النداهة
مسحوق الهمس
ما خفي أعظم
المرتبة المقعرة
معجزة العصر
النقطة
العملية الكبرى
دستور ... يا سيدة
النداهة
مسحوق الهمس
نامعلوم صفحہ
ما خفي أعظم
المرتبة المقعرة
معجزة العصر
النقطة
العملية الكبرى
دستور ... يا سيدة
النداهة
النداهة
تأليف
يوسف إدريس
نامعلوم صفحہ
النداهة
حين دفع «حامد» الباب، وفوجئ بالمشهد الهائل المروع مات، بالضبط مات؛ وجد نفسه فجأة قد سكنت فيه كل خلجة أو حركة أو فكرة، ولم يعد يرى أو يسمع أو يشعر، والدنيا من حوله هي الأخرى سكنت تماما، وماتت، وانتهى كل شيء.
كانت «فتحية» زوجته راقدة على أرض الغرفة، والولد الصغير ملتصق برأسها العاري ينتحب مرعوبا وهو يجذب شعرها بشدة، بينما هي عارية الرأس، عارية الساقين والفخذين، عارية كلها أو تكاد، وفوقها يرقد أفندي بجاكتة وبلا بنطلون أو سروال، وإنما مؤخرته العالية قد ذابت في عري «فتحية» وانتهى الأمر.
مشهد صامت، غارق في ظلام الظهر الذي اعتاد الحجرة واعتادته، لا صوت فيه ولا صراخ ولا مقاومة. الصوت التالي تماما، وكأنه جاء بعد عام، كان صوت شهقة، شهقة بشعة هائلة البشاعة، شديدة اللهفة، مشحونة بالذعر والدهشة والرعب، شهقة كأنها صادرة عن كل الجسد بأقوى ما يستطيعه من استنكار: حامد!
شهقة انتفض لها الطفل خائفا، وراح بأعلى ما يستطيعه من صراخ يبكي، ومع هذا فلم يعد أحد يسمع صراخه؛ إذ أخذ كل شيء يشحب ويصفر ويبيض، حتى الظلام، أبيض وعاد مثله مثل كل شيء في الحجرة أو البيت أو الدنيا كلها إلى مواته، وظل ميتا وكأنما لعام آخر، إلى أن عادت الحركة إلى الحجرة، وكان أول من تحرك فيها هو الأفندي، إذ في قفزة واحدة كان قد رفع بنطلونه، وأصبح خارج الحجرة، وفي القفزة التالية كان البنطلون في مكانه المعتاد، وكان هو خارج البيت!
وحينئذ فقط تحرك «حامد»؛ لأن الحياة حين عادت لم تعد لعقله، إنما عادت فقط لأقدامه، فإنه وجد نفسه يقفز هو الآخر، وقد أودع القفز كل حياته، قفزة حملته خارج الحجرة، وفي القفزة الثانية كان قد أصبح مثل الأفندي خارج البيت، ولكنه وصل متأخرا قفزة.
وهكذا حين وصل إلى الشارع كان «الأفندي» الواحد قد أصبح عشرة، أو عشرين، كلهم بجاكتات، وكلهم ذوو مؤخرات تغطيها البنطلونات، ومعظمهم يمشون بأسرع من الجري، وأوسع من القفز، وكل منهم في اتجاه!
في تلك اللحظة - فقط - كانت الحياة قد عادت لعقل «حامد» وأفكاره، وأحس - من أول وهلة - أنه لم ينطلق في أثر الأفندي إلا لأنه انطلق، ولأنه كان عليه أن يقفز خلفه؛ فمنذ الثواني الأولى وهو يعرف أن هدفه ليس الأفندي أبدا - ولا أي أفندي - ولا في الشارع كله، أو حتى المدينة بأسرها، هدفه في حجرته، في زوجته، بل يكاد يكون في ذلك الجزء منها الذي طالما عمر بيوتا وخرب بيوتا، واقتتل من أجله الناس، جنة الخلق وجحيمها ومثواها.
وهكذا استدار، هذه المرة لم يقفز فقط استدار، ورفع قدمه بادئا خطواته، وكاد يبقيها في الهواء معلقة؛ فعقله والحياة حديثة العودة إليه يأبى أن يعمل إلا كما يعمل عقل طفل صغير واجهته مشكلة، ومشكلته هذه اللحظة أنه خائف، بل مرعوب تماما. إن هدفه هو أن يعود إلى بيته - الحجرة - هذا صحيح، ولكن ليس في كيانه كله ذرة رغبة واحدة في العودة، كيف يعود ليواجه زوجة نصفها الأسفل عار؟ جسدها مبطط لا يزال يحمل آثار كتلة الأفندي وبهيميته؟ أي إنسان في الدنيا، أي زوج يمكن أن تطيعه قدمه ليخطو بها تجاه مشهد كهذا؟
ولكن، لأن رعبه هذه المرة هو الذي يحركه للعودة، لحظة فيها ألف لحظة! أقواها وأقساها جميعا لحظة غدر أحس فيها أنه أخذ غدرا. لم تغدر به «فتحية» فقط أو الأفندي، ولكن الدنيا كلها بأرضها وسمائها أخذته غدرا. وحينما تغدر بنا الدنيا ونحن صغار، فإننا نلجأ لأمهاتنا لنجد في أحضانهن ما يعيد إلينا الثقة في الوجود، وإذا غدرت بنا وكنا كبارا سارعنا إلى زوجاتنا ليؤدين لنا نفس المهمة، فإذا كان الغدر هذه المرة مصدره الأم - ذاتها - أو الزوجة، فويلك يا «حامد»! حينئذ وأنت مشدود مصلوب ممزق بين رغبتك أن تفر من «فتحية»، ومن الدنيا كلها فلا تعود تراها أبدا، ورغبتك في أن تسرع بأقصى ما تقدر وترتمي في أحضانها وتشكو إليها، حتى لو كانت هي المشكو منها، رغبتك أن تستجير بها من الدنيا لتجد أن الأولى أن تستجير بالدنيا منها، بما هو أبشع منها.
نامعلوم صفحہ
أجل! أحس «حامد» أن «فتحية» امرأته، زوجته نصفه الأنثى، تلك التي كان يعرفها كما يعرف ويضمن يده ورجولته وشهامته، «فتحية» قد تحولت، بل انتفض منها كائن غريب مرعب كأنما سخطت وحشا راوغه، ثم نهشه من ظهره وهو آمن مسلم مستسلم، وحش من فرط رعبه منه لا يجد ملجأ آخر سواه. ولو كان «حامد» قد قتلها في تلك اللحظة - وفكرة القتل نبتت منذ أول ثانية عاد إليه فيها عقله، بل ربما قبل عودة عقله، ورغم أي شيء آخر ظلت تدور في رأسه منفصلة تماما، تعمل عملها باستمرار، ولا يريد أن تفارقه أو يفارقها لحظة - لو كان قد قتلها في تلك اللحظة بالذات لكان قد فعل هذا ليس لأنها خانته أو انتقاما لشرفه المهدر، أبدا، لا بدافع الغضب أو الجنون أو الحنق، إنما ومعها جميعا - بل وفي أحيان قبلها بكثير - بدافع الرعب المروع منها، كأنما هي قد استحالت في نظره إلى غول أو حية رقطاء تقتلها قبل أن تقتلك، تقتلها ليس دفاعا عن شرفك، وإنما دفاعا عن نفسك أولا، كتما لأنفاس ذلك الوحش الذي غافلك ونهشك وخانك، ومن يخونك يقتلك، ومن يقتلك لا مأمن لك إلا بقتله، بل أحيانا ما هو أكثر! أحيانا يصبح الإحساس الممض القاتل أن شيئا في الكون قد اختل، ولا نجاة إلا بوأد الخلل في مكانه ولحظته. إن شيئا حدث لذمة الدنيا والعالم، وملكوت السماء والأرض، فخربت، ثقبت فجأة، وما لم نسارع بسد الثقوب لفغرت الأبدية فاها، وابتلعتك أنت والكون الخرب.
كان مرعوبا حقا! حتى لقد بدأ يرتجف وتصطك أسنانه، ويحس أكثر وأكثر بالطعنة القاتلة. ثمة سكين صوبت بيد تعرف تماما خباياه وأسراره، وأصابت فيه أعز ما في داخله. ألم الطعنة لا يزال لا يحسه، فالسكين ما تزال سارقاه. إن ما يحسه هو الثقب العميق الغائر الذي خلفته الطعنة، والذي كلما حدق فيه داخ وأحس أن في أعماق هذا الجرح نهايته. بغموض ودوشة وازدحام كان يحس بأن حادثا خطيرا وقع داخله، وبالضبط حين وقف على عتبة الباب المفتوح.
وكانت «فتحية» قد قفزت قفزتها الأولى، وأحست وهي تفعل وكأن آلافا من قطع الزجاج المكسور تستجمع نفسها، وتتشكل وتقفز، قفزة لم تفلح في رفع جسدها، إنما فقط استطاعت بالكاد رفع يدها، والإمساك برأس السرير الضيق المنخفض. ولقد أرادت بالقفزة الثانية أن تجري مغادرة الغرفة، أو تقف، أو حتى تجلس، أو بالقليل تجلب ثيابها وتغطي ما تعرى من جسدها، وهو كل ما استطاعت - دون ما أرادته جميعا - أن تفعله؛ إذ كان «حامد» قد وصل إلى العتبة، ووقف ممسكا بكالون الباب ينظر أول ما ينظر إلى الطفل الذي كان قد سكت، وانطرح أرضا، وبدا أنه نام، أو يغالبه النوم.
هو واقف ممسك بالكالون، وهي ممددة مفتوحة الساقين مبعثرة الجسد تستنجد برأس السرير ممسكة به، وهو ينظر إلى الطفل، وكأنما قد أصبح أهم شيء عنده، وهي تتجه بوجهها إلى السقف، ولكنها لا ترى إلا عيني «حامد». هو ليس في عقله، مشهد واحد لم ير منذ أن عادت إليه القدرة على الرؤية سواه، وكأنما انطبع في عقله، وأبى أن يزول، مشهد مؤخرة الأفندي العارية وعري «فتحية»، وقد اندمجا في كتلة بيضاء واحدة، وهي ليس في عقلها إلا نظرة «حامد» - أول وآخر نظرة تراها منه - لحظة اكتشاف حضوره، نظرة قد استحالت في رأسها إلى كابوس لا يرحم تكاد تصرخ من هوله مستنجدة، ولكن قوة قادرة قاهرة تخرس صرخاتها وتكتمها. كابوس ترى فيه عيني «حامد»، وقد استحالتا إلى سيخين من حديد محمي إلى درجة تطاير الشرر تقتربان بسرعة ثابتة مستمرة من عينيها الاثنتين، وحالا وحتما هما مخترقتاهما.
كل الفارق بينهما أن «حامد» - كما هي العادة دائما - مطالب أن يكون صاحب البادرة الأولى. أجل لا بد رغم كل الفجيعة والموت والرعب والطعنة والتأمل أن يعمل شيئا، ويعمله حالا، وفي التو ؛ إذ إن أي تأخر يفسده ويلغيه ويقضي عليه. وهي خلاص وصل كل شيء إلى منتهاه، ووقع المحظور الذي كانت تخشاه وطول عمرها تخشاه، ولم يبق سوى العقاب، ما أجمل أن يسرع به «حامد»! فكل إبطاء منه يهدد بأن يمضي بها التفكير، فتتأمل ما كان وما حدث! وأبشع عقاب في الدنيا أهون ألف مرة من أن تعود مرة أخرى لتفكر أو تتأمل أو تستعيد ما حدث.
كانت فكرة القتل قد دفعت نفسها من قاع عقله إلى سطحه، كبيرة الآن مكتملة لا يمكن تجاهلها. لو قتلها فأقصى ما سيناله من عقاب هو الحبس سنة، أو ربما أقل، أو يقولون براءة، فهل يقتلها الآن؟
هل يتناول عصاه التي كان يسميها «الزقلة» من تحت السرير، وينهال بها عليها حتى يتطاير مخها قطعا؟
هل يفعلها الآن؟ الآن؟ أو يستجوبها؟ أو لا يقتلها أبدا؟ السؤال رهيب مستمر دائر لا يتوقف في خواطره أبدا.
والشيء الذي كان يغيظه ويكاد يكتم أنفاسه حقا أن انفعالته المحيية المميتة الصاعقة الأولى قد مرت، وأنه الآن في لحظة أخرى، لحظة لا يرى فيها إلا المشهد الذي تسمر عنده بصره لا يريد أن يبرحه، بينما عقله يقلب فكرة القتل مغيظا؛ فقد كان القتل يبدو هنا شيئا لا يمت إلى اللحظة أو المشكلة أو الموضوع أو المشهد الدائر في عقله ولا علاقة له به، وليس الحل الهدف ولا ما يريده تماما، كيانه كله في واد آخر مشغول بما هو أهم وأخطر، والقتل يبدو شيئا خارج الصورة تماما كما لو كان يواجه خطر قطار السكة الحديد وهو قادم يريد أن يسحقه، وعقله مشغول بتقليب فكرة الدواء الذي وصفه له حكيم المستوصف، وهل الأجدى أن يأخذه قبل الأكل أو بعده؟ الآن لا يريد لها أن تموت، وهو قطعا لا يريد لها أن تحيا، وليست مشكلته أبدا أن تحيا أو تموت، أو حتى كل هذا الطوفان من الأحداث الذي داهمه منذ دفع الباب وفتحه، مشكلته الحادة الملحة في نفسه في هذا الجرح الغائر العميق الذي لا قاع له، في هذا النزف الهادر الذي انهمر داخله، ولا يزال متزايدا متعاظما يقربه في سرعة رهيبة من النهاية، نهايته؛ إذ ها هو ذا يراها تقترب اقترابا حثيثا مرعبا، حتى ليجعله يحس أنه في اللحظة التالية تماما سيموت، وينتهي «حامد» الذي يعرفه ينتهي تماما نهاية مفاجئة غادرة، تتربص له وراء اللحظة التالية، بينما عقله الهايف الغبي لا يريد أن يتزحزح قيد أنملة عن فكرة هل يقتلها أو يؤخر القتل إلى ما بعد الاعتراف؟ وهو يعلم تماما أنه غير قادر الآن على قتل بعوضة، وبعد غمضة عين لن يكون قادرا على أي شيء بالمرة؛ إذ سيكون بمثل هذه السرعة المروعة التي يمضي بها قد انتهى.
الغريب أن النهاية نفسها هي المسألة التي كانت مستولية على عقل «فتحية» تماما في هذا الوقت بالذات، ولكنها نهاية لا رعب فيها، ولا خوف متزايد من خطر ساحق ماحق يقترب في سرعة خرافية، نهاية لا تخاف منها وتقشعر وترتجف مثلما كان يحدث ل «حامد»، بالعكس! هي هنا تطلبها وتريدها وتتمناها، والمهم أن تأتي حالا، حتى تجهز عليها قبل أن يمتد الوقت ومضة أخرى، وتجد نفسها مضطرة أن تفكر، وبالذات أن تعود ترى نفس النظرة في عيني «حامد». وبمثل ما كان «حامد» يتشبث تشبث المستميت ليمسك بآخر أهداب الحياة، حتى لا تفلت منه قبل أن يستمر في مواجهة الموقف، فهي بكل إرادة الحياة فيها كانت تتمنى أن تنتهي هذه الحياة وتموت قبل أن يحدث أي شيء آخر.
نامعلوم صفحہ
إما الموت الداهم السريع، وإما أن تحدث المعجزة - أجل المعجزة - وتمحو كل ما حدث، وكأنما تمسحه ب «أستيكة»، وكأنه ما حدث، وتعود الحياة إلى مثل ما كانت عليه قبل ساعة، أو بالدقة قبل شهر، لا بل لا بد أن تعود كما كانت من خمسة أعوام مضت، بل حبذا لو عادت إلى العمر الذي بدأت فيه تعي وتهتف لها الهواتف. إنها على استعداد لأن تملأ بحر النيل دمعا، مستعدة أن تظل تبكي وتستغفر من يومنا هذا إلى يوم القيامة في مقابل ليس حتى أن يغفر لها الله، ولا أن يمحو تماما كل ما حدث، وإنما في مقابل أن يجعلها تعيش و«حامد» ليوم واحد، بل لساعة واحدة، بل للحظة واحدة، واحدة يا رب، وكأن شيئا مما حدث لم يحدث. ولكن المؤلم، المؤلم ألما لا يحتمله بشر أن شيئا مما تتمنى لن يكون، وأن السهم قد نفذ، وأن ما حدث كان وانتهى وقضى القضاء؛ فالمصيبة الكبرى أن هذا الذي كان ودار ليس غريبا عليها، فلقد شاهدته بعيني رأسها، كله، يحدث طوال الأعوام الخمسة الماضية، وبالذات طوال العام الكئيب الماضي، والفكرة تراودها وتطاردها، والهاتف يهتف بها، ونفس هذا المشهد الذي دار بنفس تفاصيله الدقيقة، صحيح لم يكن نفس الأفندي، ولكنه أفندي، وبنطلون مخلوع، ورقدة، والباب يدفع ويدخل «حامد»، كله بالضبط رأته، وكانت متأكدة تماما أنه سيحدث؛ ولهذا هي تعيش هذا كله كما تعيش الحادث المعاد، وكأنه جرى قبل هذا مرة، بل ربما جرى مرات، لم يحدث شيء واحد غريب عنها، أو عما كان في رأسها وما رأته لسنين، بل إن هذا الأفندي كان دائم التربص لها، وأيضا يترقبها في حقل مشغولياتها اليومية الكثيف. فجأة والطفل على صدرها ترضعه، والآخر فوق كتفها ينهش شعرها طلبا للطعام، والطعام على النار، ويداها مشغولتان بطهوه، وعقلها مشغول بتدبير كساء الشتاء ومطالب رمضان، فجأة يخرج لها الأفندي عاريا إلى منتصفه! باركا فجأة فوقها، حتى لتموت رعبا، وفي اللحظة التالية تماما يفتح الباب، ويقف «حامد» على عتبته، تماما مثلما وقف، ويتم كل شيء مثلما تم الآن كل شيء.
أتكون شيخة؟ أفي أعماقها التي أصبحت نجسة مدنسة ترقد قديسة مكشوف عنها الحجاب، ترى المستقبل؟
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف تم هذا كما رأته مرارا وعاشته؟
إنه لأمر فوق قدرتها على التفكير والفهم. إنه لشيء يتوه فيه العقل، وقد تاه فيه عقلها وضل، حتى تاه عن تحديد ذنبها إن كانت مذنبة؛ فقد كانت تؤكد لنفسها إذا هتف بها الهاتف، وارتسمت الصورة أنها بجماع نفسها ستقاوم وستموت حتما قبل أن يستطيع - إنسيا كان أو أفنديا - أن يلمسها. ومع أن الهاتف نفسه كان يؤكد لها أن مقاومتها لن تفلح، وأنها حتما ولا بد في النهاية سترضى وتستسلم، بحيث تقع الكارثة ويكون المقدر، إلا أنها كانت تقاوم وسوسة الهاتف نفسها وتقسم، وتموت غيظا مؤكدة لنفسها أن شيئا مما يقوله لن يكون، ليعود الهاتف يؤكد لها أنه حتما سيكون، برضاها أو بعدم رضاها سيكون، بل هو كائن وحادث فعلا، ودائم الحدوث، إن هي إلا لحظة يغيب عقلها في أدغال مطالب حياتهم ومشاكلها لتفاجأ - كمجيء يوم القيامة - بالأفندي يخرج لها عاليا لترتجف منه وترتعش ارتعاش ستنا مريم، وتقع لها الواقعة!
