نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
اصناف
ثناء على كتاب «نشأة حقوق الإنسان»
إهداء
شكر وتقدير
مقدمة
1 - فيض المشاعر
2 - بشر أمثالنا
3 - لقد ضربوا مثلا عظيما
4 - لن تكون هناك نهاية
5 - القوة الناعمة للإنسانية
ملحق
نامعلوم صفحہ
الهوامش
ثناء على كتاب «نشأة حقوق الإنسان»
إهداء
شكر وتقدير
مقدمة
1 - فيض المشاعر
2 - بشر أمثالنا
3 - لقد ضربوا مثلا عظيما
4 - لن تكون هناك نهاية
5 - القوة الناعمة للإنسانية
نامعلوم صفحہ
ملحق
الهوامش
نشأة حقوق الإنسان
نشأة حقوق الإنسان
لمحة تاريخية
تأليف
لين هانت
ترجمة
فايقة جرجس حنا
مراجعة
نامعلوم صفحہ
محمد إبراهيم الجندي
ثناء على كتاب «نشأة حقوق الإنسان»
كتاب فريد ... تغطي الكاتبة العديد من الموضوعات في صفحات معدودات، وبمثل هذا الوضوح فإن كتاب نشأة حقوق الإنسان هو عمل ينم عن براعة فائقة.
جوردون إس وود، المراجعة النقدية
لصحيفة نيويورك تايمز
ربط حقوق الإنسان بالتاريخ الاجتماعي بهذه الطريقة هو أسلوب مبتكر أصيل وشائق في تناول الموضوع ... تقدم [هانت] تاريخا نابضا بالحياة وثريا بالمعرفة.
جوشوا مورافتشيك،
صحيفة وول ستريت جورنال
أظهرت لين هانت في هذا الكتاب - وطوال حياتها المهنية - أن ثمة الكثير الذي يمكن تعلمه عن طريق إقامة علاقات بين الأحداث السياسية التي شكلت الحياة السياسية المعاصرة والتطورات الأدبية التي شكلت ملكات الحس المعاصرة.
مجلة لندن ريفيو أوف بوكس
نامعلوم صفحہ
يقدم كتاب لين هانت الرائع، «نشأة حقوق الإنسان»، إجابات واضحة وبسيطة ومبتكرة ... تضع هانت ببراعة خطبهم عن الحقوق في إطار سلسلة من التغيرات الثقافية الأوسع التي غيرت كيفية ارتباط البشر (الغربيين) بعضهم ببعض ... إن معرفة هانت الدقيقة بالمناخ العام في أوروبا القرن الثامن عشر يجعل للكتاب قيمة مضاعفة باعتباره تفسيرا جديدا لثقافة عصر التنوير.
مايا جازانوف،
صحيفة واشنطن بوست
في الوقت الذي بدأ فيه الأمريكيون يحاسبون قادتهم على الأخطاء المرتكبة في الحرب ضد الإرهاب، يقوم هذا الكتاب بدور دليل للتفكير في أحد أكثر الأخطاء فداحة على الإطلاق وهو خطأ الاعتقاد بأن أمريكا يمكن أن تنتصر في الحرب عن طريق إبطال «الإعلان» الذي كان له الفضل في نشأة الأمة الأمريكية.
آلان وولف، مجلة كومونويل
لم تنتشر مبادرة كتابة تاريخ حقوق الإنسان إلا في العقد الماضي. وكتاب لين هانت «نشأة حقوق الإنسان» هو أبرز نتائج هذه المبادرة ... كتاب ممتع.
صامويل موين، مجلة ذي نيشن
كتبت هانت كتابا بات الآن نقطة انطلاق حتمية نحو التفكير في تاريخ حقوق الإنسان. كتاب غاية في الأهمية.
إس إن كاتز، مجلة تشويس
حققت لين هانت كل شيء أرادت تحقيقه تقريبا بكتابها «نشأة حقوق الإنسان» ... من الجلي أن هانت شغوفة بالموضوع كما يتضح من أسلوب كتابتها والزاوية التي تتناول منها القضية ... إنه سرد ثري ومتعمق.
نامعلوم صفحہ
كريستوف مارك،
صحيفة ذي ديلي يوميوري (اليابان)
يقدم الكتاب [نشأة حقوق الإنسان] ملخصا منطقيا لموضوع يمثل أهمية لكل مفكر من الرجال والنساء. أوصي به.
بوب ويليامز،
مدونة ذي كومبالسيف ريدر
يؤكد التاريخ الذي خطته هانت تأكيدا متبصرا على فكرة أن حقوق الإنسان مشروع ممتد بلا انقطاع، مشروع لم يتحقق المأمول منه بعد.
ألكساندر بيفيلاكوا، هارفارد بوك ريفيو
تاريخ ثقافي من طراز رفيع؛ أوصي به ليكون ضمن مجموعات الكتب الدراسية والعامة.
ديفيد كيمر، مجلة لايبراري جورنال
إهداء
نامعلوم صفحہ
إلى لي وجين.
الأختين، والصديقتين، والملهمتين.
شكر وتقدير
أثناء كتابة هذا الكتاب استفدت من عدد لا حصر له من الاقتراحات التي قدمها لي أصدقائي، وزملائي، والمشاركون في مختلف الحلقات الدراسية والمحاضرات. وما من تعبير عن الامتنان يمكن أن يسدد تلك الديون التي أسعدني الحظ بها، وكل ما أرجوه أن يتعرف البعض على ما أضافوه في فقرات معينة أو في حواشي الكتاب. إن محاضرات «باتين» التي ألقيتها في جامعة إنديانا، ومحاضرات «ميرل كورتي» التي ألقيتها في جامعة ويسكونسن، ماديسون، ومحاضرات جميس دابليو ريتشارد التي ألقيتها في جامعة فيرجينيا، منحتني فرصا لا تقدر بثمن لمحاولة اختبار أفكاري الأولية. وخرجت أيضا بأفكار رائعة من الجماهير التي التقيتها بكلية كامينو، وكلية كارلتون، ومركز أبحاث ودراسة علوم الاقتصاد بالمكسيك، وجامعة فوردهام، ومعهد البحث التاريخي بجامعة لندن، وكلية لويس آند كلارك، وكلية بومونا، وجامعة ستانفورد، وجامعة تكساس إيه أند إم، وجامعة باريس، وجامعة ألستر بولاية كارولينا، وجامعة واشنطن بمقاطعة سياتل، والمعهد الذي أعمل به بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. مول معظم أبحاثي كرسي يوجين ويبر لدراسة التاريخ الأوروبي المعاصر بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، وقد سهل البحث كثيرا الثراء الاستثنائي الذي تتمتع به مكتبات جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس.
يظن معظم الناس أن التدريس يلي البحث في قائمة أولويات أساتذة الجامعة، غير أن فكرة هذا الكتاب جاءت في المقام الأول نتيجة لتجميع وثيقة حررتها وترجمتها بغرض تدريسها للطلاب: «الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان: نبذة تاريخية وثائقية مختصرة (بوسطن ونيويورك: بيدفورد/سانت مارتينز برس، 1996).»
وقد ساعدني في إتمام هذا المشروع الحصول على زمالة من «صندوق المنح الوطنية للدراسات الإنسانية». وقبل أن أستهل كتابة الكتاب، نشرت مسودة مختصرة بعنوان: «الأصول المتناقضة لحقوق الإنسان» في الكتاب الذي حرره جيفري إن واسرستروم، ولين هانت، وماريلين بي يانج بعنوان «حقوق الإنسان والثورات» (لانهام، إم دي: رومان آند ليلتلفيلد، 2000)، من صفحة 3 إلى صفحة 17. وقد نشأت بعض الحجج المعروضة في الفصل الثاني لأول مرة بشكل مختلف في «الجسد في القرن الثامن عشر: مصادر حقوق الإنسان»، ديوجان، 203 (يوليو-سبتمبر 2003): 49-67.
ومنذ أن كان الكتاب مجرد فكرة وحتى خروجه في صورته الأخيرة، كان الطريق - على الأقل في حالتي - طويلا، وشاقا في بعض الأحيان، لكن يسره علي مساعدة أولئك المقربين والأعزاء. قرأت جويس آبلباي، وسوزان ديسان المسودات الأولى من الفصول الثلاثة الأولى وقدمتا اقتراحات رائعة لتحسينها، وأولت محررتي في دار نشر دابليو دابليو نورتون، آمي تشري، عناية خاصة للكتابة والحجج لا يجرؤ معظم مؤلفي الكتب إلا على أن يحلموا بها. ولولا مارجريت جاكوب ما كنت كتبت هذا الكتاب، فقد جعلتني أواصل العمل بحماستها الشديدة للأبحاث والكتابة، وبشجاعتها في المخاطرة بالتطرق إلى مجالات جديدة مثيرة للجدل، وبقدرتها على تنحية كل هذا جانبا كي تعد عشاء فاخرا، وهو أمر بالغ الأهمية. إنها تعرف جيدا كم أنا مدينة لها. وقد مات أبي أثناء كتابتي لهذا الكتاب، لكنني ما زلت أسمع كلمات التشجيع والدعم التي كان يقدمها لي ترن في أذني. وأهدي هذا الكتاب لأختي لي وجين تقديرا لكل ما تشاركناه على مدار سنين عديدة، مع أن هذا الإهداء لا يفيهما حق قدرهما؛ فقد علمتاني دروسي الأولى عن الحقوق، وتسوية الصراعات، والحب.
مقدمة
نحن نؤمن بأن هذه الحقائق من البديهيات.
أحيانا تنتج أشياء عظيمة عن تنقيح الكتابة تحت الضغط. كتب توماس جيفرسون في مسودته الأولى لإعلان الاستقلال التي أعدها في منتصف يونيو من عام 1776 يقول: «نحن نعتبر هذه الحقائق من المقدسات التي لا مجال لإنكارها؛ أن جميع الناس خلقوا متساوين ومستقلين، وأنهم يستمدون من هذا الخلق المتساوي حقوقا متأصلة ثابتة، من بينها حق حماية الحياة والحرية والسعي وراء السعادة.» وبفضل التنقيحات التي أجراها جيفرسون بنفسه في المقام الأول، تخلصت عبارته من عيوبها لتتحول إلى عبارة أوضح تتسم بنبرات واضحة رنانة: «نحن نؤمن بأن الحقائق الآتية من البديهيات، وهي أن جميع البشر قد خلقوا متساوين، وأن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة لا يمكن انتزاعها، من بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة.» وبهذه الجملة الواحدة حول جيفرسون وثيقة من الوثائق التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر بشأن المظالم السياسية إلى إعلان دائم لحقوق الإنسان.
نامعلوم صفحہ
1
وبعد مرور ثلاثة عشر عاما، كان جيفرسون في باريس عندما بدأ الفرنسيون يفكرون في تحرير بيان لحقوقهم. وفي يناير من عام 1789 - قبل اقتحام سجن الباستيل بعدة أشهر - أعد صديق جيفرسون، الماركيز دي لافاييت - المحارب في حرب الاستقلال الأمريكية - الإعلان الفرنسي، بمساعدة جيفرسون على الأرجح. ومع سقوط سجن الباستيل في الرابع عشر من يوليو واندلاع الثورة الفرنسية بقوة، اكتسبت المطالبة بإعلان رسمي قوة دفع كبيرة. وعلى الرغم من جهود لافاييت المضنية في صياغة الوثيقة، فإن أحدا لم يستطع إخراجها بالشكل الذي قدمها به جيفرسون للكونجرس الأمريكي. ففي العشرين من أغسطس، فتحت الجمعية الوطنية التأسيسية الجديدة باب المناقشة حول أربع وعشرين مادة صاغتها لجنة لم يكن من السهل قيادتها بسبب عدد نوابها المفرط الذي وصل إلى أربعين نائبا. وبعد مرور ستة أيام من النقاش المحتدم والتعديلات التي لا حصر لها، لم يصادق النواب الفرنسيون إلا على سبع عشرة مادة فحسب ، ولما أنهك الجدال المرير المستمر النواب، وكانت هناك حاجة إلى الانتقال إلى بعض القضايا الأخرى الملحة، صوت النواب في السابع والعشرين من أغسطس 1789 بتعليق النقاش في أمر المسودة، والإقرار المؤقت بالمواد التي أجيزت بالفعل باعتبارها «إعلان حقوق الإنسان والمواطن».
كان البيان الذي صيغ على نحو متسرع جدا مذهلا من حيث بساطته وسعة إحاطته؛ فقد نادى الإعلان، الذي لم يأت قط على ذكر الملك، أو النبلاء، أو الكنيسة، بأن تكون «حقوق الإنسان الطبيعية الثابتة والمقدسة» هي أساس أي سلطة، وقد عزا السيادة إلى الأمة، وليس إلى الملك، وأعلن أن الجميع متساوون أمام القانون، ومن ثم لكل واحد الحق في الحصول على الوظائف والرتب بحسب قدراته وجدارته، وضمنيا لا يفضل رجل على رجل بناء على أصوله. بيد أن الجانب الأكثر إثارة للدهشة من أي ضمان بعينه تمثل في تعميم الحقوق الموضوعة؛ فإسناد البيان إلى «الناس»، و«الإنسان»، و«كل إنسان»، و«جميع الناس»، و«جميع المواطنين»، و«كل مواطن»، و«المجتمع»، و«كل مجتمع» جعل الإسناد إلى الشعب الفرنسي بمفرده يبدو ضئيلا تافها بالمقارنة.
