نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
اصناف
2
شكل 1-1: موت جولي. (أثار هذا المشهد الأسى أكثر من بقية مشاهد رواية «جولي، أو إلواز الجديدة». رسم هذه الصورة نيكولاس ديلوناي استلهاما من لوحة الفنان المعروف جان ميشيل مورو التي ظهرت في طبعة عام 1782 لمجموعة أعمال روسو.)
عرضت «جولي» قراءها لشكل جديد من أشكال التعاطف. ومع أن روسو ساهم في رواج مصطلح «حقوق الفرد»، فلا تكاد حقوق الإنسان بأي صورة تكون الموضوع الرئيسي لروايته التي تدور عن المشاعر والحب والفضيلة. على أن «جولي» شجعت على التوحد المشحون بالمشاعر مع شخصيات الرواية، وبهذا مكنت القراء من التوحد الذي يتخطى الطبقات الاجتماعية والنوع والحدود القومية؛ إذ كان قراء القرن الثامن عشر - حالهم حال سابقيهم - يتعاطفون مع أولئك المقربين منهم، وأولئك الذين يشبهونهم بوضوح؛ من أفراد أسرهم وذويهم وأبناء أبرشيتهم، وأندادهم الاجتماعيين المألوفين لهم بوجه عام. لكن اضطر الأشخاص الذين عاشوا في القرن الثامن عشر أن يتعلموا التعاطف في إطار أكثر اتساعا. يروي ألكسيس دي توكوفيل واقعة كان قد رواها سكرتير فولتير عن مدام دو شاتيليه التي لم تكن تتردد في أن تتجرد من ملابسها أمام خدمها «غير معتبرة أن كون الخدم من الرجال حقيقة ثابتة»، ولا يمكن أن يكون هناك معنى لحقوق الإنسان إلا عندما ينظر إلى الخدم على أنهم رجال أيضا.
3
الروايات والتعاطف
جذبت روايات مثل «جولي» قراءها إلى التوحد مع شخصيات عادية، مجهولة للقارئ على المستوى الشخصي. وتعاطف القراء مع شخصيات الرواية، لا سيما البطل أو البطلة بفضل الشكل نفسه الذي صيغت به الرواية. وبعبارة أخرى، علمت الروايات الرسائلية قراءها، من خلال التبادل التخيلي للخطابات، طريقة جديدة في التفكير، وخلال ذلك وضعت الأسس لنظام اجتماعي وسياسي جديد. لقد جعلت الروايات من جولي التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى - بل حتى الخدم من أمثال «باميلا»، بطلة رواية صامويل ريتشاردسون التي تحمل نفس الاسم - مساوية للأثرياء، بل أفضل من بعضهم أمثال «السيد بي»، سيد باميلا الذي يحاول إغواءها. أوضحت الروايات أن جميع الناس متشابهون في جوهرهم بفضل مشاعرهم الداخلية، وقد سلطت العديد من الروايات الضوء على الرغبة في الاستقلال الذاتي بصفة خاصة، وبهذه الطريقة، خلقت قراءة الروايات حسا بالمساواة والتعاطف من خلال الانغماس الوجداني في القصة. هل يمكن أن يكون نشر أعظم ثلاث روايات تناولت موضوع التوحد النفسي في القرن الثامن عشر - روايتي «باميلا» (1740) و«كلاريسا» (1747-1748) لريتشاردسون، ورواية «جولي» (1761) لروسو - في الفترة التي سبقت مباشرة ظهور مفهوم «حقوق الفرد» محض مصادفة؟
غني عن القول أن شعور التعاطف لم ينشأ في القرن الثامن عشر، فالقدرة على التعاطف قدرة بشرية جامعة؛ لأنها متأصلة في بيولوجية المخ؛ فهي تعتمد على قدرة بيولوجية على فهم ذاتية الآخرين وعلى تخيل أن مشاعرهم الداخلية تشبه مشاعر الإنسان نفسه. فمثلا: الأطفال الذين يعانون مرض «التوحد» لديهم صعوبة كبيرة في فهم معنى تعبيرات الوجه باعتبارها مؤشرات على المشاعر، ولديهم صعوبة عامة في أن ينسبوا الحالات الشخصية إلى الآخرين. وباختصار، يتسم مرض التوحد بعدم القدرة على التعاطف مع الآخرين.