إنها لم تكن معتوهة أو ذات لوثة، وليس في سيرها أو سلوكها ما يخدش. إنها بنت طيبة من بنات ريفنا ذات عقل راجح، نفس العقل الذي جعلها تفضل «حامد» على «مصطفى»، مع أن «مصطفى» خفير نظامي ماهيته مضمونة، خمسة جنيهات وتسعون قرشا، ويزرع نصف فدان أيضا، وله «عجلة»، بينما «حامد» ليس «حيلته اللضى» وأكبر من «مصطفى» في العمر بخمسة أعوام على الأقل، وأسمر غامق السمرة، ولكنها تظلم عقلها أي ظلم إذا قالت إنه هو الذي اختار، فمن وراء عقلها كان دائما أصبع يشير، أصبع ضبابي غامض يكاد يهمس لها ويصر ويطالبها أن تأخذ «حامد»، وتترك «مصطفى»؛ ف «حامد» يعمل في مصر، وهي على يقين دائم أن حياتها في بلدهم محدودة، وأنها حتما بطريقة أو بأخرى سيكتب لها أن تعيش في مصر، ذلك المكان الرائع الواسع «أم الدنيا» الفخم الفاخر الذي يجلو الصدأ عن الجلد، ويحيل من يعيشون فيه إلى «سنايير». ألم تعد منها «فاطمة» بنت خالتها التي كانت تعمل «خادمة»، وهي كالخواجات بالكاد استطاعت أن تتعرف عليها وهي هابطة من القطار بالفستان والشنطة؟ فما بالك وهي لن تكون «خادمة»، وإنما زوجة وزوجة لبواب يسكن في عمارة أعلى من السماء من عشرة طوابق؟
يا لله! إن الهاتف الذي يهتف بها، ويؤكد أن مقامها سيكون في القاهرة عنده حق، فهي - كما يؤكد لها الكل - ليست مخلوقة لتنغرز من طلعة الشمس إلى مغيبها في الطين. إن جسدها الأبيض الناصع البياض مخلوق للبندر، وحلاوتها من حلاوة مصر؛ فبمقاييس القرية كانت «فتحية» حلوة، بل من أحلى البنات؛ فقد كانت بيضاء وكأنها ابنة أحد الأغنياء؛ إذ الأغنياء وحدهم هم البيض، بيضاء طويلة نحيفة هذا صحيح، ولكنها نحافة سببها الزيت والأذرة، غدا حين تأكل العيش الخاص الغلة، وتغمس بالسمن «ستسمن». مقامها لا بد في مصر، هكذا راح يؤكد لها هاتف، والغريب أنه لم يكن من خارجها، وإنما من داخل نفسها ذاتها كان يوسوس ويهتف. هناك تقيم حيث الشوارع الواسعة الحلوة النظيفة التي تنام على أسفلتها دون أن تعلق بك ذرة تراب واحدة؛ حيث النور الكثير البراق في الليل يحيل الظلام إلى نهار ساطع، بل إلى ما هو أحلى وأروع من النهار الساطع. هناك حيث الستات حلوين وكأنهن من أوروبا، والرجال حمر الوجوه أغنياء يركبون العربات، ويصرفون بالجنيه الكامل في اليوم الواحد دون أن يحسوا والنقود تغادر جيوبهم بلذعة الحسرة. هناك حيث الطعام الكثير والكباب والروائح الحلوة واللوكاندات وبحر النيل الأعظم، حيث يبدأ النيل وينبع.
هناك في تلك الجنة سيكون مقامها، هكذا كان يؤكد لها الهاتف الخفي باستمرار، ولهذا لم تعجب أبدا والأمور ترتب نفسها و«حامد» يتقدم لها وأهلها يترددون، ولكنها هي التي تتحمس وتوافق.
وبعد أسبوع واحد تسافر، وتصبح أخيرا وكما حلمت ألف مرة ومرة في قلب مصر، وفي العمارة التي طالما حاولت تصور أدوارها العشرة، صحيح أن مقامها لم يكن في دور منها، وإنما في حجرة «حامد» التي بناها له صاحب البيت على عجل تحت «السلم»، بناها بتحريض من زوجته على أمل أن يجدوا في زوجة «حامد» حين يتزوج «خادمة» تحل لهم مشكلة الخدم.
ولكن معلهش، الحجرة فسيحة رغم كل شيء، وفيها سرير بمرتبة حقيقية، ودولاب صغير، وتضاء بالكهرباء، واللمبة لها «زر» تدوس عليه هكذا، فإذا ب «تك» ويغمر النور الوهاج الحجرة.
وصحيح أن «فتحية» الحلوة في قريتهم بدت غريبة في القاهرة، وبدت لسكان العمارة كعروس من مسرح العرائس؛ فقد كانت بيضاء طويلة، هذا حقيقي، وملامحها جميلة في حد ذاتها، عيناها جميلتان وأنفها صغير جميل، لا يمكن أن يكون أنف فلاحة، وفمها دقيق بالضبط كخاتم سليمان، ولكن المشكلة أن ملامحها تلك تبدو غير مناسبة مطلقا لقامتها ولحجمها، وكأنها وجه طفلة صغيرة ورأسها قد ركبا لامرأة، أو كأن الرأس قد صغر بطريقة ما ووضع فوق جسد عادي.
نامعلوم صفحہ
ولكن المهم أن «حامد» راق مزاجه، وانقلب من «الكلب الكشر» الذي يعوي طول النهار ويصيح، إلى إنسان مرح ضاحك كالنحلة، صاعد هابط، واقف قاعد، يحيي، ويوصل، ويلبي الطلبات.
أما «فتحية» فقد قبعت في مكانها المواجه للباب من الحجرة ترقب المدخل العريض الواسع، والباب الضخم الزجاجي، باب العمارة، ترقب مصر، أو بالضبط ذلك القطاع من الشارع المواجه الذي يكون «مصر» في نظرها.
قبعت منكمشة على نفسها تتفرج وهي لا تزال أسيرة الرحلة من باب الحديد إلى العمارة التي واجهت فيها لأول مرة ذلك الحلم الذي عاشت تحلم به، ويهتف بها الهاتف من أجله، مصر! مصر التي وجدتها أروع بكثير مما تخيلت أو استطاعت بنت خالتها أن تصف، أروع وأكبر وأعظم ألف مرة، مليون مرة. أيمكن أن تكون الدنيا بهذا الازدحام، أو الشوارع بذلك العرض، أو الميادين بهذا الاتساع؟
أيستطيع الناس أن يعيشوا وسط هذا الحشد الرهيب من العربات التي تمضي بسرعة البرق، بحيث تلهفك إحداها حتما إذا سهوت وتلفت خلفك مرة؟ والدكاكين، والمحلات، والصور، والنور، النور ذو الألوان السبعة الذي ينطفئ ويولع بالكهرباء وعلى «الواحدة» كالمزيكة، والهيصة، والدوشة، والمولد. لقد خيل إليها حين أفلح «حامد» بعد جهاد أن يجرها إلى وسط ميدان باب الحديد، وهي مروعة مذهولة تكاد تجن، أنه لا بد في مصر عيد أو مولد أو شيء آخر لا تعرفه يزدحم له الناس كل هذا الازدحام، وتصدر عنه كل هذه الضجة الهائلة التي ترتجف لها الأذن، فقال لها «حامد» وهو يضحك ضحكة العارف العالم: «إنها حال كل يوم.» فيا لها من مدينة تلك التي يحيا الناس فيها كل يوم في مولد وعيد!
ولكنها في منكمشها خلف باب الحجرة الموارب، وهي ترى من بعيد هذه المرة وتتأمل، بدأت ترى في مصر، تلك التي تلخصت في قطاع الشارع المقابل، أشياء لم تتصور مطلقا أن تجدها في المدينة الحلم. رأت فقراء، فقراء تماما وجوعى وشحاذين، حتى في قريتهم نفسها لا يوجد الفقر فيها على هذه الدرجة من البشاعة، وفيها كذب أيضا وشتيمة وقلة أدب وحرامية ونشالون، حرامية هم السبب في وجود أمثال زوجها الذي يحدثها عنهم وعن حوادث السرقات المجاورة والبعيدة. وستات مصر اللاتي تصورتهن أول ما رأتهن خواجات سنايير، فيهن قبيحات كثيرات، بل معظمهن قبيحات لولا الأحمر والأبيض والطلاء الذي يطلين به وجوههن، فتحمر كالأحذية اللامعة، وتترك صاحباتها أشد قبحا، سيدات بدأت «فتحية» من كثرتهن تحس بنوع من الرضا عن نفسها، تلك التي اعتقدت أول الأمر أنها لن تصلح في سوق النساء في مصر إلا خادمة لأقل سيدة من سيداتها. ووصل الغرور إلى درجة الاعتقاد أنها لو لبست مثلهن لأصبحت محط أنظار الناس جميعا، ولاعتبروها مثلما كانوا يرونها في البلدة ملكة من ملكات الجمال، حتى «حامد» نفسه وعمله ذلك الذي لم تفهمه تماما حين قالوه لها، إنها تصورته شيئا كخفير نظامي للبوابة عليه حراستها في الليل، له نفس احترام وهيبة الخفير ذي البندقية في بلدهم. ها هي تراه شيئا أقرب ما يكون إلى الخدام، ينحني لهذا، ويسرع في تلبية طلبات الست «أم فلان»، ويشخط فيه صاحب البيت ويؤنبه ويشتمه بألفاظ غريبة لعلها ألفاظ الشتيمة في مصر، ألفاظ لم تعرف لها «فتحية» مطلقا أي معنى مثل يا «أحمق» أنت «مياس»! حتى موقفه يوم ألح صاحب البيت عليه أن يجعلها تعمل عندهم، ورفض هو بإباء وشمم مقسما أنه لو حكمت ألا يعمل عندهم أو عند غيرهم، لم تستطع أن تهضم ذلك الموقف وهي ترى الحال البائس وترتيبهم في «سلم» الناس في العمارة أو خارجها لا يسمح بهذه «العنجهية» التي لا يقفها إلا إنسان على الأقل في جيبه خمسة جنيهات؛ تلك فرصة لأكل العيش ولهدمة كستور تلبسها في الشتاء، ولأكلة حلوة نظيفة من المحتمل جدا أن ينالوها بين الحين والحين، ولكن «حامد» يرفض ويركب رأسه، وحين تفتح فمها لتناقشه يصرخ فيها وكأنه صاحب البيت وهي ساكنة الدور الثامن عنده.
والحقيقة أنها في رغبتها للعمل كان أكل العيش حجة، كانت في الواقع تريد أن «تتعرف» على أهل مصر أكثر، وأن تدخل بيتا من بيوتهم، وتحادث ناسا منهم؛ إذ هي في حبستها في الحجرة هكذا لن تمكنها طبيعتها الخجول المنطوية أن تفعل شيئا من هذا، بل لا تملك إزاء نظرات سكان العمارة التي تمتد عابرة المدخل مقتحمة الباب، رامقة إياها أنى تكون، مستطلعة شكلها وجلستها وزيها باسمة أو مغمغمة أو ساخرة، لا تملك إلا أن تزداد انغلاقا وانكماشا وتزداد القيود حولها أحكم، قيود من صنعها، فليس سكان العمارة فقط، ولكن المدينة من حولها حافلة متحركة مائجة، كل شيء فيها يجري ويختلط مكهربا ويكهرب. وهي إلى درجة ما، وزوجها «حامد» لم يكن باستطاعتهما ليس فقط أن يتركا أنفسهما للمدينة وحركتها تفعل بهما ما تفعل بالآخرين، وإنما هذه الحركة الهائجة المائجة نفسها لا تفعل أكثر من أن تخيفهما وتروعهما وتدفعهما للانكماش أكثر، أو بالأصح تدفعها هي؛ «فحامد» - وبالتحديد منذ أن تزوجها وجاءت - استطاع وبطول العهد أيضا أن يتحرر بعض الشيء، ويتحرك ويذهب إلى السيدة زينب ويجوب شبرا مصر، ويعرف أن تغير إذا كنت ذاهبا إلى الحسين، وليست حركة فقط، إنما فهم أيضا ودردحة، فقد بدا ل «فتحية» وكأنه أصبح إنسانا آخر غير «حامد» الأسمر شاب بلدتهم الصامت الخجول، الذي يدير وجهه إلى الناحية الأخرى إذا قابل موكب حاملات الجرار في الصباح، الآن باستطاعته أن يهزر مع عمال الجراج، ويضحك، ويجمع إيجار العمارة كلها ويحسبه بالمليم، بل وأصبح له أصدقاء من أهل مصر نفسها ومن غير بلدياته وأقاربه. هي وحدها الباقية أسيرة الحجرة، أسيرة حتى ذلك الشرخ المحدود الذي ترى عالم مصر منه، شاعرة أنه ليس عالما أو مدينة، إنما هو بحر لا بر له ولا قرار، تسير هي على حافته إن سهت مرة، وزلت قدمها فقل عليها السلام، والمخيف أنه بحر ليس هادئا أو ساكنا أو يأخذ منها نفس موقفها منه، إنما هو بحر جبار صفيق تمتد منه آلاف الأيدي، وتطل منه آلاف الابتسامات كابتسامات الجنيات والنداهات، خادعة تدعوها وتسهل لها خوض الماء، أجل! كلها أيد ماكرة وابتسامات خبيثة، حتى نداء ذلك الساكن الملهوف والنقود في يده والبقال قريب، يد تمتد من البحر تجعل شلل الخوف يجمدها في مكانها لا تتحرك، يد تمتد في مكانها تنكمش أكثر وتزداد انكماشا، وكأنها ما رأت أو سمعت، ملتفتة إلى الناحية الأخرى، أو مخفية رأسها هربا تتمنى أن تحدث معجزة، وتنقذها من الموقف، بينما الساكن حين ييأس يصوب لها نظرة لا تراها، إنما تحسها رصاصة تخترق رأسها، كثيرا ما يتبع نظرته بغمغمة لا تخطئ أذنها فهم ما بها من سباب.
ولكن خجولا فلتكن، منغلقة منكمشة، فلتنكمش ولتنغلق، فللحياة قوانينها التي لا مناص منها ولا مهرب. وهكذا مع الحمل الأول كانت «فتحية» قد غادرت الحجرة، واتسع عالمها فاحتوى المدخل، ومع الطفل الثاني الذي أعقب الأول بأشهر كان قد اتسع حتى شمل الرصيف الملاصق، بل والمواجه، والشارع إلى ناحيته من هنا، وإلى الميدان الذي يؤدي إليه من هناك، والآن أصبحت «فتحية» ترد، بل وأحيانا تثير النقاش، وتلبي الطلبات، وتستطيع أن تفرق بين عربة المدارس القادمة تحمل ابن الدكتور، من العربة القادمة تحمل ابن الموظف في الإذاعة، وكل قصص السكان عرفتها من «حامد» ومن غيره، بل وبلغ بها الأمر أنها أصبحت هي مصدر «حامد» في معرفته لأخبار السكان وأحوالهم، وزائر منتصف الليل الذي يطرق شقة البك الموظف في الطيران، بالذات في الليالي التي يكون فيها «نوبتجيا» في المطار، بل ولم تكن هذه آخر ما بدأت «فتحية» تعرفه عن مصر السفلى وأحوالها وأخبارها، بحيث أصبحت تدرك أن تحت مصر الوجيهة الغنية المؤدبة الوقور، هناك مصر أخرى مليئة بالفضائح والمخازي والأشياء التي لا يعرفها إلا البواب، أو من هو أدهى في هذه الأمور وأمر، زوجة البواب خاصة إذا كانت رغم صغر عينيها ترى كثيرا، وبالذات في الليل، ورغم دقة رأسها تستطيع أن تعرف الفرق بين أخت الزوج الذي تصيف زوجته بأولادها في الإسكندرية، بينما هو يا عيني غرقان في الشغل في مصر، وبين إخوته الحقيقيين الذين يزورون الأسرة طول العام.
والغريب أنها كلها أشياء لم تفسد الحلم في عقل «فتحية» تماما، صحيح نالت منه كثيرا، ولكنها أبدا لم تضيعه، بقيت مصر العظيمة هي مصر العظيمة في نظرها والشر في كل مكان؛ هكذا كانت دائمة الرد على «حامد» حين يجيئها بين كل حين وحين لاعنا مصر وأبو مصر وأهل مصر، الذين فعل أحدهم به كذا أو كيت.
وإذا كان الشر والوحل والقبح في القاع، فالنجاة في العوم.
وهكذا تعلمت «فتحية» أن تفعل مثلما يفعل آلاف وملايين الناس الذين تحفل بهم مصر الكبيرة، ويكونون حركاتها الجبارة الهائلة، وتعوم مثلما يعومون. كل ما كان ينغص عليها حياتها أحيانا هي تلك الانتفاضات التي كانت تفاجئها على هيئة كمين، يخرج لها منه من بين مشاغلها التي أصبحت كثيرة وكثيفة ذلك الأفندي العاري كاليد المهولة الممتدة، مهددة أن تجذبها إلى القاع مباشرة، حيث الوحل والقبح والطين. خرج لها ذلك الهاتف اللعين الذي طالما أكد لها وصدق أن ستكون القاهرة مآلها، ليؤكد لها أنها واقعة في المحظور مع الأفندي لا محالة ومهما فعلت، مسألة تترك «فتحية»، وهي تكاد تنفجر بالغيظ والضيق والاستنكار والتصميم أيضا، تصميم قاطع مانع أن أبدا لن يكون حتى لو دفعت حياتها ثمنا، فأبدا لن يكون، وبيننا الأيام يا مصر. •••
نامعلوم صفحہ
وفي مدينة كبيرة كهذه مليئة بالذئاب، ذئاب الليل وذئاب النهار، ذئاب الأوتوبيسات وذئاب العربات، وحتى الأرصفة وطوابير الجمعيات الاستهلاكية لها ذئاب، وفي عمارة كبيرة كهذه لا يمكن أن يسلم الأمر من وجود ذئب.
