مهربو كتب تمبكتو
مهربو كتب تمبكتو: السعي للوصول إلى المدينة التاريخية والسباق من
اصناف
انغرست كلمات همباطي با بعمق في وعي حيدرة. في ذلك اليوم، أدرك غايته. كان سيحاول أن يعيد الحياة إلى المدينة عبر مخطوطاتها.
كانت تمبكتو في ثمانينيات القرن العشرين بالفعل مقر منظمة مكرسة لدراسة النصوص العربية. وبتشجيع من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، كانت الحكومة المالية قد تبرعت بإنشاء معهد بحثي في المدينة في عام 1973، أسمي تيمنا باسم عالم تمبكتو في القرن السادس عشر أحمد بابا، وأوكلت إليه مهمة جمع تراث مالي المكتوب وحفظه. بدأ مركز أحمد بابا بأقل من مائة وثيقة وكان قد أضاف حوالي 3300 وثيقة أخرى بحلول عام 1984، عندما فاتح مديره حيدرة وقال له إنه ينبغي أن يأتي للعمل هناك «منقبا»، أي، باحثا عن المخطوطات. وقبل حيدرة ذلك. وأصبح أبرز منقب عن المخطوطات حظي به المركز على الإطلاق.
بدأ بالاتصال بأصدقائه واستخدام تأثيره، واسم عائلته، وطبيعته المثابرة. كثيرا ما كان الناس ينكرون أن لديهم مخطوطات، لكن حيدرة كان يتحدث إليهم المرة تلو الأخرى حتى ينجح في استمالتهم. كان يفتش في تمبكتو وكان يفتش أيضا في الإقليم الأكبر، قاطعا شمالي مالي طولا وعرضا راكبا حمارا، أو جملا، أو زورقا، أو سيارة لاند روفر. وأحيانا كان يسافر مع قوافل الملح، مرتحلا على قدميه إلى جانبها طيلة أربع عشرة ساعة متواصلة. وقد ذهب إلى مدن وقرى ونجوع، محاولا إقناع الناس بلطف أن يتنازلوا عما لديهم من وثائق كانوا قد خبئوها أو نسوها. سافر إلى حدود موريتانيا والسنغال في الغرب، وإلى الحدود مع بوركينا فاسو والنيجر في الشرق. ذهب إلى جوندام، وديري، وتونكا، ونيافونكي، ونيونو، وإلى كل ما بينها من أماكن. كان يدفع ما يصل إلى مائتي دولار مقابل وثيقة قيمة من ورقة واحدة، وثلاثمائة دولار مقابل مخطوطة كاملة، لكنه في بعض الأحيان كان يدفع الثمن بالحيوانات، التي كثيرا ما كانت قيمتها عند الناس أكثر من النقود. كانت المخطوطات التاريخية هي أكثر ما يسعى إليه، يليها المخطوطات التي كانت مزخرفة بزخارف متقنة، أو قديمة جدا، أو مكتوبة على يد كتاب محليين. إذا كانت حمولته مرهقة، كان حيدرة يستأجر سيارة أو قاربا نهريا ليحملها عائدا بها إلى تمبكتو. ورويدا رويدا، جلب الكتب والوثائق. وفي غضون اثني عشر عاما أضاف ستة عشر ألف مخطوطة إلى مجموعة أحمد بابا. واستمر في تنقيبه بعد ذلك، لكنه توقف عن الإحصاء.
وبينما كان حيدرة ينشئ الأرشيف الوطني، أخذ يفكر أكثر فأكثر في مخطوطاته الخاصة، التي كانت موضوعة في صناديق مكدسة في غرف صغيرة مظلمة، معرضة للرطوبة والأرضة وخطر الحريق. لم تكن التقاليد تسمح له بأن يبيعها، حتى إن أراد ذلك، لذا قرر أن ينشئ مكتبته البحثية الخاصة. أرسل فاكسات إلى مؤسسات ومنظمات دولية وألح في الحديث على زوار مؤثرين للمدينة الشهيرة، طالبا دعمهم. عرض عليه الناس أن يشتروها، لكن لم يرغب أحد في أن يدفع له مقابل الإبقاء عليها في تمبكتو.
في عام 1997، جاء العالم البارز من جامعة هارفرد هنري لويس جيتس الابن إلى مالي، ودعاه حيدرة لرؤية مجموعته. ذرف جيتس الدموع عند رؤية الوثائق التي كانت موضوعة أمامه. تساءل حيدرة لماذا كان جيتس يذرف الدمع؟ أوضح جيتس أن السبب أنه كان يدرس في بعض من أفضل الجامعات في العالم قرابة عشرين عاما، وأنه كان يقول دوما لطلابه إنه لا يوجد تاريخ مكتوب في أفريقيا، وأنه كله شفاهي. والآن عندما وقعت عيناه على هذه المخطوطات، تغير كل شيء. عندما عاد جيتس إلى الولايات المتحدة، مارس ضغوطا من أجل الحصول على تمويل لمشروع حيدرة، الذي سرعان ما نال دعم مؤسسة أندرو دبليو ميلون. قدمت جهات مانحة أجنبية أخرى، هي مؤسسة فورد، ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي التي مقرها في لندن، ومركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دبي، أموالا أكثر بمرور السنين. وفي عام 2000 افتتح أول أرشيف خاص معاصر في تمبكتو، مكتبة مما حيدرة التذكارية، في احتفال حضرته سيدة مالي الأولى. بعد ذلك، ساعد حيدرة أصدقاءه على إنشاء مؤسساتهم، وسرعان ما كانت المكتبات تظهر في كل مكان، إذ أخرجت عائلات تمبكتو مجموعاتها.
