ويتزحزح عن صدرنا الكابوس حين يقبل أبو الطيب، فنقرأ شعرا يتصل بالحياة وتتصل به، شعرا يحدثنا عن القومية ومقوماتها، والإنسانية ومعضلاتها، ويمد يده بحذر إلى ما وراء الطبيعة، فيحدث ثقوبا ينبعث منها نور وإن ضئيلا، ثم تنتهي المعركة الحاسمة عند دير العاقول، فنتركه ونمضي مسوقين، والمنهاج يهش علينا بعصا ليس فيها مآرب أخرى، فنسمع عويل أبي فراس في خرشنة، ونواح العجوز بمنبج، ثم يعلو هزج الشعر الأندلسي فنصغي إلى رناته هنيهة، حتى نبلغ أحمد شوقي فنرى شاعرا نفهم عنه، ويعنيه ما يعنينا، يحدثنا عما يتصل بحياتنا أو اتصل بها، بعد أن سئمنا شعراء بيننا وبينهم فدافد ومهامه لا تبلغها القلاع الطائرة إلا مهيضة الأجنحة.
وفي النثر نلهو حينا بوعيد الحجاج وتهديده، وترصن عبد الحميد وتبليده. وما كنا لنقف عند هذا لولا تلك الكلمة الفخارية: بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد، كما قيل في الشعر: بدئ الشعر بملك وختم بملك.
أما ابن المقفع والجاحظ فمؤلفان اختبرا الحياة، يجد الطالب عندهما لذة وفائدة، ولكننا لا نسلم عليهما حتى نودعهما لضيق الوقت.
ونبلغ مقامات البديع، فتحلو لنا الإقامة، فيتراءى لنا الحريري على جمر الانتظار ينتف عثنونه من الهوس، والأصبهاني يرقبنا ليمعن في إسناده وتمحيصه، ويروي لنا الخبر مرات. أما ابن الأثير الذي ينمي «مثله» الذوق الفني، فحظه أقل من سواه.
وإذا بلغنا القرن التاسع عشر، فإننا لا نرى أديبا لبنانيا له رأي اجتماعي في منهاج بكالوريا يسمونها لبنانية.
إذا كان التعليم، كما يقال، وسيلة للتربية؛ فبماذا نتوسل نحن لنربي أبناءنا التربية القومية المطلوبة؟ أببعر الآرام في عرصات دار عنيزة، أم بحب الخمخم وسط ديار عبلة؟
ما شبهت «منهاجنا» إلا بحمولة قش على ظهر جمل، فلو سمعت وزارة المعارف - عفوا وزارة التربية الوطنية - صيحاتنا العديدة وأعادت النظر في هذا المنهاج الثقيل لأراحت وأفادت.
هذا منهاج القسم الأول، أما منهاج القسم الثاني فغريب عجيب: يدرس الطالب الأدب في سنين، ويتعلم الفلسفة في سنة واحدة، وكيف يصبح فيلسوفا بسبعة أشهر؟ فهذا ما يحيرني، كيف يتعلم بسبعة أشهر علم النفس والمنطق والأخلاق، وما وراء الطبيعة، والفلسفة العربية وتاريخها، والتاريخ الطبيعي - وهنا البلية الكبرى - من حيوان ونبات، والكيمياء والفيزياء والفلك والتاريخ والجغرافيا، وكل ذلك عن ظهر قلب؟
هب هذا المنهاج جنينا، فهو لا يتصور في بطن أمه ويتم في أقل من تسعة أشهر ...
إن التلميذ اللبناني - عظم الله أجره وشكر سعيه بعد دفن الفلسفة في ذاكرته - أشقى طلاب المسكونة، وأعظمها جهادا واجتهادا؛ فهو وحده من ذوات المعدتين، يتعلم الآداب والفلسفة بلغتين، ونعنفه إن لم يخرج أديبا عالما، فيلسوفا، نحويا، صرفيا، لغويا، نباتيا، ميكانيكيا، تاريخيا، جغرافيا ...
نامعلوم صفحہ