الرجال والابنة الذين لم يعودوا في حاجة إليها، يدللونها ويهزلون معها ويبدءون يسخرون من الأشياء القديمة المتراكمة في الشقة، تلك التي نموا وهم يحملون لها الحب والتقديس. صحيح أن هناك روابط كثيرة تجمعها بهم وتجمعهم بها، نفس الروابط التي تنزعج لها إذا علمت بمرض أحد، وينزعج لها الأبناء، أو جزع الابنة إذا ارتفع لديها معدل الضغط أو نسبة السكر، ولكنه جزع مخالف تماما لمثيله أيام كانوا أولادها وأيام كانت فعلا أمهم، جزع على اللعبة القديمة ذات الشعرات البيضاء التي نحاول أن نحفر في صدرها كلما ضممناه عسانا نعثر على قطرة واحدة من نبع كان يروينا، وكانت تتعاظم بنا وبها السعادة إذا روانا جزع الزمالة ربما في المجتمع الأكبر الذي أصبحنا فيه أولادا وبنات وأمهات وزملاء، وإن كانت تفرق بيننا بعض السنين. حتى غداء الجمعة، من الصباح الباكر تكدح لتصنع مع خادمتها العجوز لكل منهم ما يفضله، وبزيطة وابتهاج يبدءون يقبلون، والابن الواحد الذي لا تزال تذكركم به كان نحيفا شاحبا وهو طفل صغير أصبح اليوم زوجا، زوجا قديما له أولاد وبنات ينادونها بيا «تانت» ويا «تيزة» ويا «جدتي». أصبح الولد عائلة بأكملها وأصبحت له أسراره الخاصة وهمساته وغمزاته مع زوجته أو مع أخيه الآخر، وهي الوحيدة البعيدة عن اللعبة. ويوضع الطعام ويأكلون، وبينما في أعماقهم قد أدركوا من زمن أن طعام أمهم من الأحسن لها ولهم أن يبقى ذكريات حلوة، ومذاقا يعطيه حاجز الزمن قيمة ومتعة؛ فالواقع الحاضر أنهم قد فقدوا الرغبة تماما فيه، وأنهم بالكاد يزدردونه؛ فلقد جاءت الزوجات معهن بأطعمة أخرى، وبأصناف لم تخطر للأم على بال، حتى الطعام وتعليقاتهم البالغة في استحسانه أصبحت عادة قديمة تبتلعها على مضض؛ فإنها لتحس بالأمر كله، وبيوم الجمعة وكل ما يحدث فيه تمثيل في تمثيل يجيء فيه الأبناء ليروا أبناءهم تحضنهم الجدة العجوز، ويتسلون بتدريبهم على نطق اسمها، وربما يثير اليوم في نفس أحدهم ذكرى أو حادثة طفولة، تمثيلية سرعان ما يمل الممثلون القيام بها، فإذا بكل واحد قد انزوى مع زوجته في ركن أو على فراش، أو قد اجتمع أربعة منهم يناقشون موضوعا لا صلة لها به. كل ما في الأمر أنه بين الحين والحين، وربما على دقات جرس ضمير بطيء المفعول، يتعطف عليها أحدهم بكلمة، أو بثناء، أو بقبلة سريعة، لا تلبث أن تدرك أنها وهي في بيتها تأويهم وتطعمهم قد أصبحت عبئا هم مضطرون للخلاص منه بعد قليل؛ فسرعان ما تبدأ سلسلة الاكتشافات، وينظر أيهم في ساعته، ثم يشهق مروعا: أنا نسيت ميعاد المحاضرة. وما أتعسها من دقائق أو ساعات تلك التي يقضيها الباقون وتقضيها معهم وهي محرجة تدرك أن كلا منهم لا بد يبحث لنفسه عن اكتشاف جديد أو عذر وجيه! حتى الأطفال ملوا سماع حواديتها ويطالبون بالتليفزيون، بل - إمعانا - تذهب إلى المطبخ أحيانا لتجد الملاذ في الخادمات، فإذا بهن هن الأخريات مشغولات بتبادل أنباء فضائح الأسياد والسيدات والجيران، وأحدث الزيجات والطلاقات بين نجوم الغناء والسينما. وفي النهاية، وبعد كل الضجيج الهائل والازدحام تصبح مرة أخرى وحيدة تماما في الشقة الكبيرة ذات السقف العالي؛ فحتى الخادمة العجوز تأخذ بعد ظهر اليوم نفسه إجازتها.
لا لوم! فهكذا الدنيا، وأولادها لم يعودوا بحاجة إليها إلا كديكور أم محنط في شقة «العيلة»، ولكن الأم فيها لم تنته بعد، لم تمت! ما زالت تدق داخل قلبها الكبير. وحين مات المرحوم لم تفكر لحظة في الزواج، أو في تغيير حياتها مع أولادها؛ فلقد كانوا هناك، صبية صغارا وبنات لا يسمحون لها أن تغيب عن أعينهم لحظة لشدة حاجتهم إليها، ولا تسمح هي لنفسها أن تتغيب لحظة لشدة ما تريدهم أن ينهلوا من صدر أمومتها، ويروون بذلك النبع الأخضر الريان في أعماقها. سعادتها الكبرى أن تعطيهم، وكان طبيعيا جدا أن يأتي اليوم الذي لا يعودون بحاجة إليها، وقد أصبحوا بدورهم آباء وأمهات يريدون هم أنفسهم البذل لأولادهم والعطاء. ماذا تفعل والأم فيها لا تزال قادرة موجودة يقظة؟ فقد تزوجت صغيرة وخلفت صغيرة، ولا تزال بعد لم تصل إلى الخمسين. - يا ريت تزوري السيدة!
