النداهة
حين دفع «حامد» الباب، وفوجئ بالمشهد الهائل المروع مات، بالضبط مات؛ وجد نفسه فجأة قد سكنت فيه كل خلجة أو حركة أو فكرة، ولم يعد يرى أو يسمع أو يشعر، والدنيا من حوله هي الأخرى سكنت تماما، وماتت، وانتهى كل شيء.
كانت «فتحية» زوجته راقدة على أرض الغرفة، والولد الصغير ملتصق برأسها العاري ينتحب مرعوبا وهو يجذب شعرها بشدة، بينما هي عارية الرأس، عارية الساقين والفخذين، عارية كلها أو تكاد، وفوقها يرقد أفندي بجاكتة وبلا بنطلون أو سروال، وإنما مؤخرته العالية قد ذابت في عري «فتحية» وانتهى الأمر.
مشهد صامت، غارق في ظلام الظهر الذي اعتاد الحجرة واعتادته، لا صوت فيه ولا صراخ ولا مقاومة. الصوت التالي تماما، وكأنه جاء بعد عام، كان صوت شهقة، شهقة بشعة هائلة البشاعة، شديدة اللهفة، مشحونة بالذعر والدهشة والرعب، شهقة كأنها صادرة عن كل الجسد بأقوى ما يستطيعه من استنكار: حامد!
شهقة انتفض لها الطفل خائفا، وراح بأعلى ما يستطيعه من صراخ يبكي، ومع هذا فلم يعد أحد يسمع صراخه؛ إذ أخذ كل شيء يشحب ويصفر ويبيض، حتى الظلام، أبيض وعاد مثله مثل كل شيء في الحجرة أو البيت أو الدنيا كلها إلى مواته، وظل ميتا وكأنما لعام آخر، إلى أن عادت الحركة إلى الحجرة، وكان أول من تحرك فيها هو الأفندي، إذ في قفزة واحدة كان قد رفع بنطلونه، وأصبح خارج الحجرة، وفي القفزة التالية كان البنطلون في مكانه المعتاد، وكان هو خارج البيت!
وحينئذ فقط تحرك «حامد»؛ لأن الحياة حين عادت لم تعد لعقله، إنما عادت فقط لأقدامه، فإنه وجد نفسه يقفز هو الآخر، وقد أودع القفز كل حياته، قفزة حملته خارج الحجرة، وفي القفزة الثانية كان قد أصبح مثل الأفندي خارج البيت، ولكنه وصل متأخرا قفزة.
وهكذا حين وصل إلى الشارع كان «الأفندي» الواحد قد أصبح عشرة، أو عشرين، كلهم بجاكتات، وكلهم ذوو مؤخرات تغطيها البنطلونات، ومعظمهم يمشون بأسرع من الجري، وأوسع من القفز، وكل منهم في اتجاه!
في تلك اللحظة - فقط - كانت الحياة قد عادت لعقل «حامد» وأفكاره، وأحس - من أول وهلة - أنه لم ينطلق في أثر الأفندي إلا لأنه انطلق، ولأنه كان عليه أن يقفز خلفه؛ فمنذ الثواني الأولى وهو يعرف أن هدفه ليس الأفندي أبدا - ولا أي أفندي - ولا في الشارع كله، أو حتى المدينة بأسرها، هدفه في حجرته، في زوجته، بل يكاد يكون في ذلك الجزء منها الذي طالما عمر بيوتا وخرب بيوتا، واقتتل من أجله الناس، جنة الخلق وجحيمها ومثواها.
وهكذا استدار، هذه المرة لم يقفز فقط استدار، ورفع قدمه بادئا خطواته، وكاد يبقيها في الهواء معلقة؛ فعقله والحياة حديثة العودة إليه يأبى أن يعمل إلا كما يعمل عقل طفل صغير واجهته مشكلة، ومشكلته هذه اللحظة أنه خائف، بل مرعوب تماما. إن هدفه هو أن يعود إلى بيته - الحجرة - هذا صحيح، ولكن ليس في كيانه كله ذرة رغبة واحدة في العودة، كيف يعود ليواجه زوجة نصفها الأسفل عار؟ جسدها مبطط لا يزال يحمل آثار كتلة الأفندي وبهيميته؟ أي إنسان في الدنيا، أي زوج يمكن أن تطيعه قدمه ليخطو بها تجاه مشهد كهذا؟
ولكن، لأن رعبه هذه المرة هو الذي يحركه للعودة، لحظة فيها ألف لحظة! أقواها وأقساها جميعا لحظة غدر أحس فيها أنه أخذ غدرا. لم تغدر به «فتحية» فقط أو الأفندي، ولكن الدنيا كلها بأرضها وسمائها أخذته غدرا. وحينما تغدر بنا الدنيا ونحن صغار، فإننا نلجأ لأمهاتنا لنجد في أحضانهن ما يعيد إلينا الثقة في الوجود، وإذا غدرت بنا وكنا كبارا سارعنا إلى زوجاتنا ليؤدين لنا نفس المهمة، فإذا كان الغدر هذه المرة مصدره الأم - ذاتها - أو الزوجة، فويلك يا «حامد»! حينئذ وأنت مشدود مصلوب ممزق بين رغبتك أن تفر من «فتحية»، ومن الدنيا كلها فلا تعود تراها أبدا، ورغبتك في أن تسرع بأقصى ما تقدر وترتمي في أحضانها وتشكو إليها، حتى لو كانت هي المشكو منها، رغبتك أن تستجير بها من الدنيا لتجد أن الأولى أن تستجير بالدنيا منها، بما هو أبشع منها.
نامعلوم صفحہ