ثناء على الكتاب
شكر وتقدير
تمهيد: رجل ذو إقدام وعبقرية
الجزء الأول: الاحتلال
1 - باحث عن المخطوطات
2 - فراغ واسع وممتد
3 - الجحيم ليس ببعيد
4 - المستكشف الرابع
5 - القاعدة تهب للإنقاذ
6 - سوف تكون من نصيبي
7 - قائمة إسماعيل
الجزء الثاني: التدمير
8 - مستكشف من فوق مقعده الوثير
9 - فارس بلا رأس
10 - بابا تمبكتو
11 - عملاء سريون
الجزء الثالث: التحرير
12 - حياة العلماء
13 - الثنائي الرهيب
14 - ثقالة أوراق الملك ليوبولد
15 - محرقة الكتب
16 - كتاب «تاريخ الفتاش»
17 - لحظة من الواقع تحاكي أفلام إنديانا جونز!
18 - حمى المخطوطات
19 - مصنع الأساطير
خاتمة
الملاحظات
المراجع
مصادر الصور
ثناء على الكتاب
شكر وتقدير
تمهيد: رجل ذو إقدام وعبقرية
الجزء الأول: الاحتلال
1 - باحث عن المخطوطات
2 - فراغ واسع وممتد
3 - الجحيم ليس ببعيد
4 - المستكشف الرابع
5 - القاعدة تهب للإنقاذ
6 - سوف تكون من نصيبي
7 - قائمة إسماعيل
الجزء الثاني: التدمير
8 - مستكشف من فوق مقعده الوثير
9 - فارس بلا رأس
10 - بابا تمبكتو
11 - عملاء سريون
الجزء الثالث: التحرير
12 - حياة العلماء
13 - الثنائي الرهيب
14 - ثقالة أوراق الملك ليوبولد
15 - محرقة الكتب
16 - كتاب «تاريخ الفتاش»
17 - لحظة من الواقع تحاكي أفلام إنديانا جونز!
18 - حمى المخطوطات
19 - مصنع الأساطير
خاتمة
الملاحظات
المراجع
مصادر الصور
مهربو كتب تمبكتو
مهربو كتب تمبكتو
السعي للوصول إلى المدينة التاريخية والسباق من أجل إنقاذ كنوزها
تأليف
تشارلي إنجليش
ترجمة
محمد حامد درويش
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
ثناء على الكتاب
«يمزج هذا التسجيل الآسر لإرث تمبكتو الفكري بين روايات مستكشفين أوروبيين للمدينة القديمة وتحقيقات صحفية معاصرة.»
مجلة «ذا نيويوركر» «جنبا إلى جنب مع رواية السيد إنجليش المفعمة بالحيوية لحكاية السعي إلى الوصول إلى تمبكتو نطالع سردا مثيرا لقصة أحدث عهدا؛ وهي عملية الإجلاء الجريئة لمئات الآلاف من مخطوطات تمبكتو التي اضطلع بها رجال مكتباتها أثناء احتلال الجهاديين لها في عام 2012 ... [إنه] سرد عبقري.»
صحيفة «ذي إيكونوميست» «قصة مذهلة ... تتناسب تناسبا مثاليا مع سردية تمبكتو المتجددة.»
ملحق مراجعة كتب صحيفة «ذا نيويورك تايمز» «كتاب أخاذ ... مكتوب بحيوية صحفية.»
صحيفة «ذا صنداي تليجراف» «رواية مشوقة عن تاريخ تمبكتو وعن المغامرين الشجعان والمتهورين الذين جابهوا الموت وسعوا إلى المجد في محاولتهم للوصول إلى هناك.»
صحيفة «ذا تايمز»
أهدي هذا الكتاب إلى لوسي.
شكر وتقدير
المفاجأة الكبرى لمن يكتب نصا عن أحداث واقعية معاصرة هي مدى استعداد الناس للإدلاء بسرد عن الأحداث التي شهدوها لرجل غير مهندم الثياب يحمل جهاز تسجيل. وفي هذا الصدد، أود أن أعرب عن امتنان خاص لأولئك ممن هم في تمبكتو وأماكن أخرى في مالي الذين استخلصت منهم ذكرياتهم، والذين احتملوا زياراتي المتكررة بصبر وطيبة. لم يمتحن صبر أي شخص بهذه الطريقة أكثر من القاضي معيجا، الذي استطاع أن يجد ابتسامة مهما كان عدد المرات التي ظهرت فيها في مكاتب معهد أحمد بابا في باماكو. من الماليين الآخرين الذين أود أن أخصهم بالشكر الإمام الأكبر عبد الرحمن بن السيوطي، وعبد القادر إدريسا معيجا من معهد أحمد بابا، وإسماعيل ديادي حيدرة من مكتبة فوندو كاتي، وأيضا محمد دياكيتي، وقادر خليل، وتينا تراوري، وعبد الواحد حيدرة، وشيخ ديوارا. كما أعرب لعبد القادر حيدرة عن احترامي وامتناني على الساعات العديدة التي أمضيناها معا.
لا يمكن نقل الأخبار من أماكن بعيدة وخطيرة في بعض الأحيان إلا بمساعدة آخرين، وكان أهمهم لهذا المشروع أولئك الذين سهلوا لي إجراء المقابلات، وفي مناسبات قليلة سجلوها نيابة عني. في هذا الشأن، كان من حسن حظي أن أحظى بخبرة عثمان ديادي توريه ومامادو تابيلي في باماكو، اللذين عملا ساعات طويلة وسافرا مسافات هائلة سعيا وراء هذه القصة، وفطومة هاربر في تمبكتو، التي شاطرتني معرفتها الواسعة بمدينتها الأم. أما مساعدة طاهر حيدرة فكانت لا تقدر بثمن خلال زيارتي عام 2014.
لقد اعتمدت منذ البداية على مجموعة من الأصدقاء والزملاء الذين أضافوا في مراحل مختلفة تحسينات إلى الفكرة، أو حالة النص، أو الحالة المزاجية للمؤلف. وكان من بين هؤلاء نيكولاس بلينكو، وتوبي كليمنتس، وجون هينلي، وبول هاميلوس، وتشارلوت هيجينز، وجوليان بورجر، وسارة هولواي، وآندي بيكيت، وباسكال وايز، وسام ولاستون، وإنجريد كاريكاري، وتوم كامبل. كذلك اعتمدت على عدد قليل من المراسلين السابقين في غرب أفريقيا - أليكس دوفال-سميث، وشون سميث، وأفوا هيرش، ومارك تران - الذين تبادلوا معي جهات الاتصال ونصائح السفر المهمة. وما كنت سأزور تمبكتو على الإطلاق لو لم أعرف أن جان تومسون، وجوديث سوال، وجيمي ويلسون، وكارين بلويز من صحيفة «ذا جارديان» كانوا على علم برحلتي، وإن أخذت الأمور منحى خطيرا جدا، فعلى الأقل سيشاهد إيان كاتز مقاطع الفيديو. ساعدتني ميليسا دينيس، وكلير لونجريج، ولوسي لامبل، وتشارلوت نورثيدج بتكليفي بمقالات أثناء مضيي قدما. حسنت تشارلوت ألبين لغتي الفرنسية بقدر كبير؛ وقامت جولييت كورتوا بمعظم عمليات النسخ؛ وترجم فيليب أولترمان طلبات حرية تداول المعلومات الخاصة بي إلى الألمانية؛ وساعد إدجار شميتز في ترجمة الردود.
