محمد بن نصر القيسراني وأحمد بن منير الطرابلسي، ولهما في عماد الدين ونور الدين مدائح تقليدية ككل مدائح الشعراء في الأمراء، ليست هي التي تعنينا في حديثنا هذا، وانما الذي يعنينا هو تلك القصائد التي نظماها في الانتصارات فكانت مظاهر للملحمة العربية جديرة بالعناية والإذاعة.
والقيسراني مولود سنة 478 ومتوفى سنة 548 ه وهو منسوب إلى مدينة قيسارية على الساحل الفلسطيني، ولم يكن الشعر وحده الصفة الغالبة عليه، بل يبدو أنه كان على مشاركة حسنة ببعض العلوم حتى أن ابن عساكر سمع منه وذكره بين من ذكرهم من شيوخه. وهو ليس من موضوع كتابنا وذكرناه لعلاقته بابن منير.
والطرابلسي مولود سنة 473 ومتوفى سنة 548 ه وهو منسوب إلى طرابلس على الساحل اللبناني وهي المدينة التي عرفت في التاريخ الاسلامي باسم طرابلس الشام تمييزا لها عن طرابلس الإفريقية التي عرفت باسم طرابلس الغرب.
ونحن نرى من ذلك ان الشاعرين من منطقتين نكبتا بالاحتلال الصليبي وسقطتا في قبضة الفاتحين، فقد عانت قيسارية كما عانت طرابلس مرارة الذل، وهوان الفتح، ولكننا لا نرى في شعر الشاعرين ما يدل على تحسسهما بما كان يشكو منه بلداهما، وهذا يدلنا على أن الشاعرين سيقا إلى شعر الكفاح سوقا، ولما لم يكن لوقائع عماد الدين ثم لوقائع نور الدين صلة لا بقيسارية ولا بطرابلس بل كانت البلدتان بعيدتين عن ميدان الصراع، لذلك لم يذكرهما الشاعران ولا استجاشتهما همومهما، بل اقتصر الشاعران على ما باشره القائدان من المعارك في المناطق النائية لأن فيها المادة الوافرة لموضوع المديح، وهو الأصل في نظمهما هذا الشعر.
ولم يكن هذان الشاعران متوافقين متصافيين دائما، بل كثيرا ما تهاجيا وتشاتما، وفي أثناء ذلك قد تقوم بينهما مطارحات طريفة.
وكان الوضع قبل نهوض عماد الدين وضعا مذلا سيطر فيه الإفرنج سيطرة كاملة على البلاد الممتدة من ماردين إلى عريش مصر. ولم يكن ناجيا من ربقة الاحتلال في هذا المدى الواسع إلا المدن الأربع: حلب وحماه وحمص ودمشق.
على أن هذه المدن إذا كانت قد نجت من الاحتلال فإنها لم تنج من الهوان. فقد كان الفرنج يرسلون وفودهم إليها فارضة ما تشاء من الفروض، فضلا عما كانت عليه بقية المدن والقرى. ولعل مما يصور وضع البلاد يومذاك ما قاله صاحب كتاب (الروضتين ): " وكان الفرنج قد اتسعت بلادهم وكثرت أجنادهم وعظمت هيبتهم وزادت صولتهم وامتدت إلى بلاد المسلمين أيديهم وضعف أهلها عن كف عاديهم وتتابعت غزواتهم وساموا المسلمين سوء العذاب واستطار في البلاد شر شرهم ".
ثم يزيد في وصف الحال قائلا: وكانت سراياهم تبلغ من ديار بكر إلى آمد ومن الجزيرة إلى نصيبين ورأس عين، أما أهل الرقة فقد كانوا معهم في ذل وهوان، وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة والبر، ثم زاد الأمر وعظم الشر حتى جعلوا على أهل كل بلد جاورهم خراجا وأتاوة يأخذونها منهم ليكفوا أذيتهم عنهم ".
ولا يفوتنا أن نشير إلى ما كان عليه المسلمون من تشاحن وتقاتل وصراع مما كان يحول دون النهوض نهوضا يرد للأمة كرامتها وحريتها.