وعلى هذا، أثار نشر الإعلان على الفور الرأي العام العالمي حول موضوع الحقوق، سواء الحقوق المستحقة للإنسان أو الواجبة عليه. وفي الرابع من نوفمبر من عام 1789، في إحدى العظات التي ألقاها في لندن الواعظ والفيلسوف ريتشارد برايس، صديق بنجامين فرانكلين، الناقد المستمر للحكومة الإنجليزية، أطرى برايس بحماس شديد على الحقوق الجديدة للإنسان فقال: «قد عشت حتى رأيت حقوق الإنسان مفهومة للناس أكثر من أي وقت مضى، والأمم تلهث وراء الحرية، التي بدا وكأنها نسيت دلالتها ومعناها.» ولما ثارت ثائرة إدموند بيرك، كاتب المقال المعروف وعضو البرلمان، من حماسة برايس الساذجة من أجل «أفكار الفرنسيين التجريدية الميتافيزيقية»، سطر في عجالة ردا متقدا بالغضب، ونال كتيبه «تأملات في الثورة في فرنسا» (1790) التقدير الفوري باعتباره نواة مذهب المحافظين السياسي. قال إدموند بيرك بغضب: «نحن لسنا أتباع روسو، نحن نعلم أننا لم نهتد إلى أي اكتشافات، ونرى أنه لن تكون هناك أي اكتشافات؛ في الأخلاقيات ... نحن لم نجر ونوثق كي يجري حشونا، مثل الطيور المحنطة في المتاحف، بالقش والأسمال البالية وقصاصات ورق حقوق الإنسان الغامضة.» أما الشيء الذي اتفق عليه كل من برايس وإدموند فهو الثورة الأمريكية؛ فكلاهما أيدها. لكن الثورة الفرنسية غالت في مطالبها أيما مغالاة، وسرعان ما تشكلت خطوط المعركة. فهل كان هذا بمنزلة انبلاج لفجر عصر جديد من الحرية القائمة على المنطق، أم بداية انحدار شديد نحو الفوضوية والعنف؟
2
وعلى مدار قرابة قرنين من الزمان، وعلى الرغم من البلبلة التي أثارتها الثورة الفرنسية، كان «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» تجسيدا لوعد حقوق الإنسان العالمية. وفي عام 1948، عندما تبنت الأمم المتحدة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، نصت مادته الأولى على أنه: «يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق.» وكانت بالفعل المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 قد نادت بأنه: «يولد الناس ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق.» ومع أن التعديل اللغوي كان ذا مغزى، فلا يخفى على أحد التكرار البين في الوثيقتين.
لا تخبرنا أصول الوثائق بالضرورة بشيء ذي مغزى عن النتائج التي ترتبت عليها، فهل يهم بحق أن نعرف أن مسودة جيفرسون الأولية قد مرت بستة وثمانين تعديلا قبل أن تصل إلى حالتها النهائية سواء أجراها جيفرسون بنفسه، أو أدخلتها لجنة الخمس، أو الكونجرس؟ من الواضح أن جيفرسون وآدمز كانا يظنان أن هذا مهم؛ إذ ظلا حتى عشرينيات القرن التاسع عشر - أي في العقد الأخير من عمرهما المديد الحافل بالأحداث - يتجادلان حول من أسهم بماذا في الوثيقة. ومع ذلك فلم يكن لإعلان الاستقلال الأمريكي منزلة دستورية؛ إذ كان يعلن عن نوايا فحسب، ومر خمسة عشر عاما قبل أن تصدق الولايات المتحدة أخيرا على مشروع قانون الحقوق المختلف تمام الاختلاف في عام 1791. وقد زعم الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن بأنه يحمي الحريات الفردية، لكنه لم يمنع مجيء حكومة فرنسية قمعت الحقوق (عرفت باسم حكومة الإرهاب)، وصاغت الدساتير الفرنسية المستقبلية - التي ظهر الكثير منها - إعلانات مختلفة أو استغنت عن الإعلانات كلية .
غير أن الأكثر إزعاجا هو أن أولئك الذين أعلنوا بمنتهى الثقة أن الحقوق عالمية في أواخر القرن الثامن عشر، اتضح أنهم كانوا يفكرون في شيء أقل من العالمية بكثير. ولا عجب أنهم اعتبروا الأطفال، أو مختلي العقل، أو المساجين، أو الأجانب عديمي الأهلية، غير جديرين بالمشاركة الكاملة في العملية السياسية، فنحن نفعل هذا أيضا، ولكنهم استثنوا أيضا أولئك الذين لا يحوزون الممتلكات، والرقيق، والأحرار السود، والأقليات الدينية - في بعض الأحوال - والنساء، دائما وفي كل مكان. وفي السنوات الأخيرة أثارت هذه القيود التي فرضت على «كل الناس» العديد من التعليقات، حتى إن بعض الباحثين تشككوا هل حملت الإعلانات في طياتها أي معنى ينطوي على تحرير حقيقي؟! بل اعتبر مؤسسو تلك الإعلانات وواضعوها ومعلنوها من الصفوة والعنصريين وكارهي النساء؛ نتيجة عدم قدرتهم على رؤية الجميع متساوين في الحقوق بالفعل.
لا يجدر بنا أن نغفل القيود التي فرضها رجال القرن الثامن عشر على الحقوق، لكن إذا توقفنا عند هذه النقطة لنهنئ أنفسنا على «التقدم» النسبي الذي أحرزناه، فسنضل غايتنا. فكيف لأولئك الرجال، الذين عاشوا في مجتمعات قائمة على الرق، والخنوع، وذل طبيعي فيما يبدو، أن ينظروا إلى أناس يختلفون عنهم تمام الاختلاف، وللنساء أيضا في بعض الحالات، باعتبارهم مساوين لهم؟ كيف أصبحت المساواة في الحقوق حقيقة «بديهية» في مثل هذه الأماكن التي يستبعد وقوع هذا فيها؟ من المذهل أن يأتي رجال أمثال جيفرسون مالك العبيد، ولافاييت الأرستقراطي، على ذكر الحقوق البديهية الثابتة لكل الناس كما فعلا، فإذا استطعنا أن نفهم كيفية حدوث هذا، فسنفهم على نحو أفضل ماذا تعني لنا حقوق الإنسان اليوم.
مفارقة البداهة
نامعلوم صفحہ
على الرغم من اختلاف لغتي إعلاني القرن الثامن عشر، فإن كليهما استند على ادعاء بالبداهة. أوضح جيفرسون هذا عندما كتب: «نحن نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية.» وقد نص الإعلان الفرنسي صراحة على أن: «الجهل والإهمال وتجاهل حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات.» وفي هذا الصدد لم يختلف عنهما كثيرا «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي صيغ في عام 1948. لا شك في أن الإعلان الذي أصدرته الأمم المتحدة حمل نبرة أكثر قانونية عندما نص على أنه: «لما كان الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم ...» بيد أنه شكل أيضا ادعاء بالبداهة؛ لأن عبارة «لما كان» تعني حرفيا «بما أن الحقيقة هي». وبعبارة أخرى، تعد عبارة «لما كان» صيغة قانونية للتأكيد على حقيقة بديهية.
هذا الادعاء بالبداهة، الذي يعد في غاية الأهمية فيما يخص حقوق الإنسان حتى في وقتنا هذا، يكشف عن مفارقة: فإذا كانت المساواة في الحقوق حقيقة بديهية غنية عن الإيضاح، فما الحاجة إلى هذا التشديد إذن، ولماذا لا يؤكد على هذا التشديد إلا في أوقات وأماكن بعينها؟ كيف يمكن لحقوق الإنسان أن تكون عالمية ما لم يعترف بها عالميا؟ هل ينبغي أن نرضى بالتفسير الوارد بالتصريح الذي قدمه واضعو إعلان عام 1948: «نحن متفقون على الحقوق شريطة ألا يسألنا أحد لماذا»؟ هل يمكن أن تكون هذه الحقوق بديهية في حين قضى الباحثون أكثر من قرنين من الزمان يتجادلون حول ما كان يقصده جيفرسون بعبارته؟ ولسوف يستمر الجدل إلى أجل غير مسمى؛ لأن جيفرسون لم يشعر قط بالحاجة إلى توضيح مقصده، علاوة على أنه لم يشأ أحد من لجنة الخمس أو من الكونجرس أن يعيد النظر في ادعائه، على الرغم من أنهم أدخلوا تعديلات مكثفة على أجزاء أخرى من نسخته الأولية. لقد وافقوه الرأي فيما يبدو، ناهيك عن أنه لو أن جيفرسون كان قد فسر مقصده، لتلاشت بديهية الادعاء؛ فالتأكيد الذي يتطلب برهانا لا يعود بديهيا.
3
أرى أن ادعاء البداهة أمر في غاية الأهمية فيما يخص تاريخ حقوق الإنسان، وهذا الكتاب مكرس لتفسير كيف كان هذا الادعاء مقنعا أيما إقناع في القرن الثامن عشر، ومن حسن الحظ أن الكتاب أيضا يضع تحت بؤرة التركيز نقطة بعينها من هذا التاريخ المتشعب للغاية. لقد أضحت حقوق الإنسان منتشرة في كل مكان في الوقت الحالي، حتى إنها تحتاج فيما يبدو إلى سعة تاريخية كبيرة مماثلة لاستيعابها؛ فهي تشتمل على الأفكار اليونانية عن الإنسان الفرد، والنظرية الرومانية عن القانون والحقوق، والمذاهب المسيحية في النفس البشرية ... وتكمن المجازفة في أن يصبح تاريخ حقوق الإنسان هو تاريخ الحضارة الغربية، أو في الوقت الحالي - في بعض الأحيان - تاريخ العالم بأسره. أفلا تقدم الحضارة البابلية القديمة، والديانة الهندوسية، والبوذية، والإسلام إسهاماتها أيضا؟ كيف لنا إذن أن نعلل التبلور المفاجئ لادعاءات حقوق الإنسان في نهاية القرن الثامن عشر؟
لا بد أن تتوافر في حقوق الإنسان ثلاث سمات متداخلة: لا بد أن تكون الحقوق «طبيعية» (أصيلة في الإنسان)، «متساوية» (واحدة للجميع)، و«عالمية» (قابلة للتطبيق في كل مكان). ولكي تصبح الحقوق حقوقا «للإنسان»، لا بد أن يحوزها جميع البشر على قدم المساواة في كل مكان على وجه البسيطة لا لسبب آخر سوى أنهم بشر. ولقد اتضح أن قبول السمة الطبيعية للحقوق أيسر من قبول سمة العالمية أو سمة المساواة. ونحن ما زلنا نتصارع بطرق عدة مع الآثار المترتبة على المطالبة بمساواة الحقوق وعالميتها. في أي عمر يحق للفرد التمتع بالمشاركة الكاملة في الحياة السياسية؟ هل يحق للمهاجرين - غير المواطنين - أن يشتركوا في التمتع بالحقوق؟ وأي حقوق؟
ولكن حتى طبيعية الحقوق وتساويها وعالميتها ليست كافية تماما؛ فحقوق الإنسان تصبح ذات مغزى ودلالة عندما يكون لها مضمون سياسي. إنها ليست حقوقا للبشر في البرية، بل هي حقوق للبشر تحت مظلة المجتمع. وهي ليست حقوقا للبشر في مقابل حقوق إلهية، أو حقوقا للبشر في مقابل حقوق الحيوانات؛ بل هي حقوق للبشر بعضهم إزاء بعض، ومن ثم هي حقوق مكفولة في العالم السياسي العلماني (حتى وإن أطلقت عليها صفة «مقدسة»)، إلى جانب أنها حقوق تتطلب من أصحابها مشاركة فعالة.
اكتسبت طبيعية الحقوق وتساويها وعالميتها تعبيرا سياسيا مباشرا للمرة الأولى في «إعلان الاستقلال الأمريكي» عام 1776، و«الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن» عام 1789. فعلى الرغم من أن مشروع مذكرة الحقوق الإنجليزي لعام 1689 أشار إلى «الحقوق والحريات القديمة» التي أرسى دعائمها القانون الإنجليزي والمستمدة من التاريخ الإنجليزي، فإنه لم يناد بتساوي الحقوق وعالميتها وطبيعيتها. وعلى النقيض، شدد إعلان الاستقلال الأمريكي على أن «جميع الناس خلقوا متساوين»، وأن جميعهم يملكون «حقوقا ثابتة». وبالمثل، نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن على أنه «يولد الناس ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق». لم يخص بالذكر الفرنسيين وحدهم، ولا البيض، ولا الكاثوليك، بل «الناس»، اللفظة التي كانت تعني - وما زالت تعني - جميع البشر رجالا ونساء. وبعبارة أخرى، في وقت ما في الفترة ما بين عامي 1689 و1776، تحولت الحقوق التي غالبا ما كانت تعد قاصرة على فئة بعينها من الناس - المواليد الأحرار من الإنجليز على سبيل المثال - إلى حقوق للبشر جميعا؛ حقوق عالمية طبيعية، وضع لها الفرنسيون مصطلحا يعني «حقوق الإنسان».
