ظاهرة تدفع إلى الاستنكار والاشمئزاز مثلما نستنكر جميعا أن تقوم الحشرة بدور الإنسان في الوقت الذي لا نستنكر فيه مطلقا من أي إنسان أن يقوم بدور الحشرة. وعاد مهموما إلى ولي أمره السلطان الذي أدرك كل شيء بنظرة، والذي كان قد رتب للأمر، ومن اليوم التالي كان «النص نص» يحضر لدراسة الدكتوراه، كان قد انتوى أمرا خطيرا، أن يدرس أربع عشرة دكتوراه في نفس الوقت. وبينما كان زملاؤه يؤدون أعمالا روتينية، ويبدءون في لعن الروتين والسخط على قوانين الاستخدام، وفي الوقت الذي كان بعض آخر منهم قد يئس من كل شيء، ووهب نفسه كلية للتهليس وعب ملذات الحياة عبا، نذر نفسه هو للدراسة، وفي ثلاث سنوات كان قد أكمل استعداده، ولأول مرة في تاريخ الجامعة - بل في تاريخ الجنس البشري كله - تجتمع أربع عشرة لجنة لأربع عشرة مادة مختلفة، من الرياضة العليا إلى هندسة الإنتاج إلى الجراحة الخاصة لتمتحن «النص نص» في نفس الوقت؛ ومن أجل هذا الحدث غير العادي غيرت الجامعة من نظام المناقشة، وأجلست «النص نص» في منتصف الحجرة، وحوله تناثرت مقاعد الممتحنين الذين لم يبد عليهم أي استنكار لحجم «النص نص» أو شكله؛ فالمجتمع لا يهمه شكلك وأنت تدرس أو وأنت تمتحن، إنه فقط يبدأ يدقق ويفحص ويختار حين تتقدم إليه تطلب العمل!
ولأربع عشرة ساعة راح الممتحنون وأعضاء اللجان يناقشونه، ولم يكتشفوا لدهشتهم أنه قد هضم واستوعب تماما كل مادة من مواد الامتحان، إنما اكتشفوا أكثر أنه بلغ من استيعابه للمواد أنه وصل إلى نظريات عامة جديدة تماما في علاقة ألوان العلوم والمعارف بعضها ببعض، نظريات أوصلته إلى قوانين خطيرة تكشف شيئا فشيئا عن جذور المعرفة البشرية والقوانين الموضوعية للمادة وأشكالها المختلفة، بحيث إنه كان يتوصل معهم إلى القانون الأول الذي يحكم علاقات الكون كله. وتحول النقاش حينئذ من لجان تمتحن «النص نص»، إلى تلامذة يخرج لهم «النص نص» كنوزه ويحدثهم عما وصل إليه وهم حيارى مذهولون، قد أدركوا فجأة ليس فقط أنهم أمام عبقري من طراز نادر، ولكنهم اكتشفوا أنهم قضوا حياتهم عبثا، وأن دراسة الكون كأجزاء منفصلة، والإغراق في التخصص قد سلبهم القدرة على النظرة الكلية، وأن خير وسيلة للدراسة والمعرفة هو ما فعله «النص نص»، هو أن يعود العالم مرة أخرى مثلما كان الحال أيام ابن سينا وابن رشد عالما في كل شيء ليستطيع أن يصل إلى المفتاح السحري للعلم، ذلك الذي يفتح كل باب مغلق، وأيضا كان لا بد أن يحدث ما حدث؛ فرغم ما كانوا غارقين فيه من ذهول، ورغم أفواههم الفاغرة تتلقى من «النص نص»، وكأنها تتلقى درس الحياة الأول، ما كادوا ينتهون من نقاشه أو بالأحرى ينتهي هو من إلقاء الدرس عليهم، حتى عادوا يغرقون في المناقشات الحامية حول ما أسموه «الظاهرة النص نصية»، وهل هي معجزة فردية لا سبيل إلى الوصول إليها، أو هي أسلوب وطريقة باستطاعة أي إنسان أن يستعملها ويصل بها إلى نفس النتائج. ولما بح صوت «النص نص » وهو يحاول استخراجهم من النقاش ولفت أنظارهم مرة أخرى إليه، وهم مستغرقون في عملية انقسموا تجاهها أيضا هل يمنحونه أربع عشرة دكتوراه منفصلة، أو يمنحونه درجة علمية جديدة يسمونها دكتوراه الدكتوراهات؟ انسل «النص نص» من وسط الجمع لا يشعر به أحد، أو ينتبه إليه أحد، أو يوليه اهتمامه، انسل وحيدا، مهموم القلب، وقد عاد مرة أخرى إلى مواجهة واقعه الحزين وحظه السيئ، وعاد إلى بيته ليفاجأ بالمأتم قائما ومنصوبا. كان ولي أمره السلطان قد مات، وكان منذ الغد عليه أن يرحل، ورحل لا يمت إلى أحد، ولا يستطيع حتى أن يمت إلى مكان، فلا صاحب بيت يرضى أن يؤجر له بيتا، ولا مدير فندق يرضى أن ينزله بفندقه، نفس الاندهاش والتقزز تمتلئ به نفس من يخاطبه ويتفرج عليه برهة، ثم لا يلبث - كالطفل حين ينتهي من لعبته - أن ينفض منه يده، ولا يعود يأبه له أو لتوسلاته.