والحقيقة أنه كان فيها أكثر من ذئب من العبث التصدي لهم جميعا، فيكفينا ذلك الشاب الأبيض الحليوة قاطن الشقة الوحيدة بالدور الأرضي، أخف سكان العمارة دما، وأكثرهم حيوية وتواضعا، كما أنه خدوم شهم يجيد احترام الآخرين ورفع الكلفة معهم، وكل هذا طبعا لا يعني أنه ليس بذئب؛ فالحقيقة أن هذا السطح البراق الخاطف للبصر كان يخفي ليس ذئبا فقط، إنما يخفي ضبعا شريرا لا ذمة له ولا ضمير؛ فهو مجنون بالنساء جميعا، وفي سبيل أن يظفر بالواحدة منهن مستعد أن يفعل المستحيل، مستعد أن يكذب أو ينافق أو يسرق أو يقتل أو يستعمل القنبلة الذرية لو كان يملك واحدة، والمرأة عنده ليلة واحدة يقضيها معها، وبعد هذا يبحث عن الثانية، وكأنه أخذ نساء الأرض جميعا مقاولة، وعليه أن ينتهي منهن قبل أن يفرغ عمره، وعمره الآن خمسة وثلاثون عاما، وسمعته كالذهب، أو عبقريته أنه استطاع أن يخفي حياته الأخرى هذه عن المجتمع الذي يحيا فيه، بحيث يمشي مع الشرفاء مرفوع الرأس لا يعرف ما بداخله سوى ضحاياه، وحتى ضحاياه كثيرا ما غفرن له، بل وبعضهن أحبه وتعلق به وذاق من العذاب أهوالا. بالطبع كان قد انتهى من كل من رقن في عينيه من سكان العمارة، وبالضبط وهو عائد ذات يوم من عمله، وبعدما حياه «حامد» بطريقة البوابين التي كان قد أتقنها، والتي كان يستطيع بها أن يوهمك أنه وقف بينما هو في الحقيقة لم يغادر مجلسه، و«فتحية» أمام باب الحجرة جالسة قد احتوت رضيعها تمنحه ثديها الأبيض الناصع الشديد البياض الضامر أيضا، الضامر إلى درجة لم يكن يملك معها الإنسان إذا رآه إلا أن يرثي لصاحبته!
ولكن أفندينا - الساكن - لم يرث؛ ألقى عليها نظرة، ثم بالتفاتة مقصودة أو غير مقصودة ألقى نظرة أخرى على «حامد» الذي عاد يمد ساقه النحيلة فوق الساق الأخرى، بحيث يمكنه أن يمد ذراعه، ويسند إليه يده، ويداعب مسبحة رخيصة ناقصة الحبات، بينما وجهه الأسمر الحافل بحفر تشهد أن الجديري قد زار طفولته، وجهه ذاك قد عادت تحتله ابتسامة طيبة مليئة بسعادة ساذجة البراءة، وبدا كما لو كان يعود لينهى - بحماس فاتر - ابنه الأكبر عن تخطيط رخام المدخل بقطعة طباشير عثر عليها، وكان سعيدا بابنه وشقاوة الذكورة فيه سعادة تجعل لسانه ينتقل في نشوة من تأنيب ابنه ونهره إلى مداعبة «فتحية» ومطالبتها بابن ثالث عله يطلع هادئا وديعا كأمه.
استوعب الأفندي الساكن هذا كله في الزمن القليل الذي استغرقه ليصل إلى باب شقته، ويضع مفتاحه في قفلها، وفي ومضة كان عقله المركب بطريقة لا بد غريبة بالغة التعقيد، فمشهد كهذا كان يمكن أن يهز بعضهم رأسه لرؤيته، أو يبتسم في رثاء مثلا، أو حتى إذا كان شريرا، فأقصى ما يفعله أن يسخر بينه وبين نفسه من هذه العائلة الطيبة المسكينة السعيدة. أما هو فقد كان موقفه أن اتخذ في الحال قرارا لا رجعة فيه، أن يلتهم «فتحية»، ويضمها إلى قائمة الضحايا. هو ليس إذن ذئبا عاديا، إنه ضبع، أشد ما يجذبه إلى الضحية هو بالضبط نفس الأسباب التي تدفع غيره من الذئاب لأن يبتعد. إن أسعد مغامراته تلك التي انقض فيها على أرملة في نفس ليلة وفاة زوجها العجوز، أو تلك التي بدأ بها تاريخه حين ضاجع أم زميله الذي كان يذاكر معه. أما تلك الخائفة المنكمشة على نفسها، التي ما خاطبها مرة إلا واستدارت بعيدا مبتعدة أو هاربة، ذات الثدي الأبيض الضامر وزوجة الأسمر الطويل الفلاح «حامد»، فلا علاج لانكماشها على نفسها وخوفها منه ومن مصر والمصاروة، إلا بأن يأتيها عساها تكف عن الانكماش، وتأنس إلى ناس المدينة.
وعبقريته، ولكل عبقريته الخاصة، أنه ما إن يتخذ قرارا كهذا، حتى يبدأ عقله يتفتق عن أفكار جهنمية، وعن طرق ووسائل لا يمكن أن تخطر على عقل بشر؛ فهو خامل كسول ممتعض الابتسامة إلى أن يحدث وتقع عينه على الواحدة منهن ويقر قراره، في الثانية التالية تجده قد استحال إنسانا آخر دبت فيه طاقات الحياة، وتفجرت في عقله الأفكار والخطط، وأقبل على الحياة بشهية مفتوحة، وأصبح كائنا آخر لا تكاد تعرفه.
وقبل أن يدير المفتاح كانت يده قد خبطت جبهته علامة الألم للنسيان، وكانت المحفظة قد أخرجت وخمسة جنيهات قد فردت أمام عيني «حامد»، وعلبة سجاير كليوباترا يا «حامد» نسيت شراءها، هاتها أنت من تحت الأرض بأي ثمن ولو بثلاثين قرشا، والورقة بخمسة جنيهات معك، لا تعد إلا بها يا «حامد»، حتى لو ذهبت إلى شبرا البلد.
يا لمكره وهو يفتح ل «حامد» باب الاختلاس المحدود على مصراعيه! الاختلاس المغري بالغياب وادعاء التعب. ويا لطيبة «حامد» وهو يبتلع «الطعم» في الحال! ويقرر حتى قبل أن يبرح مكانه أن ثلاثة قروش على الأقل ستدخل جيبه من هذه الصفقة، وعليه أن يبرهن أنه استحقها. أما أنت يا ست منكمشة - فبعدما تأكد من ذهاب «حامد» ها هو ذا يعود فاتحا باب شقته الذي لا يبعد عن باب حجرة «السلم» إلا بضع خطوات: مش تشرفينا؟ «فتحية» فعلا وأنت «فتحية»، وابنك الرضيع هذا؟ «سلطان؟» عاشت الأسامي، والثاني «عنتر؟» ياه! عيلة أبطال صحيح، والثالث؟ ما فيش ثالث؟
من هنا نبدأ، ونبدأ بلو كنت من «حامد» لكان الثالث على الأبواب، وعلى هذا الباب الأخير مضى الولد القاهري «المرقع» يدق دقا اكتشف أن «فتحية» بالكاد تعيه. أغباء هذا أم استغباء؟ على أي الحالين عليه أن يغير الأسلوب. المال؟ إن هذا النوع لا يقدر قيمة المال، فلا يعرف قيمة المال إلا من يعرف كيف يصرفه، إلا المتعامل بالمال. الحب؟ إن هذا الصنف أيضا لا يتطلع إلى الحب، أو بالذات حبه، هم لا يرفعون عيونهم أبدا إلى ما فوق الحواجب، ولا يتطلعون إلا لحب من في طبقتهم، أو ربما إذا تطلعوا فإلى الأعلى منها بقليل، أما هو البيه الوسيم الذي يعامل الخمسة جنيهات بهذا الاستهتار فمحال. من أين «أكلك» إذن يا «بطتي» النحيفة المعضمة؟ بخطة بعيدة المدى لا بد، خطة تجعل هذه الخائفة المنزعجة المذعورة تطمئن إليه أولا، وتكف عن الخوف منه، ثم يتقدم خطوة ويرفع الكلفة معها، ثم ينتهز الفرصة أو يخلقها خلقا، ويحاصرها حصارا لا تملك معه إلا السقوط.
وما كاد يبدأ التطبيق حتى أدرك أنه رغم كل ذكائه وفهلوته قد خانته فراسته هذه المرة؛ فهو ما كاد يبدأ الخطوة الأولى لتطمينها بالحديث معها، حتى أدرك أنه ليس أمام إنسانة، وإنما هو أمام حيوان كحيوان القواقع، ما تكاد تحس باقتراب صوت أو خيال، حتى تنكمش وتنكمش، حتى لتستحيل إلى كتلة صماء من اللحم والعظم غير قادرة على الإرسال أو الاستقبال. إنه للآن لم يرها رأي العين، إن هي إلا مرة رأى فيها وجهها، وما كادت تدرك أنه يراها، حتى كان وجهها قد اختفى، واختفى وهي أمامه لم تبرح مكانها ووسامته من أقوى أسلحته، وقد كان يريد لها أن تراه، كان متأكدا أنها إذا رأته مرة، وتطلعت إليه مليا، فإن شيئا ما سيحدث لها، تماما مثلما كان يحدث للعشرات اللاتي سبقنها، ولكن كيف تراه وهو كلما هم بالتحدث معها أحس أن شيئا في داخلها يمنعها أن تسمع، وإذا سمعت يمنعها أن تعي، وإذا وعت يمنعها أن ترد أو تجيب، أو حتى تتطلع لتعرف من الذي يتحدث؟
وقد كان من الممكن أن يحدث هذا ل «فتحية» في أول مقامها بالعمارة، أما بعد أن خرجت وجابت الشارع، وأصبحت تتعامل مع السكان وغير السكان، فهو موقف إذن من الأفندي وحده. «فتحية» في الحقيقة لم تكن تفعل معه هذا اعتباطا؛ فهي ليست غبية ولا فقدت الحذر، وحين تلا حديثهما العابر البريء الأول بحديث أحست به مصطنعا مفتعلا استيقظت فيها فجأة كل مخاوفها القديمة تجاه مصر والبحر والأيدي الممتدة، وملأها الرعب من ذلك الأفندي الذي كثيرا ما هتف به الهاتف، صحيح أن الهاتف لم يحدد شكل الأفندي، ولكنه أفندي تحس أنه عن عمد يتقرب إليها. أليس هذا كافيا لكي يجعلها تحس أنها أصبحت بين أنياب الخطر، وإن هي إلا كلمة تفلت منها أو لين تظهره تجاهه، حتى تنتهي هي وينتهي كل شيء. لقد أصبحت من فرط حذرها بالكاد تنام الليل، ووجود «حامد» نفسه لا يطمئنها، والباب الذي تغلقه وتتأكد أكثر من مرة أنه مغلق لا يفلح في كبت مخاوفها؛ فمصيبتها الكبرى أن الهاتف يؤكد لها أن ما يوسوس لها به سيقع، برضاها سيقع، برغم رضاها سيقع. إنها تكاد تجن، فلتجن أو فلتمت أو ليحدث أي شيء، ولكنها ستقاوم، ولن تسمح لصلة أو حتى كلمة أن تكون بينها وبين ذلك الأفندي، ولتدر المعركة في داخلها في صمت رهيب لا يعلم بها مخلوق، ولا تستطيع أن تبوح بها لمخلوق.
نامعلوم صفحہ
وبالوسع تصور مقدار الفجيعة التي أصابت ذئبنا الضبع وهو يرى جهوده ووسامته وذكاءه تذهب سدى أمام جبروت هذه الفلاحة البيضاء، وانطوائها على نفسها وإغلاق ذاتها دونه، حتى لقد استحالت المسألة عنده من مغامرة كان يعتقد أنها بسيطة عابرة إلى خوف من الهزيمة، واهتزاز كامل بالثقة بنفسه، حتى أصبح عليه لا أن يخوض مغامرة، وإنما أن يثبت لنفسه أنه لا يزال ذلك القادر الذي ما استعصت امرأة عليه قط، ولا فشل مرة.
الأيام تمضي بسرعة مذهلة، حتى لقد مضى على قراره شهران، وهو لا يزال قرارا لم ينجح لخطوة صغيرة واحدة في طريق تنفيذه. وتفكيره في المغامرة، وفي «فتحية» دائب صباح مساء، حتى أصبح هذا الموضوع أهم ما يشغله في حياته، بل لم يعد في حياته سواه. أحيانا كان يفيق لنفسه، ويستنكر أن تكون هذه حاله، وأن يكون هو نفسه الذي جاب مملكة النساء بسمائها وأرضها ونجومها، وجربهن جميعا من الأميرات إلى الغسالات، بل والسائلات، هو نفسه الذي يهب كل ذلك الوقت والمجهود والتفكير لامرأة ك «فتحية»! إن هناك خطأ في الموضوع لا يعرف سره، ومن المحال أن يفشل، حتى لو كلفته هذه المغامرة عمره. وأحيانا يفيق ليواجه سؤالا لم يوجهه لنفسه أبدا: أيكون قد أحب «فتحية»؟ إذا قيس الحب بمقدار الكم من الوقت الذي يقضيه المرء يفكر في حبيبه، فهو إذن ليس في حالة حب فقط، ولكن في حالة حب عظيم نادر؛ فلم يحدث من قبل أن تفرغ إنسان للتفكير في إنسانة كما يفعل هو مع «فتحية»، بل وها هو ذا حين يجد صدها له كاملا حاسما نهائيا، وليس ابن يومه فقط أو لحظته، وإنما من الواضح أنه سيظل هكذا إلى الأبد، حين أدرك هذا ويئس تماما من كل محاولاته أصبح كل همه وأمله ألا يحادثها أو تحادثه، ولا حتى أن يحلم أن يوقعها، وإنما أن يراها، مجرد أن يراها. وحتى هذا الطلب البسيط الشديد التواضع أصبح عسيرا هو الآخر صعب المنال؛ فلقد تزايد خوف «فتحية» وتزايد بالتالي حذرها إلى الدرجة التي أصبحت نادرا ما تغادر فيها الغرفة، حتى إذا غادرتها مضطرة، فلتعود إليها مسرعة لهفى، وكأنما في أثرها سرب من التماسيح. وأصبح على ساكننا لكي يراها أن يلجأ للصدف وحدها تدبر له الأمر، ولكي يزيد احتمالات الصدف كان عليه أن يمضي أطول وقت في المدخل أو في باب العمارة أو قريبا من باب شقته، وأن يفعل هذا و«حامد» موجود مسألة لا بد تدعو للشك؛ ولهذا كان عليه أن يرسله في مشاوير، ولكيلا يفعل هذا بكثرة تثير ريبته، وبحجج دائما وجيهة ومعقولة، كان عليه ألا يرسله كثيرا؛ وبالتالي يقلل من احتمال وجوده قريبا من باب حجرتهم، مشكلة عويصة كانت تستنفد من وقته وجهده الأيام الطوال لكي يتمكن فقط من أن يراها، وحتى لم يكن يراها، كان فقط يلمحها، يلمح شيئا يرتدي الجلباب الأسود الذي عادت إليه صاحبته تتحصن فيه، بعد أن كانت قد خلعته ولبست مثل أهل مصر، الملون والمشجر. •••
وفي ظهر ذلك اليوم من أيام الصيف في وقت القيلولة تماما، وقد انتظر أسبوعا بأكمله ليتمكن من إرسال «حامد» إلى مشوار في شبرا، كان الحب والوجد والقلق قد استبد به إلى درجة لم يعد يحتمل فيها الأمر لثانية أخرى. كان قد انتهى تماما وأصبح مستعدا لأي شيء من أجل أن يظفر ولو بكلمة واحدة منها، مستعدا أن يبوح لها بحبه، وأن يعرض عليها الزواج، وأن يتزوجها في الحال، وأن يقتلها إذا رفضت، وأن يقتل «حامد» إذا تعرض له، كان قد بلغ مرحلة اليأس الكامل المطبق، ولم يعد أمامه إلا أن يقتحم عليها الحجرة وليكن ما يكون.
ولقد فعل.
ولأن الطفل الكبير كان قد فتح الباب الذي أغلقته أمه، وخرج إلى الحارة الجانبية ليلعب، فما كاد يدفع الباب حتى انفتح، وحتى وجد نفسه وجها لوجه أمامها، وكانت واقفة تحمل الرضيع بجوار رأس السرير، وبرغم كل ما كانت تحفل به نفسه من هموم وقرارات ومشاغل، برغم الكلام الذي كان قد جهزه ليحاصرها ويمطرها به، فإن كل شيء ما لبث أن تبخر من عقله تماما، لا لمرآها، وإنما لما حدث لها لحظة رؤيته؛ فالأشباح نفسها إذا ظهرت لها ما كان يمكن أن تحدث نفس الأثر، لا حتى ولا الموت نفسه لو رأته مجسدا! لكأنما رأت شيئا أعتى من الشيطان والموت والأشباح، وكل شرور الدنيا. لقد كانت مطمئنة اطمئنانا كاملا إلى كل الإجراءات التي اتخذتها لتصبح في مأمن منه. كانت شيئا فشيئا قد بدأت تثق أنها انتصرت على الهاتف والقدر والمكتوب، واثقة أنه قد أصبح مستحيلا على الواقعة أن تقع ما دامت قد أحاطت نفسها بسياج الاحتياطات تلك، حتى أصبح مستحيلا على ذلك الأفندي مجرد رؤيتها. أما أن تلتفت فجأة لتجده أمامها وجها لوجه، في حجرة خالية، بينما «حامد» بعيدا جدا في شبرا البلد. أما أن تحس أن قدمها قد زلت بغتة من مكانها الحصين المرتفع، وأنها في طريقها إلى أن تهوي إلى سابع أرض، إلى القاع. أما أن تدرك أن إرادة الهاتف انتصرت على إرادتها، وأن الأفندي ها هو، كأنه القدر، كأنه المقدر، كأنه النداهة من دم ولحم ووجود، فهي الصاعقة التي انقضت على عقلها فصعقته. لا، لم تكن إنسانة مرعوبة تلك الواقفة، إنما هي إنسانة مصعوقة، مشلولة، منتهية، في ومضة واحدة انتقل لونها من البياض إلى الصفرة الرمادية الكاملة، صفرة الموت الرمادية، ومن إنسانة ترى وتسمع وتشعر إلى إنسانة أصابها الصمم، وتوقف اللسان في حلقها وتضخم حتى كاد يملؤه. صاعقة بترت تماما صلتها بالحياة، كأنها الصاعقة التي انقضت على «حامد» حين رآها، والموت الذي تلا كان كالموت الذي داهمه، وبتلقائية غريزة البقاء وحدها مدت يدا قد بدأت ترتعش ارتعاشا ظاهرا يرعب مشاهده، تمسك برأس السرير تتشبث بها، بينما الطفل من فوق صدرها ينزلق، وبالغريزة وحدها تحميه بيدها من السقوط المفاجئ، فيصل إلى الأرض سالما قد بدأ يبكي وينتحب. وما كاد هذا يحدث وتطمئن الأمومة، حتى لم يعد للحياة نفسها أو التماسك قيمة، فبدأ الجسد يتمايل ويدوخ، وينزلق مهددا بالسقوط، بل سقط سقطة لم تتم؛ إذ في الحال وبجهد خارق كان ذئبنا الضبع هناك يتلقاها بيديه الاثنتين، وقد فغر فاه بالدهشة؛ فآخر ما كان يتصوره أن يحدث هذا، وأن تسقط الثمرة من تلقاء نفسها بين يديه دون مشقة أو تعب، دون كلمة، دون حتى حركة واحدة أقدم عليها أو جهد ولو ضئيلا بذله. لقد جاء وفي نيته أن يحارب معركته الأخيرة بكل قواه، واستعد ليواجه ليس فقط «فتحية» أو «حامد»، وإنما العالم كله، استعد لأي شيء، للفضيحة أو القبض أو القتل، جاء وهو يائس تماما أن يظفر منها بشيء؛ فالتي تضن عليه بمجرد أن يلمسها أو يراها، هل من المعقول أن تنيله مهما فعل شيئا أكثر من هذا؟ أكثر من أن تتاح له فرصة أن يراها، مجرد أن يراها، ولو كان ثمنها فضيحته أو مصرعه، فإذا بها بين يديه طرية كالخرقة، مستسلمة تماما، متاحا له منها كل ما يمكن أن يحلم به، إذا بها أقرب ما تكون إلى جثة، جثة لم تفعل أكثر من أنها أيقظت فيه ذلك الضبع القديم الذي يسيل لعابه لمرأى الجثث. الضبع الذي كان قد اختفى في أعماق شخص بلغ به الحب والوجد والشوق إلى «فتحية»، مستوى رفعه إلى مرتبة المحبين الكبار، محب مدله جرب السهد والسهر والغيرة والشك والعذاب، العذاب الذي نال منه وأوهن جسده، حتى رق ودق وارتقى بمشاعره، حتى أصبح يحس ويفكر ويتصرف كشاعر! فجأة نفض الضبع الكامن الذي يكاد يختبئ ويموت تحت ما ترسب فوقه من مشاعر وطبقات، نفض عن نفسه هذا كله، وانتصب تلمع عيناه ببريق الفوز، ويرتجف جسده ترقبا لمائدة المتعة الأكيدة المرتقبة، لا يفصله عنها إلا لحظة زمن يريد بكل ما يملك من شر وجشع أن يختصره حتى ليلغيه تماما، ويبدأ يلتهمها ويتلمظ.