أيضا يستحق عدد من الدبلوماسيين والمغتربين في مالي شكري. ومن هؤلاء تو وكلاس تجيوكر ومارتن بروير وميريام تاسينج، وجميعهم من العاملين في السفارة الهولندية في باماكو؛ وتوماس شترايدر، وجونتر أوفيرفيلد، وجوزيف هينترسير من السلك الدبلوماسي الألماني؛ وديبورا ستولك من صندوق الأمير كلاوس؛ وإنوسنت تشوكووما من مؤسسة فورد؛ ومايكل هانسلر من مؤسسة جيردا هنكل؛ وبسام عدنان داغستاني من مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث؛ وسالي هايدوك وكريستل فان هوف من برنامج الأغذية العالمي. تكرم الكولونيل فريدريك جوت ودعاني إلى مقر منظمة حلف شمال الأطلنطي في بروكسل، وشاركني مسودة كتابه «حرروا تمبكتو! يوميات الحرب في مالي»، والذي أوصي بها لدارسي الصراع. اقتطعت إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو، بعض الوقت من جدول أعمالها المزدحم على نحو استثنائي لشرح أسباب وآثار الدمار الثقافي، وكذلك فعل لازار إلوندو أسومو، ممثل المنظمة في باماكو. شرحت ندياي راماتولاي ديالو، وزيرة الثقافة في مالي، خطط الحكومة للمدينة بعد الأزمة.
تكرم عدد من الأشخاص الذين يعرفون هذه المادة معرفة أفضل بكثير مني بتقديم النصائح حول تاريخ المنطقة ومخطوطاتها. وكان من بين هؤلاء ماورو نوبيلي من جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين؛ وبروس هول من جامعة ديوك، الذي نبهني إلى مخاوفه بشأن قصة إجلاء المخطوطات؛ وديمتري بونداريف من جامعة هامبورج. وقدمت لي خبرات أكاديمية إضافية من سوزانا مولينز ليتيراس (من جامعة كيب تاون)، وتشارلز ستيوارت (أيضا من جامعة إلينوي)، وجورج بوهاس (من جامعة ليون)، وأليدا جاي بوي (من جامعة أوسلو سابقا). كذلك أسعدني جدا أن أحظى بنصائح جوزيف هنويك، الذي يمكن للقارئ أن يجد صوره الرائعة للمدينة ومخطوطاتها في كتاب «كنوز تمبكتو المخفية». يؤسفني أنني لم أبدأ المهمة في وقت مبكر بما يكفي لمقابلة والده، جون هنويك.
يوجد ما لا يقل عن أربعة أشخاص ما كان سيغدو لهذا الكتاب وجود بدونهم. هؤلاء هم وكيلاي، فيليسيتي روبنشتاين في لندن وستيوارت كريتشفسكي في نيويورك، اللذان أوليا الرعاية لكل من النص والمؤلف خلال المراحل الأصعب من عمليتي البحث والكتابة. بدونهم، ما كنت سأعثر على ريبيكا سالتان من دار ريفرهيد للنشر، التي جعل حكمها الجيد ومثابرتها ومهاراتها الفائقة في التحرير الكتاب على ما هو عليه. يكتمل الرباعي بأرابيلا بايك من دار وليام كولينز للنشر، التي أبقاني حماسها ودعمها لي على المسار الصحيح. أود أيضا أن أشكر آنا جاردين وميشيل كوفوبولوس من دار ريفرهيد للنشر، وجولييت ماهوني من مكتبة لوتينز آند روبنشتاين، على عملهم الجيد نيابة عن الكتاب.
أخيرا، أود أن أعرب عن امتناني لعائلتي؛ لباربرا إنجليش، التي قرأت المسودات الأولية، ولكن الأهم أنها سمحت لي بأن أقود السيارة عبر الصحراء الكبرى كما لو كنت مراهقا؛ ولهيو إنجليش، لإصلاح سياراتي دائما؛ ولهاري وآرثر وإدي إنجليش، الذين سيخوضون قريبا مغامراتهم الخاصة.
وقبل كل شيء، أود أن أشكر لوسي بلينكو، التي أهدي لها هذا الكتاب، على حبها وإيمانها.
تمهيد: رجل ذو إقدام وعبقرية
من بين ملايين الوثائق التي يمتلكها الأرشيف الوطني التابع للحكومة البريطانية يوجد ملف رفيع يعرف باسم «سي أو 2 / 20». هذا الملف ليس موضع طلب كبير. ففي نهاية الأمر، هذه المحفوظات تحوي أوراقا تغطي ألف سنة من التاريخ البريطاني، ومعظم زائري غرف الاطلاع الفسيحة في منطقة كيو يأتون بحثا عن كنوز أوضح مثل «كتاب ونشيستر»، أو وصية شكسبير، أو الملفات التي جرت إتاحتها حديثا عن خونة وجواسيس الحرب الباردة. ومع ذلك كل بضعة أعوام سيطلب شخص ما ملف وزارة المستعمرات 2 / 20، وستسلم رسالة إلى بلدة تشيشير التابعة لوينسفورد، المحفوظ فيها الملف في منشأة تخزين في أعماق أضخم منجم ملح في بريطانيا. هناك، سيقدم موظف على الدخول في الظلام الممل، ويلتقط الملف من وسط أكثر من اثنين وعشرين ميلا من الرفوف الممنوحة للأرشيف الوطني، ويرسله جنوبا.
الصندوق الذي يصل بعد أيام إلى غرفة المطالعة مصنوع من ورق مقوى سميك وملفوف بشريط قطني أبيض. بداخله حزمة من مائة أو نحو ذلك من الاتصالات المكتوبة؛ مخطوطات، حسبما يمكننا أن نصفها، مرسلة من القنصل البريطاني في طرابلس إلى لندن في منتصف العقد الثالث من القرن التاسع عشر. تلقي كل ورقة من الأوراق البالية، التي سافرت مسافات بعيدة، ضوءا على ركن صغير من الزمان والمكان، ولبعضها صلة خاصة بحكايتنا. تلك هي الرسائل الأخيرة لمستكشف مغمور، هو ألكسندر جوردون لينج، وتغطي فترة حملته لاكتشاف «عاصمة وسط أفريقيا النائية الشهيرة»، بحسب وصفه لمدينة تمبكتو.
كان مقدرا للينج، الذي كان ميجورا بالجيش طويل السوالف من أدنبرة، أن يصبح أول مستكشف أوروبي يصل إلى هذا المكان البعيد المنال. في عشرينيات القرن التاسع عشر، هيمنت تمبكتو على أفكار أوروبا مثلما شكل يوما ما تصورها عن إلدورادو مفهومها للأمريكتين. كان يعتقد أن تمبكتو تحكم منطقة غنية جنوب الصحراء الكبرى تسمى «السودان»، حسب التسمية العربية «بلاد السودان» (أرض السود). كانت الشائعات عن وجود المدينة قد سرت في أوروبا لمئات السنين، وذاع صيت ثرائها منذ القرن الرابع عشر على الأقل. مثلما قيل على أرض زيبانجو التي بلغها ماركو بولو إنها أرض كان قصر الملك فيها مسقوفا بمعدن نفيس، قيل أيضا على منازل تمبكتو إنها كانت مغطاة بالذهب. كان عشرات الرحالة قد أرسلوا للعثور عليها، لكن كل محاولة كانت تبوء إما بالموت أو بالفشل.
