ولقد عرف الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس، زعيم السفسطائيين، بتعبيره عن مبدأ النزعة الذاتية، الذي صاغه على النحو الآتي: «الإنسان مقياس الأشياء جميعا، تلك التي توجد على أنها موجودة، وتلك التي لا توجد على أنها غير موجودة.» ولسنا ندري بالضبط ما كان يعنيه بهذه العبارة التي كانت «متسفسطة» بحق، ولكن لنفرض أنه كان سيقول عن مشكلتنا السابقة ما يأتي: «إن البيت لا يوجد إلا عندما أنظر إليه، أما حين لا أنظر إليه فإنه يختفي دائما.» فما الذي يمكنك أن تعترض به عليه؟ إنه لا يقول إنه يختفي ويعود إلى الظهور بطريقة سحرية من نوع ما. وهو يؤكد أن ملاحظة المشاهد البشري هي التي تنتج البيت، وأن البيوت غير الملاحظة لا توجد بالتالي، فأية حجج نستطيع أن نعترض بها على مثل هذا الاختفاء السحري، والخلق الذي يتم على يد المشاهد البشري؟
قد تقول إنك تستطيع أن تتصل تليفونيا ببواب البيت من مكتبك، وتسأله إن كان البيت ما زال موجودا. غير أن البواب إنسان مثلك، وقد تكون مشاهدته هي التي تخلق البيت مثل مشاهدتك، فهل سيكون البيت هناك حين لا يشاهده أحد؟
وقد تقول إنك تستطيع أن تدير ظهرك للبيت وتشاهد ظله، ويكون معنى ذلك أن البيت ينبغي أن يكون موجودا دون أن تلاحظه لأن له ظلا. ولكن كيف تعلم أن الأشياء غير الملاحظة لها ظل؟ إن ما رأيته حتى الآن هو أن الأشياء الملاحظة لها ظلال، وفي استطاعتك أن تفسر الظل الذي تراه حين لا ترى البيت، بافتراض أن الظلال تظل موجودة عندما يختفي الشيء، وإن هناك ظلا بدون بيت. وليس من حقك أن ترد بأن مثل هذه الظلال الخاصة بأشياء غير موجودة لم تلاحظ أبدا من قبل؛ فهذه الحجة لا تكون صحيحة إلا إذا افترضت ما تريد إثباته، وهو أن البيت يظل وجودا حين لا تعود تراه. فإذا افترضت العكس، كما فعل بروتا جوراس، فإن لديك عددا كبيرا من الأدلة على رأيه هذا؛ لأنك رأيت ظلالا على شكل بيوت دون أن ترى بيوتا في نفس الوقت.
وقد تدافع عن موقفك بالإهابة من جديد بالفهم العادي السليم، فتجيب قائلا: «لم أفترض أن قوانين علم البصريات مختلفة بالنسبة إلى الموضوعات غير الملاحظة؟ إن من الصحيح أن هذه القوانين وضعت بالنسبة إلى الموضوعات الملاحظة، ولكن ألا توجد لدينا أدلة دامغة على أنها ينبغي أن تسري على الموضوعات غير الملاحظة بدورها؟» ومع ذلك فإن قليلا من التفكير اللاحق كفيل بإقناعك بأننا لا نملك أدلة كهذه على الإطلاق. وأقول إنه لا توجد أدلة كهذه؛ لأن الموضوعات غير الملاحظة لم تلاحظ أبدا.
ولا يبقى بعد ذلك إلا مخرج واحد من هذه الصعوبة، فمن الواجب أن ننظر إلى قضايانا المتعلقة بالموضوعات غير الملاحظة، لا على أنها قضايا قابلة للتحقيق، بل على أنها مواضعات أو اصطلاحات، نأتي بها نظرا إلى ما تؤدي إليه من تبسيط شديد للغة. فما نعرفه هو أننا إذا ما أخذنا بهذا الأمر الاصطلاحي، فمن الممكن المضي فيه دون تناقض؛ أي إننا إذا افترضنا أن الموضوعات غير الملاحظة هي ذاتها الموضوعات الملاحظة، فإنا نصل إلى نسق للقوانين الفيزيائية يسري على الموضوعات الملاحظة وغير الملاحظة معا. وهذه القضية الأخيرة، التي هي قضية من نوع «إذا» (أي قضية مشروطة)، هي أمر واقع تحققنا من صحته، وهي تثبت أن لغتنا المعتادة عن الموضوعات غير الملاحظة هي لغة مقبولة، غير أنها ليست هي اللغة المقبولة الوحيدة. ففي استطاعة شخص مثل بروتاجوراس، يقول إن البيوت تختفي حين لا تلاحظ، أن يتكلم لغة مقبولة أيضا، إذا كان على استعداد لقبول النتيجة المترتبة على قوله هذا، وهي أن علينا أن نضع نسقين مختلفين للقوانين الفيزيائية، أحدهما للموضوعات الملاحظة، والآخر للموضوعات غير الملاحظة.