وهكذا، ومنتهزا فرصة الغيبوبة الكاملة العابرة كان قد أرقدها على الأرض، ودفع الطفل بغل فأبعده، وأطلق الطفل صراخه مذعورا عاليا لا يأبه له، بل إنه ليضيف كثيرا من البهار إلى المائدة الجثة. وبيد حديدية مدربة طوقها، وبيد مرتعشة بالرغبة مبهورة بالانتصار الساحق السريع تكاد لا تصدق نفسها أو ما يحدث، دفع بنطلونه دفعة واحدة تعرى على أثرها تماما، وبنفس اليد مزق ملابسها وهو يحس بالصوت الصادر عن التمزيق بنشوة دونها أي نشوة أخرى على وجه الأرض، وحتى لو كانت في طريقها إلى الموت على أثر نزيف مثلا أو سكتة لكانت من غيبوبة الموت الحقيقي قد استيقظت، فللغريزة الحارسة للغريزة سلطان على الجسد أقوى من أي سلطان آخر.
وهكذا ما كاد يحاول أن يصل بانفعاله إلى آخر مدى، حتى كانت وكأنما مسها تيار مكهرب موقظ قد صحت، ومع أن الصحوة كانت صحوة عقل وإدراك إلا أنها بجماع ما تملك من طاقة وقدرة، بآخر رمق، بذلك الكم الضئيل من القوة التي يدخرها الجسد ليقول بها آخر «لا» في حياته، قاومت. تململ جسدها يقاوم مقاومة لم تفعل أكثر من أنها استدعت إلى الوجود كل قوى الذئب الضبع الكامن وحشدها في ساقيه وذراعيه، حتى التفت حولها كقيود من فولاذ لا يرحم، وبآخر ما تملك أيضا تململت، وبكل ما يملك أطبق. وكان ممكنا أن تصرخ تستنجد بالناس أن يقاوموا لها، ولكنها رفضت وأبت؛ فالمعركة معركتها وحدها، ولن يفعل إدخال الناس أكثر من فضحها؛ إذ السهم الآن نافذ فعلا، والمكتوب قد حدث، وقد يمنع الناس استمرار حدوثه، ولكنهم أيضا سيكونون شهود حدوثه، وتلك هي الكارثة التي تواجه الموت أو السقوط الخاص الذي لا يعرفه أحد، ولا تواجهها.
وحين فتحت عينيها - وقد ذهب الرعب وحل الغضب - تريد التفرس في قاهرها، واتسعت عيناها دهشة وحقدا وخوفا؛ فعلى بعد قراريط من وجهها كانت ترى وجهه لأول مرة وتتفرس فيه؛ فهي أبدا لم تر وجها مثل وجهه حليقا ناعما أحمر وسيما، وعيناه خضراوان لهما رموش طويلة، ورائحة حلوة، وأسنان بيضاء مرصوصة بدقة، وفمه حلو يتمنى أي فم أنثى أن يقبله، وابتسامة كبيرة، ابتسامة فوز وفرح تحتل الوجه كله، وتظهر له غمازتين عميقتين على جانبي الوجه وطابع حسن، ابتسامة داعية ناعمة كأنها واحدة من آلاف الابتسامات التي كثيرا ما حلمت بها هي والأيدي الممدودة تدعوها في لطف وإصرار إلى ترك بر الأمان والغوص إلى القاع، حيث الأشباح والطين، ابتسامة ما إن رأتها حتى بدأت تتململ مقاومة من جديد إذ أحست وكأنها ابتسامة القاع نفسه، يدعوها وبخبث ونعومة ودهاء يريد التغرير بها، مقاومة لم تفعل أكثر من أنها مكنته تماما منها، حتى أصبح كل جزء فيها ملتصقا وملتحما بكل جزء فيه. لقد ظلت تخاف من العفريت، حتى طلع لها، ومن وسوسة الهاتف حتى تحققت. ظلت تصمم وتصر وتحتاط حتى نفذ السهم، ووقع المحظور وانتهى كل شيء، والخوف المستمر الدائم والهاتف والحلم والحقيقة كلها قد التقت الآن في لحظة واحدة، لحظة غريبة مفعمة مليئة محشودة بآلاف اللحظات والخلجات، لحظة أخطر ما فيها أنها تدرك أنه لم تعد هناك فائدة، حتى الرعب والخوف أصبح لا فائدة منهما، والمقاومة لم يعد لها داع بالمرة؛ فالسهم نفذ.
ولم يعد أمامها إلا أن ترجوه وتستعطفه، لم يعد أمامها إلا وسيلة العاجز، أن تبكي، ولقد بكت، وأن تتذلل، وأنا في عرضك، أنا صاحبة عيال، جموع وكلمات لم تكن تفعل إلا أن تضيف إلى الأكلة كل ما يتمنى الضبع العجوز إضافته من شطة وسلطة وعصير ليمون وخل، وحين استمرت تبكي وقد ازدادت حرقة البكاء ولوعته لم تكن تريد به مزيدا من رجائه واستعطافه، إنما كانت في الحقيقة تبكي من أعمق أعماق قلبها على نفسها وعلى عجزها، بكاء يا للعجب! لم يستمر طويلا.
فقد بدأت تحس بأشياء غريبة عجيبة تنفذ إلى ذاتها وجسدها، أشياء جديدة مذهلة كبريق مصر الخاطف، أشياء أحست معها كما لو أن كل النيون الأحمر والأزرق والبنفسجي ومهرجان الأضواء والألوان، كل الوجوه الحلوة الحليقة والملابس الغالية الأنيقة، كل الروائح العطرة المنعشة المخدرة، والشوارع الواسعة المزدحمة النظيفة، والمتنزهات، والأشجار، حتى الأشجار مجففة الأوراق مقصوصة كتسريحات السيدات، كل الترمايات والعربات الفارهة، والسينمات والوجوه الخارجة من السينمات، والكباريهات والراقصات، كل الأطفال الأصحاء النظيفين والأمهات والأجزخانات والأرتستات، كلها تتجمع وتتسرب إليها، إلى داخلها المرتعش الخائف المهزوم المبهور، وهي حتى في عجزها وإدراكها ويقينها بالهزيمة التامة الساحقة بكل ما أوتيت من قدرة تقاوم ولا تكف عن المقاومة، والأشياء الغربية الكثيرة لا تكف عن التسرب، فتعود تقاوم مستميتة أكثر، تقاوم مدينة بأكملها تتسرب إليها، ورغما عنها تتسلل إلى كل خاف فيها ومستتر، وكان لا بد في النهاية أن تكف عن المقاومة تعبا ويأسا، ثم يقينا تاما من اليأس، ويأسا تاما من أن معجزة ما لم تحدث وتنقذها في نهاية الأمر، وإن بإرادتها وبغير إرادتها، تماما كما كان الهاتف يؤكد، قد حدث كل شيء. أما ما لم يذكره الهاتف، ولا كانت تتصور للحظة أن من الممكن أن يحدث، أما أن تبدأ تتحول من استسلام مغلوب إلى استسلام مستمتع، فهو رغم حدوثه الشيء الذي كان لا يمكن حتى وهو حادث أن تصدقه، فالمشكلة أنها ما كادت تبدأ تحس بهذا، حتى كان الباب قد فتح، وعلى عتبته وقف «حامد» طويلا رفيعا، مصعوقا أسمر غامق السمرة. •••
نامعلوم صفحہ
طالت وقفة «حامد» عند الباب الذي كان بلا وعي قد أغلقه، و«فتحية» مستلقية لا تزال يدها متشبثة برأس السرير، وجسدها مفتوح الساقين مغطى، وليس في عقلها سوى رغبة ملحة لا تنتهي أو تتزحزح، أن يصنعها «حامد» وينتهي. إنه الطريق الوحيد الذي لا بد يمتد إليه المقدر والمكتوب؛ فبعد كل ما حدث كيف يمكن للحياة أن تستمر؟ وكيف باستطاعة أي شيء أن يعود كما كان؟ إن الأمور لا يمكن أن تستقيم، ومستحيل أن يهجع أي منهما أو يرتاح راحته الكبرى إلا بأن تموت «فتحية»، وبيد «حامد» لا أقل.
لا حل للموقف كله إلا بأن يقتلها «حامد» ويستريح، وتستريح، ولكن الغريب أن الهاتف كلما وصل إلى هذا الحد كان يعود يطل برأسه، ويؤكد لها أن «حامد» لن يقتلها، وأنها لن تموت، وأنها سيكون لها مصير آخر.
وتعب «حامد» من الوقوف الطويل المتفرس وجلس، وجاء الولد من الخارج «بزيطة» وطلب ملح للطعام، وحين أحس بالصمت الملغم المستمر انتابه غير قليل من الخوف فسكت، وما لبث أن نام.
وأظلمت الدنيا وأصبح ظلام الحجرة تاما شاملا.
ولم يجسر أحد أن يضيء النور.
بقي «حامد» على جلسته عند الباب يدخن من علبة السجاير الصغيرة التي اشتراها بما توفر له من نقود الأفندي.
و«فتحية» بهدوء شديد تجلس، ثم ترقد، ثم تعود إلى الجلوس، وتنتظر من «حامد» أن يفعلها وينتهي. كل ما كانت ترجوه بينها وبين نفسها ألا يأخذها على سهوة، إنما بطريقة أو بأخرى يرحمها، ينذرها، فلم يعد في جسدها ذرة واحدة قادرة على تحمل المفاجأة، أية مفاجأة، ويكفيها ما رأت من مفاجآت.
حاولت مرة أن تتكلم فأسكتها «بزومة» منه، «زومة» حيوان جريح.
وحين غفت عيناها لبرهة وصحت على نهنهة رجالية منخفضة مكتومة كادت تجن، غير مصدقة أخيلتها. هل هو «حامد» الذي يشهق ويبكي؟ أيبكي؟
أكان صنع هذا لو كانوا في بلدهم؟ أأصيب هو الآخر باللعنة وهزمته مصر ورخرخت إرادته وطبيعته، حتى لم يعد قادرا على قتل زوجته وهو يضبطها متلبسة مأخوذة؟ أصحيح لزلتها يبكي؟
نامعلوم صفحہ
كادت تزحف إليه راجية أن يكف، مطالبة إياه أن ينتهي فورا عن بكاء النساء، ويعود رجل القرية الذي عرفته، ويريحها، ويقتلها. كادت؛ لأنها حين فتحت فمها ترجوه تصاعدت صرخة كزئير أسد غاضب، سمرتها مكانها بلا حراك.
وفعلا لم يقتلها «حامد»، وإنما في الفجر كانت العائلة الصغيرة تغادر باب العمارة الضخمة المهيب، وكان «حامد» يحمل عزالهم كله، وقد لفه في ملاءة سرير صفراء حملها ب «الزقلة» على كتفه، وباليد الأخرى كان يسحب الطفل الكبير نصف النائم، بينما «فتحية» في المقدمة تحمل الطفل الآخر. وبرغم أنهم خارجون إلى مصير مجهول لا تعرفه، فقد كان ما تخافه في تلك اللحظة هو أن يبرد الولد، فراحت تحوطه بذيل ثوبها الذي رفعته، ومضت تلفه به وتشتد في ضمه، بينما نداء أخرس يرتفع منها، ويهيب ب «حامد» أن يخرج البطانية من اللفة، ويحيط بها الطفل الآخر، نداء أبدا لم يغادر فاها؛ إذ هما لم يتبادلا منذ الأمس كلمة.
وسيرا على الأقدام مضت القافلة الصغيرة تحتمي من برد الصباح الباكر بالجدران، ويتركها ظلام عمارة لتتسلمها ظلال عمارة أخرى؛ إذ كان قمر الفجر قد طلع.
قافلة صغيرة تتسلل منسحبة من المدينة الكبيرة الراقدة في صمت ولا مبالاة، لا تحس بهم ولا بما تحفل به صدورهم من أهوال، نائمة تشخر في براءة وضمير مستريح، وكأنها ما فعلت شيئا، حتى لقد بلغ الغيظ ب «حامد» إلى حد التفكير في أن يلقي «بصرة» العزال جانبا، وينهال ب «زقلته» ضربا ودشدشة وتكسيرا على فتارينها المضيئة، وعرباتها اللامعة المستكنة، وحتى أسفلت شوارعها المغسول. كان من جماع قلبه قد أصبح لا يطيق حتى مشيه في شوارعها وهو يغادرها، لم تعد في نظره مدينة، لقد أصبحت كابوسا خانقا بشعا!
وفي أول قطار قطع لهم «حامد» التذاكر.
لكنه عاد لبلدتهم وحده.
فقد غافلته «فتحية» في ازدحام القادمين والراحلين في باب الحديد وهربت.
عادت إلى مصر، بإرادتها هذه المرة، وليس أبدا تلبية لهتاف هاتف أو نداء نداهة.
مسحوق الهمس
حين هدأت أتأمل الروعة في المسألة، وجدت نفسي أمامها كالطفل الصغير الأبله، الذي وقف يحدق في الجسد العاري تماما لسيدة ناضجة الأنوثة، وهو غير قادر على الربط بين ما يراه وبين ذاته، أو حتى بين رغباته ومشتهياته الخاصة وبين هذا الجسد المستسلم العاري، الذي أصبح فجأة أمامه، وملك ناظريه، ويديه، وحواسه.
نامعلوم صفحہ
كنت باندفاع وتهور وجنون فرحا، ولكنه فرح لا أدري ماذا أفعل به أو لماذا اعتراني أصلا؟ كاد اليوم يمر مروره الأزلي الخالد لولا أنه قبل «التمام» ربما بساعة، «ترت ترت» فوجئت ببابي يفتح، وعبد الفتاح الطويل الرفيع الأسمر يظهر، وقبل أن ينطق كانت عصاه الخيزران التي تفتتت نهايتها على ظهور «النبطشية» تدق كعصا «النقرزان» على باب الزنزانة، دقات كمزاج صاحبها في النهار عصبية متعجلة ملحة: يالله! لم عزالك يالله! بسرعة يالله! شيل نزامك (نظامك)، برشك وبطانيتك وتعال بسرعة! «النزام» بسرعة بسرعة! يالله بسرعة!
كلماته الخارجة كتكتكة مفرقعة متلاحقة لمسدس أطفال، ودقات العصا «النقرزانية» وازدياد تفتتها، والإلحاح المزعج واللهفة والسرعة، وفي ومضة كنت أحمل كل ما يخصني في الزنزانة، حتى «جردل» البول حملته؛ فقد كان جديدا يوفر علي مئونة الحبس مع «جردل» قذر، وتبعته واضطراب الفرحة يبعثر خطاي. أعرف أنه مجرد «عزال» لا أفراح فيه ولا زيادة، أو حتى أمل في أي منهما، ولكنه حدث هائل يقع؛ إذ هو جديد لم يحدث بالأمس، ولن يتكرر غدا. إلى أين؟ لم يكن مهما، حتى لو كان مع «الإخوان». لم أستطع ملاحقة خطوات «الأومباشي» عبد الفتاح السريع المضحك، الذي يبدو به وكأنه يخوض سباقا للأرجل الخشبية، وبدأت المسافة بيني وبينه تتسع، وأنا أجاهد ولا أستطيع، وكأنني من طول الجلوس نسيت المشي. بعد بضع خطوات بدأت ألهث وأتساءل جادا هذه المرة عن وجهتنا؛ إذ كنا قد غادرنا السلم الهابط إلى أسفل، والثاني الصاعد إلى أعلى، وتركنا منطقة «الإخوان» والمحبوسين احتياطيا وتحت التحقيق، ولم تعد سوى أمتار قليلة وينتهي «العنبر». أتكون وجهتنا نهاية «العنبر»؟
بالضبط عند باب آخر زنزانة وجدت «الأومباشي عبد الفتاح» يتوقف، ويستدير بسرعة إنسان انفلت عياره، ويمضي جسده يتململ ويتشنج ضيقا بتخلفي وراءه: بسرعة! بسرعة بسرعة! النزام، نزامك بسرعة! - يا أومباشي أنا مش ... - من فدلك! من فدلك! ما فيش كلام! ما فيش كلام النزام! بسرعة خش أودتك، بسرعة بسرعة!
وبسرعة بسرعة دخلت، و«ترت ترت» انغلق الباب ورائي بالمفتاح، ووجدت نفسي جالسا فوق «النظام» مسند الظهر إلى الحائط، نفس جلستي من دقيقتين، دقيقتان هذا صحيح، ونفس الجلسة، ولكن يا له من فارق! فارق جعلني أخبط جبهتي بيدي خبطة ارتج لها عقلي. إن الزنزانة الجديدة التي انتقلت إليها، وإن كانت تقع في نهاية «العنبر»، لكن «العنبر» لا ينتهي بها؛ إذ هي في الحقيقة تقع في منتصفه، فالنصف الثاني كله مخصص لسجن النساء.
النساء!