وكأنما هبط الاقتراح كالحل العبقري لمشكلة أبناء يريدون فرض اليأس والشيخوخة على أمهم فرضا، يريدون فرض اللاحول واللاقوة والسكون والسلبية التامة، فرض الموت عليها فوق سطح الأرض انتظارا للحظة الانتقال إلى باطنها. أبناء يريدون هذا وكأنما ليزيحوا عن خواطرهم الواقع الحي الناطق أنها بعد لم تصبح شيخة. صحيح أنها لم تعد شابة مثلما كانت حين مات أبوهم، ولكنها بالقطع والتأكيد لم تعد تصبح - وباستماتة تأبى أن تصبح - في القريب العاجل شيخة. وليست الشيخة أيضا كي يفرضوا عليها الشيخوخة فقط، إنما لكي - وهذا هو الأهم - يفرضوا عليها الوحدة؛ فالوحدة إذا كانت حراما على الأنثى أو الشابة، فهي حلال على الشيخة، وما لم تصبح شيخة فعليهم أن يحلوا هم مشكلة وحدتها، ومن هنا يعتبر اقتراح زيارة السيدة إذن حلا عبقريا. - إن شالله يا سيدة.
أجل، يوم الجمعة بعد الغداء الحافل، بعد أن تستمتع بهم مرصوصين حول مائدة الطعام الفخمة، الرجال من أبنائها والبنت مع زوجها، وبعد أن تحمل أحفادها كل بدوره وتهدهده وبأسماء تدليله، عليها أن تذهب للسيدة وتقضي بقية اليوم تدعو وتتعبد. وفي العام القادم بإذن الله تحجين وأمانة عليك أن تقرئي لنا الفاتحة يا ست الحبايب، ولا تنسي أن تدعي ل «منى» بالنجاح، ول «حمادة» بالشهادة، ولابنك - أنا - باستقالة رئيس مجلس الإدارة ليفرغ منصبه. - وإيه رأيك يا ستي؟
والتفت الكل إلى الأخ الصغير، فقد بدا وكأنه وجد الضالة المنشودة: الجمعة السيدة، وإن زهقتي يبقى الإثنين الحسين، وإن حبيتي يبقى سيدي الحنفي الخميس.
واحنا مستعدين.
أجل! هم دائما مستعدون؛ لكي يحولوا العواطف والمجاملات والواجبات إلى معادلة نقدية، ربما لأنهم أصبحوا يمتلكون النقود، بينما لم يعودوا في حاجة إلى العواطف والمجاملات.
بالتأكيد مشروع سقوطها كان من غضب السيدة عليها؛ فهي أبدا لم تذهب بدافع من ذات تريد، إنما مدفوعة لا إلى زيارة أو قراءة فاتحة، وإنما إلى مصير لا تملك دفعه. - ياه! إحنا مشينا كثير. أنا اتأخرت، نشوف تاكسي؟ - زهقتي؟
وتطلعت، هذا الوجه، تلك الملامح الطفلية التي يسكب فيها سن الثامنة عشرة أول كم من عصير الرجال، فيصبح لها - للسن - جمالها الخاص بحيث يضيء وجه كل فتى وكل فتاة، حتى المحرومين من الجمال، بنور جميل طازج، نور تلك السن. شاربه النابت المحلوق الذي تكاد تعد جذور الشعر فيه شعرة شعرة، بينما الذقن تتسلل من الصدغين هابطة على استحياء، ولكنها في وسط الذقن تماما، وحول وداخل طابع الحسن تنطلق فجأة، كنافورة شعرية مستديرة. العينان فيهما نظرة، ليست لها صفاقة نظرات الرجال أو مجال أبصارهم الخاضع للإرادة والوعي والتحديد، وليس فيها شقاوة الصبية، إنما هي نظرة بدأت تدرك وجود الآخرين، وكما ترى الناس باستطاعة الناس أن يروا ما بداخلها، داخلها المليء في تلك اللحظة إلى الحافة بنداء، أقوى ما رأته عيناها من نداء، ألا تذهب؟ أن تبقى، نداء حقيقي صاعد، ربما رغم أنف صاحبه، شتان بينه وبين نظرة الدكتور أو المدير ابنها وهو يقول بينما هو يستعد لإغلاق الباب خلفها بعد انتهاء زيارتها: وحياتك، وحياتك يا ماما تقعدي تتعشي معانا. - حضرتك عايزة تروحي؟ مش تستريحي شوية، على بال الوجع ما يخف؟
عادت ترمق النداء قويا ملحا في عينيه، لا تملك عصيانه، نداء يحرجها، فهو لا يتبع بكلمات تلح الإلحاح الكافي، إنما هو يترك لها هي الرأي والقرار، يترك لها أن تضغط بكل ما تملك من رغبة على كل ما تملك من مقاومة، وتسأل: أنا الحقيقة تعبانة، بس أستريح فين؟ لازم أروح.
نامعلوم صفحہ