4
نرى من خلال هذا النزاع الذي احتدم بين القدماء والمحدثين أنه مبني على فكرة فلسفية، وإن الفلسفة أوضح وأبين فيه من الأدب؛ إذ إن الفكرة الأساسية هي مسألة التقدم والارتقاء التي هي أصل فلسفة ديكارت، المتسربة إلى الأدب، المبنية على الاهتمام بالأفكار قبل الاهتمام بالصناعة اللفظية، فإنه جعل للفكر المنزلة الأولى، وقال: إن الإتقان والإبداع هما في متانة الموضوع، وفي الأحوال العامة التي تولد في نفس القراء نوعا من السرور والارتياح مما يقرءون. وقد زج هذا المذهب بالبلاغة في مضايق الفلسفة، وجعله مبنيا على البحث عن الحقائق، بدل البحث عن مظاهر الجمال في القول. وعلى ذلك لا يكون هناك فرق بين البلاغة والفلسفة ولا بين الفيلسوف والكاتب والشاعر؛ لأن كلا منهما على رأي ديكارت يقرر الحقائق. غير أن الفيلسوف قد يكون أسلوبه أجف من أسلوب الأديب. وكان ينبغي أن تكون هذه البلاغة المبنية على مثل هذا المذهب الفلسفي الصرف، بعيدة عن كل معنى من معاني الجمال مما هو خاص بالفنون وسبب تفوقها، وكان هذا يكون عند أنصار الجديد الذين لم يفهموا البلاغة، ولم ينظروا إليها إلا من جهة أنها تعبر وتبحث عن الحقائق. ولكن الذوق الأدبي في فرنسا كانت هذبته الآداب القديمة بما فيها من الجمال؛ ولذلك بقيت البلاغة فنا من الفنون الجميلة، ولم يتغلب العلم والفلسفة على محو ميزة البلاغة، وهي الجمال في القول وفي حسن التعبير، وامتزجت الحقائق العلمية بالحقائق الفنية، وأصبح البحث عن الحقائق سالكا طرق الجمال، ولم يغير مذهب ديكارت الفلسفي من أثر الجمال وأثر الصناعة الأدبية، وأصبحت «وظيفة » البلاغة القديمة التوفيق بين الجمال وصناعة الكلام، وبين الآراء الصحيحة والحقائق الممتعة.
وقد انضم إلى أنصار الجديد الأدباء والظرفاء، الذين كانت تدور عليهم رحى المحاورات في المجتمعات، وساعدهم في ذلك النساء الأديبات، اللائي كن يعجبن من المحدثين بذوقهم الأدبي الموافق لأذواقهن؛ لأن طريقة أنصار القديم كانت ثقيلة على نفوسهن، ككل شيء متين جدي، والنساء يعجبهن الخفة وعدم التعمق في الأفكار؛ ولذلك كن من أنصار بيرو وفونتنل. وكان الناس في ذلك العصر في حاجة لأن تكون بلاغتهم أقرب إلى الاجتماع الذي يعيشون فيه، منها إلى الاتصال بتاريخ القدماء، فإن تقليد القدماء كان قد وصل إلى أقصى ما يمكن، والشيء إذا بلغ النهاية انقلب إلى ضده، فكان لموافقة الظرفاء، وأهل الخلاعة، والنساء الأديبات، المحدثين، أثر عظيم في الحركة الأدبية الجديدة؛ لأن ذلك كان من الأسباب التي منعت البلاغة من أن تسير في طريق فلسفي صرف، بل سلكت مسلكا فنيا، وتعانق الأدب والفلسفة، وتآخت الصناعة الأدبية وفنون الكلام الجميلة التي ورثها الفرنسيون من البلاغة القديمة، مع الأفكار الفلسفية المتينة، ولبثت البلاغة ثوبا جديدا، وصارت ترمي إلى تمثيل الاجتماع.
هذه نتيجة الخصام الذي كان بين القدماء والمحدثين في فرنسا، وهذا هو أثره في البلاغة الفرنسية، وكان من جراء هذا النزاع أنه استل من القرن السابع عشر آداب القرن الثامن عشر، التي أجدر بها أن تسمى فلسفة لا آدابا، وانقلبت الأفكار انقلابا عظيما، وظهر العلماء أصحاب الموسوعات
Encyclopédistes
الذين كانت فكرتهم الأساسية هي التقدم والارتقاء.
هذه الحركة نقلت النقد إلى البحث والتنقيب في القديم والحديث، وكاد يكون القرن الثامن عشر خاليا من أثر واضح للنقد الأدبي؛ لأن الأدب نفسه كان في عصر انتقال، فلم يكن النقد قد تمكن بعد من بناء أساس يرتكز عليه. على أنه قد ظهرت عدة كتب ومباحث لكثير من النقاد والأدباء. ولكنها لم تؤسس مذهبا ولم تبن رأيا متينا، بل كانت أشبه بآراء فردية وإرشادات للأدباء والكتاب، وعندما أشرقت شمس القرن التاسع عشر ظهرت في عالم الأدب والاجتماع سيدة أديبة عالمة، جالت الأقطار والأرضين، وصرفت زمنا طويلا في ألمانيا، ثم رجعت إلى بلادها في نحو سنة 1803، هذه هي مدام دي ستال
Madam de Staël ، وقد ظهر كتابها «البلاغة» أو الآداب
La littérature ، وكتابها «ألمانيا»
L’Allemgne
نامعلوم صفحہ