4
حقوق الإنسان و«حقوق الفرد»
إذا قمنا بزيارة قصيرة إلى تاريخ المصطلحات، فسوف تساعدنا على أن نحدد بوضوح لحظة ظهور مصطلح «حقوق الإنسان». على الأرجح لم يستخدم أناس القرن الثامن عشر تعبير «حقوق الإنسان»، ومتى استخدموه كانوا يقصدون به عادة شيئا مختلفا عما نقصده نحن اليوم. فقبل عام 1789، غالبا ما تحدث جيفرسون - على سبيل المثال - عن «الحقوق الطبيعية»، ولم يبدأ في استخدام مصطلح «حقوق الفرد» إلا بعد عام 1789، وعندما استخدم مصطلح «حقوق الإنسان» كان يعني شيئا ذا طابع أكثر سلبية وأدنى من الناحية السياسية من الحقوق الطبيعية أو حقوق الفرد. ففي عام 1806 - على سبيل المثال - استخدم المصطلح في الإشارة إلى شرور تجارة الرقيق:
نامعلوم صفحہ
أهنئكم، أيها الأخوة المواطنون، على الدنو من الفترة التي يمكن أن تستخدموا فيها سلطتكم بصفة دستورية؛ لمنع مواطني الولايات المتحدة من المزيد من المشاركة في هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان التي دامت طويلا ضد سكان أفريقيا الذين لم يرتكبوا جرما، والتي تاقت طويلا أخلاقيات بلدنا وسمعتها ومصالحها إلى تحريمها.
ومع تأكيد جيفرسون على أن الأفارقة يتمتعون بحقوق الإنسان، فلم يلمح بتاتا إلى العبيد الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية في الوطن. فحقوق الإنسان، وفقا لتعريف جيفرسون، لا تتيح للأفارقة - ناهيك عن الأمريكيين من أصول أفريقية - حرية التصرف بأنفسهم .
5
إبان القرن الثامن عشر، تبين أن مصطلحات مثل «حقوق الإنسان»، و«حقوق البشرية»، «وحقوق الإنسانية»، في كل من اللغة الإنجليزية والفرنسية، مصطلحات عامة للغاية، فلا تمت بصلة مباشرة إلى الاستخدام السياسي؛ فكانت تشير إلى ما يميز ما هو بشري عما هو إلهي من ناحية، وعما هو حيواني من ناحية أخرى، وليس إلى الحقوق المتعلقة بالسياسة مثل حرية التعبير أو الحق في المشاركة في الحياة السياسية. وهكذا، في واحدة من الاستخدامات الأولى لمصطلح «حقوق الإنسانية» في اللغة الفرنسية (عام 1734)، سخر الناقد اللاذع واسع الاطلاع، نيكولاس لنيجلي-دوفريسنوي، الذي كان هو نفسه كاهنا كاثوليكيا، من «أولئك الرهبان الأفذاذ الذين عاشوا في القرن السادس والذين تخلوا عن كل «حقوق الإنسانية»، حتى إنهم رعوا كالحيوانات وسرحوا عارين عريا تاما». وبالمثل في عام 1756 ادعى فولتير على سبيل الهزل أن بلاد فارس كانت الدولة الملكية التي نعم فيها الفرد أيما نعمة «بالحقوق الإنسانية»؛ نظرا لأن الفارسيين اقتنوا أعظم «الموارد للتخلص من السأم». وظهر مصطلح «حق الإنسان» للمرة الأولى في اللغة الفرنسية عام 1763، بمعنى مماثل «للحق الطبيعي»، لكن لم يشع استخدامه، مع أن فولتير استخدمه في «رسالة التسامح»
6
واسعة الانتشار والتأثير.
وفي الوقت الذي ظل فيه المتحدثون بالإنجليزية يؤثرون استخدام مصطلح «الحقوق الطبيعية» أو كلمة «الحقوق» فحسب، طيلة القرن الثامن عشر، ابتكر الفرنسيون تعبيرا جديدا في ستينيات القرن الثامن عشر هو: «حقوق الفرد». ولكل من مصطلح «الحق الطبيعي (الحقوق الطبيعية)» أو «القانون الطبيعي» (في اللغة الفرنسية، تعبير واحد يحمل كلا المعنيين) تاريخ أطول يعود إلى مئات السنين، لكن ربما كان لمصطلح «الحق الطبيعي» عدة معان ممكنة نتيجة لذلك؛ فقد قصد به أحيانا ببساطة جعل الشيء يبدو منطقيا في إطار النظام التقليدي. ولهذا استخدم الأسقف بوسويه، المتحدث الرسمي عن الحاكم المطلق الملك لويس الرابع عشر، على سبيل المثال، مصطلح «الحق الطبيعي» فقط عند وصف دخول المسيح إلى السماء: («دخل إلى السماء بمقتضى حقه الطبيعي.»)
7
شاع استخدام مصطلح «حقوق الفرد» في فرنسا بعد ظهوره في كتاب جان جاك روسو «العقد الاجتماعي» عام 1762، على الرغم من أن روسو لم يطرح تعريفا للمصطلح، وعلى الرغم من أنه استخدمه متلازما مع «حقوق الإنسانية» و«حقوق المواطن» و«حقوق السيادة»، أو ربما بسبب ذلك. وأيا كان السبب، فبحلول شهر يونيو عام 1763، أصبح مصطلح «حقوق الفرد» مصطلحا شائعا بناء على رسالة إخبارية سرية:
أدى ممثلو المسرح الفرنسي اليوم للمرة الأولى مسرحية بعنوان «مانكو» (تدور أحداثها حول إمبراطورية الإنكا القديمة في بيرو) التي تحدثنا عنها آنفا. إنها واحدة من أسوأ المسرحيات التراجيدية نسجا. ثمة دور لأحد الهمجيين كان يمكن أن يصير دورا غاية في الروعة؛ فهو يسرد شعرا يذكر فيه كل شيء قرأناه مبعثرا عن الملوك، والحرية، وحقوق الفرد، في كتب «عدم المساواة في الظروف»، و«إيميل»، و«العقد الاجتماعي».
نامعلوم صفحہ
ومع أن المسرحية نفسها لم تستخدم في الحقيقة عبارة «حقوق الفرد» بدقة، وإنما العبارة المرتبطة بها: «حقوق كينونتنا»، فإن المصطلح قد دخل بوضوح في إطار الاستخدام الثقافي، وكان يرتبط بالفعل بأعمال روسو مباشرة. وبعدئذ استخدمه أدباء آخرون من عصر النهضة أمثال البارون دي هولباخ، ورينال، وميرسيير في سبعينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر.
8
وقبل عام 1789 لم ينتقل مصطلح «حقوق الفرد» إلى اللغة الإنجليزية إلا قليلا. لكن الثورة الأمريكية حفزت الماركيز دي كوندرسيه، بطل عصر التنوير الفرنسي، ليقوم بالمحاولة الأولى لتعريف «حقوق الفرد» التي في رأيه اشتملت على أمن الفرد، وأمن الممتلكات، والعدالة النزيهة المحايدة، والحق في المساهمة في صياغة القوانين. وفي مقاله الذي نشره عام 1786 بعنوان «عن تأثير الثورة الأمريكية على أوروبا»، ربط صراحة حقوق الفرد بالثورة الأمريكية: «إن المشهد الرائع لأمة عظيمة تؤخذ فيها حقوق الفرد مأخذ الاحترام، لهو نافع لبقية الأمم، على الرغم من الفروق في المناخ والعادات والدساتير.» وصرح بأن إعلان الاستقلال الأمريكي ليس أقل من «عرض بسيط وسام لهذه الحقوق التي هي شديدة القدسية، وفي الوقت نفسه منسية منذ زمن طويل». وفي يناير عام 1789 استخدم إيمانويل جوزيف سييس تعبير «حقوق الفرد» في كتيبه التحريضي المناوئ لطبقة النبلاء الذي حمل عنوان: «ما الطبقة الثالثة؟» وأشارت مسودة لافاييت لإعلان الحقوق في يناير عام 1789 إشارة واضحة إلى «حقوق الفرد»، وتكرر الأمر في مسودة كوندرسيه التي صاغها في أوائل عام 1789. ومنذ ربيع 1789 - حتى من قبل سقوط سجن الباستيل في الرابع عشر من يوليو - شاعت في الأوساط السياسية الفرنسية الأقوال عن الحاجة إلى وجود إعلان عن «حقوق الفرد».
9
وعندما بزغت لغة حقوق الإنسان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لم يكن هناك في بادئ الأمر تعريف واضح لهذه الحقوق. لم يقدم روسو أي تفسير عندما استخدم مصطلح «حقوق الفرد»، وعرفها ويليام بلاكستون، فقيه القانون الإنجليزي، على أنها: «الحرية الطبيعية للبشر»، بمعنى «الحقوق المطلقة للفرد، باعتباره إنسانا حرا منح القدرة على التمييز بين الخير والشر». ومعظم أولئك الذين استخدموا العبارة في فرنسا في سبعينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، أمثال رمزي عصر التنوير اللذين كانا مثارا للجدل؛ البارون دي هولباخ والكونت دي ميرابو، أشاروا إلى حقوق الفرد كما لو كانت واضحة وضوح الشمس وليست في حاجة إلى دفاع أو تعريف، وبعبارة أخرى، كانت حقوقا بديهية. زعم دي هولباخ - على سبيل المثال - أنه متى تضاءلت خشية الإنسان من الموت، «فعندئذ سيدافع عن حقوق الفرد على نحو أكثر جسارة وإقداما.» وشجب ميرابو أعداءه الألداء «معدومي الشخصية والضمير، لأنهم لا يملكون أدنى فكرة على الإطلاق عن حقوق الفرد». ولم يقدم أحد على الإطلاق قائمة مفصلة بهذه الحقوق قبل عام 1776 (وهو تاريخ إعلان حقوق ولاية فيرجينيا الذي صاغه جورج ماسون).
10
ونجح في إماطة اللثام عن غموض حقوق الإنسان القس الكالفيني الفرنسي جان بول رباءوت سانت إتيان، الذي كتب إلى الملك الفرنسي في عام 1787 ليتظلم بشأن إعاقة «مرسوم التسامح» المقترح من أجل البروتستانت أمثاله. تشجع رباءوت بالشعور المتزايد لمصلحة حقوق الفرد، فأصر قائلا: «نحن نعرف اليوم كنه الحقوق الطبيعية، وهي قطعا تمنح الأفراد أكثر مما يمنحه المرسوم للبروتستانت ... لقد حان الوقت الذي لم يعد مقبولا فيه لأي قانون أن ينقض جهارا حقوق الإنسانية التي باتت معروفة حق المعرفة للعالم أجمع.» ولربما باتت حقوق الإنسانية «معروفة حق المعرفة»، غير أن رباءوت نفسه سلم بأن ملكا كاثوليكيا لا يمكن أن يجيز رسميا حق الكالفينيين في ممارسة حقهم في العبادة العامة. وخلاصة القول، اعتمد كل شيء آنذاك - كما هي الحال الآن أيضا - على تفسير عبارة الشيء الذي «لم يعد مقبولا».
11
كيف أصبحت الحقوق بديهية
من العسير تحديد كنه حقوق الإنسان؛ نظرا لأن تعريفها - بل وجودها نفسه في واقع الأمر - يعتمد على المشاعر بالقدر نفسه الذي يعتمد به على المنطق. وادعاء البداهة يعتمد في آخر المطاف على مخاطبة العاطفة؛ فهو مقنع إذا مس شغاف قلب الفرد، علاوة على أننا موقنون بشدة بأن حق الإنسان يكون موضع نزاع عندما ننزعج جراء انتهاكه. لقد علم رباءوت من سانت إتيان أنه يستطيع أن يخاطب المعرفة الضمنية بما «لم يعد مقبولا». وفي عام 1755 كتب مؤلف عصر النهضة الفرنسي المؤثر دنيس ديدرو عن «الحق الطبيعي» يقول: «إن استخدام هذا المصطلح مألوف للغاية، حتى إنه يكاد يكون جميع الناس على قناعة داخلية أن هذا الحق واضح وضوح الشمس. وهذا الشعور الداخلي يتقاسمه كل من الفيلسوف والرجل العادي الذي لم يسبق له أن مارس التأمل قط.» وقدم ديدرو - على غرار آخرين من معاصريه - تلميحا غامضا فحسب لمعنى الحقوق الطبيعية، فخلص إلى الآتي: «بصفتي إنسانا، لست أملك حقوقا طبيعية أخرى ثابتة بحق بخلاف تلك الحقوق التي تملكها الإنسانية.» بيد أنه وضع يده على أهم سمة من سمات حقوق الإنسان؛ أنها حتمت وجود «شعور داخلي»
نامعلوم صفحہ
12
معين يتقاسمه نطاق عريض من البشر.
