أولا في عام 1790، فإن كتيب توماس بين «حقوق الإنسان» كان له أثر فوري وأكثر إذهالا، ويعزى هذا جزئيا إلى أنه استغل هذه الفرصة لينقد كافة أشكال النظام الملكي الوراثي، بما في ذلك النظام الإنجليزي. وقد ظهر عمله في العديد من الطبعات الإنجليزية خلال العام الأول وحده من تاريخ نشره.
29
نتيجة لذلك، زاد استخدام لغة الحقوق زيادة مذهلة بعد عام 1789. ويمكن رؤية الدليل على هذا الجيشان المذهل بسهولة من خلال عدد عناوين الأعمال الإنجليزية التي حملت لفظة «الحقوق»: فقد تضاعف العدد أربع مرات في تسعينيات القرن الثامن عشر ليصل إلى 418، مقارنة بثمانينيات نفس القرن الذي بلغ فيه العدد 95، أو مقارنة بأي من العقود السابقة في القرن الثامن عشر. حدث شيء مماثل في اللغة الهولندية؛ إذ ظهر مصطلح «حقوق الإنسان» باللغة الهولندية للمرة الأولى في عام 1791 عند ترجمة كتيب بين، وعندئذ توالت استخدامات المصطلح في تسعينيات القرن الثامن عشر، ثم تبعها بعد قليل ظهور مصطلح «حقوق الإنسان» في الأراضي المتكلمة بالألمانية. وعلى نحو ساخر إلى حد ما في ذلك الحين، تسبب جدل عنيف نشب بين كتاب اللغة الإنجليزية في وصول «حقوق الإنسان» الفرنسية إلى أيدي جمهور عالمي. كان الأثر الناتج أعظم مما حدث بعد عام 1776؛ لأن الفرنسيين كان يحكمهم النظام الملكي كمعظم البلدان الأوروبية الأخرى، ولم يتخلوا قط عن اللغة العالمية للحقوق. دفعت أيضا الكتابات المستلهمة من الثورة الفرنسية النقاش الأمريكي للحقوق إلى مستويات أعلى؛ إذ كان أتباع جيفرسون يتحدثون على الدوام عن «حقوق الإنسان»، فيما رفض الفيدراليون اللغة المرتبطة ب «الإفراط الديمقراطي» أو التهديدات للسلطة القائمة. مثل هذه النزاعات ساعدت في نشر لغة حقوق الإنسان في كل أنحاء العالم الغربي.
نامعلوم صفحہ