الفاطميين، إذ ليس غير هذه الجيوش كان معنيا في ذلك الحين بقتال البيزنطيين... فهل هذا أيضا يلقي ضوءا على رأي الأستاذ مارون عبود في " فاطمية " أبي العلاء؟. " انتهى ما ذكره الدكتور حسين مروة ".
ونحن هنا نريد ان نجلو شكوك الدكتور مروة، ونوضح ما اعتبره غموضا في حقيقة المقاتلين الذين تغنى ببطولاتهم أبو العلاء ، ونؤكد له ان من تراءى له انهم قواد الجيوش الفاطمية، هم بالفعل ابطال تلك المعارك التي أثارت شاعرية أبي العلاء، وانه يستطيع ان يكون على يقين بأنهم هم لا غيرهم الذين نظمت فيهم الأشعار العلائية.
وذلك بعرض الحقائق التاريخية التالية:
استطاع البيزنطيون بعد موت سيف الدولة الحمداني وضعف الدولة الحمدانية في عهد خلفائه ان يستولوا على كثير من المدن في شمال بلاد الشام ولما وصل الفاطميون إلى مصر وركزوا دولتهم فيها وثبتوا دعائمها في عهد المعز لدين الله سنة 358 ه (969 م) كان أكبر همهم استرجاع ما استولى عليه البيزنطيون من المدن الشامية، وحاولوا أول الأمر اجلاء البيزنطيين عن أنطاكية ولكن القوى البيزنطية كانت أكثر كثافة من قواتهم الزاحفة إليها، فان البيزنطيين عرفوا خطورة سقوط أنطاكية لذلك حشدوا للدفاع عنها قوى كانت أعظم مما قدر الفاطميون ففشل الجيش الفاطمي في استردادها، واغتنم الإمبراطور البيزنطي حنا زيمسكس هذا الفشل وتقدم بجيوشه سنة 975 م من أنطاكية إلى حمص ومنها إلى بعلبك، وخافت دمشق مغبة مقاومته فخضعت ودفعت له الجزية، كما سلمت له طبريا وقيسارية، وكان مصمما على الوصول إلى القدس، وهكذا يسبق هذا الإمبراطور البيزنطي الصليبيين في التفكير باستعادة القدس من المسلمين.
ويبدو جليا من استعراض الاحداث ان الفاطميين أدركوا نية حنا زيمسكس وصمدوا له فتراجع عن محاولة الوصول إلى القدس وغير هدفه واتجه إلى الساحل مغتنما فرصة حشد الجيوش الفاطمية في طريق القدس، فاستطاع الاستيلاء على صيدا وبيروت، ثم اتجه إلى طرابلس، واسرع الفاطميون لصده والوقوف في طريق زحفه إليها، وعضدوا جيشهم البري المدافع عنها بأسطولهم الحربي، واستطاعوا الحاق الهزيمة بالإمبراطور البيزنطي ورده عن طرابلس وملاحقته حتى أخلى بيروت وصيدا وكل ما استولى عليه من بلدان الساحل، وظلت الضربات الفاطمية تلاحقه حتى ردته إلى أنطاكية ثم عاد من أنطاكية إلى عاصمته القسطنطينية مقهورا حيث توفي فيها في أوائل سنة 976 م.
وتمر السنون والفاطميون صامدون للبيزنطيين يدفعونهم عن بلاد الشام حتى كانت السنة 377 ه 987 م فرأى الإمبراطور باسيل الثاني عقم مقاتلة الفاطميين، وان لا امل بالنصر عليهم فأرسل إلى الخليفة الفاطمي (العزيز) في القاهرة وفدا يحمل هدية ويطلب انهاء الحرب، وكانت الهدية فيما يروي المؤرخون تحتوي على ثمان وعشرين صينية من الذهب، فلم يعارض (العزيز) في عقد الهدنة مع البيزنطيين ما داموا قد تخلوا عن أطماعهم، فعقدت هدنة مدتها سبع سنوات بشروط كلها في مصلحة الفاطميين.