نفس الأساتذة الذين كانوا يشيدون بعبقريته حين كان يلقاهم منفردين في مكاتبهم، كانوا لا يملكون له سوى هز الأكتاف، وإلا تبصيره بالعقبات التي تشل أيديهم، وتمنع الواحد منهم أن يعهد إليه بعمل - أي عمل - لا كدكتور حتى أو كعالم، وإنما كإنسان تجارب عرض نفسه على أستاذ علم الأمراض كي يبقيه في قسمه، مجرد عينة علمية وظاهرة ممكن دراستها للكشف عن هرمونات النمو وأمراضه، اعتذر له الرجل قائلا: إن قانون الجامعة لا يبيح الاحتفاظ إلا بحيوانات التجارب فقط من أمثال الفيران، والخنزير الغيني، والأرانب، ولكن القانون لا يوجد به مادة تبيح الاحتفاظ بإنسان تجارب. لو فعلها لحاسبه ديوان المحاسبة حسابا عسيرا، ولعاقبته الجامعة، حتى الصحف والتليفزيون والإذاعة حين شاعت قصته في الأوساط العليا جرى مندوبو الصحف يبحثون عنه، حتى وجدوه عند أستاذ من أساتذة الجامعة، وأخذوا له عشرات الصور الفوتوغرافية، وأعطى عشرات الأحاديث، وعملوا معه أكثر من لقاء. في التليفزيون، وأمامه وعيني عينك كانوا يحضرون بعض أساتذة الطب ليقولوا رأيهم فيه، وفي الاستوديو كان حين يتكلم يحس بالدنيا كلها منصتة إليه، ويبدأ يتفاعل، ويفتح لهم صدره، ويطلب منهم أن يجدوا له عملا يتناسب مع مركزه العلمي ومؤهلاته، وكان ما كان يذكر حكاية العمل وحاجته إليه، ويطلبون منه أن يقترح عليهم نوع العمل الذي يريده، وما يكاد يذكر كلمة مدرس أو معيد، أو حتى محضر في معمل، حتى ينفجروا ضاحكين مقهقهين، مشيرين إليه وإلى حجمه، وسادرين في الضحك عليه لا بد. وكالعادة لم تستمر موجة الاهتمام به كثيرا، بعد أسبوع أو أقل فتر الحديث عنه، ولم يعد ظهوره في التليفزيون حادثا كبيرا كما كان الأمر في أوله، إلى درجة أن أحد منتجي القطاع الخاص كان أثناء موجة ازدهاره قد فكر أن ينتج عن حياته فيلما. خبر أسعد «النص نص» وأفرحه؛ فهو على الأقل سيأخذ ما لا يقل عن شهرين أو ثلاثة من العمل والاستعداد، غير أن هذا الأمل نفسه ما لبث أن خاب حين وجد نفس المنتج أن فكرة الفيلم ممتازة هذا صحيح، ولكن المستحسن أن يقوم إسماعيل يس ببطولتها، ويسموه إسماعيل يس في الجامعة!
وبالعدول عن فكرة الفيلم، وانتهاء الحديث عنه في وسائل الإعلام وجد «النص نص» نفسه بين يوم وليلة يحيا في فراغ كامل تام. وجد كل الأبواب التي كان يتخيل أنها مفتوحة على مصاريعها في انتظاره تغلق دونه الواحد وراء الآخر بلا سبب معلوم، وكأن هناك مؤامرة خفية هدفها أن يفقد عقله، أو يرتكب عملا أحمق. وكان قرر أن يرتكب هذا العمل وينتحر؛ فقد ضاقت به الدنيا، حتى أصبحت أضيق من «خي» حبل المشنقة.