وحتى فيلسوف القانون الطبيعي السويسري المتشدد جان جاك بورلماكي أصر على أن الحرية لا يمكن بلوغها إلا من خلال المشاعر الداخلية لكل إنسان عندما صرح قائلا: «مثل هذه الأدلة الشعورية تسمو فوق كل عائق وتولد أرسخ القناعات الإيمانية.» وحقوق الإنسان ليست مجرد مذهب صيغ في وثائق، بل هي في جوهرها نزعة نحو الآخرين، أو مجموعة من القناعات حول كنه الناس وكيف يميزون الصواب من الخطأ في العالم العلماني. وكان لا بد للأفكار الفلسفية، والتقاليد الشرعية ، والسياسات الثورية أن تتحلى بمثل هذا النوع من المرجعية الشعورية الداخلية كيما تصير حقوق الإنسان «بديهية» بالفعل. وكما أصر ديدرو، كان لا بد أن يشعر كثير من الناس بهذه المشاعر، وليس فقط الفلاسفة الذين كتبوا عنها.
13
كان تعزيز هذه الأفكار المتعلقة بالحريات والحقوق في جوهره مجموعة من الافتراضات عن الاستقلال الفردي؛ فلكي تكون لدينا حقوق للإنسان، كان لا بد أن ينظر إلى الناس باعتبارهم أشخاصا مستقلين قادرين على إبداء رأي أخلاقي مستقل، فكما وصفها بلاكستون؛ حقوق الإنسان تقتضي أن يعتبر الفرد «إنسانا حرا منح القدرة على التمييز بين الخير والشر». لكن لكي يصبح هؤلاء الأفراد المستقلون أعضاء في أحد المجتمعات السياسية بناء على تلك الآراء الأخلاقية المستقلة، كان لا بد أن يقدروا أولا على التعاطف مع الآخرين. سيتمتع كل فرد بحقوقه فقط إذا أمكن النظر لكل الناس على أنهم متساوون بصورة جوهرية. لم تكن المساواة مجرد مفهوم تجريدي أو شعار سياسي، وكان لا بد أن تدمج بطريقة ما في طبيعة الإنسان.
وعلى الرغم من أننا نأخذ أفكار الاستقلال الذاتي والمساواة، بالإضافة إلى حقوق الإنسان، على أنها مسلم بها، فإنها لم تكتسب فعاليتها إلا في القرن الثامن عشر. ولقد تعقب فيلسوف الفلسفة الأخلاقية المعاصر جيه بي شنيويند أصول ما يطلق عليه «نشأة الاستقلالية»، وأكد شنيويند قائلا: «ركزت النظرة الجديدة التي بزغت في نهاية القرن الثامن عشر على الاعتقاد بأن كل الأشخاص الطبيعيين قادرون بالتساوي على العيش معا في إطار فضيلة الاستقلال الذاتي.» ويكمن وراء أولئك «الأشخاص الطبيعيين» تاريخ طويل من الكفاح. في القرن الثامن عشر (وحتى وقتنا هذا في الواقع)، لم يمكن تصور كافة «الناس» على أنهم قادرون بالتساوي على الاستقلال الذاتي الأخلاقي؛ إذ اشتمل الأمر على سمتين وثيقتي الصلة لكنهما مختلفتان بوضوح: القدرة على تحكيم العقل، والاستقلالية في اتخاذ القرار. ولا بد من توافر كلتيهما لكي يتمتع الفرد بالاستقلالية الأخلاقية. وتنعدم القدرة الضرورية على تحكيم العقل لدى فاقدي الأهلية من أطفال ومختلي العقل، لكنهم ربما يكتسبون هذه القدرة أو يستعيدونها يوما ما. وكما الأطفال، كان الرقيق، والخدم، ومن ليست لديهم ممتلكات، والنساء، يفتقرون إلى وضع الاستقلال اللازم كيما يكونوا مستقلين استقلالا كاملا. ولعل الأطفال يتمتعون يوما ما بالاستقلال الذاتي عندما يكبرون، والخدم عندما يتركون الخدمة، ومن ليست لديهم ممتلكات عندما يبتاعون الممتلكات، بل حتى الرقيق عندما يشترون حريتهم. وبدا أن النساء وحدهن ليست أمامهن أي من هذه الخيارات؛ فقد وضعن في إطار أنهن معتمدات بالفطرة على آبائهن أو أزواجهن. ولو أن أنصار حقوق الإنسان العالمية المتساوية الطبيعية استثنوا تلقائيا بعض فئات الناس من مزاولة تلك الحقوق، فهذا يرجع في المقام الأول إلى أنهم يرون هذه الفئات أقل من أن تتمتع بالقدرة الكاملة على الاستقلالية الأخلاقية.
14
غير أن قدرة التعاطف حديثة الاكتشاف استطاعت أن تقاوم أقدم الآراء المسبقة وأكثرها رسوخا؛ ففي عام 1791 منحت الحكومة الفرنسية الثورية اليهود المساواة في الحقوق، وفي عام 1792 منح حتى غير مقتني الممتلكات حق الاقتراع، وفي عام 1794 ألغت الحكومة الفرنسية الرق رسميا. ولم يكن لكل من الاستقلالية والتعاطف شكل محدد المعالم، فهما مهارتان يمكن اكتسابهما، كما يمكن تفنيد القيود «المقبولة» المفروضة على الحقوق، وقد كانت تفند بالفعل. ولا يمكن وضع تعريف نهائي دائم للحقوق؛ ذلك لأن قاعدتها الشعورية تتغير على الدوام، ويعزى هذا جزئيا إلى إعلانات الحقوق. وتظل الحقوق عرضة للمناقشة؛ لأن مفهومنا عن هوية من يملك الحقوق وماهية هذه الحقوق يتغير على الدوام. إن ثورة حقوق الإنسان مستمرة بحكم طبيعتها الخاصة.
إن الاستقلال الذاتي والقدرة على التعاطف هما ممارستان ثقافيتان، وليستا مجرد فكرتين، ومن ثم فهما مجسمتان بالمعنى الحرفي، بمعنى أن لهما أبعادا فيزيائية تماما مثل الأبعاد العاطفية. يتوقف الاستقلال الفردي على إحساس متزايد بانفصال الأجساد البشرية وقدسيتها: فجسدك ملك لك أنت، وجسدي ملك لي أنا، وينبغي لكلينا أن يحترم الحدود بين جسدينا. أما التعاطف فهو يتوقف على الاعتراف بأن الآخرين يشعرون ويفكرون مثلنا، وأن مشاعرنا الداخلية متشابهة تشابها جوهريا. ولكي يصير الإنسان مستقلا ذاتيا، فلا بد أن يكون منفصلا قانونيا، وفي انفصاله هذا يتمتع بالحماية ، لكن لكي تدعم الحقوق هذا الانفصال الجسدي، لا بد أن تقدر فردية الإنسان تقديرا يغلب عليه الطابع العاطفي. تتوقف حقوق الإنسان على امتلاك الذات، وعلى الاعتراف بأن كل الآخرين [يمتلكون ذواتهم] على قدم المساواة. وعدم اكتمال فكرة حق الآخرين في امتلاك ذواتهم هو المسئول عن ظهور أشكال عدم المساواة كافة في الحقوق التي شغلتنا على مر التاريخ.
لم تظهر الاستقلالية الذاتية والتعاطف في القرن الثامن عشر بدون سابق إنذار، بل كانت لهما جذور عميقة. فعلى المدى الطويل لقرون عديدة، بدأ الأفراد ينسحبون بعيدا عن حبائل المجتمع وأصبحوا أفرادا مستقلين أكثر فأكثر، من الناحية القانونية والنفسية. فقد أوجد الخجل المتزايد طيلة الوقت من الوظائف الجسدية والإحساس المتزايد بآداب اللياقة الجسدية احتراما أعظم للتكامل الجسدي وحدودا أوضح للفصل بين أجساد الأفراد. وبمرور الوقت، بدأ الناس ينامون في الفراش بمفردهم أو مع الزوج أو الزوجة فقط، واستخدموا الأواني لتناول الطعام، وبدءوا ينظرون إلى السلوك الذي كانوا يقبلونه قبلا، على أنه سلوك كريه، مثل إلقاء الطعام على الأرض أو مسح فضلات الجسم في الملابس. وكان التغير المستمر في الأفكار والنظريات المتعلقة بدواخل النفس وعمقها، بدءا من الروح المسيحية ومرورا بالضمير البروتستانتي ووصولا إلى أفكار القرن الثامن عشر عن الإدراك الحسي، قد ملأ النفس بمحتوى جديد. وقد حدثت كل هذه العمليات على مدى فترة زمنية طويلة.
نامعلوم صفحہ
لكن حدثت هناك طفرة مفاجئة في تطور هذه الممارسات في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ صارت سلطة الآباء المطلقة على أبنائهم موضع تساؤل، وبدأت جموع الناس تشاهد العروض المسرحية أو تنصت إلى الموسيقى في هدوء، نافس فن تصوير الأشخاص وتصوير مشاهد الحياة اليومية هيمنة اللوحات الزيتية التي تتناول الأساطير والتاريخ التابعة للرسم الأكاديمي، وانتشرت الروايات والصحف، مما أتاح وصول قصص الحياة العادية إلى أيدي قاعدة كبيرة من الجموع، وبدأ الناس يستهجنون كلا من التعذيب الذي كان جزءا من العملية القضائية، وأشكال العقاب البدني الأكثر تطرفا. كل هذه التغيرات أسهمت في تعزيز الإحساس بالانفصال وامتلاك كل فرد لجسده ، بالإضافة إلى إمكانية التعاطف مع الآخرين.
ولأفكار التكامل الجسدي والتفرد التعاطفي، التي نتعرض لها في الفصول التالية، تاريخ لا يختلف عن تاريخ حقوق الإنسان، التي تجمعها بها صلة وثيقة. وبعبارة أخرى، بدا أن التغيرات التي طرأت على وجهات النظر حدثت بدون سابق إنذار في منتصف القرن الثامن عشر. تأمل على سبيل المثال مسألة التعذيب؛ ففي الفترة ما بين عامي 1700 و1750، أشارت معظم استخدامات كلمة «التعذيب» في اللغة الفرنسية إلى الصعوبات التي جابهها الكاتب عندما كان يقدح زناد فكره للعثور على التعبير الموفق. في هذا أشار ماريفو عام 1724 إلى «تعذيب ذهن المرء كي يخرج بالتأملات». أما ذلك التعذيب المصرح به قانونيا للحصول على الاعترافات باقتراف جريمة أو أسماء شركاء الجريمة، فقد بات قضية جوهرية بعدما هاجم مونتيسكيو هذه الممارسات في كتابه «روح القوانين» (عام 1748)؛ ففي واحدة من أكثر الفقرات التي صاغها تأثيرا، يؤكد قائلا: «كتب عدد هائل من الرجال الشجعان والعباقرة في مناهضة هذه الممارسة (التعذيب القضائي) حتى إنني لا أجرؤ على أن أنبس ببنت شفة من بعدهم.» ثم يمضي قدما في حديثه في كلمات أكثر غموضا فيقول: «كنت سأقول إنها قد تليق بالحكومات المستبدة، حيث كل شيء يثير الخوف يعد جزءا من أدوات الحكومة؛ كنت سأقول إن الرقيق وسط اليونانيين والرومانيين ... لكنني أسمع صوت الطبيعة يعارضني بقوة.» وتقدم البداهة هنا أيضا - في قوله «صوت الطبيعة يعارضني بقوة» - أساس النقاش. وقد لحق بالركب بعد مونتيسكيو فولتير وكثيرون غيره، لا سيما بيكاريا الإيطالي. وبحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر، بات إلغاء التعذيب والأشكال الوحشية للتعذيب البدني من المواد الهامة في مذهب حقوق الإنسان الجديد.
15
وقدمت التغيرات التي طرأت على ردود الفعل تجاه أجساد الآخرين والذوات الدعم الرئيسي للأساس العلماني الجديد للسلطة السياسية، ومع أن جيفرسون كتب أن «خالقهم» حباهم بحقوقهم، فإن دور الخالق انتهى عند هذه النقطة. فالحكومة لم تعد تعتمد على الله، ناهيك عن الاعتماد على تفسير الكنيسة لإرادة الله. لقد قال جيفرسون: «أنشئت الحكومات وسط الناس كي تكفل هذه الحقوق»، وهي تستمد قوتها «من رضا المحكومين». بالمثل نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789 على أن: «هدف كل اتحاد أو تجمع سياسي هو حفظ الحقوق الطبيعة التي للإنسان والتي لا يجوز مسها»، و«يستند أساس كل سيادة على الأمة في المقام الأول». وبمقتضى وجهة النظر هذه، تستمد السلطة السياسية من الطبيعة الداخلية للأفراد وقدرتهم على خلق مجتمع من خلال الرضا والقبول. وقد بحث علماء السياسة والمؤرخون هذا المفهوم عن السلطة السياسية من زوايا مختلفة، لكنهم لم يولوا الكثير من الانتباه إلى وجهة نظر الأجساد والذوات التي جعلت هذا المفهوم ممكنا.