في عام 1826، جاء دور الميجور لينج. كان لينج بريطانيا من نوع خاص، إذ كان نتاجا لذلك الزمن ما بين معركة ووترلو و«هجوم اللواء الخفيف» عندما كان العسكريون يسعون إلى الموت أو المجد، أو إلى مزيج من الاثنين. بملامحه الوسيمة واستغراقه في ذاته، كان يمكن له أن يكون ممن تظهر صورهم على أغلفة مجلة «فانيتي فير». كتب يقول: «سوف أفعل أكثر مما فعل أي أحد من قبل، وسأثبت أنني مثلما اعتبرت نفسي دوما رجل ذو إقدام وعبقرية.»
لم يتفق الجميع مع لينج في تقييمه غير المتواضع لقدراته. بينما كان متمركزا في سيراليون في عام 1824، كتب قائده لوزير الحرب والمستعمرات يقول إن «إنجازات لينج العسكرية كانت أسوأ [حتى] من شعره.» لكن يبدو أن هذا الهجاء اللاذع كان قليل الأثر؛ ففي ذلك العام عين لينج قائدا لبعثة بريطانية جديدة لتحديد مكان المدينة التي كان يعتقد أنه كان مقدرا له أن يعثر عليها. كان من شأن أن يصبح أول من يصل إلى تمبكتو أن يمنحه أكثر ما كان يصبو إليه في العالم، كما أوضح في قصيدة:
إن ذلك هو ما يهفو إليه قلبي،
أن أرتقي درجات الشهرة الشاقة،
أن أنال نصيبي من التمجيد الذي يسبغه العدل،
وأن أمنح نفسي اسما خالدا.
انطلق لينج من طرابلس في صيف عام 1825، ممتطيا جمله عبر حرارة الصحراء الكبرى البالغة 120 درجة. كانت الأرض في هذا الوقت من العام قاحلة جدا حتى إن جماله صارت نحيفة كهيكل عظمي. أما دليله الذي كان ذا شخصية معتدلة وودودة على الساحل، فأصبح أكثر جشعا كلما ارتحلوا جنوبا، وفي تنزروفت، وهو سهل ملتهب الحرارة في مساحة كاليفورنيا، يبدو أنه خان لينج وأسلمه لمجموعة من الطوارق. أحاط رجال مدججون بالسلاح بخيمة المستكشف في الليل، وأطلقوا عليه النار، واخترقوا خيمته قبل أن يتركوه ظانين أنه فارق الحياة. تعد رواية لينج عن الإصابات التي لحقت به في هذا الهجوم واحدة من أبرز الآثار في ملف وزارة المستعمرات. فقد كتبت في العاشر من مايو من عام 1826، من معسكر صحراوي على بعد مائتي ميل شمال تمبكتو. حتى هذه المرحلة، كانت رسائله مكتوبة بخط منمق مزخرف مائل. أما هذه الرسالة، المبقعة حاليا بالعفن الفطري، والتي طبقاتها المطوية مسودة بتراب الصحراء الكبرى، فعبارة عن شخبطة لأعلى ولأسفل بغير نظام، ومكتوبة، كما أوضح، بيده اليسرى.
كتب يقول: «عزيزي القنصل، أرسل إليك رسالة قصيرة فقط، بواسطة وسيلة إرسال غير مضمونة، لأحيطك علما بأنني أتعافى من ... جروح بالغة تفوق بكثير أي حسابات كان يمكن لأي توقعات متفائلة أن تتوقعها.» تفصيل الواقعة عبارة عن حكاية مفاجئة من «الحرب والخيانة الدنيئة»، لكن لا بد من الاحتفاظ بها لوقت آخر. أما الآن، فسوف يحيط القنصل علما بعدد وطبيعة الجروح التي أصيب بها في الهجوم:
بداية من الأعلى، لدي خمسة جروح بسيف قاطع على قمة الرأس، وثلاثة على الصدغ الأيسر، وانفصل كثير من العظم من كل الكسور الناتجة عنها، وواحد على خدي الأيسر كسر عظمة الفك وقسم الأذن، مشكلا جرحا قبيح المنظر، وواحد على الصدغ الأيمن، وجرح غائر مريع في خلفية العنق، خدش القصبة الهوائية خدشا بسيطا.
كانت لديه طلقة بندقية في الورك، اخترقت جسده، وخدشت أثناء مرورها عموده الفقري. وكان لديه أيضا خمسة جروح بسيف قاطع في ذراعه ويده اليمنى، وهي «غائرة بعمق ثلاثة أرباع طولها»، وقد اخترقت عظام الرسغ. وكان لديه ثلاثة جروح في ذراعه اليسرى، التي كسرت، وجرح بسيط في رجله اليمنى، واثنان، منهما «جرح غائر مريع»، في رجله اليسرى، فضلا عن الضربة التي تلقاها في أصابع اليد التي يستخدمها للكتابة.
مدققا في حصيلة الخسائر هذه، كما لا بد أن القنصل الجزع قد فعل عندما وصلت الرسالة طرابلس بعد ستة أشهر، سيبحث القارئ عن مؤشرات على التراجع. من المؤكد أن لينج كان يخطط للعودة من أسرع طريق ممكن، ما إن تسمح حالته بذلك، مبتكرا طريقة لتجنب قطاع الطرق في طريق عودته. لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق. إن جاذبية تمبكتو، الواقعة وراء الأفق، والتي لم تكن قد وقعت عليها عين أوروبية بعد، كانت جاذبية شديدة للغاية. إنه لن يجلب على نفسه العار بالاستسلام الآن. قال للقنصل إنه «بخير» رغم جروحه. وأضاف أنه ما زال يأمل في أن يعود إلى إنجلترا ومعه «الكثير من المعلومات الجغرافية المهمة.» لقد اكتشف أمورا كثيرة لا بد من تصحيحها على خريطة أفريقيا، وكان يتضرع إلى الرب أن يمنحه الوقت لينهي مهمته.
بعد شهرين تقريبا، كتب لينج مجددا. لقد أصبح موقفه أسوأ. لقد أصاب المعسكر «داء مروع» أشبه بحمى صفراء أودت بحياة نصف من فيه، وفيهم آخر من بقي من خدمه. وأبلغ القنصل بتعاسة: «أنا الآن العضو الوحيد الباقي على قيد الحياة من أعضاء البعثة.» وأضاف: «إن وضعي ليس طيبا على الإطلاق.» ومع ذلك، فإن حس المصير لديه الذي ينقله قوي جدا:
إنني مدرك تمام الإدراك أنني إن لم تطأها قدمي، فإن العالم سيظل جاهلا بها [تمبكتو] ... كما أنني لا أبدي أي تأكيد مزهو باطل حين أقول إنه لن تطأها قدم مسيحية بعدي.
حقق لينج طموحه الكبير بعد ذلك بستة أسابيع، بدخوله تمبكتو في الثالث عشر من شهر أغسطس من عام 1826. ثم حدث أمر غريب جدا؛ لم يرد منه أي أخبار.
