والجواب أنه لا يخفى على العاقل أن في هذا التقرير تحريفا لكلام الله تعالى، فإن الله قال في حق أصحاب اليمين: ﴿ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ﴾، والثلة هي الجمُّ الغفير، (١) وليس في الآية الكريمة المذكورة بيان حقيقة المذاهب أو بطلانها، بل إنما هي لبيان قلة الشاكرين وكثرة غيرهم، وكذا في قوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ بيان قلة العاملين بجميع الأعمال الصالحة، كما يدل الكلام السابق على ذلك وهو قوله تعالى: ﴿إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ وليس فيها بيان حقية العقائد أو بطلانها.
وعلى تقدير تسليم كون القلة والذلة موجبة للحقية يلزم أن يكون النواصب (٢) والخوارج والزيدية والأفطحية وغيرهم أحق من الاثني عشرية لأنهم أقل منهم بكثير وأذل، نعم إن العزة للمؤمنين لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ﴾ وقد قال النبي ﷺ: «اتبعوا السواد الأعظم» (٣) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كثرة أهل الحق، فبان كيدهم وخسر هنالك المبطلون.
الرابعة
ومن مكائدهم أنهم يقولون: إن كبار أهل السنة وأئمتهم كأبي بكر وعمر وعثمان حرفوا القرآن، (٤) وأسقطوا كثيرا من الآيات والسور التي نزلت في فضائل أهل البيت،
_________
(١) ينظر لسان العرب، مادة ثلة: ١١/ ٩٠.
(٢) النواصب عند أهل السنة: هم المتدينون ببغض علي بن أبي طالب ﵁، وهم طائفة من الخوارج. الرازي، كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية: ص ٢٥٦؛ ابن منظور، لسان العرب، مادة نصب: ١/ ٧٥٨. أما عند الإمامية فكل من خالفهم في العقيدة واستنكر بدعهم فهو من النواصب، كما نسبوا ذلك إلى الصادق أنه قال: «الناصب: من نصب لكم، وهو يعلم أنكم تولونا وأنتم من شيعتنا». بحار الأنوار: ٨/ ٣٦٩؛ العاملي، وسائل الشيعة: ٩/ ٤٨٦. ورجح الأعلمي قول الإمامية بأن الناصبي: «من نصب العداوة لشيعتهم وفي الأحاديث ما يصرح به ...» ثم أورد الرواية المنسوبة للصادق. دائرة المعارف الشيعية العامة: ١٨/ ٣٠ - ٣٣.
(٣) لم يرد في الحديث لفظ اتبعوا. وقد جاء الحديث مرفوعا إلى النبي ﷺ أخرجه ابن ماجة في سننه أنس بن مالك: ٢/ ١٣٠٣. وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده أبو خلف الأعمى ... ضعيفّ. والحديث حسن موقوف كما قال سليم الهلالي في كتابه نصح الأمة: ص٢١.
(٤) وقد ألف أحد طواغيتهم واسمه حسن بن محمد تقي النوري الطبرسي كتابا في ذلك سماه (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) بلغ عدد صفحاته ٤٠٠ صفحة كبيرة، وفيه مئات النصوص والنقول عن كبار طواغيتهم بدعوى أن القرآن محرف. وقد ارتكب هذا الطبرسي جناية تأليف كتابه سنة ١٢٩٢ هـ في المشهد المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه بالنجف وطبع في إيران سنة ١٢٩٨، وفي خزانة كتب دار الفتح نسخة منه، وإن المنافقين منهم يتظاهرون بالبراءة من هذا الكتاب تقية، ولكن هذه البراءة لا تنفعهم، لأنهم يحملون منذ ألف سنة إلى الآن أوزار النصوص والنقول الموجودة في كتبهم بهذا المعنى وقد جمعت كلها في هذا الكتاب
1 / 30