16
وسوف يعظم نقاشي من تأثير أنواع جديدة من التجارب؛ بدءا من رؤية صور معروضة في المعارض العامة ووصولا إلى قراءة الروايات الرسائلية التي تحظى بشعبية هائلة والتي تدور عن الحب والزواج؛ فمثل تلك التجارب ساعدت في نشر ممارسات الاستقلال الذاتي والتعاطف. زعم عالم السياسة بيندكت أندرسون أن الصحف والروايات قد خلقت «المجتمع المتخيل» الذي تحتاجه القومية كي تنتعش. ويعد المصطلح الذي يمكن أن يشار إليه ب «التعاطف المتخيل» حجر أساس حقوق الإنسان وليس القومية، ولا يقصد بكلمة «متخيل» هنا معنى «الاختلاق»، بل معنى أن التعاطف يتطلب قفزة إيمانية في تصور أن شخصا آخر هو مثلك. وقد أنتجت قصص التعذيب هذا التعاطف المتخيل عن طريق رؤى جديدة للألم، كما ولدته الروايات عن طريق تحفيز أحاسيس جديدة عن الذات الداخلية، وعزز كل بطريقته الخاصة فكرة مجتمع يقوم على أشخاص مستقلين ذاتيا ومتعاطفين بإمكانهم التوحد بقيم كونية أعظم خارج محيط عائلاتهم المباشرة، أو انتماءاتهم الدينية، أو حتى بلادهم.
17
وليس ثمة طريقة سهلة أو واضحة لإثبات تأثير التجارب الثقافية الجديدة في الناس الذين عاشوا في القرن الثامن عشر أو حتى قياس هذا التأثير، ناهيك عن تأثيرها في مفاهيمهم عن الحقوق. ولقد ثبت أن الدراسات العلمية للاستجابات في عصرنا الحالي للقراءة أو مشاهدة التليفزيون صعبة للغاية، وهي التي تتمتع بمزية أن الخاضعين للتجربة أحياء يمكن تعريضهم لاستراتيجيات بحث دائمة التغير. ومع ذلك يحرز أخصائيو الجهاز العصبي وأطباء علم النفس الإدراكي بعض التقدم في ربط بيولوجية المخ بالنتائج النفسية وبالنتائج الاجتماعية والثقافية في نهاية الأمر. لقد أثبتوا - على سبيل المثال - أن القدرة على تأليف القصص تقع في نطاق بيولوجية المخ، وتعد مهمة للغاية في تكوين أي فكرة عن النفس. وتؤثر أنواع معينة من التلف الذي يلحق بالمخ على فهم القصص، وثمة أمراض مثل مرض التوحد توضح أن القدرة على التعاطف - أي القدرة على الاعتراف بأن الآخرين لديهم ذهن مثل ذهنك - لها أساس بيولوجي. بيد أن هذه الدراسات لا تتناول غالبا سوى طرف واحد فحسب من المعادلة، وهو الجانب البيولوجي. فمع أن معظم الأطباء النفسيين، بل حتى بعض أخصائي الأعصاب، متفقون على أن المخ نفسه يتأثر بالقوى الاجتماعية والثقافية، فقد كانت دراسة مثل هذا التفاعل أكثر صعوبة. بالفعل ثبت أن دراسة النفس ذاتها عملية غاية في الصعوبة. ونحن نعلم أن لنا تجربة تتمثل في أن لكل منا نفسا، لكن علماء الأعصاب لم يفلحوا في تحديد موقع هذه التجربة، ناهيك عن تفسير آلية عملها.
18
إذا كانت العلوم العصبية والعقلية والنفسية لا تزال متشككة في طبيعة النفس، فربما ليس من المستغرب إذن أن المؤرخين لم يحاولوا تناول هذا الموضوع بالمرة. لعل معظم المؤرخين يرون أن النفس قد شكلتها إلى حد ما العوامل الاجتماعية والثقافية، بمعنى أنها في القرن العاشر كانت تعني شيئا مختلفا تماما عما تعنيه اليوم. ومع ذلك فلا يعرف الكثير عن تاريخ النفس باعتبارها مجموعة من الخبرات؛ فقد استفاض الباحثون بشدة في الكتابة عن بزوغ الفردية والاستقلالية الذاتية باعتبارهما مذهبين، لكنهم كتبوا أقل القليل عن الكيفية التي قد تتغير بها النفس بمرور الوقت. وأتفق مع المؤرخين الآخرين في أن معنى النفس يتغير بمرور الوقت، وأظن أن تجربة النفس - وليس مجرد الفكرة - تتغير لدى بعض الناس في القرن الثامن عشر تغيرا حاسما.
نامعلوم صفحہ
تعتمد حجتي على فكرة أن الاطلاع على قصص التعذيب أو روايات الرسائل كانت له تأثيرات مادية تحولت إلى تغيرات طرأت على المخ ثم ظهرت في صورة مفاهيم جديدة عن منظومة الحياة الاجتماعية والسياسية. فقد خلقت أنواع جديدة من القراءة (والمشاهدة والإنصات) تجارب فردية جديدة (التعاطف) أوجدت بدورها مفاهيم اجتماعية وسياسية جديدة (حقوق الإنسان). وأحاول في هذه الصفحات أن أزيل اللبس عن آلية عمل العملية. ولما أغفل مجال دراستي للتاريخ لزمن طويل أشكال النقاش النفسي كافة - فنحن المؤرخين نتحدث عادة عن الاختزال النفسي بينما لا نأتي قط على ذكر الاختزال الاجتماعي أو الثقافي - فقد أغفل إلى حد بعيد إمكانية إيراد حجة أو إجراء نقاش يقوم على سرد لما يدور بداخل النفس.
إنني أحاول الآن أن أعيد تركيز الانتباه على ما يدور في عقول الأفراد. وقد تبدو عقول الأفراد مكانا واضحا للبحث عن تفسير للتغيرات الاجتماعية والسياسية القادرة على إحداث التحول، ولكن عقول الأفراد - على خلاف عقول المفكرين والأدباء العظماء - قد أغفلت على نحو مثير للدهشة في أعمال العلوم البشرية والاجتماعية الحديثة. لقد انصب التركيز على السياقات الاجتماعية والثقافية، وليس على الطريقة التي بها تفهم عقول الأفراد هذه السياقات وتعيد تشكيلها. وأظن أن هذا التغير الاجتماعي والسياسي - الذي تمثله حقوق الإنسان في هذه الحالة - يحدث نتيجة لأن أفرادا كثيرين قد اجتازوا تجارب مشابهة، ليس لأنهم جميعا عاشوا في نفس السياق الاجتماعي، بل لأنه من خلال تفاعلاتهم بعضهم مع بعض وقراءتهم واطلاعهم خلقوا فعليا سياقا اجتماعيا جديدا. خلاصة القول أنني ما زلت عند رأيي أن أي قصة موضوعها تغير تاريخي لا بد أن تعلل في نهاية المطاف التغير الحادث في تفكير الأفراد، ولكي تصبح حقوق الإنسان حقوقا بديهية، اضطر الناس العاديون أن يعتنقوا مفاهيم جديدة ولدتها أنواع جديدة من المشاعر.
الفصل الأول
فيض المشاعر
قراءة الروايات وتخيل المساواة
قبل أن ينشر روسو كتابه «العقد الاجتماعي» بعام، جذب أنظار العالم إليه من خلال روايته الأكثر مبيعا «جولي، أو إلواز الجديدة» (1761). ومع أن القراء المعاصرين ينظرون أحيانا إلى الرواية الرسائلية أو المكتوبة في صورة خطابات على أنها بطيئة التطور على نحو مثير للضجر، فإن قراء القرن الثامن عشر تجاوبوا معها تجاوبا شعوريا عميقا، لقد أثار العنوان الفرعي توقعاتهم؛ ذلك لأن قصة العصور الوسطى التي تدور حول حب إلواز وأبلارد المقدر له الفشل كانت ذائعة الصيت، والتي فيها أغوى فيلسوف القرن الثاني عشر، رجل الإكليروس الكاثوليكي، بيتر أبلارد، تلميذته إلواز ودفع ثمن ذلك غاليا على يد عمها الذي أخصاه، وبعد أن انفصل الحبيبان إلى الأبد، أخذا يتبادلان خطابات الهيام التي أسرت ألباب القراء على مر العصور. وللوهلة الأولى بدت محاكاة روسو المعاصرة لهذه القصة الواقعية تشير إلى اتجاه مختلف تمام الاختلاف؛ فإلواز الجديدة، التي هي جولي في قصة روسو، تقع في غرام مدرسها أيضا، لكنها تتخلى عن حبيبها سانت برو المعدم نزولا على طلب والدها المتسلط بأن تتزوج من وولمار، الجندي الروسي الذي يكبرها سنا، والذي أنقذ حياة والدها ذات مرة. إنها لا تتغلب على مشاعرها تجاه سانت برو فحسب، بل تعلمت أيضا على ما يبدو أن تحبه كمجرد صديق قبل أن تموت بعد إنقاذ ابنها الصغير من الغرق. فهل قصد روسو في قصته أن يشيد برضوخها للسلطة الأبوية والزوجية، أم أنه رمى إلى تصوير تضحيتها برغباتها الخاصة على أنها مأساة؟
ولا تفسر الحبكة الدرامية - حتى مع الغموض الذي يشوبها - فيض المشاعر المتفجر الذي شعر به قراء روسو؛ فما حرك مشاعرهم هو توحدهم الشديد مع شخصيات الرواية، ولا سيما جولي. ولما كان روسو يحظى بالفعل بشهرة عالمية، فقد انتشرت أخبار اقتراب نشر روايته الجديدة كالنار في الهشيم؛ كان أحد أسباب هذا هو أنه قرأ فقرات منها على مسامع العديد من الأصدقاء، ومع أن فولتير هزأ منها واصفا إياها ب «النفاية البائسة»، فإن جان لو رون دي المبير، المحرر المساعد لدنيس ديدرو في «موسوعة الفنون والعلوم والحرف»، كتب إلى روسو يخبره أنه «التهم» الكتاب التهاما. وقد نبه روسو إلى أن يتوقع النقد في «بلد يسهب أبناؤه في الحديث عن الأحاسيس والمشاعر ولا يعرفون عنها إلا أقل القليل». أقرت صحيفة «دي سافانت» أن الرواية بها عيوب، بل بعض الفقرات المليئة بالإطناب، إلا أنها انتهت إلى أن قساة الأفئدة وحدهم هم من يستطيعون أن يقاوموا «فيض المشاعر الذي يجتاح النفس بشدة، والذي يعتصر من أعين الناس، بقوة قاهرة مستبدة، تلك الدموع المريرة».
1
كتب رجال الحاشية الملكية، ورجال دين، وعسكريون، وأناس عاديون من شتى مناحي الحياة إلى روسو يصفون شعورهم ب «نار مستعرة آكلة» تجتاحهم، و«تراكم لمشاعر متأججة واضطرابات متزايدة». روى أحدهم أنه لم يبك موت جولي، بل بالأحرى كان «يولول ويعوي كالحيوانات» (انظر الشكل رقم
1-1 ). وكما علق أحد معلقي القرن العشرين على هذه الخطابات التي بعثها القراء إلى روسو، فإن قراء الرواية في القرن الثامن عشر لم يقرءوها بسرور، بل ب «شغف، واهتياج، وتشنجات، وتنهدات». وظهرت الترجمة الإنجليزية في غضون شهرين من صدور النسخة الفرنسية الأصلية، وتبعها صدور عشر طبعات باللغة الإنجليزية في الفترة بين عامي 1761 و1800. وصدرت مائة وخمس عشرة طبعة من النسخة الفرنسية في نفس الفترة؛ لتسد الشهية الشرهة للجماهير من قراء الفرنسية في جميع أنحاء العالم.
نامعلوم صفحہ
2
شكل 1-1: موت جولي. (أثار هذا المشهد الأسى أكثر من بقية مشاهد رواية «جولي، أو إلواز الجديدة». رسم هذه الصورة نيكولاس ديلوناي استلهاما من لوحة الفنان المعروف جان ميشيل مورو التي ظهرت في طبعة عام 1782 لمجموعة أعمال روسو.)