لمدة خمسة أسابيع لم يرسل كلمة واحدة عن وصوله إلى القنصل. لم يكتب مجددا إلا في الحادي والعشرين من سبتمبر، ثم لم يزد طول رسالته عن خمسمائة كلمة. كان لا يزال يمسك بالقلم في يده اليسرى، وخطه الآن متشنج ومتوتر. أخبر القنصل بأن حياته مهددة، وأنه يتعجل المغادرة:
ليس لدي وقت لأقدم لك روايتي عن مشاهداتي في تمبكتو، لكنني سأذكر بإيجاز أنه من كل ناحية عدا الحجم (الذي لا يتعدى محيط أربعة أميال) أنها قد أوفت بتوقعاتي بالكامل ... لقد كنت مشغولا أثناء إقامتي، أفتش في السجلات الموجودة في المدينة، وهي وفيرة، وأتحصل منها على معلومات من كل نوع، ولن يكون مرضيا بأي درجة مقبولة أن أقول إن مثابرتي قد أجزيت بسخاء.
في اليوم التالي لكتابته لهذه الرسالة، غادر لينج تمبكتو وخرج من سجلات التاريخ. بعث القنصل بالرسالة الأخيرة إلى لندن مع مذكرة تمهيدية تزعم تحقيق انتصار من نوع ما؛ إذ كانت «أول رسالة على الإطلاق تكتب من ذلك المكان على يد رجل مسيحي»، ولكن من ناحية تقديم معلومات عن هدف عظيم للجغرافيا الأوروبية، كانت رحلة لينج الاستكشافية فاشلة. لو أن تمبكتو كانت قد أوفت بتوقعاته «بالكامل »، فأين هي التفاصيل؟ الأمر الأكثر مدعاة للحيرة كان تأكيد لينج بأنه كانت توجد «سجلات وفيرة في المدينة»، والتي تحصل منها على «معلومات من كل نوع.» ما نوع السجلات الذي يمكن أن يسترعي انتباه رجل عسكري؟ وكيف تكون ذات نفع للحكومة البريطانية؟ •••
بعد قرنين تقريبا، من الجلي أن «السجلات الموجودة في المدينة» كانت كثيرة، وكان معظمها من النصوص العربية المعروفة حاليا إجمالا باسم «مخطوطات تمبكتو». تتسم مخطوطات المدينة، التي يبدو أن لينج كان أول أوروبي تقع عيناه عليها، بأنها كثيرة العدد لدرجة أنه لا أحد يعرف بالضبط عددها، وإن كان يعتقد أن عددها يبلغ عشرات أو حتى مئات الآلاف. وهي تحتوي على بعض من أقيم المصادر المكتوبة لما يطلق عليه العصر الذهبي لتمبكتو في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وإمبراطورية سونجاي التي كانت المدينة جزءا منها. اعتبر الخبراء تلك المخطوطات المكافئ الأفريقي لمخطوطات البحر الميت أو للوثائق الأنجلوساكسونية، والتي تعد بمنزلة دليل على تاريخ القارة المكتوب النابض بالحياة.
في عام 2012 بدا أن ذلك التاريخ معرض للتهديد. فبعد انقلاب في جنوب مالي، سيطر على تمبكتو مقاتلو تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. بدأ الجهاديون يهدمون أضرحة أولياء المدينة الصوفيين التي يبلغ عمرها عدة قرون هدما منهجيا. وفي الثامن والعشرين من يناير من عام 2013، أعلن عمدة تمبكتو للعالم أن كل مخطوطات المدينة القديمة قد أحرقت هي الأخرى.
أتذكر صباح ذلك اليوم جيدا. كنت في ذلك الوقت أعمل محرر أخبار دولية في صحيفة «ذا جارديان»، وكان لمالي وقع خاص عندي. فقبل ذلك بسنوات كثيرة، وأنا في الثامنة عشرة من عمري، فكرت في السفر بالسيارة عبر الصحراء الكبرى. ادخرت المال، واشتريت سيارة لاند روفر قديمة، وانطلقت من يوركشاير مع صديق لي، مسافرا عبر المغرب والجزائر إلى مالي، التي وصلت إليها في ربيع عام 1987. كانت مدينة عقلحق الصحراوية هي علامة نهاية رحلة العبور، أي، بمنزلة ذروة رحلتنا، وما إن وصلنا إلى هناك حتى تكونت لدينا فكرة جديدة. ماذا لو قايضنا السيارة المتهالكة بثلاثة جمال أو أربعة وركبناها إلى تمبكتو؟ وهذه هي القصة التي سنرويها! عثرنا على بائع وتفاوضنا معه طيلة أسبوع، ولكن بما أنه لم يستطع إلا أن يقدم إلا جملا واحدا صغيرا، تخلينا عن الخطة وتابعنا المضي جنوبا. بعت السيارة في جاو، عاصمة سونجاي القديمة، وسافرت إلى بوركينا فاسو وكوت ديفوار ثم سافرت عائدا إلى الوطن. لم أكن قد وصلت إلى تمبكتو، لكنني أغرمت بحب فكرة السفر عبر الصحراء. عدت إلى الصحراء الكبرى في عام 1989 بسيارة مختلفة، ولكنها لم تكن موثوق فيها بما يكفي للمخاطرة بقيادتها إلى مالي. مرة أخرى، ظلت مدينة الثلاثمائة والثلاثة والثلاثين وليا بعيدة المنال على نحو مشوق.
في يوليو من عام 2012، شاهدت، بغضب وحزن، المشاهد المصورة للجهاديين وهم يهدمون آثار تمبكتو. في يناير من العام التالي، عندما قيل لمراسلنا إن الثوار قد أحرقوا النصوص التاريخية للمدينة، كنا سباقين إلى نشر الخبر على الطبعة الإلكترونية على الإنترنت لصحيفة «ذا جارديان». بعدها بأيام، أصبح واضحا أن المخطوطات لم تكن مع ذلك قد أتلفت؛ في حقيقة الأمر، كانت قد هربت إلى بر الأمان على يد رجال مكتبات المدينة. أصبحت شغوفا بتفاصيل هذه العملية. بدا لي أنها تكرار لحبكة لرواية روبرت كرايتون الهزلية «سر سانتا فيتوريا»، التي ينقذ فيها سكان بلدة توسكان الصغيرة مليون زجاجة من الخمر من النازيين الذين كانوا ينهبون البلدة. غير أن الأمر كان أفضل من ذلك بكثير؛ فالكنز في تمبكتو كان أكثر أهمية للغاية؛ والأكثر من ذلك، أن عملية الإجلاء هذه كانت حقيقية. استقلت من عملي، مصمما على أن أحول هذه القصة إلى كتاب.
ذكر بروس تشاتوين ذات مرة أن هناك مدينتين تحملان اسم تمبكتو. إحداهما هي المكان الحقيقي، مدينة منهكة تعبرها القوافل حيث ينعطف نهر النيجر نحو الصحراء الكبرى. أما الأخرى فأروع بكثير، وهي مدينة أسطورية في أرض خيالية، تمبكتو التي في الأذهان. خططت أن أقدم عرضا لمدينتي تمبكتو هاتين باتباع مسارين بالتناوب: مسار نضال الغرب لعدة قرون للعثور على المدينة، وغزوها، وفهمها؛ ومسار المحاولة المعاصرة لإنقاذ مخطوطاتها وتاريخها من التدمير. سيستكشف السرد الأول دور الأسطورة في تشكيل رؤيتنا لتمبكتو؛ أما الثاني فسيروي حكاية الاحتلال والإجلاء.
ما لم أفهمه حينئذ كان كم تعكس بشدة هاتان القصتان بعضهما بعضا.