ولم يتطلب منه الأمر تفكيرا كثيرا، وعلى الفور شرع في اتخاذ طريقه إلى مبنى المجمع في ميدان التحرير، وعلى قدميه صعد الطوابق الكثيرة؛ إذ هو لم يكن يستطيع أخذ الأسانسيرات أو ركوب الأوتوبيسات مخافة أن يفعصه أحدهم دون أن يحس أو يشعر. خرج إلى سطح المبنى، وأشرف على حركة المرور الهائلة في الميدان، وراجع حياته وما ينتظره عله يجد قشة أمل يتعلق بها في لحظاته الأخيرة، ولكن كان واضحا تماما أن قصته مع الناس قد انتهت، وأنه لم يعد بإمكانه أن يعيش بالطريقة التي يريدها، كان يستطيع أن يعيش على هامش الحياة مثلما يحيا الآلاف والملايين غيره، يأكل كيفما اتفق، ويسكن كيفما اتفق، ويوجد كيفما اتفق، ولكن كنوز المعرفة التي نهل منها جعلته يرفض أي حياة أخرى إلا الحياة التي يريدها هو، إلا أن يفرض على الحياة حياته، فإذا فشل في هذا الفرض كان عليه في صمت وبطولة أن يموت. وأغلق عينيه وقفز من حافة السور الصغير المقام فوق السطح، وأحس بنفسه يهوي ويهوي، وبوعيه يبهت ويبهت كأنه الشمعة تتعرض لتيار هواء قوي. حالا ستنطفئ الشمعة، ويفقد الوعي تماما وإلى الأبد، غير أن اللحظات طالت حتى جرؤ على فتح عينيه، فوجد نفسه يقترب من الأرض بسرعة، فعاد يغمض عينيه، وفي اللحظات التالية بدلا من فقدان الوعي اصطدم بالأرض، ولم يتحرك من مكانه منتظرا الموت، غير أن الموت لم يأت، كل ما في الأمر أحس بآلام هائلة. آه! كيف فاته وهو العالم الكبير أن سقوط من في وزنه لا يمكن أن يؤدي إلى وفاته أو حتى كسر عظامه؟ هذه المرة غضب، وفي غضبته راح يبحث بسرعة عن وسيلة أخرى يقضي بها على نفسه. لم يكن أمامه إلا أن ينام فوق قضيب السكة الحديد، وينتظر القضاء تحت عجلات القطار، ولكن القضاء لم يحل؛ فالهواء الناتج عن القطار القادم تكفل بنفخه، حتى طار من فوق القضيب، واستقر كالريشة على الزلط. حتى الغرق في النيل جربه، فوجد نفسه وفقط بحجم ما يرتديه من ملابس يطفو على سطح الماء، ولم يفكر في خلع ملابسه مخافة أن تفشل الوسيلة، فيضطر إلى أن يعيش عاريا وهو مصير لم يكن يتصوره.
تكفل فشل هذه الوسائل جميعها برد بعض التعقل إليه، وكأن نية الموت لها حد محدود، بحيث بعد محاولة أو محاولتين لا يصبح الإنسان قادرا على أن يظل منتويا الموت. وهكذا وهو طاف على سطح ماء النيل بعد فشله الثالث قرر أن يحيا، أن يكافح ليحيا كما يريد، وينتزع الحياة بأظافره وأسنانه ما دام الناس لا يستطيعون أن يقدموها إليه على طبق من الفضة، ولكي تقرر أن تحيا عليك أن تقرر أيضا ماذا تفعل بحياتك. وهكذا في نفس اللحظة كان «النص نص» قد قرر أن يحل بحياته القادمة المقبلة كل ما استعصى على البشرية حتى ذلك اليوم حله.
