كنت باندفاع وتهور وجنون فرحا، ولكنه فرح لا أدري ماذا أفعل به أو لماذا اعتراني أصلا؟ كاد اليوم يمر مروره الأزلي الخالد لولا أنه قبل «التمام» ربما بساعة، «ترت ترت» فوجئت ببابي يفتح، وعبد الفتاح الطويل الرفيع الأسمر يظهر، وقبل أن ينطق كانت عصاه الخيزران التي تفتتت نهايتها على ظهور «النبطشية» تدق كعصا «النقرزان» على باب الزنزانة، دقات كمزاج صاحبها في النهار عصبية متعجلة ملحة: يالله! لم عزالك يالله! بسرعة يالله! شيل نزامك (نظامك)، برشك وبطانيتك وتعال بسرعة! «النزام» بسرعة بسرعة! يالله بسرعة!
كلماته الخارجة كتكتكة مفرقعة متلاحقة لمسدس أطفال، ودقات العصا «النقرزانية» وازدياد تفتتها، والإلحاح المزعج واللهفة والسرعة، وفي ومضة كنت أحمل كل ما يخصني في الزنزانة، حتى «جردل» البول حملته؛ فقد كان جديدا يوفر علي مئونة الحبس مع «جردل» قذر، وتبعته واضطراب الفرحة يبعثر خطاي. أعرف أنه مجرد «عزال» لا أفراح فيه ولا زيادة، أو حتى أمل في أي منهما، ولكنه حدث هائل يقع؛ إذ هو جديد لم يحدث بالأمس، ولن يتكرر غدا. إلى أين؟ لم يكن مهما، حتى لو كان مع «الإخوان». لم أستطع ملاحقة خطوات «الأومباشي» عبد الفتاح السريع المضحك، الذي يبدو به وكأنه يخوض سباقا للأرجل الخشبية، وبدأت المسافة بيني وبينه تتسع، وأنا أجاهد ولا أستطيع، وكأنني من طول الجلوس نسيت المشي. بعد بضع خطوات بدأت ألهث وأتساءل جادا هذه المرة عن وجهتنا؛ إذ كنا قد غادرنا السلم الهابط إلى أسفل، والثاني الصاعد إلى أعلى، وتركنا منطقة «الإخوان» والمحبوسين احتياطيا وتحت التحقيق، ولم تعد سوى أمتار قليلة وينتهي «العنبر». أتكون وجهتنا نهاية «العنبر»؟
بالضبط عند باب آخر زنزانة وجدت «الأومباشي عبد الفتاح» يتوقف، ويستدير بسرعة إنسان انفلت عياره، ويمضي جسده يتململ ويتشنج ضيقا بتخلفي وراءه: بسرعة! بسرعة بسرعة! النزام، نزامك بسرعة! - يا أومباشي أنا مش ... - من فدلك! من فدلك! ما فيش كلام! ما فيش كلام النزام! بسرعة خش أودتك، بسرعة بسرعة!
وبسرعة بسرعة دخلت، و«ترت ترت» انغلق الباب ورائي بالمفتاح، ووجدت نفسي جالسا فوق «النظام» مسند الظهر إلى الحائط، نفس جلستي من دقيقتين، دقيقتان هذا صحيح، ونفس الجلسة، ولكن يا له من فارق! فارق جعلني أخبط جبهتي بيدي خبطة ارتج لها عقلي. إن الزنزانة الجديدة التي انتقلت إليها، وإن كانت تقع في نهاية «العنبر»، لكن «العنبر» لا ينتهي بها؛ إذ هي في الحقيقة تقع في منتصفه، فالنصف الثاني كله مخصص لسجن النساء.
النساء!