تشارلي إنجليش
لندن، 2017
الجزء
الاحتلال
إن كنت لا تعرف الطريق الموصلة إلى مدينة النحاس فافرك كف الفارس فإنه يدور ثم يقف، فأي جهة وقف إليها فاسلكها ولا خوف عليك ولا حرج فإنها توصلك إلى مدينة النحاس.
كتاب «ألف ليلة وليلة»
الفصل الأول
باحث عن المخطوطات
مارس 2012
في صباح ضبابي في باماكو، عاصمة دولة مالي المعاصرة في غرب أفريقيا، سارت سيارة تويوتا لاند كروزر ببطء نحو نهاية طريق خرساني وتركته لتنخرط في زحام السيارات الصباحي. في مقعدها الأمامي جلس رجل ضخم ذو مظهر مميز يرتدي عباءة فضفاضة وقبعة صلاة مستديرة. كان في السابعة والأربعين من عمره، وطوله يزيد عن الأقدام الست، ووزنه يقارب مائتي رطل، وعلى الرغم من وجود شارب صغير فرنسي الطراز متوازن بأناقة فوق شفته العليا، كان ثمة شيء يوحي بالقيادة في مظهره. في عينيه البنيتين البارزتين كان يكمن ذكاء حاد يكاد أن يكون خبيثا. كان هذا هو عبد القادر حيدرة، أمين مكتبة من تمبكتو، والذي كان اسمه سيصبح عما قريب شهيرا في أنحاء العالم.
لم يكن حيدرة رجلا مترددا، ولكن في ذلك الصباح، بينما كان سائقه يقود السيارة الثقيلة عبر الحشود الكثيفة من الدراجات البخارية الصينية الصنع التي تمر محدثة أزيزا والحافلات الصغيرة الخضراء المتهالكة التي طوت شوارع المدينة، كان واقعا في معاناة من التردد. كان راديو السيارة، المضبوط على إذاعة فرنسا الدولية، يفيض بتحديثات مقلقة عن الوضع في الشمال، بينما امتلأت باستمرار الهواتف المحمولة الرخيصة، التي كانت في متناول يده دوما، بإفادات من معارفه في تمبكتو، التي تبعد ستمائة ميل. كان المتمردون يتقدمون عبر الصحراء، ويجبرون القوات الحكومية واللاجئين على التراجع أمامهم. كانت محطات الحافلات تعج بالنازحين؛ كانت الطرق السريعة تزدحم بالدراجات البخارية والشاحنات الصغيرة والشاحنات الكبيرة القديمة التي تتأرجح تحت ثقل السكان الفارين. كان حيدرة قد عرف عندما غادر شقته أن قيادة السيارة في هذه الفوضى ستكون خطرة، لكن حينئذ بدأ الأمر يبدو مثل مهمة انتحارية. سرعان ما ضاق ذرعا بالأمر؛ فتحدث إلى سائقه، وبعد ذلك توجها صوب الغرب من جديد، عائدين إلى حواف العاصمة الأفريقية المترامية الأطراف.
ليست هناك كلمات كثيرة أفضل لوصف أمين المكتبة هذا من كلمة «مسئول». لقد كان مسئولا عن شريحة ضخمة من التاريخ المهمل، المتمثلة في مخطوطات تمبكتو، التي هي مجموعة كبيرة من الوثائق المكتوبة بخط اليد حتى إنه لم يكن أحد يعرف عددها على وجه الدقة، لكنه هو نفسه كان سيحصيها بمئات الآلاف. كان قلة من الناس قد فعلوا أكثر مما فعل حيدرة للكشف عن هذه المخطوطات. وفي الشهور التالية، لن ينال أحد فضلا أكثر مما سينال على إنقاذها.
من الناحية الشخصية كان أمين المكتبة رجلا ذا هيبة يصافحك مصافحة رقيقة رقة مذهلة، ويحييك تحية عابرة تبقى في الذاكرة. كان على دراية كبيرة بتاريخ ومحتوى الوثائق، لكنه لم يبد عالما بقدر ما بدا رجل أعمال كان يتولى شئونه بلغات مختلفة عبر هواتفه المحمولة، أو شخصيا من وراء مكتب بحجم قارب صغير. لم يكن المالك الوحيد للمخطوطات في المدينة، لكن بصفته مالك أكبر مجموعة منها ومؤسس «سافاما»، وهي منظمة مكرسة للمحافظة على تراث المدينة المكتوب، ادعى أنه يمثل أكثرية عائلات تمبكتو المالكة للمخطوطات.
نشأ حيدرة في منزل ضخم في تمبكتو مصنوع من قرميد البانكو ومبني حول ساحة، شأنه شأن مائة ألف منزل آخر في المنطقة. كان واحدا من أربعة عشر ابنا من أبناء مما حيدرة، الذي كان عالما من تمبكتو، وكانت المدينة التي نشأ فيها قد تغيرت قليلا على مدى مائة عام. في قلب المدينة كانت تقع المساجد الثلاثة الكبيرة؛ جينجربر، «المسجد الكبير» في الغرب؛ وسيدي يحيى في المركز؛ وسانكوري في الشمال. كانت المساحات بين المساجد مليئة بالمنازل والأسواق، وكانت المدينة القديمة، التي كانت على شكل قطرة دمع كبيرة، على مسافة ميل ونصف في الجوار. كان الناس قد دفنوا أقاربهم بالقرب من منازلهم، وبينما تنامت المدينة، كانت المدافن قد استوعبتها شبكة الأزقة والشوارع. كان الأحياء والأموات الآن يتواجدون جنبا إلى جنب، وفي تقليد الإسلام الصوفي الباطني، لم يعد الفاصل بينهم واضحا؛ الأسلاف الأكثر قداسة، العلماء والقضاة والقادة من الأزمنة السابقة، كانوا يرقدون في أضرحة كبيرة حيث كانوا يعظمون باعتبارهم أولياء. كان أحد ما قد ذكر أن عددهم 333 وليا، وإذ كان هذا الرقم رقما مباركا، فقد صار هذا هو ما أصبحت تمبكتو تطلقه على نفسها، «مدينة ال 333 وليا».
لم تكن توجد سيارات أو شاحنات في تمبكتو حينما كان حيدرة يترعرع؛ فلم تحظ المدينة بأول مضخة وقود حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي. كانت بدلا من ذلك مليئة بالحيوانات. كانت الأغنام والماعز والماشية والدجاج تلتقط طعامها من النباتات المتناثرة ومن الفضلات التي تلقى في الشوارع. كانت قوافل الحمير تجلب الحبوب من الميناء النهري إلى الجنوب، بينما كانت أكبر أحداث العام هي عمليات وصول قوافل الملح، التي كانت تضم آلاف الجمال، من المناجم في الصحراء.
في السادسة من عمره، أرسل حيدرة إلى كتاب ليتعلم النصوص المقدسة، وبعد ذلك إلى مدرسة كانت الدراسة فيها باللغتين الفرنسية والعربية ليتعلم كل الأمور الأخرى. وكان يتذكر أن طفولته كانت طفولة خالية من القلق، لكن مثل معظم التمبكتيين لم تكن العائلة تمتلك الكثير من المال. كانت أصولها الرئيسية هي المخطوطات. كانت تلك المخطوطات مخزنة في سائر أنحاء المنزل، كما سيتذكر حيدرة لاحقا، على أرفف كانت تنحني تحت وطأة الورق، وفي بيوت الأقارب وفي أنحاء تمبكتو. كانت في الأغلب مكتوبة باللغة العربية، وكانت مغلفة بجلد جمل أو غزال، أكلت أرضة الأرض نسيجه وتلطخ بالماء. وكانت تغطي كل موضوع موجود تقريبا. وكانت توجد أعمال في الفلك، والشعر، والطب، وكذلك وثائق ملكية، وأحكام قانونية، وسندات بيع عادية. وكانت في أغلبها وثائق إسلامية؛ تفاسير للنصوص المقدسة وتأويلات لمعانيها الشرعية.