ونفس الشيء الذي كان يقف حائلا بينه وبين حقه في الحياة كالآخرين، نفس صغر حجمه توسل به كي يحيا كما يريد. الآن باستطاعته أن يختار أفخر مكان يريد الإقامة فيه وأحسن مكان يعمل فيه ويجرب. واختار هيلتون ليقيم فيه، أما رقم حجرته فهو رقم أي حجرة لا يشغلها قاطن، وإن كان الفندق كله مشغولا فهو رقم حجرة أجمل قاطنة من قاطنيه على شرط أن يصحو قبلها، مخافة أن ترفع البطانية، وتكتشف شريكها في الفراش، ويغمى عليها من الرعب. أما العمل فقد اختار معامل الكليات جميعها بعد انتهاء اليوم الدراسي، حيث تصبح كلها تحت أمره. والآن وقد توفر له السكن والمعمل والأدوات لم يعد أمامه إلا أن يستغل ما يحفل به عقله من كنوز المعرفة ويعمل. وكان أول موضوع اختاره، وأراد أن يلقي به درسا على كل هؤلاء الذي تجاهلوه وازوروا عنه، كان الوصول إلى القمر. وبعد أبحاث لم تستغرق سوى بضعة أسابيع كان قد اكتشف الطريقة، لا لم يستعمل الصواريخ ولا الوقود، استعمل طريقة أبسط من هذا بكثير؛ فقد اكتشف كنه الجاذبية، وأدرك أنها شحنة نوعية؛ بمعنى أنك إذا استطعت أن تشحن مادة بنفس شحنة الجاذبية الأرضية، فإنها تتنافس مع الأرض وتصعد إلى أعلى. وهكذا استطاع أن يشحن مركبة الفضاء الصغيرة التي صنعها في معمل الميكانيكا بكلية الهندسة بواسطة جهاز صغير مركب داخل السفينة، وبتشغيل الجهاز تنافرت المركبة مع الأرض، وبتقوية الشحنة أمكن أن يسرع بها إلى درجة أنها قطعت المسافة بين الأرض والقمر فيما لا يزيد عن الساعة، وحين اقترب من القمر أعاد شحن السفينة بنفس جاذبية القمر. وهكذا تعادلت قوة تنافرها مع القمر مع قوة اندفاعها الأولى، وهبطت على سطح القمر بسلام. وطور بعد هذا اختراعه ؛ ليستطيع أن يسافر إلى الكواكب الأخرى. وهكذا كان يكفيه أن يشغل الجهاز، بحيث يمنع عن السفينة الجاذبية الأرضية، وفي نفس الوقت يشحنها بجاذبية مضادة لجاذبية المريخ أو الزهرة أو أي كوكب يختاره، فإذا بجاذبية ذلك الكوكب تتفاعل مع جاذبية السفينة، ودون حاجة إلى بوصلة أو ملاحة فضائية أو مرشد كانت السفينة تنجذب تلقائيا إلى الكوكب بقوة عظمى، حتى لقد استطاع أن يصل بالسرعة إلى مليون كيلومتر في الثانية، وهي أضعاف سرعة الضوء. وهكذا كان يستطيع الوصول إلى القمر في نصف ثانية، وإلى المريخ في 250 ثانية. •••
وهكذا وضع قدمه على الطريق للسفر إلى العوالم الأخرى التي تفصلها عنا مئات السنوات الضوئية؛ إذ هو لم يجد حياة على المريخ كما كان يتوقع. وبدراساته وتلسكوباته الرادارية أمكنه أن يكتشف أن هناك قانونا أساسيا من قوانين الكون، قانون التماثل؛ بمعنى أن كل مجموعة نجمية توجد فيها الشموس والأقمار بنظام واحد، بمعنى أن المجموعة الشمسية المقابلة لمجموعتنا في الكون الآخر لها هي الأخرى شمس مثل شمسنا، وعلى نفس البعد منها يوجد مريخها وزهرتها، وأيضا على بعد 53 مليون ميل منها توجد كرتها الأرضية، وهكذا، فالحياة لا توجد إلا في الكرة الأرضية الموجودة في المجرة المقابلة لمجرتنا، وهي كرة تبعد عنا بحوالي 525600000000000000000 ميل، ويستغرق الإنسان في قطعها ثمانين مليون سنة ضوئية، فإذا عرفنا أن المسافة بين الشمس والأرض 93 مليون ميل يقطعها الضوء في ثماني دقائق ونصف دقيقة، لأمكن أن نتصور المسافة الهائلة التي لا بد تفصلنا عن زميلتنا الكرة الأرضية الأخرى، والتي من أجل الوصول إليها كان على «النص نص» أن يصل إلى جهاز يستطيع أن يولد قوة جاذبية تصل بسفينة الفضاء إلى سرعة أسرع بكثير من سرعة الضوء، وإلا لاستغرق ثلاثين مليون سنة ضوئية للوصول إليها، ونفس المدة في العودة منها. وهكذا أمكن أن يصل بجهازه إلى سرعة توازي مليون مليون مرة سرعة الضوء، وبهذا أمكنه أن يذهب إلى الكرة الأرضية المقابلة ويعود منها في بحر 74 يوما فقط، وهو شيء خارق للعادة كما ترى.