من قال إن السجن هو فقط مصادرة حرية الإنسان؟ إن فقدان الحرية ليس سوى الإحساس السطحي الأول؛ فالإنسان يظل يفقد أشياء كثيرة جدا، كل ما يملكه أو باستطاعته امتلاكه، كل قدراته ومكتسباته، كل صلاته وقراباته وأحلامه وطموحه، كل ما ينفرد به كشخص، وكل ما يتساوى به مع المجموع، كلها بعد معارك استماتة وتشبث طاحنة، لا يلبث أن يجدها رغما عنه وأمام ناظريه وبقوة الحبس والعزل القاهرة، تتسرب واحدة وراء الأخرى، هو لا يملك لها ردا ولا منعا، حتى الأمل في خروجه من ذلك «الليمان» والإفراج عنه بعد أيام طويلة من المراودة والمطاردة والإلحاح، إلى درجة أن يفسر كل فتحة باب على أن الشاويش قادم بأمر الإفراج، وكل حذاء ثقيل يدق أرض «العنبر» على أنه حذاء المأمور أو المدير جاء يحمل قرارا خاصا بالإفراج، كل شعاع شمس يدخل على أنه آخر صباح، كل غروب أحمر مخنوق شنقت نافذة زنزانته شعاعاته وخنقتها على أنه آخر غروب، حتى تصل الأزمة أحيانا حد تهديد العقل، وفي مرات تطيح به، ثم يصحو الإنسان ذات يوم وهو يحس بالراحة الكبرى، وقد انتهت الأزمة، ومات الأمل تماما، وحل اليأس الكامل. حين ذاك فقط تبدأ حياة السجن الحقيقية، حياة أخرى مختلفة عن حياة الناس، حياة لا أمس لها ولا غد، وإنما طولها يوم واحد بالتحديد، ذلك اليوم الذي تحياه، يولد المسجون مع صاحبه ويحيا أحداثه، وكأنها أحداث حياة بأكملها عريضة وافرة الغنى. إن مد فترة الذهاب إلى دورة المياه من 10 دقائق إلى ربع ساعة تعادل في الفرحة بها قرارا يصدر بمنحه إجازة ثلاثة أشهر يقضيها على حساب المصلحة في أجمل مصايف أوروبا. إن تغيير «الحلاوة الطحينية» في العشاء بالعسل الأسود يتجاوز في أثره، واحتفال المسجون به، قرارا استثنائيا بمضاعفة مرتبه إلى حد ينقله من طبقة تتعشى بالعسل الأسود إلى الطبقة التي تتعشى ب «الكافيار والرومي». إن العثور على قطعة ورق من جريدة قديمة، حتى لو كان تاريخها يرجع إلى أعوام مضت وقراءة أي خبر فيها عن أي شيء، ولو كان العثور على لقيط بجوار مستشفى «أبو الريش»، يعادل الدهشة والذهول الذي ينتاب إنسان الحياة العادية حين يفاجأ بالجرائد تنشر على صدرها بالبنط العريض نبأ اكتشاف سر الحياة، بل كانوا يحضرون لنا الطعمية في الصباح ملفوفة - زيادة في تعذيبنا بمنع أي متعة عنا، ولو كانت قراءة الأخبار القديمة في الصحف العربية - في جرائد ألمانية، لا أعرف من أين استطاع المتعهد الهمام أن يعثر على كل تلك الكميات منها.
وكانت جرائدي اليومية هي تلك القطع المشبعة بالزيت من أوراق الصحيفة الألمانية، التي لم أعرف لها اسما. أما وقد انقطعت عنا تماما أخبار العالم الخارجي، فقد كانت أخبار الصباح بالنسبة لي ليست أحداثا أو «مانشتات» أو حروبا وثورات واكتشافات، كانت أخباري أن أنجح رغم بقع الزيت في قراءة كلمة ألمانية كاملة ونطقها. كل صباح كنت لا أترك الورقة، حتى أنجح في قراءة كلمة، وحينئذ أضع الورقة جانبا، وأتنهد بأعظم وأعمق ارتياح. أقسم أنه كان أعظم وأعمق من ارتياح قد يحسه إنسان قرأ مع إفطاره كل جرائد العالم وعرف أخباره واطمأن أن كل شيء فيه على ما يرام. أما المتعة الكبرى، المتعة التي لم يظفر بها إنسان، فهي تلك التي أحسها حين أنجح مستعينا باللاتينية التي أعرف بعضها، وبالإنجليزية والفرنسية وبالفهلوة المصرية أن أعرف معنى كلمة نجحت في قراءتها. وأبدا أبدا لا يمكن للزمن أن ينال من فرحتي ذلك الصباح الذي نجحت فيه في معرفة معنى كلمة «فريدان»، وخمنت أنها «الحرية».
النساء!
تلك الحياة المسجونة الثانية التي تجد نفسك تحياها، وتخضع لقوانينها، حياة كحياة المشلول، أو من أصيب بالعمى، أو فقد بعض عقله - أضيق قليلا من حياة الناس - ولكنها أيضا مزدحمة، بل حتى أناسها ليست لهم شخصيات جديدة لا بد تختلف بدرجة أو بأخرى عن شخصياتهم التي يعرفهم بها الناس في دنياهم العادية. تفاجأ أحيانا بمن كان طبعه الضجر والملل والتكشير، وقد تحول إلى «بلياتشو»، وأصبحت شهرته أنه «ابن نكتة»، ومجلسه «مجلس أنس»، والمخيف المرعب، وقد تحول إلى فأر مذعور، والمتواضع الغلبان وقد انتصب من داخله شجاع عنيد. وأحيانا يضاف إلى كل منهم «لحسته الخاصة»، إطلاق الذقن مرة، أو الإغراق في الصلاة، أو موهبة قول الشعر، وكتابة القصص، وقد نمت فجأة وبلا سابق إنذار، وتتجمع فئات تلك الحياة الموازية الخاصة، وتستدير كي تصنع حياة تكاد تكون كاملة، أقول تكاد؛ لأن أمرا حيويا واحدا يظل ينقصها.
النساء!
نامعلوم صفحہ
بعدما تنتهي من إعادة تذكر كل قصص الحب والعلاقات بالنساء في حياتك وتجترها مرارا، بعدما ترتوي ما شئت من أحلام يقظتك، ومن تصورك لكل ما استحال عليك بلوغه ممكنا، وكل وقائع فشلك، وقد انقلبت إلى معارك فوز وانتصار، بعدما تستميت دفاعا عن كنوز ذكرياتك تلك ضد العدو الأوحد، السجن وعمله في النفوس، تبدأ تحس أنها رغم استماتتك تتسرب من قبضتك المطبقة عليها، وتتركك وقد بدأت تنسى أنك رجل؛ إذ قد تلاشى من وعيك كل ما كان يذكرك برجولتك، واختفت من عالمك الجديد كل لمحة أو بادرة تعيد لك الذكرى، وهكذا تحيا ونفسك الجديدة تعمر بكل شيء من آيات الحياة إلا منطقة منها مجددة مجدبة قفراء لا أمل لها في ماء أو نماء.
هكذا جلست أحدق في الحادث المروع الذي وقع، والذي نقلني فجأة من عالم اندثرت فيه الذكورة والأنوثة من زمان وانمحت، إلى وضع أنا فيه أرتكن إلى حائط ليس وراءه إلا نساء في نساء، كبيرات وصغيرات، وسمينات ورفيعات، وبيضاوات وسمراوات، وعلى كل لون وبأي شكل تشتهي وتريد، أحدق مروعا مشتتا، عاجزا عن أن أصنع أي شيء بالمرة.
إني في الزنزانة التي يتقاتل المساجين عليها ويقدمون الرشاوي ل «شاويشية» الأدوار كي يمنحوهم إياها. في الزنزانة الشهيرة التي لا يزال السجن يتناقل جيلا بعد جيل قصة الواقعة التي جرت فيها يوم أن احتلها أحد «اللومانجية» الذي قضى عشر سنوات في «الليمان»، وكان لا يزال أمامه على الإفراج عنه عشر سنوات أخرى، وكان مارا على السجن في «ترحيلة»، واكتشفوا في الصباح أنه استطاع بجبروته والاستعانة ب «مطواته» التي مهما فتشته لا تعثر لها على أثر، أن «يثقب» الحائط المبني من «الدبش»، والكائن بين زنزانته والزنزانة المجاورة في سجن النساء، بحيث أمكنه أن يصنع «ثغرة» نفذ منها بجسده إلى جاراته المسجونات الثلاث اللاتي تقبلن الحفر والثقب واللومانجي دون استغاثة، بل يقال إنه «ضاجع» حارسة الليل نفسها، حين جذبت انتباهها أصوات عدم الاستغاثة . منذ ذلك اليوم أقامت إدارة السجن حائطا ثانيا سميكا جعلت مونته من الأسمنت هذه المرة، من المحال أن ينجح أحد في ثقبه، حتى لو كان قادما من حرمان مؤبد.
أذكر الحادثة؛ لأنها بعد مدة وعقلي أبيض منتفخ بفكرة حظي الهائل، ساكن لا يملك حراكا، حين بدأ يتحرك كانت حركته الأولى هوجاء مجنونة على هيئة فكرة أن أثقب الحائط، وحيث إن المونة من الأسمنت فلا بد من استعمال أصبع من الديناميت أكلف أحد العساكر بشرائه، وما داموا يهربون كل شيء إلى السجن، حتى المخدرات، فلماذا يستعصي الديناميت؟ ويصنع لي فتحة أدخل بها إلى بيت اللحم المجاور، اللحم الشهي الحي الذي لم أذق طعمه من سنوات!
ومع أني رحت أخرف وأبذر في تخريفي على تلك الصورة، وأنا أحس بنفسي سعيدا منتشيا سكران بالنشوة، إلا أنه عاجلا أو آجلا كان لا بد أن أبدأ أتبين الوضع على حقيقته، وأدرك بجلاء ووضوح وثبات أني أصبحت في مكان ليس بيني وبين ما لا يقل عن أربعمائة امرأة فيه إلا خطوة - حتى لو كانت على هيئة حائط، فهي لا تعدو كونها خطوة - تأملا بدأ مخي معه يسخن وترتفع حرارته، حتى يبدأ يفرز عرقا داخليا غزيرا على هيئة رذاذ من الأفكار المتلاحقة. وكنت أعرف أنه مهما تنوعت أفكاري وتشتتت فلا بد أن أبدأ بعد «التمام» في الخامسة، أدق. •••
إن الحياة الحقيقية للمساجين لا تبدأ إلا بعد أن يزول إرهاب العيون الآمرة الناهية التي لا عمل لها إلا أن تمنعك من كل ما تملك حق منعه، وكأن السجن في الحقيقة ليس إلا كلمة «ممنوع» كبيرة وشاملة، ممنوع كل شيء إلا ما يبقي عليك الحد الأدنى اللازم كي لا تموت، لا لأنهم يريدون - لا سمح الله - لك البقاء، ولكنهم يريدون لك أن تحيا حياة الموت معها أرحم؛ إذ ممنوع عليك فيها كل ما يجعل من الحياة متعة، والمباح فقط هو كل ما يجعلها عبئا وعذابا وقيدا ثقيلا تتمنى لو تخلصت منه واسترحت بالموت، ولكن الغريب أنهم لم يستطيعوا، وأعتقد أنهم أو غيرهم لن يستطيعوا - مهما اتخذوا من احتياطات وبالغوا في قائمة الممنوعات - أن يخلقوا ذلك السجن الكامل الذي يحلمون به؛ فقد استطاع الإنسان دائما أن يجد حرية داخل كل قيد على الحرية، وأن يخلق داخل كل ممنوع ما هو مباح؛ ولهذا لا تبدأ الحياة الحقيقية إلا بعد زوال حراس المنع من ضباط وشاويشية، والعهدة بالرقابة إلى حرس الليل العزل، وهؤلاء كالمساجين تماما ما إن تزول عنهم الرقابة حتى - في معظم الحالات - ينطلقوا على سجيتهم. ما إن يدق جرس «التمام»، ويطمئن المأمور أن العدد مضبوط ولم ينقص واحد أو يهرب واحد، حتى يفرج كل مسجون عن نفسه، فيبدأ يتكلم مع من يشاء من جيرانه، ويسكت حين يشاء، ويزعق إذا عن له، ويغني متى أراد، ويقول رأيه في أحداث اليوم، ويشتم ويسب، أجل ويسب، وما أكثر كمية السباب التي تغادر الأفواه بعد «التمام»! وكأن السباب غريزة، ومزاولته ركن من أركان الحرية. وهكذا لا يبقى من السجن الكامل الذي أرادوه إلا جدرانا صماء هي الوحيدة المحبوسة داخل مساجين يشبعونها دقا وضغطا واختراقا بأحاديثهم وصراخهم، دون أن تجسر على منع أو اعتراض.
وكانت حريتي وما هو أكثر من الإفراج في رأيي، أن تأتي الخامسة وتقوم الضجة لأستطيع محتميا بها أن أبدأ أدق وأعلم الجارات بوجودي؛ إذ من لحظة الوعي فقط سيبدأ أروع وأهم حدث في حياتي تلك!
وقلت وأنا أدلل الاحتمالات تدليلا لا يحدث إلا والهدف العظيم في جيبك تداعبه متلذذا مستثيرا لشهيتك: ربما هن لم يعدن بعد، ربما هن في الحمام أو في المنسج. ولكن أشعة الشمس أصبح بينها وبين السقف في زنزانتي ما لا يزيد عن العشرة السنتيمترات بما معناه تعديها الخامسة والنصف، وأنا أدق ولا أحد يجيب. ربما سمك الحائط؟ بقوة أكبر ب «الجردل» نفسه، بقدمي وقوة الساق الهائلة رحت أدق، وفي الحقيقة لم أكن أدق بقدر ما كنت أطرد بشدة احتمال أن تكون نتيجة هذا الاحتشاد والفرحة إلى درجة الوصول إلى تدليل الاحتمالات أن الزنزانة المجاورة خالية تلك الليلة ، ومن يدري؟ ربما غدا أيضا ولليال كثيرة مقبلة. كنت أطرده بشدة لعلمي أن البله الذي قابلت به المسألة أول الأمر كان راجعا إلى أنها من الضخامة بحيث لا تصدق، وأني حين صدقتها فعلا، وبدأت أتصرف كانت قد غورت في كياني وعقلي وأحلامي إلى درجة أصبحت معها خيبة الأمل إذا حدثت شيئا بشعا شريرا لا يتحمله بشر.
في السادسة توقفت عن الدق. لم تكن أول مرة أقرر فيها التوقف، ولكنها كانت المرة التي قررت فيها التوقف بلا عودة. لم يعد لدي أدنى أمل في استجابة أو رد، بل حتى الأمل في ذلك، الأمل كان قد انتهى، وأصبح علي أن أعتبر الموضوع كأن لم يكن، وأن أجهز نفسي لقضاء الليلة في زنزانتي الجديدة تلك مثلما كنت أقضي الليالي في الزنازن القديمة، أفكر بلا هدف في لا شيء، حتى تتزغلل قوى عقلي وتنهار فأنام.
إنها لكارثة محققة.
نامعلوم صفحہ
فصحيح أنه لم يكن قد مر أكثر من ساعتين منذ عرفت الخبر، لكن المشكلة ليست أنه استثارني أو هيج كامن أشجاني، المشكلة أني لم أعد أنا، أني فجأة وجدت نفسي أمام إنسان آخر انتفض من داخلي ماردا عملاقا رهيبا، لا علاقة بينه وبين الإنسان الذي كنته طوال ذلك اليوم والأيام الكثيرة التي قبله، الإنسان الذي كنت قد اعتدته وعرفت حدوده وخصاله ومزاياه. لم أدرك أنه كان على تلك الدرجة من الموت إلا حين انبثق ذلك الآخر، إلا حين أحسست وكأنما أرى بعيني الحياة تتدفق - لدى ذكر النساء وعالمهن واستحضار المرأة في ذهني - غريزة وحشية مكتسحة كأمطار الصيف فوق خط الاستواء، تنهال على سطح البحيرة الآسن الراكد البليد، الذي ألت إليه بجسدي وأفكاري وأحلامي وانفعالاتي. مجرد وقع الكلمة على الأذن «النساء» بذلك التضاد القاهر المكهرب معك، المناقض تماما لك، الذي تحن إليه وترغبه وتريده كما تريد الحياة نفسها، مجرد تصورك لأجسادهن المختلفة، لانبعاجاتها المثيرة، لملابسهن حتى ملابس السجن الواسعة، لروائحهن الخاصة، دائما خاصة كبصمات الأصابع، لأصابع أقدامهن الصغيرة كالجرذان الوليدة المنكمشة على نفسها، لأياديهن النحيفة زرقاء العروق ، للعيون، عيونهن وإحساسك أنها عيون امرأة ورموش أنثى، ترسل نظرات تدرك أنها نظرات أنثوية منتزعة من أعماق امرأة، ومرسلة إليك مضمخة بأنوثة تلون حتى شعاعات البصر. المرأة، الصدر الحنون والقلب الرحيم، والكلمة الحلوة الرقيقة، والأفخاذ التي يفقد بينها الرجل صوابه. بركان تفجر لا سبيل إلى إيقافه، قوى وافدة، غريبة، ملايين من شحنات كهربية حية أحسست بها من منبع خفي في جسدي تتفجر كالنهر الغاضب في فيضانه يكتسح. جن وعفاريت وأفكار مجنونة حافلة بذكاء لامع براق، وطموح هائل، وأحلام شهية تتولد وتتكاثر وتغمر الدنيا بأسرها. هكذا لا بد فتك ذلك اللومانجي بالحائط، فقد كان باستطاعتي ساعتها أن أثقب الجدران أو أهدها أو أحطم المعبد. قوى لم أعد أقوى على السيطرة عليها، فأصبحت حرة تستطيع أن تفعل ما تشاء، تقدم على الفرار أو تقتل حارس الليل، أو تضاجع الحجر. العشاء التهمته في غمضة عين، ودار حارس الليل على الزنازن يلم لي ما بقي من طعام، وبنهم جشع رحت أدخن، حتى أتيت على نصيب الأيام القادمة الذي قسمته بعناية وادخرته. أحيانا كنت أمسك رأسي بيدي، وأضغط عليه بشدة مخافة أن ينفجر، وكل أملي أن تأتي ساعة النوم وأهدأ، ولكني كنت متفائلا جدا؛ فها هو برد الزنزانة يشتد، والظلام يقل علامة طلوع الفجر، وليس في عيني أو كياني كله لمحة نوم واحدة. •••
في اليوم التالي لم أنتظر «التمام» النهائي في الخامسة، في ساعة القيلولة دققت دقات عنيفة مختلسة يائسة، وفي نهاية اليوم دققت، وكثيرا ما منعت نفسي أن أدق الحائط برأسي غيظا، غير متصور أبدا أن يكون حظي بهذه التعاسة، وأن تظل الزنزانة خالية أيضا لليوم الثاني. والمضحك أن أسبوعا بأكمله مضى وأنا كل يوم أدق، وأفعل هذا مع أن حريتي في الدق كانت محدودة بتلك الدقائق التي تعقب «التمام» مباشرة؛ حيث بعد السكون الشامل المفعم تنطلق في أنحاء العنبر ثمانمائة حنجرة تصرخ كلها في وقت واحد، ويزاول أصحابها متعة الكلام بعد إجبار طويل على السكوت. ومع انتهاء الضجة تنتهي محاولاتي وفرحتي، ومع هذا فما أكثر ما غامرت ودققت في ساعات الصمت! وأنا أحاول بكل قواي أن أكتم الصوت، بل أحيانا كنت أستيقظ من النوم لأجد نفسي قبل أن أفيق تماما أدق!
ولا أذكر كيف فقدت الأمل؛ فقد كان لا بد طال الوقت أم قصر أن أفقده. كان واضحا أن «عنبر» الحريم يشكو قلة الزبائن، وأنهم يؤثرون هناك أن يجعلوا المنطقة القريبة من «عنبر» الرجال آخر ما يستعمل. وعلى غير ما كانت البداية حادة ومتفجرة وعنيفة كانت النهاية بطيئة طويلة ممتدة، وكأنما عن عمد، وكأنما رفضا للفقدان التام للأمل، والتلكؤ لعل وعسى تحدث المعجزة.
وحتى تلك النهاية التي بدت كالحدث الفاجع أول الأمر، انتهت هي الأخرى كنهاية، ومع الأيام ذابت كي يعود الموات إلى كل شيء، وتصبح البحيرة الراكدة أهدأ ما تكون وآسن ما تكون. كل ما في الأمر أن طعما مريرا ممتدا، طعم الفشل، كان قد أضيف إليها، طعما كنت متأكدا أنه هو الآخر لا يلبث أن يزول، ولا تلبث الحياة أن تعود بي إلى ذلك الإنسان الآخر الذي كنته.