استخدم والد حيدرة المخطوطات للتدريس. كان الطلاب يأتون من أنحاء الإقليم ليتعلموا من هذا العالم وكتبه، بينما كان أصدقاؤه - «الشخصيات العظيمة»، قادة المناطق المجاورة ووجهاء تمبكتو - يأتون ليجلسوا ويتبادلوا الآراء. في بعض الأحيان كان والده يطلب منه أن يجلب وثيقة معينة، وكان من شأن حيدرة أن يبحث في غرف المنزل ليعثر على الشيء المراد. لاحقا بدأ ينسخ أجزاء من المخطوطات، وبهذه الطريقة صار يعرفها ويفهمها.
توفي والده في عام 1981، عندما كان عبد القادر في السابعة عشرة من عمره. كان التقليد المتبع هو أن تجتمع عائلة المتوفى وأعيان المدينة لتقسيم التركة، ولهذه الغاية جمعت ممتلكات مما حيدرة في دفتر. لكن المخطوطات نحيت جانبا؛ فلم تكن المخطوطة ستقسم، أو تباع، أو يتخلى عنها. عوضا عن ذلك، كان أحد أفراد الجيل التالي سيكلف بمهمة رعايتها. اختار الكبار عبد القادر، إذ كانوا قد شهدوا طبيعته الميالة إلى حب البحث واكتساب المعرفة. وكان سيغدو هو «المسئول».
في تلك الفترة تقريبا، جاء الحكيم المالي أمادو همباطي با ليتحدث في تمبكتو. كان همباطي با، الذي عاش منذ الأيام الأولى للاستعمار الفرنسي، كاتبا موهوبا، وجامعا للتراث، وخبيرا في ثقافة غرب أفريقيا، ورجلا ذا ذكاء ومكانة عظيمين. ذهب حيدرة ليستمع إليه. قال همباطي با لمستمعيه أن يتخيلوا، من المنظور الثقافي للأمور، أن مدن العالم مصطفة في صف واحد. وقال إنه فيما مضى كانت تمبكتو في مقدمة الصف، لكن بعد ذلك أمر الله الصف أن يدور استدارة كاملة على عقبيه، وحينئذ صارت في المؤخرة. قال همباطي با: «لا نعرف كيف حدث هذا، ولكن يوما ما سيأمر الله باستدارة كاملة أخرى بحيث تعود تمبكتو إلى مكانها من جديد. ينبغي ألا تقفوا مكتوفي الأيدي وتنتظروا تلك اللحظة. يجب عليكم أن تعينوا التاريخ. يجب أن تخرجوا مخطوطاتكم. يجب أن تستخدموها.»
انغرست كلمات همباطي با بعمق في وعي حيدرة. في ذلك اليوم، أدرك غايته. كان سيحاول أن يعيد الحياة إلى المدينة عبر مخطوطاتها.
كانت تمبكتو في ثمانينيات القرن العشرين بالفعل مقر منظمة مكرسة لدراسة النصوص العربية. وبتشجيع من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، كانت الحكومة المالية قد تبرعت بإنشاء معهد بحثي في المدينة في عام 1973، أسمي تيمنا باسم عالم تمبكتو في القرن السادس عشر أحمد بابا، وأوكلت إليه مهمة جمع تراث مالي المكتوب وحفظه. بدأ مركز أحمد بابا بأقل من مائة وثيقة وكان قد أضاف حوالي 3300 وثيقة أخرى بحلول عام 1984، عندما فاتح مديره حيدرة وقال له إنه ينبغي أن يأتي للعمل هناك «منقبا»، أي، باحثا عن المخطوطات. وقبل حيدرة ذلك. وأصبح أبرز منقب عن المخطوطات حظي به المركز على الإطلاق.
بدأ بالاتصال بأصدقائه واستخدام تأثيره، واسم عائلته، وطبيعته المثابرة. كثيرا ما كان الناس ينكرون أن لديهم مخطوطات، لكن حيدرة كان يتحدث إليهم المرة تلو الأخرى حتى ينجح في استمالتهم. كان يفتش في تمبكتو وكان يفتش أيضا في الإقليم الأكبر، قاطعا شمالي مالي طولا وعرضا راكبا حمارا، أو جملا، أو زورقا، أو سيارة لاند روفر. وأحيانا كان يسافر مع قوافل الملح، مرتحلا على قدميه إلى جانبها طيلة أربع عشرة ساعة متواصلة. وقد ذهب إلى مدن وقرى ونجوع، محاولا إقناع الناس بلطف أن يتنازلوا عما لديهم من وثائق كانوا قد خبئوها أو نسوها. سافر إلى حدود موريتانيا والسنغال في الغرب، وإلى الحدود مع بوركينا فاسو والنيجر في الشرق. ذهب إلى جوندام، وديري، وتونكا، ونيافونكي، ونيونو، وإلى كل ما بينها من أماكن. كان يدفع ما يصل إلى مائتي دولار مقابل وثيقة قيمة من ورقة واحدة، وثلاثمائة دولار مقابل مخطوطة كاملة، لكنه في بعض الأحيان كان يدفع الثمن بالحيوانات، التي كثيرا ما كانت قيمتها عند الناس أكثر من النقود. كانت المخطوطات التاريخية هي أكثر ما يسعى إليه، يليها المخطوطات التي كانت مزخرفة بزخارف متقنة، أو قديمة جدا، أو مكتوبة على يد كتاب محليين. إذا كانت حمولته مرهقة، كان حيدرة يستأجر سيارة أو قاربا نهريا ليحملها عائدا بها إلى تمبكتو. ورويدا رويدا، جلب الكتب والوثائق. وفي غضون اثني عشر عاما أضاف ستة عشر ألف مخطوطة إلى مجموعة أحمد بابا. واستمر في تنقيبه بعد ذلك، لكنه توقف عن الإحصاء.
وبينما كان حيدرة ينشئ الأرشيف الوطني، أخذ يفكر أكثر فأكثر في مخطوطاته الخاصة، التي كانت موضوعة في صناديق مكدسة في غرف صغيرة مظلمة، معرضة للرطوبة والأرضة وخطر الحريق. لم تكن التقاليد تسمح له بأن يبيعها، حتى إن أراد ذلك، لذا قرر أن ينشئ مكتبته البحثية الخاصة. أرسل فاكسات إلى مؤسسات ومنظمات دولية وألح في الحديث على زوار مؤثرين للمدينة الشهيرة، طالبا دعمهم. عرض عليه الناس أن يشتروها، لكن لم يرغب أحد في أن يدفع له مقابل الإبقاء عليها في تمبكتو.