غير أن بناء هذا الجهاز كان يستغرق وقتا إذ هو يقوم به بمفرده دون مساعدة من أحد، ولا بد أن يصنعه متينا قويا مزودا بكميات من الأكسجين والوقود تكفي لهذه الرحلة الطويلة؛ ولهذا وفي انتظار أن يتم صنع مركبة فضائية واصل العمل في بحوثه الأخرى، فاكتشف «كورس» الأربعة عشر يوما للوصول إلى درجة العبقرية؛ ذلك أنه بدراسته للإنسان وللحيوان اتضح أن الذكاء والقدرة العقلية مبعثها هرمون خاص مسئول عن تغذية وتشغيل خلايا المخ. ومع أن طاقة المخ البشري طاقة جبارة إلا أن الجزء المستخدم منها قليل جدا؛ ذلك أن هذا الهرمون يفرز بكمية قليلة، في حين أننا لو زدنا من كميته لاستطاع العقل البشري أن يعمل أضعاف أضعاف ما يعمله الآن، ودون جهد يذكر. وهكذا بواسطة الأربع عشرة حقنة تؤخذ على مدى أربعة عشر يوما أمكنه أن يصل بالعقل البشري إلى أن يصبح له قدرة شكسبير الشعرية والمسرحية وذكاء أينشتين وحساسية بتهوفن الموسيقية. إنه يضع الإنسان بواسطة هذا «الكورس» على أعتاب العبقرية، ولكنه لا يستطيع أن يصنع له شيئا آخر؛ إذ الباقي عليه هو وحده أن يقوم به وينتجه، بل إن بحوثه في هذا الاتجاه أوصلته إلى طريقة تركيب الخلية العصبية، وبالذات طريقة تركيب الأحماض الأمينية التي تكون الكروموسومات داخل نواة هذه الخلية، وهي الأحماض الأمينية المسئولة عن صنع الحياة؛ إذ هي تستطيع أن تحيل المواد العضوية وغير العضوية إلى مواد حية قادرة على الانقسام الذاتي والحركة. كل المشكلة أن العلماء الذين سبقوه لم يستطيعوا الوصول إلى هذا التركيب؛ لأنهم كانوا يدرسون على خلايا الجسم الإنساني والحيواني، في حين أن خلايا الإنسان والحيوان مهما كثر عددها ليست سوى أجزاء من الكائن الحي؛ ولذلك اتخذ هو حيوانا ذا خلية واحدة، ولكنها كبيرة الحجم جدا، بحيث تسهل دراستها، اتخذ البيضة، بيضة الدجاج باعتبارها وحدة حية قائمة بذاتها، وبواسطة الميكروسكوب فوق الإلكتروني الذي ابتكره - وهو ميكروسكوب قادر على التكبير إلى مليون ضعف - أمكنه أن يرى جزيئات الحمض الأميني، بل أمكنه أن يرى هذه الجزيئات، وهي تتكون من تلقاء نفسها وتتركب، ولم يكن عليه بعد هذا إلا أن يقلد العملية. وهكذا استطاع بواسطة محاليل من الكربوهيدرات والمواد النيتروجينية والكبريتية، وبإمرار تيار منشط عبارة عن سيل متدفق من الأشعة فوق البنفسجية، أمكن لهذه المواد أن تختار النسب التي تتحد بها مكونة البروتوبلازم الحي؛ ولأنها مواد معلومة الوزن، وقد أمكنه أن يعرف نسب هذه المواد التي دخلت في تركيب البروتوبلازم، أمكنه أن يصل إلى هذا اللغز المعقد، ويعرف سر تركيب المادة الحية، بل أمكنه أن يخلق خلايات حية في كأس زجاجية، الخلية منها في حجم البيضة، تتفاعل بالضوء وتنجذب أو تنكمش لدى اقتراب الخطر، وقادرة على تغذية نفسها، بل وأن تنقسم في النهاية إلى خليتين. وكان يعتقد قبلا أنه لو وصل إلى هذا الحد لتكشف له سر الحياة، ولأمكنه أن يصل إلى تركيب كائنات أرقى بكثير من كائنات