إن عالم الذرة، شأنه شأن عالم الحياة اليومية، يتضمن ما يمكن ملاحظته وما لا يمكن ملاحظته؛ فما يمكن ملاحظته هو الصدمات بين جزيئين، أو بين جزيء وشعاع ضوئي؛ إذ إن الفيزيائي قد استحدث أدوات عظيمة الدقة توضح كل صدمة منفردة. أما ما لا يمكن ملاحظته فهو ما يحدث خلال الفترة الواقعة بين صدمتين، أو في الطريق من مصدر الإشعاع إلى الصدمة. وإذن فهذه الحوادث هي الموضوعات التي لا تلاحظ في عالم «الكوانتم».
ولكن لم كان من المستحيل ملاحظتها؟ ولم لم يكن في استطاعتنا أن نستخدم نوعا أدق من الميكروسكوب، ونرقب الجزيئات في مسارها؟ إن المشكلة هي أن من الضروري، لكي نرى جزيئا، أن نضيئه. وإضاءة جزيء شيء يختلف كل الاختلاف عن إضاءة بيت؛ ذلك لأن الشعاع الضوئي عندما يقع على جزيء يخرج به عن طريقه، وإذن فما نلاحظه صدمة، وليس جزيئا يسير في طريقه دون أن يعترضه شيء. وتستطيع أن تدرك ذلك إذا تخيلت أنك تريد مراقبة كرة «بولنج»
1
تتدحرج في مسارها في قاعة مظلمة، ولكنك عندما تضيء النور، ويسقط النور على الكرة، فإنه يدفع الكرة بعيدا عن طريقها، فأين كانت الكرة قبل أن تضيء النور؟ هذا أمر لا يمكنك أن تحدده، ولكن من حسن الحظ أن هذا المثل لا ينطبق على كرات «البولنج»؛ فهي من الكبر بحيث إن اصطدام الشعاع الضوئي بها لا يحدث في مسارها أي تغير ملحوظ. أما في حالة الإلكترونات وغيرها من جزيئات المادة فإن الأمر يختلف، فعندما تلاحظها يكون عليك أن تغير مسارها؛ وبالتالي لا يكون في وسعك أن تعرف ماذا كانت تفعله قبل الملاحظة.
بل إن الملاحظة تحدث بعض التغيير حتى في عالمنا المعتاد بأحجامه الكبيرة؛ فعندما تتحرك سيارة الشرطة عبر المرور في شارع متسع، فإن رجال الشرطة الموجودين فيها يرون كل العربات المحيطة بهم تتحرك ببطء في حدود السرعة المطلوبة.
2
ولو لم يكن الشرطي من النوع الذي يرتدي في بعض الأحيان ملابس مدنية ويركب سيارة عادية، لا يستدل من ذلك على أن كل السيارات تسير طول الوقت بمثل هذه السرعة المعقولة. ولنقل إننا في اتصالنا بالإلكترونات لا نستطيع أن نرتدي ملابس مدنية؛ فكلما راقبناها غيرنا طريق مرورها على الدوام.
وربما اعترضت على ذلك قائلا: قد يكون من الصحيح أننا لا نستطيع أن نلاحظ كيف يتحرك الجزيء في مساره دون أن يؤثر فيه شيء، ولكن ألا نستطيع أن نحسب، عن طريق استدلالات علمية، ما يفعله عندما لا ننظر إليه؟ هذا السؤال يعود بنا إلى تحليلنا السابق للموضوعات غير الملاحظة؛ فقد رأينا أننا نستطيع أن نتحدث عن أمثال هذه الموضوعات بطرق شتى، وأن هناك فئة من الأوصاف المتكافئة، وأننا نفضل أن نختار لوصفنا نظاما سويا؛ أعني نظاما لا تختلف فيه الموضوعات الملاحظة عن غير الملاحظة. ومع ذلك فإن مناقشتنا لملاحظة الجزيئات قد أوضحت أنه لا يوجد لدينا نظام سوي بالنسبة إلى الجزيئات. فمن يلاحظ الإلكترونات ينبغي أن يكون مثل بروتاجوراس؛ إذ إنه ينتج ما يراه؛ لأن رؤية الإلكترونات تعني إحداث صدمات مع الأشعة الضوئية.