في عام 1997، جاء العالم البارز من جامعة هارفرد هنري لويس جيتس الابن إلى مالي، ودعاه حيدرة لرؤية مجموعته. ذرف جيتس الدموع عند رؤية الوثائق التي كانت موضوعة أمامه. تساءل حيدرة لماذا كان جيتس يذرف الدمع؟ أوضح جيتس أن السبب أنه كان يدرس في بعض من أفضل الجامعات في العالم قرابة عشرين عاما، وأنه كان يقول دوما لطلابه إنه لا يوجد تاريخ مكتوب في أفريقيا، وأنه كله شفاهي. والآن عندما وقعت عيناه على هذه المخطوطات، تغير كل شيء. عندما عاد جيتس إلى الولايات المتحدة، مارس ضغوطا من أجل الحصول على تمويل لمشروع حيدرة، الذي سرعان ما نال دعم مؤسسة أندرو دبليو ميلون. قدمت جهات مانحة أجنبية أخرى، هي مؤسسة فورد، ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي التي مقرها في لندن، ومركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دبي، أموالا أكثر بمرور السنين. وفي عام 2000 افتتح أول أرشيف خاص معاصر في تمبكتو، مكتبة مما حيدرة التذكارية، في احتفال حضرته سيدة مالي الأولى. بعد ذلك، ساعد حيدرة أصدقاءه على إنشاء مؤسساتهم، وسرعان ما كانت المكتبات تظهر في كل مكان، إذ أخرجت عائلات تمبكتو مجموعاتها.
بحلول هذا الوقت كانت المخطوطات بصدد أن تصبح مسألة مشهورة. وتزايد استخدامها من أجل السعي وراء تفسير جديد لماضي أفريقيا يمكن أن يكافح العنصرية التي لازمت القارة زمنا طويلا. فمن إيمانويل كانت إلى ديفيد هيوم، كان فلاسفة ومؤرخون غربيون قد استشهدوا بغياب الأعمال المكتوبة في أفريقيا باعتباره دليلا على أن القارة كانت متخلفة للغاية حتى عن أن يكون لها تاريخ. كتب هيوم في عام 1748: «لم توجد أبدا أي أمة متحضرة بأي لون بشرة إلا اللون الأبيض، ولا حتى وجد أي فرد بارز في الفعل أو التفكير. لا توجد لديهم اختراعات تتسم بالإبداع، ولا فنون، ولا علوم.» كانت أصداء هذه الرؤية لا تزال تتردد لدى المؤرخ البريطاني هيو تريفور-روبير في عام 1963 والذي قال: «ربما في المستقبل، سيوجد تاريخ أفريقي ما يمكن أن يدرس. لكن في الوقت الحاضر لا يوجد. لا يوجد سوى تاريخ الأوروبيين في أفريقيا. أما الباقي فظلام.» كانت المخطوطات موجودة في سائر أنحاء غرب أفريقيا، لكن تمبكتو كانت الأشهر، والآن اعتبرت دليلا مضادا. في عام 2001، أدرجها رئيس جنوب أفريقيا تابو إيمبيكي في حملة للمساعدة على إعادة تعريف القارة بمفهوم أفريقي. وأمر بإنشاء مبنى ضخم جديد لمركز أحمد بابا في تمبكتو يشمل مساحة للعرض، وقاعة للمؤتمرات، وورشا للترميم، ويعمل وفق برنامج أكاديمي للحفاظ على المخطوطات. قال إيمبيكي: «تفتح [المخطوطات] آفاقا للتفكير بطرق جديدة بشأن العالم، وهي تعد فرصة لتأمل التاريخ بنظرة جديدة.»
في تلك الأثناء كان البحث في العدد المتنامي من الوثائق التي كانت تصل إلى تمبكتو يجري على قدم وساق. في عام 2001، أعلن جون هنويك من جامعة نورث ويسترن، الخبير الدولي الرائد في التراث الإسلامي المكتوب لغرب أفريقيا، أن خبيئة من ثلاثة آلاف مخطوطة كانت قد عرضت عليه في تمبكتو كانت «تعيد كتابة التاريخ». قال هنويك لصحيفة «شيكاجو تريبيون»: «كادت عيناي تخرجان من محجريهما.» وأضاف: «لم يسبق لي أن شاهدت أي شيء مثلها من قبل.» قال شون أوفاهي، صديق هنويك وزميله، إن الأمر كان «مثل مصادفة تأريخ أنجلو-ساكسوني آخر أعطانا رؤية جديدة للتاريخ المبكر لإنجلترا.» كان الكشف ببساطة «استثنائيا»، على حد قول ديفيد روبنسون، أستاذ التاريخ الأفريقي بجامعة ميتشجن ستيت.
بحلول عام 2011، كان حيدرة وزملاؤه الباحثون عن المخطوطات قد أحرزوا تقدما هائلا في المهمة التي كان همباطي با قد حددها لهم وهي مهمة استعادة تمبكتو لمكانتها الصحيحة في العالم. قدر حيدرة أن عدد المخطوطات المحصاة في الإقليم حينئذ بلغ ما لا يقل عن 101820 مخطوطة، وكان العدد في البلد ككل قريبا من المليون. ولولا الحرائق، والحروب، والكوارث الطبيعية، كان العدد سيصبح أعلى بكثير.
ثم تحولت الاضطرابات في الصحراء خارج المدينة، التي كانت قد دوت على مدى عقود، إلى فوضى صاخبة.
كان شمال مالي لأمد طويل منطقة مجاورة مضطربة، وكان مأوى لقطاع الطرق، والمهربين، والمتمردين. كان لدى القادة المسلحين في الشمال تظلمات من النظام الحاكم في باماكو منذ عهود الاستعمار، وأدت هذه التظلمات إلى تفجر أعمال تمرد متكررة منذئذ. في عام 2003، كان الجهاديون الجزائريون الذين يخوضون حربا في مواجهة حكومتهم قد اتخذوا ملاذا عبر الحدود في مالي، وبعد ذلك بفترة وجيزة تلقوا مباركة أسامة بن لادن واتخذوا اسم «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». لقد ضرب هؤلاء جذورا عميقة لهم في الصحراء، آخذين حصة من تجارة التهريب، لكن أكبر مصدر للمال لهم كان يأتي من عمليات الخطف. فما بين عامي 2003 و2010، جنى هذا التنظيم عشرات الملايين من الدولارات عن طريق أخذ فدية عن دبلوماسيين غربيين، وعاملين في مجال الطاقة، وسائحين ضلوا طريقهم ودخلوا الإقليم الخطأ.
في عام 2011، أضيف مكون إضافي إلى الوضع المتأجج. في تلك السنة، أطاح تمرد في ليبيا، مدعوما بطائرات حلف الناتو المقاتلة وصواريخه الجوالة، بنظام العقيد معمر القذافي، وعاد إلى الديار مئات من الطوارق الماليين، الذين كانوا قد وظفوا في جيوش الدكتاتور، ومعهم كل ما استطاعوا حمله من أسلحة وذخيرة. وفي مالي انضموا إلى حركة سياسية كانت تحشد لإقامة دولة طوارق مستقلة تسمى أزواد، وظهرت إلى الوجود «الحركة الوطنية لتحرير أزواد». أعلنت الحركة الحرب على حكومة باماكو وبمعاونة حلفائها من تنظيم القاعدة ألحقت سلسلة من الهزائم النكراء بقوات مالي المسلحة ذات الروح المعنوية المنهارة. وفي منتصف شهر مارس من عام 2012، شنت مجموعة من ضباط الجيش المالي الساخطين انقلابا، وفي أثناء الفوضى السياسية التي أعقبت ذلك، اغتنم المتمردون فرصتهم، فاجتاحوا الشمال بينما تراجع الجيش في حالة من الفوضى.