من قال إن السجن هو فقط مصادرة حرية الإنسان؟ إن فقدان الحرية ليس سوى الإحساس السطحي الأول؛ فالإنسان يظل يفقد أشياء كثيرة جدا، كل ما يملكه أو باستطاعته امتلاكه، كل قدراته ومكتسباته، كل صلاته وقراباته وأحلامه وطموحه، كل ما ينفرد به كشخص، وكل ما يتساوى به مع المجموع، كلها بعد معارك استماتة وتشبث طاحنة، لا يلبث أن يجدها رغما عنه وأمام ناظريه وبقوة الحبس والعزل القاهرة، تتسرب واحدة وراء الأخرى، هو لا يملك لها ردا ولا منعا، حتى الأمل في خروجه من ذلك «الليمان» والإفراج عنه بعد أيام طويلة من المراودة والمطاردة والإلحاح، إلى درجة أن يفسر كل فتحة باب على أن الشاويش قادم بأمر الإفراج، وكل حذاء ثقيل يدق أرض «العنبر» على أنه حذاء المأمور أو المدير جاء يحمل قرارا خاصا بالإفراج، كل شعاع شمس يدخل على أنه آخر صباح، كل غروب أحمر مخنوق شنقت نافذة زنزانته شعاعاته وخنقتها على أنه آخر غروب، حتى تصل الأزمة أحيانا حد تهديد العقل، وفي مرات تطيح به، ثم يصحو الإنسان ذات يوم وهو يحس بالراحة الكبرى، وقد انتهت الأزمة، ومات الأمل تماما، وحل اليأس الكامل. حين ذاك فقط تبدأ حياة السجن الحقيقية، حياة أخرى مختلفة عن حياة الناس، حياة لا أمس لها ولا غد، وإنما طولها يوم واحد بالتحديد، ذلك اليوم الذي تحياه، يولد المسجون مع صاحبه ويحيا أحداثه، وكأنها أحداث حياة بأكملها عريضة وافرة الغنى. إن مد فترة الذهاب إلى دورة المياه من 10 دقائق إلى ربع ساعة تعادل في الفرحة بها قرارا يصدر بمنحه إجازة ثلاثة أشهر يقضيها على حساب المصلحة في أجمل مصايف أوروبا. إن تغيير «الحلاوة الطحينية» في العشاء بالعسل الأسود يتجاوز في أثره، واحتفال المسجون به، قرارا استثنائيا بمضاعفة مرتبه إلى حد ينقله من طبقة تتعشى بالعسل الأسود إلى الطبقة التي تتعشى ب «الكافيار والرومي». إن العثور على قطعة ورق من جريدة قديمة، حتى لو كان تاريخها يرجع إلى أعوام مضت وقراءة أي خبر فيها عن أي شيء، ولو كان العثور على لقيط بجوار مستشفى «أبو الريش»، يعادل الدهشة والذهول الذي ينتاب إنسان الحياة العادية حين يفاجأ بالجرائد تنشر على صدرها بالبنط العريض نبأ اكتشاف سر الحياة، بل كانوا يحضرون لنا الطعمية في الصباح ملفوفة - زيادة في تعذيبنا بمنع أي متعة عنا، ولو كانت قراءة الأخبار القديمة في الصحف العربية - في جرائد ألمانية، لا أعرف من أين استطاع المتعهد الهمام أن يعثر على كل تلك الكميات منها.
وكانت جرائدي اليومية هي تلك القطع المشبعة بالزيت من أوراق الصحيفة الألمانية، التي لم أعرف لها اسما. أما وقد انقطعت عنا تماما أخبار العالم الخارجي، فقد كانت أخبار الصباح بالنسبة لي ليست أحداثا أو «مانشتات» أو حروبا وثورات واكتشافات، كانت أخباري أن أنجح رغم بقع الزيت في قراءة كلمة ألمانية كاملة ونطقها. كل صباح كنت لا أترك الورقة، حتى أنجح في قراءة كلمة، وحينئذ أضع الورقة جانبا، وأتنهد بأعظم وأعمق ارتياح. أقسم أنه كان أعظم وأعمق من ارتياح قد يحسه إنسان قرأ مع إفطاره كل جرائد العالم وعرف أخباره واطمأن أن كل شيء فيه على ما يرام. أما المتعة الكبرى، المتعة التي لم يظفر بها إنسان، فهي تلك التي أحسها حين أنجح مستعينا باللاتينية التي أعرف بعضها، وبالإنجليزية والفرنسية وبالفهلوة المصرية أن أعرف معنى كلمة نجحت في قراءتها. وأبدا أبدا لا يمكن للزمن أن ينال من فرحتي ذلك الصباح الذي نجحت فيه في معرفة معنى كلمة «فريدان»، وخمنت أنها «الحرية».
النساء!
تلك الحياة المسجونة الثانية التي تجد نفسك تحياها، وتخضع لقوانينها، حياة كحياة المشلول، أو من أصيب بالعمى، أو فقد بعض عقله - أضيق قليلا من حياة الناس - ولكنها أيضا مزدحمة، بل حتى أناسها ليست لهم شخصيات جديدة لا بد تختلف بدرجة أو بأخرى عن شخصياتهم التي يعرفهم بها الناس في دنياهم العادية. تفاجأ أحيانا بمن كان طبعه الضجر والملل والتكشير، وقد تحول إلى «بلياتشو»، وأصبحت شهرته أنه «ابن نكتة»، ومجلسه «مجلس أنس»، والمخيف المرعب، وقد تحول إلى فأر مذعور، والمتواضع الغلبان وقد انتصب من داخله شجاع عنيد. وأحيانا يضاف إلى كل منهم «لحسته الخاصة»، إطلاق الذقن مرة، أو الإغراق في الصلاة، أو موهبة قول الشعر، وكتابة القصص، وقد نمت فجأة وبلا سابق إنذار، وتتجمع فئات تلك الحياة الموازية الخاصة، وتستدير كي تصنع حياة تكاد تكون كاملة، أقول تكاد؛ لأن أمرا حيويا واحدا يظل ينقصها.
النساء!
نامعلوم صفحہ