عرضت «جولي» قراءها لشكل جديد من أشكال التعاطف. ومع أن روسو ساهم في رواج مصطلح «حقوق الفرد»، فلا تكاد حقوق الإنسان بأي صورة تكون الموضوع الرئيسي لروايته التي تدور عن المشاعر والحب والفضيلة. على أن «جولي» شجعت على التوحد المشحون بالمشاعر مع شخصيات الرواية، وبهذا مكنت القراء من التوحد الذي يتخطى الطبقات الاجتماعية والنوع والحدود القومية؛ إذ كان قراء القرن الثامن عشر - حالهم حال سابقيهم - يتعاطفون مع أولئك المقربين منهم، وأولئك الذين يشبهونهم بوضوح؛ من أفراد أسرهم وذويهم وأبناء أبرشيتهم، وأندادهم الاجتماعيين المألوفين لهم بوجه عام. لكن اضطر الأشخاص الذين عاشوا في القرن الثامن عشر أن يتعلموا التعاطف في إطار أكثر اتساعا. يروي ألكسيس دي توكوفيل واقعة كان قد رواها سكرتير فولتير عن مدام دو شاتيليه التي لم تكن تتردد في أن تتجرد من ملابسها أمام خدمها «غير معتبرة أن كون الخدم من الرجال حقيقة ثابتة»، ولا يمكن أن يكون هناك معنى لحقوق الإنسان إلا عندما ينظر إلى الخدم على أنهم رجال أيضا.
3
الروايات والتعاطف
جذبت روايات مثل «جولي» قراءها إلى التوحد مع شخصيات عادية، مجهولة للقارئ على المستوى الشخصي. وتعاطف القراء مع شخصيات الرواية، لا سيما البطل أو البطلة بفضل الشكل نفسه الذي صيغت به الرواية. وبعبارة أخرى، علمت الروايات الرسائلية قراءها، من خلال التبادل التخيلي للخطابات، طريقة جديدة في التفكير، وخلال ذلك وضعت الأسس لنظام اجتماعي وسياسي جديد. لقد جعلت الروايات من جولي التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى - بل حتى الخدم من أمثال «باميلا»، بطلة رواية صامويل ريتشاردسون التي تحمل نفس الاسم - مساوية للأثرياء، بل أفضل من بعضهم أمثال «السيد بي»، سيد باميلا الذي يحاول إغواءها. أوضحت الروايات أن جميع الناس متشابهون في جوهرهم بفضل مشاعرهم الداخلية، وقد سلطت العديد من الروايات الضوء على الرغبة في الاستقلال الذاتي بصفة خاصة، وبهذه الطريقة، خلقت قراءة الروايات حسا بالمساواة والتعاطف من خلال الانغماس الوجداني في القصة. هل يمكن أن يكون نشر أعظم ثلاث روايات تناولت موضوع التوحد النفسي في القرن الثامن عشر - روايتي «باميلا» (1740) و«كلاريسا» (1747-1748) لريتشاردسون، ورواية «جولي» (1761) لروسو - في الفترة التي سبقت مباشرة ظهور مفهوم «حقوق الفرد» محض مصادفة؟
غني عن القول أن شعور التعاطف لم ينشأ في القرن الثامن عشر، فالقدرة على التعاطف قدرة بشرية جامعة؛ لأنها متأصلة في بيولوجية المخ؛ فهي تعتمد على قدرة بيولوجية على فهم ذاتية الآخرين وعلى تخيل أن مشاعرهم الداخلية تشبه مشاعر الإنسان نفسه. فمثلا: الأطفال الذين يعانون مرض «التوحد» لديهم صعوبة كبيرة في فهم معنى تعبيرات الوجه باعتبارها مؤشرات على المشاعر، ولديهم صعوبة عامة في أن ينسبوا الحالات الشخصية إلى الآخرين. وباختصار، يتسم مرض التوحد بعدم القدرة على التعاطف مع الآخرين.
4
في الوضع الطبيعي يتعلم كل فرد التعاطف في مرحلة مبكرة من العمر، ومع أن البيولوجيا توفر النزعة الطبيعية الأساسية للتعاطف، فإن كل ثقافة تشكل التعبير عن التعاطف على طريقتها الخاصة. لا يتطور التعاطف إلا من خلال التفاعل الاجتماعي، وعلى هذا يتشكل التعاطف من خلال أشكال هذا التفاعل بطرق هامة. في القرن الثامن عشر، تعلم قراء الروايات توسيع نطاق تعاطفهم؛ فأثناء القراءة تمكنوا من ممارسة التعاطف بما يتجاوز الحدود الاجتماعية التقليدية بين طبقتي النبلاء والعامة، وبين السادة والعبيد، وبين الرجال والنساء، بل ربما أيضا بين الكبار والصغار. ونتيجة لذلك، بدءوا ينظرون إلى آخرين - أشخاص لم يعرفوهم معرفة شخصية من قبل - على أنهم مشابهون لهم، ولديهم نفس المشاعر الداخلية. وبدون عملية التعلم هذه، ما كان ممكنا أن تحظى «المساواة» بهذا المعنى العميق، وبالأخص ما كانت لتحقق نتيجة سياسية. والمساواة بين الأرواح في السماء لا تعني تساوي الحقوق هنا على الأرض؛ فقبل القرن الثامن عشر، كان يسهل على المسيحيين قبول أمر المساواة بين الأرواح في السماء دون أن يقروا بالحقوق المتساوية على الأرض.
وربما كان بالإمكان اكتساب القدرة على التعاطف عبر الحدود الاجتماعية بطرق شتى، ولا أدعي أن قراءة الروايات كانت هي الطريقة الوحيدة لذلك. غير أن هذه الطريقة تبدو وثيقة الصلة بالموضوع أكثر من غيرها، ويعزى هذا جزئيا إلى أنه تصادف بلوغ نوعية معينة من الروايات - الرواية الرسائلية - ذروة رواجها في وقت تزامن مع مولد مفهوم حقوق الإنسان. بزغت الرواية الرسائلية باعتبارها لونا جديدا من ألوان الكتابة في الفترة ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، ثم تلاشت على نحو شديد الغموض في تسعينيات القرن نفسه. كانت الروايات من كل نوع قد نشرت من قبل، لكنها ازدهرت باعتبارها لونا جديدا من ألوان الأدب في القرن الثامن عشر، ولا سيما بعد عام 1740 الموافق لنشر رواية «باميلا» لريتشاردسون. في فرنسا، نشرت ثماني روايات جديدة في عام 1701، واثنتان وخمسون رواية في عام 1752، ومائة واثنتا عشرة رواية في عام 1789. وفي بريطانيا تضاعف عدد الروايات الجديدة ست مرات في الفترة ما بين العقد الأول وستينيات القرن الثامن عشر؛ كان يظهر زهاء ثلاثين رواية جديدة كل عام في سبعينيات نفس القرن، وأربعين رواية كل عام في ثمانينيات نفس القرن، وسبعين رواية كل عام في تسعينيات نفس القرن. علاوة على ذلك، زاد عدد الأشخاص الذين يستطيعون القراءة، وأبرزت الروايات في ذلك الحين الأشخاص العاديين باعتبارهم الشخصيات المحورية التي تجابه المشكلات اليومية؛ من مشكلات في الحب، والزواج، والنجاح في الحياة. وارتفع معدل الإلمام بالقراءة والكتابة، حتى إن الخدم - الذكور منهم والإناث - قرءوا الروايات في المدن الكبيرة، مع أن قراءة الروايات لم تكن شائعة حينذاك، ولا حتى الآن، وسط الطبقات الأدنى؛ فالفلاحون الفرنسيون - الذين كانوا يشكلون ما يعادل ثمانين في المائة من عدد السكان - لم يقرءوا الروايات عادة؛ هذا إن كانوا يستطيعون القراءة أصلا.
نامعلوم صفحہ
5
وعلى الرغم من محدودية جمهور القراء، فإن الأبطال والبطلات العاديين لروايات القرن الثامن عشر، بدءا من «روبنسون كروزو» و«توم جونز» ووصولا إلى «كلاريسا هارلو» و«جولي دي إيتانجيه»، ذاع صيتهم في كل حدب وصوب، بل أحيانا وسط أولئك الذين لا يعرفون القراءة. وفي ذلك الوقت أفسحت شخصيات الطبقة الأرستقراطية أمثال «دون كيشوت» و«أميرة كليف» - التي انتشرت بشدة في روايات القرن السابع عشر - الطريق أمام الخدم والبحارة وفتيات الطبقة الوسطى (فحتى جولي، بوصفها ابنة نبيل سويسري متواضع الشأن، تبدو أقرب إلى الطبقة الوسطى). إن سطوع نجم الرواية في القرن الثامن عشر لم يمر مرور الكرام، بل ربطه الدارسون على مر السنين بالرأسمالية، والطبقة المتوسطة الطموحة، وانتشار منتديات الرأي، وظهور الأسر الصغيرة، والتحول الذي حدث في العلاقة بين الجنسين، بل بظهور القومية أيضا. وأيا كانت أسباب نهضة الرواية، فما يعنيني هو آثارها النفسية وكيف ترتبط ببزوغ حقوق الإنسان.
6
ولكي نفهم كيفية تشجيع فن الرواية على التوحد النفسي، سأركز على ثلاث روايات مؤثرة من الروايات الرسائلية: رواية «جولي» لروسو، وروايتين لسلفه وقدوته - باعترافه هو نفسه - صامويل ريتشاردسون هما: «باميلا» (1740)، و«كلاريسا» (1747-1748). كان من الممكن أن تتناول مناقشتي الرواية في القرن الثامن عشر على وجه العموم، وإذن لكنت أخذت بعين الاعتبار النساء العديدات اللائي كتبن الروايات والشخصيات الذكورية أمثال «توم جونز » أو «تريسترام شاندي» اللذين نالا حظهما من الاهتمام بلا شك، لكنني قررت التركيز على «جولي»، و«باميلا»، و«كلاريسا»، وهي الروايات الثلاث التي كتبها رجال وركزت على أبطال من الإناث، بسبب تأثيرها الثقافي الذي لا جدال فيه. هذه الروايات ليست هي المسئولة وحدها عن التغيرات التي طرأت على التعاطف والتي نقتفي أثرها هنا، ولكن النظر عن كثب لكيفية استقبالها يبين لنا التعلم الجديد للتعاطف أثناء حدوثه. ولكي نفهم ما الذي استجد على «الرواية» - وهي كلمة اقتصر استخدامها على المؤلفين فحسب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر - من المفيد أن نرى كيف أثرت روايات معينة على قرائها.
في الرواية الرسائلية، لا توجد وجهة نظر للمؤلف خارج الأحداث وأعلاها (كما حدث لاحقا في الرواية الواقعية في القرن التاسع عشر)؛ فوجهة نظر المؤلف هي نفسها آراء الشخصيات كما اتضحت في خطاباتهم. لقد خلق «محررا» الخطابات - كما أطلق كل من ريتشاردسون وروسو على أنفسهما - حسا واقعيا قويا، ويرجع هذا على وجه التحديد إلى احتجاب حرفتهما الكتابية وسط تبادل الخطابات، مما عزز حس التوحد عند القراء كما لو كانت شخصية الرواية حقيقية وليست من وحي الخيال. وقد علق كثيرون من المعاصرين على هذه التجربة؛ بعضهم بفرح وإعجاب، والبعض الآخر بقلق، بل باشمئزاز.
أثار نشر روايات ريتشاردسون وروسو ردود فعل فورية؛ لم يقتصر هذا على البلد الذي ظهر فيه النص الأصلي لكل رواية. وقد نشر رجل فرنسي مجهول الهوية حينذاك - وبات معلوما الآن أنه كان قسا - خطابا مكونا من اثنتين وأربعين صفحة في عام 1742 وصف فيه تفصيليا الاستقبال «النهم» الذي لاقته الترجمة الفرنسية لرواية «باميلا»، قال فيه: «لا يمكنك أن تدخل إلى منزل من المنازل دون أن تجد فيه باميلا ما.» ومع أنه يدعي أن الرواية يشوبها الكثير من العيوب، فإنه يعترف قائلا: «لقد التهمتها التهاما.» (وقد اتضح لاحقا أن لفظة «الالتهام» هي الاستعارة الأكثر شيوعا عند الإشارة لقراءة هذه الروايات.) وهو يصف مقاومة باميلا لمناغاة السيد «بي»، رب عملها، كما لو كانا شخصين حقيقيين وليسا شخصيتين من وحي الخيال. ثم يجد نفسه مأخوذا في غياهب الحبكة الدرامية؛ فيرتجف متى كانت باميلا في خطر، ويتملكه الغضب الشديد متى تصرفت الشخصيات الأرستقراطية أمثال السيد «بي» بطريقة مشينة منحطة، ويعزز على الدوام اختياره للكلمات وأسلوبه في الحديث حس الانغماس العاطفي الذي تخلقه قراءة الرواية.