4
في الوضع الطبيعي يتعلم كل فرد التعاطف في مرحلة مبكرة من العمر، ومع أن البيولوجيا توفر النزعة الطبيعية الأساسية للتعاطف، فإن كل ثقافة تشكل التعبير عن التعاطف على طريقتها الخاصة. لا يتطور التعاطف إلا من خلال التفاعل الاجتماعي، وعلى هذا يتشكل التعاطف من خلال أشكال هذا التفاعل بطرق هامة. في القرن الثامن عشر، تعلم قراء الروايات توسيع نطاق تعاطفهم؛ فأثناء القراءة تمكنوا من ممارسة التعاطف بما يتجاوز الحدود الاجتماعية التقليدية بين طبقتي النبلاء والعامة، وبين السادة والعبيد، وبين الرجال والنساء، بل ربما أيضا بين الكبار والصغار. ونتيجة لذلك، بدءوا ينظرون إلى آخرين - أشخاص لم يعرفوهم معرفة شخصية من قبل - على أنهم مشابهون لهم، ولديهم نفس المشاعر الداخلية. وبدون عملية التعلم هذه، ما كان ممكنا أن تحظى «المساواة» بهذا المعنى العميق، وبالأخص ما كانت لتحقق نتيجة سياسية. والمساواة بين الأرواح في السماء لا تعني تساوي الحقوق هنا على الأرض؛ فقبل القرن الثامن عشر، كان يسهل على المسيحيين قبول أمر المساواة بين الأرواح في السماء دون أن يقروا بالحقوق المتساوية على الأرض.
وربما كان بالإمكان اكتساب القدرة على التعاطف عبر الحدود الاجتماعية بطرق شتى، ولا أدعي أن قراءة الروايات كانت هي الطريقة الوحيدة لذلك. غير أن هذه الطريقة تبدو وثيقة الصلة بالموضوع أكثر من غيرها، ويعزى هذا جزئيا إلى أنه تصادف بلوغ نوعية معينة من الروايات - الرواية الرسائلية - ذروة رواجها في وقت تزامن مع مولد مفهوم حقوق الإنسان. بزغت الرواية الرسائلية باعتبارها لونا جديدا من ألوان الكتابة في الفترة ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، ثم تلاشت على نحو شديد الغموض في تسعينيات القرن نفسه. كانت الروايات من كل نوع قد نشرت من قبل، لكنها ازدهرت باعتبارها لونا جديدا من ألوان الأدب في القرن الثامن عشر، ولا سيما بعد عام 1740 الموافق لنشر رواية «باميلا» لريتشاردسون. في فرنسا، نشرت ثماني روايات جديدة في عام 1701، واثنتان وخمسون رواية في عام 1752، ومائة واثنتا عشرة رواية في عام 1789. وفي بريطانيا تضاعف عدد الروايات الجديدة ست مرات في الفترة ما بين العقد الأول وستينيات القرن الثامن عشر؛ كان يظهر زهاء ثلاثين رواية جديدة كل عام في سبعينيات نفس القرن، وأربعين رواية كل عام في ثمانينيات نفس القرن، وسبعين رواية كل عام في تسعينيات نفس القرن. علاوة على ذلك، زاد عدد الأشخاص الذين يستطيعون القراءة، وأبرزت الروايات في ذلك الحين الأشخاص العاديين باعتبارهم الشخصيات المحورية التي تجابه المشكلات اليومية؛ من مشكلات في الحب، والزواج، والنجاح في الحياة. وارتفع معدل الإلمام بالقراءة والكتابة، حتى إن الخدم - الذكور منهم والإناث - قرءوا الروايات في المدن الكبيرة، مع أن قراءة الروايات لم تكن شائعة حينذاك، ولا حتى الآن، وسط الطبقات الأدنى؛ فالفلاحون الفرنسيون - الذين كانوا يشكلون ما يعادل ثمانين في المائة من عدد السكان - لم يقرءوا الروايات عادة؛ هذا إن كانوا يستطيعون القراءة أصلا.
نامعلوم صفحہ