ولكن الفاطميين مع الأسف كانوا لا يواجهون البيزنطيين وحدهم بل كانوا يواجهون الفتن التي يثيرها عليهم أبناء قومهم مستعينين عليهم بالبيزنطيين، كهذا الذي فعله أمير حلب سنة 381 ه مما أغرى باسيل الثاني بنقض الهدنة فزحف إلى بلاد الشام فالتقى به الفاطميون على ضفاف نهر العاصي فهزموه وردوه من حيث جاء، والذي جرى سنة 388 حين انجد باسيل الثاني نفسه المستنجدين به في ثورتهم على الفاطميين بقيادة (علاقة) في صور، وانتصر الفاطميون على البيزنطيين والمستنجدين بهم في معارك برية وبحرية والذي جرى في (افامية) (وهي التي ذكرها أبو العلاء في شعره) حين استنجد حسان بن مفرج الطائي بالبيزنطيين على الفاطميين حيث قامت فيها المعارك سجالا.
والواقع اننا لا نريد هنا التبسط في الحديث عن تاريخ المعارك بين البيزنطيين والفاطميين وجهاد الفاطميين في ردهم عن بلاد الشام وعن القدس بخاصة، فذلك له مكان آخر، ولكننا نريد ان نشير مجرد إشارة إلى تلك المعارك التي استثارت شاعرية أبي العلاء المعري وبعثت فيه روح الاعتزاز بالمناضلين الفاطميين وبطولاتهم في الدفاع عن الوطن العربي الاسلامي.
أحمد بن منير الطرابلسي مرت ترجمته في المجلد الثالث الصفحة 179 ونزيد عليها هنا ما يأتي:
العلاقة بينه وبين القيسراني لم يكن بدعا أن تنتج الحروب الصليبية في أوروبا أدبا ملحميا مستوحى مما حفلت به تلك الحروب من أحداث وخطوب، ولم يكن عجبا أن نرى في الآداب اللاتينية سواء في لغة الشمال أو لغة الجنوب ملاحم لأمثال جفري اللومباردي ويوسف اكستر وجنتر باسل وكذلك مثل أنشودة أنطاكية البروفنسالية التي ألفها غريغوري بشاده، وقصيدة بودريه وأنشودة غرايندور دوياي، وغيرها.
ولكن كان العجيب أن لا تخلق تلك الحروب الملاحم العربية، لا في حال تدفق الجيوش الفرنجية وانتصاراتها وما رافقها من فجائع وأهوال، وما عاناه المسلمون فيها من هوان وانكسار. ولا في حال انحسار المد الفرنجي واجتماع القوى الوطنية مستخلصة الوطن منه دفعة وراء دفعة حتى انتهت بتلاشيه.
وفيما عدا قليلا من القصائد والمقطوعات أعرب فيها أصحابها عن أحزانهم أيام الهزائم وأفراحهم أيام الانتصارات، فان تلك الحروب لم تنل ما كان يجب أن تناله من الشعر العربي، ولا أوجدت الملحمة في أدبنا، وكانت بذلك جديرة.
على انني وأنا اقرأ وقائع عماد الدين زنكي ثم وقائع ابنه نور الدين محمود مع الصليبيين، حين بدأ الأول مهاجمة الإفرنج، فكانت انتفاضته أول انتفاضة في وجه المحتلين بعد نوم طويل على الضيم.
انني وأنا اقرأ ذلك وجدت شعرا عربيا يسجل تلك الوقائع ويتغنى بها معبرا عما كانت تنضح به نفوس المسلمين من الابتهاج والحبور، وما كانت تفيض به بيئاتهم من الاستبشار والسرور.
وإذا كان مما يقلل من قيمة أصحاب ذلك الشعر في أعيننا أنهم لم ينظموا شعرهم ابتداء، ولا كان بنتيجة تحسس بالشعور العام، ولا تعبيرا عن حقيقة أمورهم، بل جاء في معرض المدح والاسترزاق. فإنهم وهم يعيشون في كنف عماد الدين ونور الدين ويحيون في سلطانيهما، كان لا بد لهم من أن يمدحوهما استدرارا للعطاء، وسواء أ كان عماد الدين ونور الدين غازيين منتصرين، أو متخاذلين متواكلين فإنهم سيمدحونهما حتما. إذا كان الأمر كذلك فان حسن حظهما جعل مدحهم غير منكور ولا ممجوج، وجعلهم دون أن يقصدوا لسان الحياة الاسلامية في تلك الفترة، فعبروا عن مشاعر الأمة ونطقوا بلسان الأحداث فاكتسبوا بذلك خلودا لم يكن ليتأتى لهم لو أن عماد الدين ونور الدين لم يكونا مدبري تلك الوقائع وقائدي تلك المعامع.
وأبرز شعراء تلك الفترة شاعران لقبهما معاصروهما شاعري الشام هما
صفحہ 15