وهذا من باب التعسف في التأويل؛ لأنه لا يناسب نسق الكلام، قلت وليس هذا الحديث من جملة ما يتنزه السلف عن تأويله كأحاديث السمع والبصر واليد وما يقاربها في الصحة والوضوح فإن ذلك يحمل على ظاهره ويجري بلفظه الذي جاء به من غير أن يشبه بمسميات الجنس ويحمل على معنى الاتساع والمجاز بل يعتقد أنها صفات لله سبحانه لا كيفية لها وإنما تنزهوا عن تأويل هذا القسم؛ لأنه لا يلتئم معه ولا يحمل ذلك على وجه يرتضيه العقل إلا ويمنع منه الكتاب والسنة من وجه آخر، وأما ما كان من هذا الضرب أعني قوله ﷺ (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن) فإنه ليس في الحقيقة من أقسام الصفات ولكن ألفاظ مشاكلة لها في وضع الاسم فوجب تخريجه على ما يناسب تنسيق الكلام وعلى ما يقتضيه المعنى ليقع الفصل بين هذا الضرب وبين ما لا مدخل فيه للمجاز والاتساع والله أعلم.
[٦٢] ومنه حديث أبي هريرة- ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال (ما من مولود إلا يولد على الفطرة .... الحديث) الفطر الشق ومنه فطر ناب البعير والفطر الابتداء والاختراع (قال ابن عباس ﵁ كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال احدهما أن فطرتها أي أنا ابتدأتها) وقول ابن العباس- ﵄ لا أدري ما فاطر السموات) أي لا أعرف مأخذ هذا اللفظ من الاشتقاق اللغوي والفطرة في اللغة] ١١/أ [وأما معنى الحديث وتأويله فإن أقاويل أهل الملة مختلفة فيه وقد ذكر فيه عن علماء التأويل وأصحاب المعاني وجوه كثيرة في الإتيان على سائرها بيانًا وتفصيلًا عدول عن مقدار الضرورة إلى ما لا تدعو إليه الحاجة في البيان وكل ذلك يرجع إلى أصلين من التأويل، أحدهما: أن المراد بالفطرة هو الدين الذي شرع لأول مفطور من البشر وهو التوحيد الذي لا تشريك فيه ولا تشبيه فالفطرة على هذا التأويل هو الإسلام] والمائلون إلى هذا [التأويل أكثر ممن ينسب إلى مذهب القدر. والآخر: أن يقال المراد بالفطرة ههنا ما فطر الله الخلق عليه من الهيئة المستعدة لمعرفة الخالق وقبول الحق والتمييز بين حسن الأمر وقبيحه بما ركبه في الناس من العقول وإلى هذا المعنى أشار بقوله سبحانه (فطرت الله التي فطر الناس عليها) والقائلون بالتأويل المبدوء بذكره يستدلون بهذه الآية فيما ذهبوا إليه من معنى الحديث، والآية تدل على غير ما ذهبوا إليه؛ لأنه سبحانه يقول: (لا تبديل لخلق الله) فلو كان الماد بالفطرة نفس الإسلام للزم من الحديث تبديل خلق الله، لأن النبي ﷺ قال (فأبواه يهودانه ... الحديث) فتبين إذا أن المراد بالفطرة في هذا الحديث هو المراد به في الآية وذلك ما يتوصل به إلى أن الدين عند الله هو الإسلام فالفطرة هي التي لا يتهيأ لأحد تبديلها وإن ذهب عنها ذاهب كانت هي بحالها حجة عليه وهي الحنفية التي وقعت لأول الخلق في فطر العقول.
1 / 54