وحصيلة هذه المناقشة الطويلة هي أن الطبيعة لا تملي علينا وصفا واحدا بعينه، وأن الحقيقة لا تقتصر على لغة واحدة؛ ففي استطاعتنا أن نقيس البيوت بالأقدام أو بالأمتار، ودرجات الحرارة بمقياس فهرنهيت أو بالمقياس المئوي، وفي استطاعتنا أن نصف العالم الفيزيائي بهندسة إقليدية أو بهندسة لا إقليدية، كما بينا في الفصل الثامن. وعندما نستخدم نظما مختلفة في القياس أو الهندسة، فإننا نتحدث لغات مختلفة، غير أننا نقول نفس الشيء. فالكثرة من الأوصاف تتكرر على نحو أعقد عندما نتحدث عن الموضوعات غير الملاحظة. وهناك طرق كثيرة لقول الصدق، وكلها متكافئة بالمعنى المنطقي، كما أن هناك أيضا طرقا متعددة لقول الكذب. مثال ذلك أن من الكذب القول إن الثلج يذوب في درجة حرارة اثنتين وثلاثين، إذا استخدمنا المقياس المئوي؛ وعلى ذلك فإن فلسفتنا لا تمحو الفارق بين الصدق والكذب، غير أن من قصر النظر أن يتجاهل المرء كثرة الأوصاف الصحيحة. فالواقع الفيزيائي يقبل فئة من الأوصاف المتكافئة، ونحن نختار أحدها على سبيل التيسير على أنفسنا، وهذا الاختيار لا يرتكز إلا على عرف أو اصطلاح؛ أي على قرار إرادي. مثال ذلك أن النظام العشري يتيح وصفا للقياسات أيسر مما يتيحه غيره من النظم؛ فعندما نتحدث من موضوعات غير ملاحظة، فإن أيسر لغة هي تلك التي يختارها الذهن المعتاد، والتي بمقتضاها لا تكون الموضوعات غير الملاحظة مختلفة عن الموضوعات الملاحظة، ولا يكون سلوك الأولى مختلفا عن سلوك الثانية، غير أن هذه اللغة مبنية على عرف أو اصطلاح.
ومن مزايا نظرية الأوصاف المتكافئة أنها تتيح لنا التعبير عن حقائق معينة لا تستطيع لغة الذهن المعتاد أن تضع صيغة لها. وأنا أعني بذلك تلك الحقيقة التي تعبر عنها القضية الشرطية السابقة؛ فمن الصحيح أننا إذا افترضنا أن الموضوعات غير الملاحظة في هوية مع الموضوعات الملاحظة، فإننا لا نصل إلى تناقضات، أو إن من الصحيح بعبارة أخرى أنه يوجد، من بين الأوصاف المقبولة للعالم الفيزيائي ، وصف تكون فيه الموضوعات غير الملاحظة على قدم المساواة مع الموضوعات الملاحظة؛ فلنطلق على هذا الوصف اسم «النظام السوي
normal system ». وإن من أهم الحقائق أن العالم الفيزيائي يمكن أن يوصف بنظام سوي، وقد كنا على الدوام نأخذ هذه الحقيقة قضية مسلما بها، بل إننا لم نعمل على صياغتها؛ وبذلك لم نعلم أنها حقيقة. فنحن لم نر فيها أية مشكلة، شأننا شأن الشخص الذي لا يرى مشكلة في سقوط الأجسام إلى الأرض؛ لأن هذه الملاحظة تمثل تجربة عامة إلى أبعد حد. ومع ذلك فإن الميكانيكا العلمية بدأت بقانون سقوط الأجسام، وبالمثل فإن الفهم العلمي لمشكلة الموضوعات غير الملاحظة يبدأ بالتعبير عن إمكان وصف الموضوعات غير الملاحظة بواسطة نظام سوي.
فكيف نعلم أن هذا الوصف ممكن؟ إن كل ما يمكننا قوله هو أن تجارب أجيال البشر قد أثبتته. ومع ذلك ينبغي ألا نعتقد بأن من الممكن البرهنة على هذا الإمكان بقوانين منطقية؛ فالأمر الواقع - لحسن الحظ - يشهد بأن عالمنا يمكن أن يوصف بقدر من البساطة لا ينجم عنه فارق بين الموضوعات الملاحظة والموضوعات غير الملاحظة، وهذا كل ما يمكننا القول به.
لقد كنا نتحدث حتى الآن عن البيوت غير الملاحظة. على أن جزيئات المادة هي بدورها موضوعات غير ملاحظة، فلنر كيف يمكن تطبيق نتائجنا عليها.
نامعلوم صفحہ