... وأما السفسطائية المتجاهلة، فإنهم زعموا أن لا علم يثبت ولا معرفة تستقيم، فزعموا أن لا شيء موجود على حقيقة من الحقائق (¬1) ، ولا موصوف بصفة دون صفة من الصفات، فقالوا: إنك متى ما اعتقدت شيئا على صفة، واعتقده غيرك على صفة أخرى تخالف الصفة الأولى، فإن ذلك الشيء موجود بكلتا الصفتين جميعا، وليس واحدة منها أولى به من الأخرى وقالوا: إنا وجدنا السراب قد يراه الرائي من بعيد شيئا موجودا، والقريب منه لا يجده شيئا، فعلمنا أن السراب شيء لا شيء، موجود لا موجود، ووجدنا من به صفراء يذوق العسل فيجد به مرارة، والذي ليس له ذلك الداء قد يذوقه فيجده حلوا لا مرارة فيه، فعلمنا أن العسل حلو مر في أشياء من هذا تركنا ذكرها، إذ كان عناء ذكرها أكثر من فائدة معناها. (¬2)
¬__________
(¬1) - راجع ما كتبه ابن حزم عنهم في كتابه الفصل 1/43 وما بعدها، حيث استعرض الكثير من آرائهم ورد عليها.
(¬2) - مما يحكى عن أستاذ سفسطائي أنه اتفق مع تلميذ له على أن يخرجه للدفاع في القضاء والمنازعات العامة، خلال سنتين بأجر متفق عليه، فلما انتهت السنتان طلب الأستاذ أجره. وقال التلميذ: بل أناقشك في هذا الأجر هل تستحقه بعملك أو تطلبه بغير حق...؟ فإن أقنعتك بأنك لا تستحقه فلا حق لك فيه باعترافك ، وسكوتك حجة على هذا الاعتراف، وإن لم أقنعك فلا حق لك فيه، لأنك لم تعلمني كيف أقيم البرهان على دعواي.
وكان جواب الأستاذ كمثال تلميذه مثلا للبرهان المطلوب في هذه الصناعة. فقال له: إنني أقبل أن أناقشك؛ ولكن على غير النتيجة التي خلصت إليها، أناقشك في حقي فتعطيه مرة إذا ثبت عليك، وتعطيه مرتين إذا لم أثبته أمامك؛ لأنني علمت تلميذا ما يغلب به أستاذه في صناعة البرهان. راجع التفكير فريضة إسلامية، للعقاد.
صفحہ 31