هذا هو حال الوطن حين كان قد استطال امر عماد الدين زنكي ورسخ سلطانه فكان أن هب لمناجزة المحتلين ومقارعتهم، ثم أخذ ينتصر عليهم انتصارات متتابعة، إذا كانت في أول أمرها هينة النتائج فإنها كانت مفتاحا للوثوب، كهذا الذي جرى حين ردهم عن حصن (شيزر) وحين فتح حصن (الأثارب) وحصن (عرقة) وحصن (بارين) ثم ضرب ضربته الكبرى بفتح مدينة (الرها).
وكانت الرها (ايدسا القديمة) محكومة من الأرمن، وبعد استيلاء الفرنج في حملتهم الأولى التي تلت حملة بطرس الناسك، على مدينة (نيقيا) سنة 1097 م ثم مدينة دوريلايوم (اسكي شهر) من السلجوقيين انفصل بلدوين اللوريني عن الجيش الصليبي الرئيسي وتقدم نحو الرها واستولى عليها بالاتفاق مع حاكمها الأرمني (توروس) سنة 1098 وانشا فيها أولى الدويلات اللاتينية. ومنها تقدم الفرنج إلى سميساط وسروج والبيرة وغيرها، فقامت لهم امارة في حوض الفرات الأعلى من مرعش في الشمال إلى منبج في الجنوب غربي الفرات، ثم تمضي شرقي الفرات فتشمل بهسنا والرها وسروج. وكان تمركز بلدوين في الرها مما أعاق القائد السلجوقي (كربوقا) أمير الموصل عن الوصول في الوقت المفيد لنجدة أنطاكية التي كان يحاصرها الجيش الصليبي الرئيسي. ثم كان قيام هذه الامارة تهديدا متواصلا للموصل وما يتبعها مثل نصيبين وماردين وحران، وكذلك لديار بكر وما إليها على أعالي نهر دجلة، بل كان تهديدا أيضا لشمال العراق كله.
وإذا كانت الرها أول دولة لاتينية تقوم، فقد كانت كذلك أول دولة لاتينية تسقط. وبين قيامها وسقوطها ست وأربعون سنة، إذ كان سقوطها بيد عماد الدين، عام 1114 م بعد حصار دام أربعة أسابيع.
وكان لفتح الرها وقع عظيم هز النفوس بالبهجة والغبطة، ولم يكن أجدر من الشاعرين أن يكونا صدى لما كان يعتمل في نفوس المسلمين من السرور وما كانت تجيش به قلوبهم من الأمال العراض. لذلك رأيناهما يسجلان هذا الفتح بشعر يمكن أن نقول أن فيه ملامح الملاحم وجوهرها، فان القيسراني يقول فيما يقول من قصيدة طويلة:
مدينة افك منذ خمسين حجة * يفل حديد الهند عنها حداده تفوت مدى الابصار حتى لو أنها * ترقت إليه خان طرفا سواده وجامحة عز الملوك قيادها * إلى أن ثناها من يعز قياده وكانت الرها حقيقة بهذا الوصف لأنها ظلت طوال ما يقرب من خمسين سنة، منذ أن عجز كربوقا عن فتحها وهو في طريقه لانقاذ أنطاكية، فأوقفه حصارها ثلاثة أسابيع بدون جدوى، وكانت هذه الأسابيع كافية لوصوله إلى أنطاكية والقضاء على الجيش الصليبي المنهوك الجائع المحطم النفس، لو أنه لم يتوقف عند الرها فيتيح بذلك للصليبيين استعادة معنوياتهم ودخول أنطاكية فلا يصل كربوقا إلا بعد سقوطها، ثم يعجز بعد ذلك عن استردادها فيكون فتحها فاتحة الشرور ومبدأ الهزائم. ظلت الرها طوال تلك المدة منيعة ومصدرا للشر، ومن هنا أوحت للقيسراني بما أوحت من وصفها ثم بتصوير الشعور الاسلامي بالانتصار عليها.
وعن ثغر هذا النصر فلتأخذ الظبا * سناها وان فات العيون اتقاده
صفحہ 16