7
كانت الرواية المكونة من خطابات تستطيع خلق مؤثرات نفسية أخاذة؛ لأن شكلها الروائي يسر تطور «الشخصية»، أي ذات الشخص الداخلية. فعلى سبيل المثال: تصف باميلا لأمها في أحد خطاباتها الأولى كيف حاول رب عملها أن يغويها، فتقول: ... قبلني مرتين أو ثلاث بلهفة مخيفة، وأخيرا تخلصت من قبضته، وهممت بالخروج من المنزل الصيفي، لكنه جذبني وأوصد الباب. كنت أفضل الموت على الاستسلام له. ثم قال لي: لن أؤذيك يا باميلا، لا تخافي مني. قلت له: لن أمكث. فقال: لن تمكثي أيتها الفاجرة! أما تعلمين إلى من تتحدثين؟ تحررت من كل مخاوفي وكل حدود اللياقة وأجبته: بلى يا سيدي، أعلم، أعلم جيدا! ولسوف أنسى أنني خادمتك متى نسيت شيم السيد النبيل. بكيت وانتحبت بحزن هائل. فقال لي: يا لك من حمقاء فاجرة! هل مسستك بأذى؟ أجبته: أجل يا سيدي، وأي ضرر أبلغ من هذا في الدنيا، لقد علمتني أن أنسى نفسي وما يليق بي، ورفعت الكلفة والفوارق التي وضعها القدر بيني وبينك عندما حططت من قدر نفسك بتهجمك على خادمة فقيرة.
لقد قرأنا الخطاب مع الأم؛ فلا يحول بيننا وبين باميلا راوية، وليست هناك علامات اقتباس، ولا يسعنا إلا أن نتوحد مع باميلا ونعيش معها الإلغاء المحتمل للمسافة الاجتماعية بالإضافة إلى الخطر المحدق باستقلال ذاتها.
8 (انظر الشكل رقم
نامعلوم صفحہ
1-2 ).
شكل 1-2: السيد بي يقرأ أحد خطابات باميلا لوالديها. (في أحد المشاهد الافتتاحية للرواية، يفاجئ السيد بي باميلا ويأمرها بأن تريه الخطاب الذي تكتبه. تمثل الكتابة طريقتها في التعبير عن استقلالها الذاتي. لم يستطع الفنانون والناشرون مقاومة إضافة تفاسير تصويرية للمشاهد الرئيسية. ظهرت هذه الصورة التي رسمها الفنان الهولندي جان بونت في ترجمة فرنسية مبكرة نشرت في أمستردام .)
ومع أن المشهد يحظى بالعديد من الخصائص المسرحية، وأعد خاصة أثناء الكتابة لتظهر فيه والدة باميلا، فهو يختلف أيضا عن الأداء المسرحي؛ لأن باميلا تسهب في الكتابة عن مشاعرها الداخلية. وبعد وقت طويل ستسطر صفحات عن تفكيرها في الانتحار عندما تبوء بالفشل خططها للهرب. وعلى النقيض، ما كانت المسرحية لتسير على هذا المنوال البطيء في الإفصاح عن الذات الداخلية، وهو أمر يستدل عليه عادة من الأحداث أو من خلال الحديث. فالرواية المدونة في عدة مئات من الصفحات يمكنها أن تظهر جوانب الشخصية بمرور الوقت، علاوة على أنها تفعل ذلك من منظور الذات الداخلية. والقارئ لا يتابع أفعال باميلا وحسب، بل أيضا يشاطرها تطور شخصيتها وهي تكتب، ويصبح القارئ في نفس الوقت هو نفسه باميلا، حتى حينما يتخيل نفسه صديقا لها ومراقبا خارجيا للأحداث.
وما إن عرف أن مؤلف رواية باميلا هو ريتشاردسون في عام 1741 (إذ نشرت الرواية في أول الأمر من دون اسم)، حتى بدأ ريتشاردسون يتلقى الخطابات، لا سيما من المتحمسين. قال عنها صديقه آرون هيل: «روح الدين، وحسن التربية، وحصافة الرأي، ودماثة الخلق، والفطنة، والذوق الرفيع، والفكر الراقي، والفضيلة.» وكان ريتشاردسون قد أرسل نسخة من الرواية إلى بنات آرون هيل في أوائل ديسمبر عام 1740، فسطر هيل على الفور ردا فوريا متعجلا قال فيه: «منذ أن تسلمتها وأنا لا أفعل شيئا سوى أن أقرأها على مسامع الآخرين، وأسمع الآخرين يتلونها على مسامعي؛ أظن أنني من المرجح ألا أفعل أي شيء آخر بخلاف هذا، والله وحده يعلم إلى متى سيستمر هذا الأمر ... إنها تستحوذ على خيالي طوال الليل، كل صفحة فيها تحمل سحرا؛ سحر العاطفة والمعنى.» عرض الكتاب قراءه لنوع من السحر؛ فطريقة سرد الرواية - بأسلوب تبادل الخطابات - تجرد القارئ من نفسه على نحو غير متوقع وتدخله في مجموعة جديدة من التجارب.
9
ولم يكن هذا شأن هيل وبناته وحدهم، فسرعان ما اجتاح إنجلترا ولع شديد برواية «باميلا»، وقد قيل إنه في إحدى القرى قرع السكان أجراس الكنيسة لدى سماعهم إشاعة بأن السيد بي قد تزوج من باميلا في نهاية المطاف. وظهرت الطبعة الثانية في يناير 1741 (نشرت الطبعة الأصلية في السادس من نوفمبر 1740)، ثم توالت الطبعات فظهرت الطبعة الثالثة في مارس، والرابعة في مايو، والخامسة في سبتمبر. وبحلول ذلك الوقت، كان آخرون قد كتبوا بالفعل آثارا مقلدة هزلية، ومقالات نقدية مطولة، وقصائد شعرية، ونسخ رخيصة التكلفة مقلدة عن النسخة الأصلية. وبمرور السنين توالى ظهور العديد من المعالجات المسرحية للرواية، والرسومات والصور المطبوعة للمشاهد الرئيسية. وفي عام 1744 انضمت الترجمة الفرنسية إلى القائمة البابوية «للكتب المحظورة»، ولحق بها فيما بعد رواية روسو «جولي»، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأدبية لعصر التنوير. ولم ير جميع الناس في مثل هذه الروايات «روح الدين»، أو «الفضيلة» التي ادعى هيل أنه رآها.
10
وعندما بدأ ريتشاردسون في نشر رواية «كلاريسا» في ديسمبر 1747 ارتفعت التوقعات بشدة؛ ففي الوقت الذي ظهرت فيه المجلدات الأخيرة (بلغت مجلدات الرواية في مجملها سبعة مجلدات، يتراوح كل منها بين ثلاثمائة إلى أربعمائة صفحة!) في ديسمبر عام 1748 كان ريتشاردسون قد تلقى بالفعل خطابات القراء الذين يتوسلون إليه أن يضع نهاية سعيدة للرواية. تهرب كلاريسا مع لافلاس الماجن كي تتخلص من خاطبها الكريه الذي اقترحته عائلتها ليتزوج منها، وعندئذ تضطر كلاريسا أن تدرأ اعتداءات لافلاس، الذي يتمكن في آخر الأمر من اغتصابها بعد تخديرها. وعلى الرغم من عرض لافلاس التائب بالزواج منها، والمشاعر التي تكنها له، تموت كلاريسا مكسورة الفؤاد جراء اعتداء الرجل الماجن على عفتها وإحساسها بذاتها. تحكي الليدي دوروثي برادشاي لريتشاردسون رد فعلها لدى قراءتها مشهد الموت فتقول: «انقبض صدري على نحو غريب، واضطرب نومي، واستيقظت تلك الليلة منفجرة في فورة من البكاء، وبكيت أيضا على الإفطار في الصباح التالي، وها أنا ذا أبكي الآن أيضا مرة أخرى.» وكتب الشاعر توماس إدواردز في يناير عام 1749 يقول: «ما شعرت في حياتي كلها بكل هذا البؤس الذي شعرت به من أجل هذه الفتاة الغالية.» التي أشار إليها قبلا باسم «كلاريسا المقدسة».
11
راقت رواية كلاريسا للقراء المثقفين أكثر من عامة الناس، ومع ذلك فقد ظهر منها خمس طبعات على مدار الثلاثة عشر عاما التالية، وسرعان ما ترجمت إلى الفرنسية (1751)، والألمانية (1752)، والهولندية (1755). وأظهرت دراسة للمكتبات الشخصية الفرنسية في الفترة بين 1740 و1760 أن روايتي «باميلا» و«كلاريسا» قد احتلتا مرتبتين في قائمة الروايات الإنجليزية الثلاث التي يرجح بشدة وجودها ضمن محتويات تلك المكتبات (كانت رواية توم جونز للمؤلف هنري فيلدينج هي ثالثتهما). ولا شك أن طول رواية «كلاريسا» قد ثبط عزيمة بعض القراء؛ فحتى قبل أن تدخل مخطوطات المجلدات الثلاثين مرحلة الطباعة، استبد القلق بريتشاردسون وحاول أن يختصرها. قدمت إحدى الرسائل الإخبارية الأدبية التي تصدر في باريس رأيا متضاربا عن الترجمة الفرنسية للرواية، قالت فيه: «لدى قراءتي لهذه الرواية شعرت بشيء غير عادي بالمرة؛ أبلغ سرور، وأعظم ملل.» غير أنه بعد مرور عامين أعلن مشارك آخر في نفس الرسالة الإخبارية أن عبقرية ريتشاردسون في تقديم العديد من الشخصيات المتفردة جعل من كلاريسا «أروع عمل خطته يد إنسان تقريبا».
نامعلوم صفحہ
12
ومع أن روسو ظن أن روايته أسمى من رواية ريتشاردسون، فإنه صنف كلاريسا على أنها أفضل من سائر الروايات الأخرى: «لم يكتب أحد بعد، بأي لغة من اللغات، رواية تضاهي كلاريسا، أو حتى تدانيها.» واستمرت المقارنة بين روايتي «كلاريسا» و«جولي» على مدار القرن. صرحت جان ماري رولاند، زوجة أحد الوزراء والمنسق غير الرسمي لحزب الجيروندين السياسي إبان الثورة الفرنسية، لإحدى صديقاتها في عام 1789، أنها تعيد قراءة رواية روسو كل عام، ومع ذلك لا تزال تعتبر عمل ريتشاردسون ذروة الكمال، وقالت لها: «ليس في العالم من الناس من يمكنه أن يقدم رواية تضاهي كلاريسا؛ إنها تحفة هذا النوع من الأدب، وهي النموذج الأسمى ومبعث اليأس لكل محاك.»
13
توحد الرجال والنساء على السواء مع البطلات النساء في هذه الروايات، ومن الخطابات التي بعثت إلى روسو نعرف أن الرجال - حتى الضباط العسكريون منهم - تأثروا تأثرا شديدا بجولي. كتب شخص يدعى لويس فرانسوا، وهو ضابط عسكري متقاعد، إلى روسو يقول: «لقد جعلتني مجنونا بها! ولك إذن أن تتخيل الدموع التي اعتصرها مني موتها ... لم أبك قط في حياتي مثل تلك الدموع المبهجة. كان لقراءة تلك الرواية أشد الأثر في نفسي، حتى إنني أوقن أنني كنت سأرحب بالموت بكل سرور خلال تلك اللحظة السامية.» واعترف بعض القراء جهارا بتوحدهم مع شخصية البطلة الأنثى. وقال سي جيه بانكوك - الذي صار فيما بعد ناشرا ذائع الصيت - لروسو: «مست نقاوة مشاعر جولي شغاف قلبي.» تخطى التوحد النفسي الذي يؤدي إلى التعاطف حدود النوع بالفعل؛ إذ لم يتوحد قراء رواية روسو من الذكور مع سانت برو، العاشق الذي أجبرت جولي على هجره، وكان تعاطفهم أقل مع وولمار، زوجها اللطيف، أو البارون دي إيتانج، والدها المتسلط. لقد توحد القراء الرجال - شأنهم شأن النساء - مع شخصية جولي نفسها؛ فقد أضحى نضالها للتغلب على مشاعرها ولعيش حياة العفة هو نضالهم هم.
14
من خلال شكلها ذاته إذن، استطاعت الرواية الرسائلية أن تبرهن أن الذاتية تعتمد على صفات «الكينونة الداخلية» (أن يكون للإنسان جوهر داخلي)؛ ذلك لأن شخصيات الرواية تعبر عن مشاعرها الداخلية في خطاباتها. علاوة على ذلك أوضحت الرواية الرسائلية أن كل النفوس تملك هذه الكينونة الداخلية (فالعديد من الشخصيات تكتب)، ومن ثم كل النفوس متساوية بطريقة ما؛ لأن جميعها متشابه في امتلاك الكينونة الداخلية. فعلى سبيل المثال: أحال تبادل الخطابات الفتاة الخادمة باميلا إلى نموذج لشخصية تتمتع بالفردية والاستقلال الذاتي الأبي بدلا من النمط المتكرر للخادمة التي تدوسها الأقدام. وعلى غرار باميلا، تمثل كل من كلاريسا وجولي رمزا للفردية ذاتها، وهكذا يصبح القراء أكثر وعيا بكينونتهم الداخلية وكينونة كل فرد آخر.
