لا معنى للحياة، ولكن الحياة لا تعترف برأي الأفراد ولا حتى برأي الجماعات أو الشعوب، إنها تمضي كما تعودت أن تمضي، ثانية تدفع ثانية ودقيقة تسوق دقيقة، وساعة تستحث ساعة ويوم يستبطئ يوما، وأعوام تنتهب العمر انتهابا.
ماذا أنا صانع إذا لم أعمل، إذا كنت أعددت المستقبل لي ولأتينا، وتخلفت هي فالمستقبل لن يتخلف، بل هو قادم رغبت أنا في قدومه أو لم أرغب، وسيجدني أنتظره ما دمت على قيد الحياة، والمصيبة الكبرى أنني لا بد أن أظل على قيد الحياة، والمصيبة الأعظم أنني لا أعلم متى سأغادر هذه الحياة، وقد أصبح العمل هو كل ما أملك في الحياة بعد أن كانت معه أتينا، أخشى إذا أنا توقفت عن العمل أن يهملني الموت ولا يذكرني، فهو زبون بلا موعد ولا منطق ولا عقل، يخطف أتينا وهي في قمة صحتها لا تشكو مرضا، وينسى غيرها من الذين أنهكهم المرض سنوات طوالا، قد يرسل إلي المرض، فالمرض من أتباع الموت ومن خدمه وحاشيته، ثم ينسى أنه أرسل لي المرض ويتركه عندي السنوات الكثيرة، وأصبح بلا مال أنفقه على الضيف الذي أرسله إلي الموت وعلى نفسي أيضا.
لا بد إذن أن أعمل، فلئن جاءني الموت أو خادمه المرض وعندي مال، خير ألف مرة من أن يأتيني أحدهما، وخاصة الخادم، وأنا قليل المال، فالمرض ضيف لا حياء له ويرغم مضيفه على كثير من الإنفاق، ولا يقف به الطمع عند حد، فهو رذل وقح عربيد، لا يخجل ولا يبالي أن يطلب آلاف الجنيهات، وهو واثق أنك ستدفعها ولا تناقش.
أعمل إذن، ولكن الحر شديد، وموت أتينا أصاب مشاعري بإحباط كثيف، واللذة التي كنت أستشعرها وأنا أعتصر الحياة معها انعدمت تماما، ولم يصبح للحياة رحيق ولا للمال ذلك الطعم الساطع، الذي كان يملأ النفس رضى وهناءة وطمأنينة وثقة.
والحر شديد وأنا لا أريد أن أذهب إلى الست عدلات، ولكن لا بد مع ذلك من الذهاب، فإن عليها لي مبلغا من المال ونحن الآن في موعد حصاد القمح، وربما استطاعت أن ترد لي شيئا من ديونها، ثم أنا لا أستطيع أن أمضي خطوة بعد هذا، أمري إلى الله.
وفتحت نعمات خادمة الست عدلات الباب، وقالت في ألفة: يوه هو أنت يا خواجة لمبرو؟
وقال لمبرو بعد أن دخل وقعد على كرسيه المعهود: هو أنا يا نعمات. كنت تنتظرين أحدا آخر؟ - أبدا يا خواجة، فقط كيف تقدر على المشي في هذا الحر الشديد. - أكل العيش يا نعمات! - بل أكل الجاتوه يا خواجة. ماذا ستعمل بكل هذه الفلوس يا خواجة، قل لي يا خواجة لمبرو أتكتم السر؟ - كل أعمالنا أسرار. - سلفني مائة جنيه أتزوج بها، وأرد لك كل شهر حاجة. - وأنا كيف سأراك إذا تزوجت يا نعمات. - بلدنا قريبة. - وتريدينني أن أروح لبلدك كل شهر من أجل القسط؟ - معروف تعمله في، ألا تعمل معروفا لله أبدا؟ - الله يعلم ولكن الذي تطلبينه مستحيل. - أنا أحضر لك الفلوس حتى بيتك. - قولي يا نعمات، من خطيبك؟ أنت ما زلت صغيرة على الزواج. - أبو الروس. - من؟ - سويلم أبو الروس. - ماذا يعمل؟ - يعمل في مقهى في البلد. - كم عمره؟ - قريب مني. - أكبر؟ - يا ترى كل هذا التحقيق له فائدة؟ - أين الست عدلات؟ - جائية. - أهي ليست هنا؟ - عند الست تفيدة. - فوق؟ - نعم. - فهي لن تأتي إذن. - لماذا يا خواجة لا قدر الله؟ - الاثنتان لا تتوقفان عن الحديث إلا بالبوليس.
وتضحك نعمات وتقول له: الله يجازيك يا خواجة لمبرو. ماذا قلت؟ - فيم؟ - خواجة. أنسيت؟ - قلت لي عمره كم؟ - أنت مالك. - أعرف. - ما دخل هذا فيما أطلبه؟ - فقط قولي، أهو أكبر منك؟ - يا سلام يا خواجة. - كم عمرك؟ - ثماني عشرة سنة. - يعني عنده عشرون تقريبا. - لن أقول لك. - فهو أصغر منك إذن. - يا خبر أسود. هل هذا معقول؟ - ليس مهما. - وما رأيك؟
وقبل أن يجيب تدخل الست عدلات، وتفاجأ بالخواجة لمبرو. - يخيبك يا لمبرو. في هذا الحر؟ - وأنت ست عدلات تخرجين في هذا الحر، أنا أخرج من أجل العمل، لكن أنت تخرجين من أجل التسلية. - الفلوس على قلبك ستقتلك، وتخرج في هذا الحر؟ - والله ست عدلات لم أعد أحب أن أبقى في البيت أبدا، البيت كله أسود في وشي. - الله يرحمك يا أتينا، والله من يوم ما راحت وأنا لم ألبس شيئا أرتاح له. - مرسي ست عدلات. - هل معك حاجة جديدة؟ - طبعا. لكن أنت أليس عندك حاجة قديمة؟ - يخيبك يا لمبرو. كم حسابي؟ - خمسة وعشرون جنيها. - وكم تريد منها؟ - خمسة وعشرين جنيها. - أليس عندك دم؟ - أنت سألت كم تريد وقلت لك ما أريد وأنت حرة. - طيب أرني ما عندك. يا نعمات، بنت يا نعمات.
وتأتي نعمات مبتسمة ومعها حقيبة يد سيدتها.
نامعلوم صفحہ