بالاستطاعة إذن إدراك هول الزلزال المفاجئ الذي هز أركان نفسي، حين سمعت - أجل سمعت - بأذني هذه دقات تأتيني عبر الحائط السميك، في ضجة ذات «تمام».
وشكرا للسجن الانفرادي أن أحدا لم يرني ساعتها، وأنا أقفز في الهواء، وأدق الحائط من أعلى ومن أسفل، ثم أستجمع كل قواي، وأثب وثبة هائلة أتعلق بها في حديد النافذة، وأصرخ وأغني وأقلد طرزان وأتشقلب، رأسي إلى الأرض، وساقاي في الهواء، وأعوي، بأعلى صوتي أنادي جاراتي جميعهن ناعتهن بألفاظ لا تخطر على بال سكران، وأعود أدق وأدق فقط كي أدق، وأنا فرح فرحا حقيقيا أحس به. ونحن في الحياة العادية التي نتعامل فيها مع الفرح والحزن والاكتئاب والتفاؤل نفقد الإحساس بهذه الانفعالات بكثرة المزاولة، «نعرفها» بحيث لا نعود نتوقف عندها أو نكتفي بها. إذا نجح فينا أحد يجد نفسه يكاد لا يحس بالنجاح ساعة وقوعه؛ إذ هو على الفور يبدأ يتساءل عما بعده، عما يفرح أكثر، فالنتيجة أننا لا نفرح في السجن حين يحدث ما يفرح من طول افتقادنا للفرحة، نحس بها، نلمسها وتضطرب بها أجسادنا، وتحفل بطاقات من نشاط الفرحة الغامر، ونرى أبواب أمل واسعة في صدورنا تتفتح، وتنبهر بالنور الكثير يكتسح أمام أعيننا الظلام الكثيف الرابض داخلنا، فعلا نفرح، لا يهمنا كثيرا ما بعده بقدر ما يهمنا أنه جاء وأننا نحياه. لكأن كلما ضيقت علينا الحياة اتسع إحساسنا بها، وكلما قلت كميتها أصبح لكل دقيقة من دقائقها وقع أروع وأثمن.
ولم أفطن إلى زوال ما بعد «التمام» إلا حينما بدأت أعي أني الوحيد الذي يحدث ضجة، وكما كان على «العنبر» أن يئوب إلى هدوئه الليلي كان علي أن أبدأ بروية أكثر. ها بعد طول صبر ويأس وانتظار قد غمزت السنارة، وها أنا ذا متأكد أن صيدا سمينا كبيرا على الناحية الأخرى، صيدا قادما من تلقاء نفسه، وهو الذي بدأ، وعلي بكل ما أوتيت من قدرة وحذق أن أظفر به كاملا. وبانتظام بدأت أدق وأرهف أذني - وهذا هو الأهم - كي أتسمع الرد. كانت تأتيني أصوات خافتة بعيدة كالقادمة من أعماق بئر، وكانت أذناي تلتقطها وتترجمها وتنقيها وتحولها من دقات إلى لغة، ومن لغة تتكلمها اليد إلى لغة يحسها الشعور ويدركها العقل. إنها مثلي بمفردها، وهاتان الدقتان السريعتان المتصلتان معناهما أنها قلقة هي الأخرى، خائفة مثلي أن يحدث ما يقطع الاتصال؛ تلك الدقة الوحيدة التي لم ترفع اليدين عن الحائط بعد دقها، إنها ابتسامة اطمئنان، ألمحها؛ فمثلما يطمئنني قلقها لا بد أن قلقي يطمئنها، ما أعذب هذا! ما أروع أن أعثر في وسط صحراء مترامية الأطراف، في آخر الدنيا هنا، حيث لا حضارة ولا أنس ولا بشر، حيث انتهى العالم من زمن، أعثر على أنثى! أدق لها فتدق لي، وأضطرب خوفا من فقدانها، فتبتسم لي في حنان واطمئنان. لقد عرفت الحب أكثر من مرة، الحب المحموم المجنون الذي ينهش الصدر ويعتصر الروح، الحب الذي ينسيك من تكون، وما كنته، وما يجيء به الغد، الحب الذي من طينته خرجت قصص الغرام الكبرى، وجن قيس وانتحر فرتر وماتت جولييت. بعد الحديث القصير الذي تم بالأيدي أحسست وكأنني عثرت على سيدة عمري، أحسست أن حبي الثالث ذلك الذي لا يقاس بجواره أول أو ثان، ذلك الذي طالما حلمت به وخشيته، وطالما هفوت إليه وأرعبني مجرد التفكير فيه، عرفت أنه هكذا ودون كلمة أخرى قد بدأ. إن قصتي مع المرأة حرب دامية طويلة، بدأت من يوم مولدي، ومع أول امرأة عرفتها، أمي! حرب انتهت بخوفي من المرأة إلى درجة عبادتها، والحقد عليها إلى درجة الرعب المقيم أن يتحول الحقد إلى حب، فأودعه كل شوقي المريض إلى المرأة منذ أن كانت أمي إلى أن أصبحت غريمتي وعشيقتي، وأفقد في تلك المعركة، في الحب، نفسي تماما. وهكذا بمقدار تعطشي للحب كانت محاولاتي للهرب، ولكني هذه المرة بإرادتي المدلهة أختاره، حتى لو كان فيه - وحتما فيه - هلاكي، هذه المرة لا صراع ولا محاولات مستمرة للتراجع. إني أدفع بكل قواي وأدق وأكاد أموت متعة وتلذذا، والرد يأتيني دقا أنثويا واهنا مبحوحا، أرى اليد التي ترسله بيضاء صغيرة ذات شعر ميكروسكوبي أصفر، وأظافر بلون دم الغزال الشاحب، يد أعرفها وأقبلها وأقبل كل أصبع فيها، وبلساني ألثم ما بين الأصابع.
وأصبح واضحا من دقاتنا المتتالية المتشنجة أننا في حاجة لاقتراب أكثر. لم تعد لغة الأيدي القاصرة قادرة على ترجمة ما يغلي داخلنا من انفعالات، كان لا بد أن نتكلم! وللمساجين طريقتهم الشهيرة في التخاطب عبر الجدران هي وضع «كسرولة» الطعام الفارغة من ناحية فتحتها على الحائط، وتقريب الفم من قاعها للتكلم، أو إلصاق الأذن به للاستماع. ورحت من خلال «الكسرولة» أتحدث وأحاول الإنصات، ولم أعجب حين بدا وكأن لا صوت هناك، كنت أعرف أن الجدار سميك، وهكذا رحت بأعلى وأحد ما أستطيع أهمس محاذرا أن يسمع الحارس همسي، والوقت يمضي ومحاولاتي لا تكف، وحنقي وضيقي قد بلغا درجة أصبحت معها لا أحفل، حتى أن يسمع الحارس. كانت تعاستي تكاد تذهب بعقلي، وأنا أرى نفسي لا يفصلني عن الأنثى التي استجابت لي، وبدأت معها مغامرة العمر الثالثة إلا جدار عمره ما وقف حائلا بين مسجونين، أقرب ما تكون مني، أبعد ما تكون عني، وأنا بين النقيضين مشدود أتمزق غيظا وألما.
ولم يكن لي من منقذ إلا أن تحدث معجزة، فيتفق وضعي لل «كسرولة» مع وضعها، بحيث تلتقيان عند نفس النقطة من الحائط، فيمر الكلام مباشرة من إنائها لإنائي، وكيف لي أن أعلم أنها هي الأخرى وصلت إلى نفس استنتاجي، وبدأت تبحث عن مكاني مثلما بدأت أبحث عن مكانها؟ ويا له من مشهد ذلك الذي كان مقدرا أن يراه الرائي لو أتيح له أن يشاهد كلينا في نفس الوقت، بحيث يتابع تلك اللعبة الخالدة الدائرة ربما منذ بدايات الخليقة، ذلك البحث الدائب عن ملتقى بين اثنين أقرب ما يكونان وأبعد ما يكونان، لا يفصلهما سوى بضعة سنتيمترات من حجر أو طبقة أو جنس أو لون!
أناديها بأعلى وأقوى ما أستطيع من همس: سامعاني؟
نامعلوم صفحہ
وتناديني دون أن أسمع لها صوتا: أنت فين؟
وكلانا أعمى محموم بالرغبة، يتحسس بالغريزة وحدها والسليقة طريقه إلى الآخر، وأبدا أبدا لا يفقد الأمل. وكم بدت المهمة سهلة أول الأمر! إن هي إلا بضعة أمتار مربعة باستطاعتي أن أمسحها طولا وعرضا وحتما سأنتهي بالعثور عليها. ويمضي الوقت بطيئا، قاتل البطء، وتستحيل الأمتار القليلة إلى غابة مترامية الأطراف من المحال أن تلتقي برفيقك أو يلتقي بك بمجرد بحثك عنه وبحثه عنك.
ولكن، حتى بقانون الصدفة المحضة كان محتما أن نلتقي، فما بالك وثمة قانون مقدس أعلى كان يحكمنا في ذلك الوقت، قانون الأنثى والذكر. ولم أكن في تصوري أطلب المستحيل، وأعتقد أني سأستطيع التحدث إليها عبر الإناءين، بحيث تسمعني وأسمعها في وضوح. كان يكفيني مجرد أن أسمع صوتها الأنثوي، مجرد أن أستطيع تمييز نطقها المخالف، وأطمئن بالدليل المادي إلى أنني لا أحلم ولا أتصور ولا أبني انفعالاتي على وهم، وإنما هناك وراء هذا الحائط أنثى حقيقية من دم ولحم. وحين حدث اللقاء وبدأت أذني المنتبهة أدق انتباه تلتقط ما يأتيني عبر الحائط، كدت أصاب بخيبة الأمل، فقد جاء الصوت وكأنه ليس نافذا من خلال الحائط، وإنما كأن الحائط، أو ما هو أثقل بكثير من الحائط، كأن جبلا بأكمله قد مر على كلماته وحروفه، فسحقها كما كان القطار يسحق ما نضعه فوق قضيبه من مسامير ونحن صغار، فيحيلها إلى رقائق معدنية كحد الموسى. لم تكن كلمات أو حروف، وإنما مسحوق همس لا تستطيع تمييز جمله، تهشمت ودكت بحيث استحالت إلى أصوات متصلة أو متقطعة، كالأنين مرة وكالصفير مرة أخرى، كسين طويلة بطول السطر، أو كمائة دال متتابعة، وأيضا لا تعرف حتى نوع الصوت الآتية به؛ فهو أحيانا غليظ كأصوات الرجال، وأحيانا دقيق رقيق كأن مصدره عصفور كناريا. ولا بد أن صوتي هو الآخر كان يصلها على نفس الصورة، ولكن كما لم تستطع الجدران أن تحول بين قانون الذكر والأنثى، وبين أن يأخذ مجراه، فكذلك لم تقف اللغة المهشمة والهمس المسحوق حائلا، بل مثلما أحلنا الجدار الذي كان مفروضا أن يفصل بيننا إلى وسيلة اتصال، فكذلك أحلنا اللغة المهشمة إلى أداة تفاهم.
وبالهمس المسحوق رحنا نتحدث، حديث المحبين الخجول المتعثر المفضي دائما إلى الحديث عن النفس، والاعتراف، وكان كل منا قد وجد القلب الحنون الذي يهدهد على كلماته، ويغفر أخطاءه، ويجد المبرر لذنوبه وعثراته.
ومن همسها المسحوق راحت تتجسد لي، وكما يستطيعون في الطب الشرعي أن يعيدوا صنع الإنسان بأكمله إذا عثروا على أصبع من أصابعه مثلا، أو جزء من أعضائه؛ إذ لا بد لكل أصبع من اليد التي تناسبه، ولا بد لليد من الذراع والجسد والأقدام التي تناسبها، وكل أنف له الأذن والعين والوجه الخاص به، وهكذا يعيدون تركيب الإنسان ليصبح صورة طبق الأصل للضحية. واستطعت من همسها المسحوق أن أراها كاملة، وأقربها، وأضمها، وأعانقها، وتصل منابت شعرها إلى أنفي؛ إذ هي أقل مني طولا، وعيناها سوداوان غامقتا السواد، وعلى جانبي وجهها المستطيل ينهدل شعرها الأسود الناعم، ومن خلال جلباب السجن الأزرق ينفر ثدياها متباعدين بلا «سوتيان» كثديي بكر ، ولا بد بإزميل فنان صنع فخذيها؛ فهما طويلتان ممتلئتان، تتوجهما تلك الاستدارة الطرية الملساء الكاملة. اسمها حتما فردوس وفي عروقها دم بدوي، وعلى ذقنها بالضبط فوق الغمازة وشم لا يتعدى ثلاث نقاط رمادية باهتة، وفمها ليس صغيرا كفم البنات، ولكنه ممتلئ مقلوب الشفة العليا لا تملك لحافتها المشرعة إلى أعلى، مقاومة، لها في السجن ثلاث سنوات، كان زوجها يستخدمها في تهريب المخدرات، وضبطت بالبضاعة في ديزل الإسكندرية.
وككل إنسان، كثيرة هي المرات التي يخوض فيها تجربة الجسد مع النساء، حتى لو كان الجسد لحبيبة، ولكني ما حييت لن أنسى كيف استطاع الحديث بيننا أن يرتفع بدفئه درجات مقربا ما بيننا، حتى بدأت أحس بأجسادنا تتلاصق وتتداخل صانعة البداية لأروع متعة ظفرت بها في حياتي. وأنا من خلال ذلك التيار الصوتي الدائر بيننا أحيل جسدي كله وذكورتي كلها إلى أصوات أنفثها عبر الوعاء الألومنيوم ويسحقها الحائط، ولكني أحس بها تغادره أكثر حدة والتهابا، تخترق وعاءها المعدني وجسدها، وتصل إلى مكمن الحياة فيها. وبدوري أتلقف أنوثتها الذائبة في الصوت المطحون المبحوح القادم يئن عبر الحائط، أجذبه وأمتصه، وأجذبها هي نفسها وأمتصها، حتى منديل رأسها، وبعنف أكبر تغيبني هي في نفسها حتى أظافر القدم.
ولم ننم ليلتها.
ولم أتحرك من زنزانتي طوال اليوم التالي ممددا فوق «البرش» أجتر سعادتي، وأحس وأنا في أقبح مكان في الكون بجمال للعالم، وطعم للدنيا لم يذقه بشر، أشعر أني أصبحت أقوى من سجني وسجانتي ومن سجنوني. كل لحظات الضعف واهتزاز الثقة راحت وتبخرت، والرجل في قد عاد للحياة تماما، فعاد للحياة سحرها ومعناها. والرجل في حالة حب، حب لم يذقه في كل ما سبق من قصصه؛ فقد كانت تجارب للصراع المحموم وكبح النفس والإحساس بالخجل وتأنيب الضمير، ولا أدرك أنه كان حبا إلا هناك حين ينتهي كل شيء، وتعود الحياة إلى بلادتها. الآن ومنذ اللحظة الأولى أعترف وأستمتع وأعيش للحب وسعادتي الكبرى أن فردوس تحبني. قد تكون غير متعلمة أو مثقفة أو تجيد استعمال الماكياج، وأخذ المواعيد من الترزي. قد لا تستطيع أن تدرك معنى أنني شاعر، أو تفهم تماما سبب سجني، ولكن حسبي أني رجلها، وأنها أنثاي، وأن كل ما حدث لي أو حدث لها قبل لقائنا، وبالذات قبل ليلتنا الماضية، كان سرابا وخداعا، وأننا منذ الأمس فقط بدأنا لأول مرة في حياتنا نعيش.
وجاء المساء.
هذه المرة لا جنون ولا استعجال إنما هو الاطمئنان العظيم يغلف كل شيء، وبمثل ما كان للقلق والخوف والترقب من متعة، فللاطمئنان متعة أكبر وأشهى وأعمق.
نامعلوم صفحہ
قبل أن يحل «التمام» وجدت أني لا أستطيع الانتظار، وقررت ما دام الكلام مستحيلا أن أكتفي بالإنصات لعلي أسمعها تكح أو تغني، أو حتى تستعمل «الجردل». ودهشتي كانت أني سمعتها تتحدث، عبر الحائط أتتني أصوات استطعت تمييزها وإدراك أنها لأكثر من شخص، وفي الحال أحسست بغصة حادة، وكأنما حدثت كارثة. إنها ليست بمفردها إذن، هناك مسجونات معها يتحدثن ويضحكن ولا بد أنهن ينمن بجوارها. وأحسست بالغصة تندك في أعماقي أكثر، مجرد أن يزاملها أحد، حتى ولو كن نساء مسجونات متاحا لهن ما ليس متاحا لي، نساء يستطعن أن يرينها رأي العين أو يعانقنها ولو أردن احتمال لا أستطيع قبوله، يخنقني ويلهب غيظي. وما يغضبني أكثر أنها بدورها تحادثهن، فلا بد أنهن يحتللن من تفكيرها جزءا، بأي حق تسمح لنفسها بهذا، وأنا بكل جزء من عقلي ونفسي وجسدي لها وحدها؟ بلغ غيظي مداه. وحين حل «التمام» ودققت، ومضت لحظة قبل أن ترد، لم أعد أستطيع الصبر، وانهلت على الحائط لكما وكأنما لتدرك أني إنما أوجه لها هي اللكمات.
ثم جلست في الركن البعيد غاضبا أنفس عن غيظي بإشعال نصف السيجارة من نصف السيجارة متجاهلا تماما دقاتها، وهي تستحيل من العنف إلى الإلحاح، إلى السكون لحظة، إلى الغضب القصير إلى العودة مرة أخرى بلين ورقة، وكأنما ترجو وتلح في الرجاء، رجاء لم أستطع معه المقاومة، فعدت إلى الجدار أدق أنا الآخر دقات الصفح والصلح، ومن خلال الوعاء أهمس همس العتب، وتتعانق الهمسات وتتعانق أجسادنا خلال الهمسات ، وأقبلها في فمها الكبير ذي الشفة المقلوبة إلى أعلى، أقبلها قبلة لا نفيق منها إلا على دقات تنهال على الحائط في احتجاج، وكأن زميلاتها يطالبن باحترام وجودهن.
ولكننا رغم هذا لم نستطع أن نحترم ذلك الوجود، وفي حضورهن ورغم كل شيء قضينا ليلة غرام أخرى.
وعدت إلى نفسي ذات لحظة بعد الأيام القليلة التي تلت لأجد أنني لم أفعل شيئا طوال تلك الأيام إلا التفكير فيها. لم يدر بعقلي خاطر واحد أو أحلم بشيء آخر خارج نطاقها ونطاق علاقتي بها، إنه الحب إذن بأكمل صوره. وإذا كان الحب في الخارج يستولي على المحب تماما ويعزله عن الحياة وينفرد به، فما بالك وأنا هنا منعزل ومعزول ولا عمل لي سواه! إن الحدث الصغير التافه الذي قد لا يعلق بالذهن مطلقا في الخارج، حتى لو كان ذهن محب، يبدو هنا مهما خطيرا لا بد من الوقوف عنده طويلا، والعودة إليه مرارا، والتفكير فيه وربطه بغيره، والخروج باستنتاج، بل باستنتاجات قد تؤدي إلى افتراضات ونتائج لا بد أن تؤدي بدورها إلى عودة للتفكير والتأمل.
