نابوليون بونابارت في مصر
نابوليون بونابارت في مصر
اصناف
كان يشعر كأنه غريب بين أقرانه؛ لأنه لم يكن فرنسيا، وكان التلامذة يحتقرونه للهجته الأجنبية، ولعدم انتسابه إلى الأسر العريقة في النسب، وفوق ذلك لضيق ذات يده أيضا، فكان ذلك من أدعى الأسباب إلى تكوين نفس الفتى، وعدم اشتغاله باللهو، وانفراده بذاته، في غدواته وروحاته، ونار المطامع تتأجج في صدره، وتسري في شرايين جسمه، وتأكل في خلايا قلبه، وكان ميالا إلى العلوم الرياضية أكثر من سواها، وكانت رسائله التي يبعث بها إلى أبويه، وهو في سن الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، تدل على نمو عقل، ورجاحة فكر، حتى قال عنه أحد كتاب الإنجليز المدققين:
8 «ولقد يخيل لنا أن نابوليون لم يكن أبدا صغيرا.»
ولقد أدرك هذا الفتى في صغره أن الجندية كحرفة، هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها الوصول إلى إدراك المعالي، وأن القواد العظام الذين أحسنوا الاستفادة من ظروفهم، هم الذين استطاعوا قلب الممالك، وثل العروش، وليس التيجان، فلذلك كان شغفه بالتاريخ والجغرافيا عظيما حتى لقد كان يخيل لنفسه بنفسه أنه واحد من أبطال بلوتاركه.
9
وكانت نيران الثورة الفرنساوية في ذلك الحين تتأجج في أتونها، ولم يكن تمث قد اشتمل لهيبها، وعلا شرارها، ولا بأس من أن نقول هنا لفائدة القارئ العربي، أن تلك الثورة الهائلة التي فكث العالم من أغلال الاستبداد، وغيرت كثيرا في أصول الاعتقادات القومية والدينية في أوروبا، لم تكن بنت ساعتها، بل هي من نفثات أقلام الكتاب الفرنسيين من نهاية القرن السابع عشر، إلى نهاية القرن الثامن عشر: أولئك الكتاب الذين فتقوا ذهن الأمة، وفتحوا عيون الشعب إلى أن النظام الذي كانوا يعيشون تحت سلطانه، نظام استبدادي وأن معتقداتهم التي يرضخون تحت نفوذها، معتقدات قائمة على أسس واهية، وأنها لا تحتمل التحليل والبحث في ضوء العقل والقياس المنطقي، وقائد هذه الكتيبة في ساحة الوغى، الكاتب الفرنسي العظيم «فولتير» بذلك القلم الساحر، والأسلوب الباهر، ومن هذه الآراء تغذى عقل نابوليون في مطالعاته مدة سبع سنين قضاها في الجيش، حتى نشأ جاحدا للأديان، متسع الفكر واسع الصدر.
واندلع لهيب الثورة في سنة 1789 ففتحت لنابوليون أبواب الرقي، وأسباب النهضة لإدراك ما صورته له مخيلته من أمانيه وآماله، فكان أول خاطر قام بنفسه قيادة الثورة في جزيرته، لتحريرها من رق فرنسا ، وفعلا سافر إلى كورسيكا وتولى قيادة فرقة من الثائرين، إلا أن الحكومة التي وجدت في باريس، أعلنت من تلقاء نفسها في «30 نوفمبر سنة 1789» استقلال الجزيرة وجعلها مملكة منضمة إلى الجمهورية الفرنسية، فغير ذلك في خطته وعاد إلى باريس وهو شديد التحمس للثورة، ولكن لم تأت سنة 1792 حتى بردت نار حماسته وميله لزعماء الثورة، وذلك لما رآه من ارتكابهم للفظائع، وإهراقهم الدماء، فقد كان حاضرا صيف ذلك العام هجوم الثوار على قصر التوياري في 20 يونيو، وكذلك ذبحهم لجنود الحرس السويسري في 10 أغسطس، وكانت هذه المناظر تؤلم فيه فكرة النظام العسكري، حتى قال «لبوريين»
Bourienne
صديقه، وسكرتيره بعد ذلك، «كيف تسمحون لهؤلاء الغوغاء بارتكاب هذه المساوئ، ولماذا لا يكتسحون منهم أربعمائة أو خمسمائة بالمدافع فيفر الباقون إلى بيوتهم؟!».
ثم عاد في نهاية ذلك العام إلى جزيرته برتبة كابتن «يوزباشي» وحصلت بين أسرته وبين «باولي» وأنصاره منازعات أدت إلى مهاجرة أسرة نابوليون إلى قرية بجوار طولون في فرنسا، وكانت إنجلترا قد أعلنت العداء على الحكومة الجديدة في فرنسا، وجمعت حولها ممالك النمسا وروسيا وأيدتها بالمال، واستردت بلجيكا حريتها من تحت سلطة فرنسا، وطردت الجنود الفرنسية من «كونده» و«مينس» «وفلنسين» وهددت قلب فرنسا، وكذلك احتلت طولون على البحر الأبيض المتوسط، فكانت تلك الحوادث سببا لأن تحرك عوامل الغيظ في قلب نابوليون ضد خصوم بلاده فمال إلى زعماء الثورة، وانضم إليهم قلبا وقالبا، واندمج في جيش الجمهورية المحارب لطولون «في 16 سبتمبر 1793» بوظيفته قومندان الطوبجية، وهنا ظهرت مواهب نابوليون الحربية؛ إذ استطاع بنبوغه العسكري، وبما درسه في فن الطوبجية وهندستها، وعلوم الحرب الحديثة، من طرد الإنكليز والاستيلاء على طولون في «19 ديسمبر 1792» فكافأته حكومة الجمهورية بترقيته إلى رتبة جنرال، ولكن بعد سقوط حكومة روبسبير
Robespiere
نامعلوم صفحہ