بحلول هذا الوقت كانت المخطوطات بصدد أن تصبح مسألة مشهورة. وتزايد استخدامها من أجل السعي وراء تفسير جديد لماضي أفريقيا يمكن أن يكافح العنصرية التي لازمت القارة زمنا طويلا. فمن إيمانويل كانت إلى ديفيد هيوم، كان فلاسفة ومؤرخون غربيون قد استشهدوا بغياب الأعمال المكتوبة في أفريقيا باعتباره دليلا على أن القارة كانت متخلفة للغاية حتى عن أن يكون لها تاريخ. كتب هيوم في عام 1748: «لم توجد أبدا أي أمة متحضرة بأي لون بشرة إلا اللون الأبيض، ولا حتى وجد أي فرد بارز في الفعل أو التفكير. لا توجد لديهم اختراعات تتسم بالإبداع، ولا فنون، ولا علوم.» كانت أصداء هذه الرؤية لا تزال تتردد لدى المؤرخ البريطاني هيو تريفور-روبير في عام 1963 والذي قال: «ربما في المستقبل، سيوجد تاريخ أفريقي ما يمكن أن يدرس. لكن في الوقت الحاضر لا يوجد. لا يوجد سوى تاريخ الأوروبيين في أفريقيا. أما الباقي فظلام.» كانت المخطوطات موجودة في سائر أنحاء غرب أفريقيا، لكن تمبكتو كانت الأشهر، والآن اعتبرت دليلا مضادا. في عام 2001، أدرجها رئيس جنوب أفريقيا تابو إيمبيكي في حملة للمساعدة على إعادة تعريف القارة بمفهوم أفريقي. وأمر بإنشاء مبنى ضخم جديد لمركز أحمد بابا في تمبكتو يشمل مساحة للعرض، وقاعة للمؤتمرات، وورشا للترميم، ويعمل وفق برنامج أكاديمي للحفاظ على المخطوطات. قال إيمبيكي: «تفتح [المخطوطات] آفاقا للتفكير بطرق جديدة بشأن العالم، وهي تعد فرصة لتأمل التاريخ بنظرة جديدة.»
في تلك الأثناء كان البحث في العدد المتنامي من الوثائق التي كانت تصل إلى تمبكتو يجري على قدم وساق. في عام 2001، أعلن جون هنويك من جامعة نورث ويسترن، الخبير الدولي الرائد في التراث الإسلامي المكتوب لغرب أفريقيا، أن خبيئة من ثلاثة آلاف مخطوطة كانت قد عرضت عليه في تمبكتو كانت «تعيد كتابة التاريخ». قال هنويك لصحيفة «شيكاجو تريبيون»: «كادت عيناي تخرجان من محجريهما.» وأضاف: «لم يسبق لي أن شاهدت أي شيء مثلها من قبل.» قال شون أوفاهي، صديق هنويك وزميله، إن الأمر كان «مثل مصادفة تأريخ أنجلو-ساكسوني آخر أعطانا رؤية جديدة للتاريخ المبكر لإنجلترا.» كان الكشف ببساطة «استثنائيا»، على حد قول ديفيد روبنسون، أستاذ التاريخ الأفريقي بجامعة ميتشجن ستيت.
بحلول عام 2011، كان حيدرة وزملاؤه الباحثون عن المخطوطات قد أحرزوا تقدما هائلا في المهمة التي كان همباطي با قد حددها لهم وهي مهمة استعادة تمبكتو لمكانتها الصحيحة في العالم. قدر حيدرة أن عدد المخطوطات المحصاة في الإقليم حينئذ بلغ ما لا يقل عن 101820 مخطوطة، وكان العدد في البلد ككل قريبا من المليون. ولولا الحرائق، والحروب، والكوارث الطبيعية، كان العدد سيصبح أعلى بكثير.
ثم تحولت الاضطرابات في الصحراء خارج المدينة، التي كانت قد دوت على مدى عقود، إلى فوضى صاخبة.
كان شمال مالي لأمد طويل منطقة مجاورة مضطربة، وكان مأوى لقطاع الطرق، والمهربين، والمتمردين. كان لدى القادة المسلحين في الشمال تظلمات من النظام الحاكم في باماكو منذ عهود الاستعمار، وأدت هذه التظلمات إلى تفجر أعمال تمرد متكررة منذئذ. في عام 2003، كان الجهاديون الجزائريون الذين يخوضون حربا في مواجهة حكومتهم قد اتخذوا ملاذا عبر الحدود في مالي، وبعد ذلك بفترة وجيزة تلقوا مباركة أسامة بن لادن واتخذوا اسم «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». لقد ضرب هؤلاء جذورا عميقة لهم في الصحراء، آخذين حصة من تجارة التهريب، لكن أكبر مصدر للمال لهم كان يأتي من عمليات الخطف. فما بين عامي 2003 و2010، جنى هذا التنظيم عشرات الملايين من الدولارات عن طريق أخذ فدية عن دبلوماسيين غربيين، وعاملين في مجال الطاقة، وسائحين ضلوا طريقهم ودخلوا الإقليم الخطأ.
نامعلوم صفحہ