وهكذا عرفت عنها - من تلقاء نفسي وتأملاتي لهمسها المسحوق - في أيام قليلة ما لم يكن باستطاعتي أن أعرفه في الخارج بمعاشرتها واحتكامي المباشر بها في شهور، كل شيء عنها، بطفولتها بأجدادها وعرق البداوة فيها، بالأغاني التي كانت «تدندن» لها جدتها بها قبل أن تنام، بتفاصيل ما دار لها ليلة دخلتها، بالجهود التي بذلتها أمها كي تنزف دماء يسلم لها الشرف الرفيع، ويزف على رءوس الأشهاد.
وقد يستنكر البعض أن يحدث هذا كله دون أن نتبادل كلمة سليمة واحدة، وأن أستطيع أن أدرك كل هذا من خلال همس مسحوق، ولكن فليسأل المستنكر كل من أحب إن كان قد أخطأ مرة في تفسير مواء الحبيبة، أو إن كان قد عجز - أقل العجز - عن الإحاطة بكل ما يقوله أنينها مهما تشعب ما تقول. ما حاجة المحبين إلى لغة إذا كان الصوت وحده مهما كان مسحوقا ومن خلال جدار يكفي؟
حتى فعل الزمن في الحب بدأت أستعذبه، وأستمتع بحدث الغرام الهائل، وقد تحول إلى عادة، وتحولنا من غريبين محبين إلى قريبين، بل ما هو أكثر من زوجين محبين، هذا الإحساس بأنها لي وبأني لها طول الوقت، بالأمس واليوم وغدا أيضا ستكون لي. هذا الضيق الشديد بالساعات التي تباعد بيننا، هذا القلق المفزع للدقائق التي تفصلنا عن اللقاء، اليقين الذي أصبحت معه أستطيع أن أحدد دون بحث بالضبط أين ستضع وعاءها لأضع وعائي، وأين ستتحدث لأصغي، ومتى تنضج رغبتها للإصغاء كي أتحدث. هذا الهاتف الذي يوقظنا معا لأدق دقة وتدق دقة، ونقول بهما: صباح الخير. أو بالضبط متى تبدأ تتثاءب لأقول بعدها: يالله ننام! تصبحي على خير!
غير أني وأنا أحيا أطوار الحب كلها وأنعم بها لم يخطر ببالي طور آخر ما أعددت له في نفسي أبدا، وما تصورت إمكان وجوده أو حدوثه؛ فهو في الغالب كالعدو الغادر يداهم فجأة، ومن أول دقة دققتها، ولم يأتني الرد في الحال قال هاتف في نفسي: انتهت علاقتنا إذن ولن أسمع عنها بعد الآن أو تسمع عني. حدث هذا مع أن تأخرها أو تأخري في الرد كان مسألة عادية تحدث في اليوم عدة مرات.
في الحال أيضا أخرست الخاطر؛ إذ إني أعرف ذلك الهاتف المتشائم أبدا، الرابض خلف كل انعطافة حدث يبشر بالفاجعة والنهاية. ولم تكن تلك أول مرة يجأر بهتافه؛ فمنذ قصتنا معا وكلما واتته الفرصة هتف، ولكن علامات التفاؤل لا تلبث دائما أن تظهر وتفحمه. هذه المرة مثلما خمنت لم تأت العلامات، وبينما علا عواء الهاتف سعيدا بتحقق فأله، بكل ما أملك من قدرة رحت أكافح، وأستدعي إلى الذاكرة أسبابا وتعللات تبرر تأخر الرد، أو حتى غيابه كلية ليلتها لو حدث، ربما هي في التأديب، ربما في المستشفى، إن هي إلا ليلة أو على أسوأ الفروض ليلتان وتعود.
ولكنه كان تمسكا بأهداب وهم أوهى من نسيج العنكبوت، كانت حقيقة قد ذهبت تماما، هكذا أكدت الأيام والليالي الطويلة التالية، حتى حين - بعد أكثر من أسبوع - جاءني رد على دقي، أشحت عنه في اشمئزاز وضيق؛ فقد عرفت على الفور أنه ليس دقها، ليس لها، ليس صادرا عن يدها البيضاء الطويلة الأصابع ذات الشعر الميكروسكوبي الأصفر.
نامعلوم صفحہ
وفي كل مرة انتهت لي فيها قصة حب كنت - حين أتأكد من النهاية، وبرغم إطباق المأساة - أحس بنوع من الراحة، وكأن حملا ثقيلا انزاح عن كاهلي، ولكن حتى ذلك الشعور لم يعترني أو يخفف عني، بل ليت ما اعتراني أخذ شكل الحزن القاهر الواضح الحاد! إن هو إلا ذهول مستمر ذو نوبات. فجأة تتوقف اللقمة في حلقي، وأنا - وكأنما لأول مرة - أدرك أن ما حدث لن يعود، وأني أبدا لن أسمع مرة أخرى ذلك الحفيف الواهن الداق يأتيني صادرا تماما عن القلب إذ أحس به تماما في قلبي. انتهى وجودنا معا، وأصبحت وحدي نصف شيء لا يصلح للبقاء، ألم مستمر متصل لا ينقطع ولا يزول.
المؤلم أكثر أني كنت متأكدا أنه حتى ذلك الألم وتلك النوبات مصيرها إلى زوال، ومصيري إلى العودة إلى حياة السجن ذات اليوم المستمر الواحد، ولن أعود أنعم بالتذكر، حتى لو جاء على هيئة غصة أو ألم.
المؤلم أني مستمر، والحياة مستمرة، والكون كله قائم وموجود ومستمر، وما أبشع أن يستمر هذا كله بغيرها، بغير وجودها وحديثها وروحها وظلها!
بعد مرور تلك الفترة من أيام الحدة الأولى، كان شغلي الشاغل هو تلك الرغبة العارمة التي لم أكن أستطيع مقاومتها، الرغبة في الحديث عنها لإنسان، لأي إنسان، وإن لم يكن بالذات عنها، فعلى الأقل عنهن جميعا، عن المسجونات النساء، أو حتى عن النساء بشكل عام.
وجاءت مرة فرصة حين انتهت النوبة، وجاءت نوبة جديدة، وأصبح «الأومباشي عبد الفتاح» العصبي الرفيع ذو العصا حارسا لليل في الدور الذي أحتل إحدى زنازينه.
جاءت الفرصة لأني أعرف أن عبد الفتاح العصبي المتعجل في النهار غيره عبد الفتاح حارس الليل، حيث لا توجد عيون الشاويشية والضباط، وحيث لا عصا، وحيث يعود إلى طبيعته الصعيدية البسيطة، ويصبح الطريق إلى قلبه كوب شاي مصنوع على السبرتو المهرب، والطريق إلى لسانه سيجارة بلمونت.
وعبر باب زنزانتي المصنوع من عمدان حديدية متينة وقفنا بعد العشاء ندردش ونتحدث، وبمهارة قدت الحديث إلى قصة اللومنجي الذي ثقب الحائط ضاحكا، قائلا إني أنا نفسي طالما فكرت أن أصنع مثله، وشخشخ صدر عبد الفتاح وهو يضحك ويقول: بس المرة دي ح يطلع نقبك على شونة. أمال، على شونة.
وسألته: كيف؟
فقال: دول خلاص عزلوا، كل الحريم راح القناطر، كله كله عزل، كله، كله.
ودق الخاطر في رأسي، إذن هذا هو السبب في رحيلها المفاجئ لا بد.
نامعلوم صفحہ
وقلت لأتأكد: أظنهم نقلوهم بقى من حوالي عشرة أيام كده؟
فعادت إليه العصبية وهو يقول: لا لا لا، عشرة أيام إيه؟ أنت نايم حضرتك؟ دول من زمان، زمان خالص، من ثلاثة أشهر، لا لا لا، ييجي من أربعة أشهر!
وكدت أتوقف عن التنفس.
وكالتائه سألت: الله! بس ده فيه ناس في «العنبر»؟
فقال: آه! فيه ناس أيوه، بس دول تراحيل، مرة رجالة مرة ستات. تراحيل، يومين، أسبوع، أسبوعين وأنت وحظك.
وكدت أقهقه قهقهة من فقد العقل، وفي ألف ناحية جرى عقلي يفكر: أليس من الجائز رغم آلام الحب المروعة ألا تكون هناك فردوس بالمرة، بل من يدري؟ أليس من الجائز أن الهمس المسحوق كان همس رجل، ربما كان يعتقد أنه يخاطب به أنثى؟ أو ربما فعلها أو فعلتها للتسلية وكسر الملل في وقت طويل، طويل متشابه؟
ليلتها، قبل أن أنام قلت لنفسي: أليس هذا أروع ختام لقصة ذلك الحب؟ إنه على الأقل سيعفيني من آلام النهاية ومرارتها.
غير أن الشيء المذهل الغريب، الشيء الذي لم أتوقعه أبدا، ولا يمكن أن يصدقه إنسان، حتى أنا نفسي لا أكاد أصدقه، أن الغصة ظلت تعتريني وظل الألم ممدودا طويلا يعكر طعم الحياة في نفسي، وظلت «فردوس» حية في خاطري أكثر حياة من كل من عرفت من النساء.
ما خفي أعظم
لم يكن أحد قد رأى وجه امرأته رأي العين. كانت إذا خرجت ترتدي فستانا لامعا أسود، طويلا إلى حد يجرجر خلفها على الأرض، وطرحة سوداء ملتفة حول الرأس والوجه، ومن نسيج ضيق لا يظهر أبدا ما وراءه، وإذا خرجا سويا لا يسير بجوارها إنما أمامها بمشوار يسير، وبعد أمتار كثيرة تجدها وراءه كظله الأسود الذي انفصل وتجسد ودبت فيه الحياة، ولكنها لم تكن تماما كظله، فقد كانت سمينة تخينة مدكوكة، وكأنها أربع نساء أدمجن معا. وكان الشيخ «فقر» بعد فصله من الأزهر لرفعه الكرسي على أستاذه، وبعد صرمحته زمنا وإدمانه ل «دومينو والكوتشينة» إلى آخر مليم ورثه عن أبيه، وبقائه في البلدة يقتات من النفحات، حتى ضاق به الكرام قبل اللئام، قد أخذ في وجهه وصمم على أن يذهب للعمل في الإسكندرية. وقد ظل أسبوعا يجمع في أجرة السفر، ثم ذهب، ولكن أخباره لم تنقطع كلية عن مواطنيه، بين كل حين وحين يفد إلى البلدة عنه خبر، مرة أنه عمل كاتبا في الميناء، ومرة فتح «كشكا» للسجاير، ومرة ربح ورقة يانصيب بعشرين جنيها. ومضت سنوات وأخيرا فوجئوا به وقد عاد، ولكنه لم يكن وحده. لقد تزوج وجاءت معه زوجته، وما كاد يهبط من المحطة وهي خلفه ويراها الناس، حتى كتموا الضحكات؛ فرغم لثامها الشامل التام الذي أحالها إلى شبح أسود، فاللثام والسواد لم يستطيعا أن يخفيا تخنها، بل ربما أسهما في فضحه أكثر، تخنا لم يره أحد من قبل أو من بعد؛ فنساء القرية عجفاوات كعيدان القطن الجافة، وهذه «باسم الله ما شاء الله» ككيس القطن، أقصر منه قليلا إنما في تخنه بل ربما أتخن. ولا يدري أحد سر هذا الأمر بتاتا؛ فما يكاد الإنسان يراها إلا ويتصور الشيخ «فقر» معها في فراش واحد، بعصبيته التي لا حد لها، وعصاه الغليظة التي يسميها «الحكمدار»، وغضبه الذي ينشأ كالظواهر الكونية بلا سبب، وينفثئ كالظواهر أيضا بلا سبب، ووجهه المملوء بحفر قديمة نصف مردومة من آثار هجوم جدري قديم فاشل، تنبت بينها شعرات ذقن قليلة متباعدة، ولكنها كأشجار السنط البرية ناشزة مسنونة. وما يكاد الناظر يتصورهما معا في فراش واحد على هذا النحو، هي بتخنها وهو بحدته وعصبيته، حتى يظل يضحك ربما إلى أن يصاب بالمغص. والشيخ «فقر» لم يكن طبعا اسمه الشيخ «فقر» إنما كان اسمه الشيخ رابح، وحتى لقب الشيخ كان تجاوزا؛ فهو لم يكن يرتدي عمامة، إنما كان يمنحه الناس له، أو بالأصح يصر هو على أن ينادى به، وكأنما إمعانا في انتصاره على مدرسه السابق بالأزهر، ذلك الذي أكد له أنه أبدا لن ينجح في حياته أو يربح أو يحمل لقب شيخ من هنا إلى يوم الدين.
نامعلوم صفحہ
وإذا كانت حياة الشيخ رابح معروف أمرها للناس جميعا، فقد كانت النساء هي علامة الاستفهام الكبرى في حياته؛ إذ كان دائما يذكرهن بحقد خفي غير معروف المصدر، وإذا مرت من أمامه امرأة نقرها - أول ما ينقرها - من نهاية سمانة ساقها عند اتصالها بالقدم، ثم يصدر عليها بكل قسوة وبلا تردد حكما جائرا بأنها «...» غير قابل لأي نقض أو تعديل؛ ولهذا كانت المفاجأة الكبرى أن يتزوج الشيخ «فقر»، ويتزوج من تلك الكتلة اللحمية الكيسية القطنية الإسكندرانية التي ما أفلح السواد أو اللثام المضروب بعناية حولها أن يخفي أنها امرأة، وامرأة من نوع يصدر عليها أي إنسان حكمه دون حاجة إلى نظرة يلقيها على «سمانة الرجل» عند اتصالها بالقدم.
وكأنما كانت عودة الشيخ رابح وزوجته على هذه الصورة إيذانا باندلاع حرب خفية بينه وبين بلدياته حول رؤية وجه امرأته؛ إذ كان يبدو وكأنما أصدر لها أوامر حازمة باترة مصحوبة بتلويحة مروعة من عصاه «الحكمدار» بأن معنى أن يرى أحد - سواء كان رجلا أم امرأة في الطريق - وجهها الهلاك المحتم لها، وإذا كان قد قدر لك أن ترى الشيخ «فقر»، وهو يهدد، وقد انقبض وجهه واحتقن واسود، وتدببت أشجار السنط في ذقنه وتقنفذت، والتقى الخطان العميقان في جبهته على هيئة عقدة دون حلها رابع المستحيل، لآثرت السلامة حتما، وفضلت أن تطيع أوامره، ولكن أوامره مهما بلغت من قسوتها، فلم تكن لتحول بين الناس وبين رغبتهم التي تتزايد يوما بعد يوم لرؤية وجه امرأته المخفي دائما وراء الطرحة، ولا محاولاتهم المستميتة للعثور على ثغرة في النقاب، أو حتى لضبطها مرة واقفة في حوش منزلهم القديم الواسع أو فوق سطحه الآيل للسقوط، سافرة. ذلك أمر لم يحدث أبدا، وبدا مصرا على عدم الحدوث إلى درجة أيأست الناس تماما، فسلموا أمرهم وحب استطلاعهم إلى الله، ونفضوا أيديهم. أما الذي لم ييأس أبدا، ومضر مصرا وبكل ما يملكه من تزمت فهو الشيخ رابح، ليس فقط على إخفاء وجه امرأته، بل بعد هذا على إخفائها نفسها عن أعين الجميع، وكأنها «بضاعة ... والناس جواعة»، بل على أن يمضي في هذا الطريق إلى آخر المدى؛ فالشيخ «فقر» رغم غضبه السريع والعنجهية التي تستبد به في أحيان، إلا أنه كان دائما وأبدا قبل ذهابه إلى الإسكندرية إنسانا مرحا ذا ضحكة، وإن كانت أقبح ضحكة ممكن أن تسمعها إلا أنها دائمة الحدوث، وبسبب وبلا أي سبب، ودائما تغري على الضحك، بحبوحا لا تفوته النكتة، وإن فاتته انقلب على نفسه وفقره وحياته وأسرته الكبيرة يسخر منها - ويحتد في سخريته - حتى إنه هو الذي أطلق على نفسه الشيخ «فقر»، ولكنه حين عاد بهذه الزوجة عاد إنسانا آخر، ضاق خلقه إلى أبعد مدى، وحول ضحكاته إلى نظرات نارية جادة يخوف بها القريب والبعيد، وكأنما كان يتصور أنه لو فرط لحظة واحدة في حديثه لاستهان الناس به، ومن ثم بامرأته وكشفوا عنها النقاب والغطاء. كان بمثل ما يرهبها ويفرض عليها الحجاب فرض عزيز مقتدر يريد أن يرهب الآخرين، ويفرض عليهم غض النظر، حتى لو كان النظر إليه، وكأنما التحديق فيه مقدمة مستترة للتحديق فيها. أصحابه القدامى هجرهم ولم يعد يجلس إلا مع الكبار الوقورين ذوي الدم الثقيل، حتى هو نفسه أصبح «كقرد قطع» وحيدا صامتا معقود الجبهة لا يطيق الناس - من تلقاء أنفسهم - رؤيته.
إلى أن كان يوم لا يزال الرواة يتذاكرونه؛ فقد كان يوم شتاء والمطر قد أحال البلدة إلى برك وطين ومستنقعات، وكان الوقت منتصف الليل أو بعده بقليل، وكانت «طوبة» وبردها القارس . وكان صراخ إلى عنان السماء تصاعد في الليل من بيت الشيخ رابح، وظن الناس أول الأمر أنه يضربها، ولكنه أبدا ومنذ قدومه إلى البلدة لم يسمع أحد أنه ضربها، وما حاجته إلى الضرب إذا كانت سحنته تكفي؟ فقط حين طال الصراخ وتزايد، أدرك الناس أنها لا بد تلد. وكانت مفاجأة؛ فأمر حملها كان كالسر لا يعرفه إلا أقرب المقربين من الجارات؛ فتخنها كان كفيلا بأن يختفي في طياته عشرة أطفال دون أن يبدو لهم أثر؛ ولهذا كان طبيعيا جدا أن يكون معرفة الناس بالحمل ساعة الولادة معرفة لم تفعل إلا إطلاق الألسن المكتومة التي تتربص بالفرص للضحك، وإشفاء الغليل. وهكذا ظل أناس كثيرون ساهرين يسمعون الصراخ ويتضاحكون تارة على عملية ولادتها نفسها؛ فداية القرية كانت مريضة، والمرأة غريبة لا أم لها ولا قريبة، والشيخ رابح رأسه وألف سيف إلا أن تلد في بيتها، وبمساعدة «أم الخير» الجارة العجوز. مضى بنفسه يشرف على عملية الولادة مزمجرا في كل من تحدثها نفسها من النساء بأن تقترب أو تدق الباب عارضة المساعدة، خالعا جلبابه، باقيا في عز «طوبة» بالفانلة والسروال الطويل، يتفصد العرق الغزير من وجهه وكل مكان في جسده، مشغولا مشغولية عظمى، وكأنه يشرف بمفرده على معركة حربية ليس لها نظير، وتارة تنطلق الألسن منددة - قبل مجيئه - بالجنين المقبل، معترضة أن الحمل لم يحدث من الشيخ رابح، وإنما تم على أثر وصفة اشترتها المرأة من قرداتي تحتوي على نطفة قرد؛ فليس من المعقول أن يخلف الشيخ رابح، وقد بلغ من العمر أرذله! وما يبدو مستحيلا أكثر أن تخلف هي! وتارة تركن الألسن إلى قليل من الجد، وتتساءل عن أخبار عملية الولادة، تلك التي طالت على غير العادة، حتى أصبحت صرخات الإسكندرانية تتلاحق وتشق كالسكين الحامية سكون الليل. مسألة لا بد أنها كانت تدفع الشيخ رابح إلى ما يقرب من الجنون، فإذا كان يرى في وجه امرأته عورة، فلا بد أن صوتها لديه عورة أخطر، وتصاعده في الليل على هذه الصورة جريمة أكثر ، فلا بد أن القاصي والداني الآن يسمعه، وكيف يمكن أن يقبل الشيخ رابح أن تتسمع الآذان، آذان كل من هب ودب صوت امرأته، ذلك الحرم المقدس الخاص به وحده، الذي لا يصح أن تتسمعه آذان أحد سواه؟ لو كان الود وده لخنقها حتى يسكتها، أو للف في القرية يسد آذان أهلها بالطين.