الخلية الواحدة، ولكن المشكلة التي واجهته جعلته يكتشف أن هناك لا بد سرا آخر غير مجرد التركيب الكيميائي، ذلك السر الذي يبدو وكأنه كامن في الخلية الحقيقية يجعلها لا تنقسم ولا تتكاثر وتتحرك فقط، ولكن يجعلها - وهذا هو أهم شيء - تتطور لتأخذ باستمرار أشكالا أخرى. الخلايا التي أوجدها لها نفس تركيب الخلية الحية الكيميائي، فماذا إذن يجعل الخلية الحية قابلة للتطور بينما خلاياه هو خاملة لا تتطور؟ ذلك هو السؤال، سؤال كان يبدو عويصا إلى الدرجة التي جعلته يؤجل الإجابة عنه ليبتكر للبشرية بعض الأشياء التي تحتاج إليها بشدة مثل السرطان وعلاجه؛ ولكي يعالجه كان عليه أن يعرف سببه. وقد اكتشف السبب من نفس تجربته السابقة؛ إذ هناك خميرة معينة داخل الخلايا الحية مسئولة عن انقسام تلك الخلية وتكاثرها. حين يصل الحجم بالخلية إلى درجة معينة، أو يصل بها العمر إلى زمن معين محدد، تعطي الخميرة الإشارة، وتبدأ الخلية تنقسم. هذه الخميرة ليست مستقلة في عملها، ولكنها خاضعة لاحتياجات الكائن الحي ككل، بحيث حين لا تستدعي الحاجة يستطيع الجسم أن يؤجل التكاثر والانقسام، أو يشرع به إذا استدعت الضرورة، وذلك بواسطة هرمون معين، والسرطان ليس سوى تحرر خمائر الانقسام الموجودة داخل الخلايا من أثر هذا الهرمون، بحيث تبدأ تتكاثر أوتوماتيكيا دون هرمون يزجرها أو يوقفها عند حدها؟ وعلاجه لا يتعدى تزويد الإنسان بجرعات من هذا الهرمون تعيد إخضاع الخلية للمراكز العليا، واحتياطات الجسم.
وهكذا حل «النص نص» مشكلة السرطان. أما السل وبقية الأمراض فلم ينفق وقته في إيجاد علاج لها كل على حدة، وإنما توصل إلى معرفة نوع من المنشطات الحيوية، تلك التي تفرزها الخلية الحية إذا أشرفت على الموت قبل موتها بثوان، وكآخر سلاح لديها تطلق الخلية خميرة سماها العلماء المنشط الحيوي تقضي على كافة أعداء الجسم من ميكروبات، وتنقذ المريض في آخر لحظة. استطاع «النص نص» أن يتوصل لمعرفة نوع منها قادر على الفتك بأية ميكروبات مهما بلغت قوتها، بل وبواسطة قرص واحد منها يأخذه الإنسان كل أسبوع يستطيع أن يضمن الإنسان بقاءه سليما معافى من كل الأمراض، حتى الأمراض الاجتماعية. وبواسطة لتر من الأنتي كابيتال يوضع في كل مليون متر مكعب من ماء الشرب، يستطيع هذا العقار أن يغير من أفكار الناس، بحيث لا يعودون يطيقون الجشع الرأسمالي، ويصبحون أكثر حساسية في كل ما يتصل بالغير، بحيث لا يرضون ظلمه أو الجور عليه، حتى روح الحرب والعدوان يستأصلها؛ إذ هو يضخم مركز الغيرية في المخ، ذلك المركز الذي تصدر منه كافة الأفعال والتصرفات الإنسانية، وتهدف إلى المحافظة على النوع من خلال المحافظة على المجموع، عكس المركز الآخر الذي يضمر بأنتي كابيتال ويذوي، مركز المحافظة على النوع من خلال الذات. حتى السينما والتليفزيون استطاع «النص نص» أن يبتكر عدسة التصوير وعدسة العرض التي تجعل الفيلم يبدو حيا بنفس أضواء الحياة وطعمها وتجسيماتها.
نامعلوم صفحہ