15
وبلا شك لم يشعر كل القراء بنفس المشاعر عند قراءة تلك الروايات؛ فمثلا سخر الكاتب والروائي الإنجليزي الساخر هوراس والبول من «المناحات المملة» لريتشاردسون «التي هي صور مستوحاة من حياة الترف كما رآها بائع كتب، وقصص عشق أضفى عليها أحد معلمي الميثودية الطابع الروحي». غير أنه سرعان ما شعر الكثيرون أن ريتشاردسون وروسو قد أصابا وترا ثقافيا حيويا . وبعد مرور شهر واحد على نشر المجلدات الأخيرة من كلاريسا، نشرت ساره فيلدينج، شقيقة الغريم الأعظم لريتشاردسون، التي كانت هي نفسها روائية ناجحة، كتيبا مكونا من ست وخمسين صفحة تدافع فيه عن الرواية من دون ذكر اسمها. ومع أن شقيقها هنري كان قد نشر واحدة من أول الآثار المقلدة الساخرة ل «باميلا» (بعنوان: «دفاع عن حياة السيدة شاميلا أندروس» يفضح ويدحض الأكاذيب والافتراءات المشينة الكثيرة لكتاب بعنوان «باميلا»، 1741)، فإن ساره كانت قد كونت علاقة صداقة قوية مع ريتشاردسون، الذي طبع إحدى رواياتها. وتصر إحدى شخصياتها الروائية - السيد كلارك - على أن ريتشاردسون قد نجح أيما نجاح في استدراجه إلى شبكة الخيال: «من جانبي، أنا على معرفة وثيقة بكل آل هارلوس (كما وردت في النص)، كما لو كنت قد عرفتهم منذ نعومة أظافري.» وتؤكد شخصية أخرى - الآنسة جيبسون - على مزايا أسلوب ريتشاردسون الأدبي قائلة: «حقا يا سيدي ما قلته عن أن القصة المسرودة بهذا الأسلوب لا يمكن أن تسير إلا ببطء، ولا يمكن أن نرى شخصياتها إلا من خلال الانتباه الشديد للحكاية ككل، غير أن الكاتب يحظى بهذه المزية عن طريق الكتابة في زمن المضارع، كما يقول هو نفسه، والكتابة بصيغة المتكلم بحيث تمس أفكاره قلوبنا في الحال، ونشعر بكل الآلام التي يصورها؛ فلا نبكي من أجل كلاريسا فحسب، بل نبكي معها أيضا، ونصحبها خطوة بخطوة في محنتها وآلامها.»
16
نشر عالم الفسيولوجيا السويسري الشهير والباحث الأدبي ألبرشت فون هالر مقالا، دون أن يذكر اسمه، عبر فيه عن خالص إعجابه برواية «كلاريسا» في مجلة «جنتلمان» في عام 1749. اجتهد فون هالر باستماتة كي يتعامل مع أصالة ريتشاردسون؛ فمع أنه قدر المزايا المتعددة للروايات الفرنسية الأولى، فإنه أكد على أنها: «في العموم لم تقدم ما يزيد عن مجرد صور للأحداث الشهيرة الخاصة بالشخصيات اللامعة»، بينما يرى القارئ في رواية ريتشاردسون إحدى الشخصيات «من نفس الطبقة الاجتماعية التي ننتمي إليها». وأولى الكاتب السويسري اهتماما خاصا إلى شكل الرواية الرسائلية؛ فمع أن القراء قد يواجهون صعوبة في الاقتناع بأن كل الشخصيات راق لها أن تمضي وقتها في تدوين كل مشاعرهم وأفكارهم الداخلية، فإن الرواية الرسائلية استطاعت أن تعرض لوحات في غاية الدقة لشخصيات الأفراد، ومن ثم أثارت ما أطلق عليه هالر الشفقة حين قال: «لم يصور أحد البائسين بمثل هذه القوة قط، ويتضح هذا في أمثلة كثيرة، حتى إن أكثر الطباع قسوة وجمودا تلين وتتحول إلى الشفقة، فتذرف الدمع على إثر موت كلاريسا ومعاناتها وأشجانها.» ويختم بقوله: «إننا لم نقرأ أي عمل، بأي لغة من اللغات، يمكن أن يرتقي لمضارعتها.»
نامعلوم صفحہ
17
انحطاط أم سمو؟
عرف المعاصرون من تجاربهم الخاصة أن قراءة هذه الروايات كان لها عظيم الأثر، ليس على الأذهان فحسب، بل على الأجساد أيضا، لكنهم لم يتفقوا بشأن العواقب. شجب رجال الإكليروس الكاثوليك والبروتستانت احتمال ظهور الفسق والإغواء والانحطاط الأخلاقي. وفي وقت مبكر، عام 1734، وجد نيكولاس لينجليت ديفرسنوي - وهو نفسه رجل دين إكليريكي تلقى تعليمه في السوربون - أنه من الضروري أن يدافع عن الروايات ضد انتقادات زملائه، لكنه فعل هذا تحت اسم مستعار؛ لقد فند على نحو مثير للضيق كل الاعتراضات التي دفعت السلطات إلى حظر الروايات «باعتبارها وخزات كثيرة تعمل على تهييج مشاعر شديدة الحيوية والقوة في نفوسنا». وأكد بشدة على أن الروايات مناسبة في أي فترة زمنية، قائلا: «السذاجة والحب والنساء هيمنت في جميع الأزمنة، ومن ثم يتابع الناس الروايات ويتذوقونها في جميع الأزمنة.» ورأى أنه من الأفضل التركيز على تحسينها بدلا من قمعها بالكلية.
18
ولم تتوقف الهجمات عندما حقق إنتاج الروايات النجاح في منتصف القرن. ففي عام 1755 كتب رجل دين كاثوليكي آخر، وهو رئيس دير يدعى أرماند بيير جاكوين، عملا أدبيا من أربعمائة صفحة يوضح فيه أن قراءة الروايات تقوض الأخلاق، والدين، ومبادئ النظام الاجتماعي كافة. كتب يقول مؤكدا: «طالع تلك الأعمال، وسوف تجد في جميعها تقريبا انتهاكا للحقوق الإلهية والعدالة الإنسانية، وازدراء لسلطة الآباء على الأبناء، وتحطيما لعرى الزواج المقدسة وأواصر الصداقة.» يكمن الخطر على وجه التحديد في قدرتها على الجذب؛ فعن طريق اللعب باستمرار على إغواءات الحب، شجعت القراء على التصرف وفقا لأسوأ دوافعهم ونزواتهم، وعدم الانصياع لنصائح آبائهم والكنيسة، وتجاهل القيود الأخلاقية للمجتمع. وكانت الطمأنة الوحيدة التي قدمها جاكوين هي افتقار الروايات إلى القدرة على الاستمرار؛ فالقارئ قد يلتهم إحداها في المرة الأولى لكنه لا يعيد قراءتها بعد ذلك قط. يقول: «هل جانبني الصواب عندما تنبأت أن رواية باميلا سرعان ما ستنسى؟ ... سينطبق نفس الشيء على روايتي توم جونز وكلاريسا في ظرف ثلاث سنوات.»
19
وتوالت شكاوى مشابهة في كتابات البروتستانت الإنجليز. لخص الكاهن المبجل فيسيسموز نوكس عقودا من الاضطرابات الدائمة في عام 1779 عندما صرح بأن الروايات هي ملذات منحطة ومثيرة لمشاعر الذنب تحول عقول الشباب عن القراءات الأكثر جدية وتنويرا. وقال إن الازدهار المفاجئ للروايات البريطانية لم يؤد إلا إلى نشر العادات الإباحية الفرنسية، وهو يفسر الفساد المتفشي في عصرنا الحالي. وأقر نوكس بأن ريتشاردسون كتب رواياته «بنوايا طيبة خالصة»، لكنه يرى أن المؤلف حتما سرد مشاهد وأثار مشاعر لا تتفق مع الفضائل. ولم يكن رجال الإكليروس وحدهم من استهجنوا الروايات، فقد نظمت قصيدة في مجلة ليدي عام 1771 تلخص وجهة نظر منتشرة وسط قطاع عريض من الناس:
لا أعرف رواية باميلا تحديدا
معرفة وثيقة
لأنني لا ألوث ذهني
نامعلوم صفحہ
بالروايات المقيتة
خشي كثيرون من أنصار المذهب الأخلاقي أن الروايات زرعت الشعور بالسخط في الأذهان، لا سيما أذهان الخدم والفتيات الصغار.
20
ربط الطبيب السويسري صامويل أوجست تيسوت قراءة الروايات بممارسة العادة السرية، التي أدت إلى حدوث انحطاط بدني وعقلي وأخلاقي من وجهة نظره؛ رأى تيسوت أن الأبدان تميل بحكم طبيعتها إلى الفساد، وأن العادة السرية قد سرعت من حدوث عملية الفساد لدى كل من الرجال والنساء فقال: «كل ما يمكنني قوله هو أن الفراغ والكسل والمكوث في الفراش لفترات طويلة؛ فراش وثير للغاية، والنظام الغذائي الدسم والمملح والحار والذي يحوي الخمور، والأصدقاء المشبوهين، والكتب الماجنة، هي الأسباب التي تهيئ الفرصة للانغماس في مثل هذه الممارسات.» ولم يقصد تيسوت باستخدامه لفظة «الماجنة» معنى الإباحية صراحة؛ ففي القرن الثامن عشر كان يقصد بلفظة «ماجن» أي شيء يرتبط بالشهوة، غير أنها كانت تختلف عن اللفظة الأكثر استهجانا؛ لفظة «داعر». وهكذا انضمت روايات الغرام - وكانت أغلبية روايات القرن الثامن عشر تدور عن الغرام - بسهولة إلى فئة «المجون». وفي إنجلترا بدت الفتيات في المدارس الداخلية في خطر شديد؛ إذ كان في متناولهن الحصول على مثل هذه الكتب «الخليعة المثيرة للاشمئزاز» وقراءتها في الفراش.
21
ومن ثم اتفق رجال الدين والأطباء على اعتبار قراءة الروايات مضيعة للوقت، والسوائل الحيوية، والدين، والأخلاقيات، وافترضوا أن القارئة سوف تحاكي أحداث الرواية، على نحو تندم معه أشد الندم. فقارئة رواية «كلاريسا» - على سبيل المثال - قد تتجاهل رغبات عائلتها، وتوافق - على غرار كلاريسا - أن تهرب مع أحد الفجار أمثال لافلاس الذي يقودها - شاءت أم أبت - إلى إهلاك نفسها. وفي عام 1792 أكد ناقد إنجليزي مجهول قائلا: «يساعد ارتفاع عدد الروايات في تفسير ارتفاع نسبة البغاء والعدد المهول من الزناة وحالات الفرار مع العشاق التي نسمع بها في بقاع متفرقة من المملكة.» وطبقا لوجهة النظر هذه، أثارت الروايات الأبدان إثارة مفرطة، وشجعت على الانغماس في الذات المريب أخلاقيا، وحرضت على الأفعال المدمرة للسلطة العائلية، والأخلاقية، والدينية.
22
زعم كل من ريتشاردسون وروسو أنهما قاما بدور المحرر وليس المؤلف، ومن ثم تمكنا من تحاشي السمعة المشينة التي ارتبطت بالروايات، وعندما نشر ريتشاردسون «باميلا»، لم يشر إليها قط على أنها رواية؛ إذ كان العنوان الكامل للطبعة الأولى هو دراسة في الاعتراض الكثير: «باميلا: أو مجازاة العفة. سلسلة من الخطابات المألوفة من صبية جميلة إلى والديها: تنشر للمرة الأولى الآن كي تغرس مبادئ العفة والدين في عقول الشباب من كلا الجنسين. حكاية ترتكز على مبادئ الحق والطبيعة، وفي الوقت عينه تبث المتعة والتسلية من خلال مجموعة متنوعة من الأحداث المؤثرة والغريبة، وهي مجردة تماما من كل تلك الصور التي تنشر في الكثير من المواضع بغرض اللهو فحسب، وتميل إلى إلهاب العقول التي يجدر بها أن توجهها.» برر تمهيد ريتشاردسون، الموقع باسم «المحرر»، نشر ما أسماه «الخطابات اللاحقة» تبريرا أخلاقيا؛ فهي سوف توجه عقول الشباب وتطورها، وتغرس فيها الدين والأخلاقيات، وتبين الرذيلة «بالألوان المناسبة»، وهكذا.
23
ومع أن روسو أشار إلى نفسه بالمحرر أيضا، فهو لم يعتبر العمل صراحة رواية؛ ففي الجملة الأولى من تمهيد رواية «جولي»، ربط الروايات بنقده الشهير للمسرح فقال: «لا بد أن تضم المدن الكبيرة مسارح، ولا بد أن يمتلك الفاسدون روايات.» وكما لو كان هذا تحذيرا غير كاف، قدم روسو أيضا تمهيدا في صورة «حوار عن الروايات بين «المحرر» وأحد «الأدباء»». وفي هذا الحوار، تعرض شخصية «آر» [روسو] كل التهم المعتادة التي توجه إلى الرواية للتلاعب بالمخيلة لخلق الرغبات التي لا يمكن إشباعها بعفة:
نامعلوم صفحہ