المهم أنه قرابة الفجر، روعت القرية حقيقة حين انفتح باب الشيخ رابح بقوة، وخرج منه الرجل حاسر الرأس بالفانلة والسروال، يتصبب عرقا، ويجري كالمجنون يدق أبواب الجيران طالبا الغوث والعون، باكيا، هذا الجبار، مستحلفا طين الأرض - إذ كان طوبها كله قد تحول إلى طين - طالبا من الجميع مساعدته؛ فالجنين قد خرج نصفه وانحشر نصفه الأعلى لا يريد الخروج، وأمنية حياته الكبرى - تلك التي أخفاها عن الجميع إلى تلك اللحظة - كانت أن يخلف ولدا، والجنين ولد رآه بنفسه وتأكد منه، ولكنه محشور، ولا بد ما لم تتداركه العناية أنه مخنوق ومقتول، وأنا في عرضكم يا ناس، في عرض الصغير فيكم قبل الكبير، والحافي قبل اللابس، أنقذوا الولد وسأعيش عمري عبدكم الذليل.
يا لله! لم يصدق أحد عينيه أبدا ولا أذنيه؛ فلا يمكن أن يكون المتذلل الباكي هذا هو نفسه الشيخ رابح صاحب «الحكمدار» والنظرات المقطرة سما، مستحيل أن يكون، ولكنها دهشة لم تدم طويلا فسرعان ما اختفى الاستغراب، وكتمت الضحكات لتحل محلها الشهامة المعتادة.
وكانت المشكلة أنه لا بد من نقل الوالدة فورا إلى المستشفى، وطلب الإسعاف وانتظاره مسألة لا يمكن أن يفكر فيها عاقل بالمرة، أي إسعاف هذا سيأتي في الفجر والأرض موحلة؟ إنه في أثناء النهار وفي الطرق المرصوفة نفسها لا يأتي إلا بعد ساعات، فما بالك في ليلة كهذه وفي ظرف كهذا، الدقيقة فيه - كل دقيقة - لها ثمنها الفادح؟ وبينما الشيخ رابح قد تهاوى إلى جوار الحائط غير عابئ بالوحل والطين، تاركا أمر التصرف في الموقف لأولاد الحلال الذين تجمعوا بالعشرات والمئات داخل بيته وخارجه، كان الناس قد قرروا أن يتولوا بأنفسهم نقل الوالدة إلى المستشفى ، وبدلا من النقالة قرروا أن يستعينوا بسلم يضعون عليه مرتبة ويرقدونها فوقه، ويحملونها - جرى من جرى - إلى المستشفى الذي لا يبعد عن البلدة إلا بكيلومترين، وانتشرت موجة الشهامة، وعمت القرية كلها حتى استيقظت عن بكرة أبيها؛ فالقرية ليس فيها إلا شيخ رابح واحد، ورغم كل شيء فالشيخ قضى عمره كله يسلي بغضبه الناس ويضحكهم، ومن المحال أن يتخلوا عنه في ورطة كهذه. أكثر من «كلوب» أشعل وجيء به إلى البيت والساحة التي أمامه، وفتشت القرية كلها بحثا عن سلم متين ورجال أقوياء؛ فالحمل الذي سيحمل حمل غير عادي، والسرعة المطلوبة سرعة غير عادية أيضا. وأخيرا تم في دقائق قليلة إعداد كل شيء، وبقي أصعب شيء؛ فالوالدة جاءها المخاض وهي نائمة في «المقعد» فوق السلم، والسلم المؤدي إلى السطح سلم عادي كالسلم الذي ستحمل عليه، ولا بد لكي تهبط سليمة من حملها في وضع أفقي، وإنزالها على هذه الصورة سلمة سلمة، وبحرص شديد، والدنيا وحل، والأقدام والسلالم زلقة، وهي تخينة سمينة في ثقل حجر الطاحونة وربما أثقل، ومشاكل كثيرة وعويصة هندسية وميكانيكية وعضلية كان عليهم أن يحلوها قبل أن تهبط حرم الشيخ رابح إلى الأرض سالمة. أما الشيخ رابح نفسه فما كادت إجراءات الحمل تبدأ حتى انتفض من انهياره واقفا وليس أمامه سوى مشكلة واحدة قاهرة ملحة، أن يفرد فوق امرأته الملاءة السوداء التي أحضروها من بيت العمدة، بحيث تغطيها تماما، وبحيث تحدث عملية الهبوط كلها، والحمل إلى المستشفى دون أن يبدو من جيدها قلامة ظفر. وفعلا كان الرجال جميعا مشغولين بحملها بالمرتبة التي ترقد عليها ووضعها فوق السلم، ثم حمل السلم والهبوط به من فوق السلالم الناقصة أكثر من سلمة، وكان هو مشغولا تماما بضبط الملاءة فوق كل بقعة من جسدها، ولقد نجح في هذا إلى أن وصل جسدها المحمول إلى رأس السلم، حيث بدأ الارتباك الأعظم؛ فالحمل ثقيل جدا والأقدام تتزحلق، والمسافات بين خشب السلم متباعدة، ولولا لطف الله لكانت قد تهاوت بمن حملوها أكثر من مرة، وصرخاتها أقوى من صفارات قطار أي بضاعة أو اكسبريس تنطلق بمعدل عشر مرات في الدقيقة، وتولول مستغيثة مربكة حامليها. وبمحاولاته المستميتة لتغطيتها كاد يؤدي الشيخ رابح إلى سقوطها أكثر من مرة، حتى بدا واضحا استحالة أن تهبط مغطاة، أو على الأقل وثمة أحد - حتى لو كان زوجها - يمسك بأطراف الملاءة، ولم يكن أمامه إلا أن يستسلم في النهاية، ويفرد عليها الملاءة، تاركا أمر بقائها أو انحسارها للحظ والقدر. وكان أهل البلدة في الحوش يتطلعون بقلق إلى محاولات الإنزال، ويرى كل منهم في المشهد عشرات التفاصيل التي تضحك وتميت من الضحك، فينجح في كتم بعضها، وفي أغلب الأحوال يفشل. وعلى أضواء خمسة «كلوبات» من كل الماركات قوية مسلطة على السلم المستعمل كنقالة وسلم الهبوط، بحيث تحيل البقعة إلى ما يشبه المسرح المضاء بشدة، وتحت وقع الرذاذ الخفيف الذي بدأ يتساقط منذرا بقرب عروق مطر سخية بدأت عملية الإنزال، أو بالأصح الارتباك المهول في الإنزال، والأوامر الكثيرة التي يصدرها الجميع إلى الجميع، وصرخات الاستغاثة، وآهات الألم حين ينزلق أصبع أو يدوس أحد على قدم أحد، والهرولة تكثر، والسلم المهدد الذي حفل بعشرات المتسابقين إلى حمل السلم الآخر وإبقائه أفقيا، وعشرات الأيدي تمتد لتحفظ الوالدة فوق محفتها، والملاءة لم تنزلق فقط عن جزء من جسدها، ولكنها سقطت تماما من فوقها ولاكتها الأرجل والأقدام في الطين، بحيث إن الشيخ رابح ذلك الذي كان خوفه الأكبر أن يرى أحد وجه امرأته، قدر له أن يرى بنفسه الناس - مئات الناس - كل أهل القرية وهم يشاهدون، ليس وجهها المكشوف أو ذراعها أو جزءا من ساقها، وإنما جسدها كله بكل ما هو ظاهر فيه أو مستتر، وبالجنين يطل منه، والأضواء قوية مسلطة تتيح للأعمى نفسه أن يرى ما شاء لأي وقت يشاء؛ فالمسرح بلا ستارة، والزوجة بلا غطاء ليس فقط كما ولدتها أمها، ولكنها عارية عري أمها نفسها وهي تلدها، والأعين كلها مجبرة على تصويب نظراتها لكي يمكن إنزال المرأة وإنقاذها، والغريب أن هذا كله حين وقع لم يكن يحتل من تفكير الشيخ رابح واهتمامه إلا أقل القليل؛ فجزعه الحقيقي كان خوفا من أن يموت الجنين، وجزعه الثاني من أن تموت الوالدة، جزع كاد يذهب بعقله، جزع كان يدفعه لأن يصرخ بأعلى صوته في الرجال طالبا من هذا أن يمسكها من فخذها حتى لا تسقط، ومن الآخر أن يحتضنها من أعلى حتى لا تتهاوى، ومن ثالث أن يمد يده بين فخذيها ليباعد بينهما حتى لا تهشما الجنين بضغطهما. مرة واحدة فقط أفاق ورمق الجمع الحاشد الذي تنصب نظراته كلها على جسد زوجته، فأحس بالأرض تميد به، ولكنه في الحال طرد الخاطر؛ فمن أعمق أعماق نفسه كانت تتصاعد خواطر أكثر قوة وحدة، وأمان كثيرة غير محددة، فهو مستعد والله أن يحدث ما هو أكثر، بشرط أن تكون النتيجة أن ينقذ المولود وتنقذ الوالدة.
وبين عشرات الأشياء التي كانت تدفع الرجال ليسقطوا من أطوالهم ضحكا، وعشرات الأشياء التي كانت تتطلب منهم العزم والقوة والجدية، وعشرات المربكات والمثبطات والمشجعات، والوحل والمستنقعات والمطر الشديد الذي بدأ يهطل، من خضم هذا كله هبطت الوالدة وكأنما بمعجزة إلى الأرض، وانطلق بها الموكب الجاري الحافل إلى المستشفى، عشرة يتكاتفون في حمل السلم يسقط منهم تعبا وإنهاكا من يسقط، ويتهاوى من يتهاوى، ويلعن في سره بأعلى صوته الليلة والشيخ والوالدة والمولود من يلعن؛ إذ كانوا وكأنما يحملون جاموسة سمينة ومعلوفة أصابها «عرق الأنس» وليس امرأة مثل غيرها من النساء.
ولكن الموكب وصل والطبيب جيء به من حيث يقطن، والعملية أجريت، وحين صدر عن الولد أول صراخ، بنفسه زغرد الشيخ رابح، وطبلوا له ورقص، وارتفعت من صدر طال عليه الإغلاق قهقهات عمرها أعوام وأعوام.
وحين عادت الزوجة إلى البلدة لم يكن قد تبقى للشيخ «فقر» ما يخفيه عن الناس، وقد رأوا جميعا ما رأوا. ودون حاجة إلى أوامر أو إلقاء تعاليم أو تهديدات أصبحت الإسكندرانية تمشي في طرقات البلدة وشوارعها بوجه سافر مكشوف، وأصبح الشيخ «فقر» لا يسبقها أو يتخلف عنها إنما إلى جوارها تماما يمشي. كل ما في الأمر أن أحدا لم تواته الجرأة يوما على التطلع في وجهها - ليس تعففا أو تأدبا وإنما خجلا - إذ ليتها ظلت مستترة خلف اللثام والطرحة والنقاب؛ فالناظر إليهما معا كان يفضل دائما أن ينظر إلى وجه الشيخ رابح ذي الحفر القديمة نصف المردومة، واللحية النابتة كالسنط؛ فالنظر إلى وجه كوجهه كان - والله - أرحم.
المرتبة المقعرة
نامعلوم صفحہ
في ليلة «الدخلة» و«المرتبة» جديدة وعالية ومنفوشة، رقد فوقها بجسده الفارغ الضخم، واستراح إلى نعومتها وفخامتها، وقال لزوجته التي كانت واقفة إذ ذاك بجوار النافذة: انظري، هل تغيرت الدنيا؟
ونظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت: لا، لم تتغير. - فلأنم يوما إذن.
ونام أسبوعا، وحين صحا كان جسده قد غور قليلا في المرتبة.
فرمق زوجته وقال: انظري، هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت: لا، لم تتغير. - فلأنم أسبوعا إذن.
ونام عاما، وحين صحا كانت الحفرة التي حفرها جسده في المرتبة قد عمقت أكثر، فقال لزوجته: انظري، هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت: لا، لم تتغير. - فلأنم شهرا إذن.
ونام خمس سنوات، وحين صحا كان جسده قد غور في المرتبة أكثر، وقال كالعادة لزوجته: انظري، هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت: لا، لم تتغير. - فلأنم عاما إذن.
ونام عشرة أعوام، كانت المرتبة قد صنعت لجسده أخدودا عميقا، وكان قد مات وسحبوا الملاءة فوقه، فاستوى سطحها بلا أي انبعاج، وحملوه بالمرتبة التي تحولت إلى لحد، وألقوه من النافذة إلى أرض الشارع الصلبة.
نامعلوم صفحہ
حينذاك وبعد أن شاهدت سقوط المرتبة اللحد، حتى مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من النافذة، وأدارت بصرها في الفضاء وقالت: يا إلهي! لقد تغيرت الدنيا.
معجزة العصر
قال لي صديقي الذي لم أره من عشر سنوات، والذي كان مقدرا أن أنقذه:
هذه المرة، هل رأيت معجزة العصر؟
بلا دهشة سألته: أية معجزة؟
لم يجب، ولم نضيع الوقت في التخمين، وكأن اتفاقا بيننا. لف ذراعه حول ذراعي وجذبني وتبعته صامتا، حاولت أن أعرف إن كانت المعجزة هي الوصول إلى القمر، أو ظهور المهدي المنتظر، فكاد يغلق فمه تساؤلا، قائلا: لا تخمن فلن تستطيع أبدا إدراكها، ولو عرفتها من تلقاء نفسك لكانت معجزة العصر أنك عرفتها.
وبحماس جذبني بقوة أكبر، وبعد خطوات كنا على البلاج. كانت الدنيا شتاء، والشمس صفراء تسقط شعاعاتها المريضة على الرمل، فيبدو مجرد لون أنيمي شاحب، جو تتوقع أن يكون البلاج معه فارغا غير أنك تفاجأ به عامرا مزدحما، وكأننا في أغسطس، الناس مكدسون على الرمال بالأكوام، والباعة ينادون على جيلاتي طوبة، وسحلب بئونة بدندرمة أغسطس. ولو أغلقت العين لحسبته مجرد خطأ في ورقة النتيجة؛ فأصوات الصيف هي هي، وصخب الأطفال هو هو، حتى ذلك الإحساس الخاص بالصيف، ذلك الذي تحس وكأن الحياة به أكثر حلاوة كان موجودا. إذا غضب الله على قوم أمطرهم صيفا، فماذا يكون موقفه تجاههم إذا جعلهم يصيفون في الشتاء؟ من الممتع أن تشحذ عواطفنا مشاكل الظواهر الكونية، فحين أسخط على الدنيا تهطل الأمطار، وحين أحظى برضاء حبيبي تشقشق في الكون ملايين من عصافير الكناريا، وإذا كرهت جاري أطبق على المدينة ضباب، حتى لا تكاد ترى - وأنت واقف على بابك - باب جارك. والجار أولى بالشفعة، إلا جاري الذي لم أره من يوم أن قطنت عمارتنا؛ فكلانا وحيد، وكلانا في المدينة المزدحمة قد فقد الونس، حتى أصبح الازدحام مجرد حبل معقود يهدد احتواء رقبتك، فأنت مرعوب منه، وخائف حتى النخاع. نفس الإحساس الذي شعرت به، وازدحام البلاج يحويني، كتل من اللحم البشري مقسمة إلى أذرع مختلطة وسيقان. ويا لمشهد الجسد البشري بعد العشرين حين يكتنز بالشحم، وتبرز له الكروش ويبدأ التفكير في صبغ الشعر أو توزيعه ليغطي الصلعة! حتى الجسد يهجرك ويهرب منك. وفي هذه الوحدة المزدوجة لا بد أن يهزم الإنسان سريعا؛ فنحن كائنات أرضية لا تنمو بصحة إلا معا، إلا كمحصول واحد، فإذا ما زرع كل نبات منا بمفرده أكله «الفلت» وخنقته الطفيليات.
أتكون المعجزة هي الحصول على دواء يشفي الغربة ويعيد جمع الناس؟ باء تخميني أيضا بالفشل، وفقدت عين الحكمة مع أن الحكمة ثرثرة، لا بد حسب قوانين التباديل والتوافيق أن ينتظم بعضها على هيئة أقوال رائعة النضج، ولكني سعيد وكأن مجرد رؤيتي الموشكة للمعجزة سيسلحني بطاقية إخفاء أو بخاتم سليمان قادر على تحقيق المطالب. الغريب أن الزحام لم يكن ازدحاما للتجمع، كان تجمعات للتفرق؛ فكل مجموعة مكدسة بكليتها إلى شيء مشترك يخصها وحدها، أو ربما تبحث لنفسها هي الأخرى مثلما نبحث عن معجزة عصر، فأنت تقبل على تجمع يشبه من بعيد شكل الكازينو الذي أقيم على عجل، ولكنك حين تقترب لا تجد كازينو أو حتى مكانا للجلوس؛ فالناس إما وقف منحنون أو في حالة رقاد، والكل في شغل عنك بما يبدو وكأنه مأساة داخلية طاحنة. لا أحد يلتفت إليك، الأيدي تلوح في عصبية، والنقاش حاد كطلقات الرصاص، وبعضهم بمجهود عظيم يضع يديه الاثنتين معا على فمه محاولا أن يكتم الضحك فلا يستطيع، وتكون النتيجة أن تفلت الضحكة رغما عنه. حسبت الصديق يضحك، ولكنه كان يتوقف ويتطلع حوله، ثم يحاول أن يخفي نفاد صبره، والعرق رغم الهواء الساقع قد نبت على جبينه، والحيرة الكبرى تتملكه، ويأسه شامل، يكاد لولا الحياء أن يستنجد بالناس، ويسألهم أين الطريق لمعجزة العصر!
حسبته يضحك، ولكنه كان، فجأة يلكزني ويشير إلى كازينو قريب قائلا وقد تهللت ملامحه، وكاد يقفز منها الأمل: وصلنا.
ولم تكن فرحتي هذه المرة لأننا نوشك أن نصل، فرحتي كانت لأننا نوشك أن نصل إلى كازينو، حيث نستطيع الجلوس وشرب الماء المثلج والشاي بعد هذا الكدح الطويل من الشاطبي إلى سيدي بشر والمنتزه.
نامعلوم صفحہ