إن الحديث عن الجزيئات يعني أن نعزو إليها مكانا محددا وسرعة محددة بالنسبة إلى كل نقطة. مثال ذلك أن كرة التنس تحتل في كل لحظة مكانا معينا في مسارها، ولها في هذه اللحظة سرعة محددة؛ فمن الممكن قياس المكان والسرعة معا، في كل لحظة، بأدوات مناسبة. أما بالنسبة إلى الجزيئات الصغيرة، فإن التغيير الذي يحدثه الملاحظ يجعل من المستحيل، كما بين هيزنبرج، قياس القيمتين معا في نفس الوقت؛ ففي استطاعتنا أن نقيس موقع الجزيء أو سرعته، ولكنا لا نستطيع قياسهما معا. تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها مبدأ اللاتحدد عند هيزنبرج. وهنا قد يتساءل المرء عما إذا كانت توجد طرق أخرى لتحديد المقدار غير المقيس؛ أعني طرقا نربط بها، على نحو غير مباشر، بين المقدار غير المقيس وبين المقادير الملاحظة. وهذا يكون ممكنا بالفعل إذا أمكننا أن نفترض أن المقادير غير الملاحظة تسير تبعا لنفس قوانين المقادير الملاحظة، غير أن تحليل ميكانيكا الكوانتم قد أدى إلى إجابة سلبية على هذا السؤال؛ فالموضوعات غير الملاحظة لا تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها الموضوعات الملاحظة من حيث إنه ينشأ بينهما فارق نوعي فيما يتعلق بالسببية؛ فالعلاقات التي تتحكم في الموضوعات غير الملاحظة تخالف مصادرات السببية، وهي تؤدي إلى انحرافات في مجال السببية.
هذا الفارق يحدث عند إجراء تجارب تداخل؛ أعني تجارب يمر فيها شعاع من الإلكترونات أو شعاع ضوئي من خلال شق ضيق، ويحدث على شاشة أنموذجا تداخليا يتألف من شرائط سوداء وبيضاء. وقد كان التفسير الذي يقدم لهذه التجارب دائما مستمدا من الطبيعة التموجية للضوء، فيقال إنها نتيجة لوقوع قمم الموجات فوق سفوحها. غير أننا نعلم أننا عندما نستخدم إشعاعا ضئيل الكثافة جدا، فإن الأنموذج الناتج، وإن يكن له نفس التركيب عندما يستمر الإشعاع وقتا كافيا، يكون نتيجة عدد كبير جدا من الاصطدامات البسيطة على الشاشة؛ وعلى ذلك فإن الشرائط تنتج بواسطة عملية إطلاق شبيهة بإطلاق النار من البندقية السريعة الطلقات. هذه الصدمات الفردية لا يمكن تقديم تفسير معقول لها على أساس أنها موجات؛ فالموجة تصل على جبهة عريضة تغطي الشاشة، وعندئذ يحدث وميض في نقطة واحدة فقط من الشاشة، وتختفي الموجة بأكملها؛ إذ يبتلعها الوميض، إن جاز هذا التعبير، وهو حادث يتعارض مع قوانين السببية المألوفة، وتلك هي النقطة التي يؤدي فيها التفسير التموجي إلى نتائج غير معقولة، أو إلى انحراف سببي. أما إذا افترضنا، على عكس ذلك، أن الإشعاع يتألف من جزيئات، لكان من السهل تفسير الصدمات التي تحدث على الشاشة. ومع ذلك فإن الصعوبات تنشأ عندما يستخدم شقان؛ إذ يتعين على كل جزيء عندئذ أن يمر من خلال هذا الشق أو ذاك؛ وعندئذ يكون أنموذج التداخل ناتجا عن التأثير المتبادل بين الشقين، غير أن من الممكن إيضاح أن الدور الذي يسهم به كل شق في الأنموذج الكامل يختلف عن الأنموذج الذي يحدثه الشق لو أغلق الشق الآخر. وهذا يعني أن المسار فيما وراء الشق الذي اختاره الجزيء، يتأثر بوجود الشق الآخر؛ فالجزيء يعرف إن كان الشق الآخر مفتوحا أم لا، إن جاز هذا التعبير. وهذه هي النقطة التي يصل فيها التفسير الجزيئي إلى انحراف سببي؛ أي إلى خرق لقوانين السببية المعتادة. ولو أجريت هذه التجارب بأي ترتيب آخر، وقدم لها أي تفسير آخر ممكن، لأدت إلى خرق لهذه القوانين أيضا. وتصاغ هذه النتيجة في مبدأ للانحراف السببي يمكن استخلاصه من أسس ميكانيكا الكوانتم ذاتها.
نامعلوم صفحہ