بينما كان حيدرة جالسا في سيارته في صباح يوم الحادي والثلاثين من مارس، غير رأيه مرة أخرى. في وقت خطر كهذا كان يوجد مكان واحد ينبغي عليه التواجد فيه. عادت سيارة اللاند كروزر المرهقة أدراجها من جديد، واتجهت في الاتجاه الشمالي الشرقي، صوب تمبكتو والحرب.
الفصل الثاني
فراغ واسع وممتد
يونيو-نوفمبر 1788
بدأ السعي من أجل استكشاف تمبكتو، كما كانت تلك الأمور تبدأ في بعض الأحيان، في غرفة تعلو حانة لندنية.
في التاسع من يونيو من عام 1788، اجتمعت مجموعة من تسعة رجال من أصحاب النفوذ في حانة سانت ألبان، والتي تقع على مقربة شديدة من مقر الملك الرسمي في قصر سانت جيمس، وجلسوا ليناقشوا مستقبل الاستكشاف. ضم هذا الاجتماع لنادي السبت الحصري - لم يبد مهما أن ذلك اليوم كان الاثنين - وزير خارجية سابقا، وحاكما عاما مستقبليا للهند، ولوردا من لوردات الحاشية الملكية، إلى جانب قلة قليلة من فرسان المنطقة. ثمانية من أعضاء النادي البالغ عددهم اثني عشر رجلا كانوا أعضاء في البرلمان؛ وستة كانوا زملاء لمؤسسة النخبة العلمية المتمثلة في الجمعية الملكية. وكان واحد منهم - وهو صاحب الدور الرئيسي في تجميع العناصر الرئيسية الفاعلة - يشغل منصب رئيس الجمعية الملكية، وهو السير جوزيف بانكس.
كان بانكس في ذلك الوقت في الخامسة والأربعين من عمره، وكان مدمنا لمعاقرة الخمر، ومائلا إلى البدانة. وعلى خلاف سلفه الشهير، إسحاق نيوتن، كان شخصية محبوبة؛ إذ وصفه جيمس بوزويل بأنه «ضخم كالفيل، وهادئ ولطيف جدا»، وكان يسمح للمرء بأن «يركب على ظهره أو أن يلعب بخرطومه.» كان قد تلقى تعليمه في مدرسة هارو وكلية إيتون، حيث اكتشف أن لديه كراهية للأدب الكلاسيكي وحبا لعلم النبات، وبعد فترة وجيزة من تركه جامعة أكسفورد كان قد انطلق في مغامرته العلمية الأولى، مسافرا بصفته عالم تاريخ طبيعي على فرقاطة تابعة للبحرية الملكية متجهة إلى نيوفاوندلاند ولابرادور. ومع ذلك، كانت هذه مجرد بروفة للرحلة التي كانت ستجعله مرموقا؛ رحلة جيمس كوك الأولى للطواف حول العالم. عاد في عام 1771 من تلك الرحلة التي استغرقت ثلاثة أعوام بثلاثين ألف عينة نباتية مذهلة وبشهرة تخطت حتى شهرة كوك . ثم أصبح صديقا مقربا من الملك جورج الثالث، مطورا حدائقه النباتية الملكية في كيو إلى مركز رئيسي للأبحاث، وببلوغه الخامسة والثلاثين من عمره كان يتولى قيادة أهم مؤسسة علمية في العالم، وهي الجمعية الملكية. وظل في منصب رئيس الجمعية طيلة العقود الأربعة التالية، منشئا شبكة من الأصدقاء والمعارف اشتملت على أبرز الفلاسفة الطبيعيين في ذلك العصر - بنجامين فرانكلين، وكارل لينيوس - إلى جانب مفكرين مبدعين ورجال دولة بدءا من توماس بين وحتى هنري كريستوف، ملك هاييتي. ومن منزله في 32 ميدان سوهو بعث بآلاف الرسائل مانحا الرعاية والنصيحة للمشاريع التي أشعلت حماسه. وكم كان لديه من الحماس!
على مشارف نهاية عصر التنوير، اتخذت خطوات عملاقة في كل مجال من مجالات السعي الإنساني، من الجغرافيا والموسيقى إلى تربية الحيوانات وزراعة نبات الراوند. كان عصر ثورة في السياسة - ففي عام 1783، كانت أمريكا قد نالت الاستقلال عن أحد الأنظمة الملكية؛ وفي عام 1789، تخلصت فرنسا من نظام ملكي آخر - وفي العلم أيضا. كانت إسهامات بانكس في العلم هائلة. فقد ساند ويليام روي، مؤسس هيئة المساحة البريطانية؛ وويليام سميث، مبتكر أول خريطة جيولوجية؛ وويليام هيرشل، أول شخص في التاريخ يكتشف كوكبا في النظام الشمسي، وهو كوكب أورانوس. ومن مقعده في مجلس الزراعة ومجلس خطوط الطول، ساعد في تحديث إنتاج الحبوب والملاحة، بينما بصفته عضوا في مجلس أمناء المتحف البريطاني وضع مجموعات شكلت أساس متحف التاريخ الطبيعي والمكتبة البريطانية. واستحوذت المغامرات فيما وراء البحار بوجه خاص على اهتمام بانكس؛ إذ كان وراء المهمة المشئومة للسفينة «باونتي» التابعة للبحرية الملكية لاستزراع نباتات فاكهة الخبز من تاهيتي لإطعام العبيد في منطقة الكاريبي، وشجع إقامة مستعمرة عقابية في أستراليا. وفقط في يناير من عام 1788، كان أول أسطول يحمل مدانين قد وصل إلى شاطئ كان يوما ما قد بحث فيه عن أنواع نباتات جديدة، وهو الشاطئ الذي كان كوك قد منحه اسم خليج بوتاني.
في صيف عام 1788، كان بانكس ورفاقه على وشك أن يولوا اهتمامهم إلى وجهة جديدة. كانت أفريقيا في ذلك الوقت قارة غامضة للجغرافيا الغربية، وكان بانكس غير اعتيادي في كونه قد وطئها بقدمه، عندما ألقت سفينة كوك «إنديفور» مرساتها في خليج كيب تاون في عام 1771. ربما يكون المستكشفون قد عبروا الدائرة القطبية الجنوبية، لكن ما كانوا يعرفونه عن أفريقيا القريبة كان هزلا، كما أوضحت مقطوعة ساخرة قصيرة وضعها الكاتب الساخر جوناثان سويفت قبل ذلك بنصف قرن:
وهكذا فإن الجغرافيين في خرائط أفريقيا
يملئون فراغاتهم بصور متوحشين،
وفوق نجود غير مأهولة
يضعون الأفيال للافتقار إلى المدن.
كان الاهتمام بهذه القارة المهملة قد أشعل فتيله في منتصف سبعينيات القرن الثامن عشر جيمس بروس، وهو إقطاعي اسكتلندي كان قد شرع في استكشاف منابع النيل وانتهى به الحال إلى العيش في إثيوبيا لعامين. كتب هوراس والبول في عام 1774: «إن أفريقيا حقا قد صارت صرعة جديدة.» وأضاف: «لقد عاد للتو من هناك سيد يدعى بروس، والذي عاش ثلاثة أعوام في بلاط إمبراطورية الحبشة، وأفطر كل صباح مع وصيفات الشرف على ظهور ثيران حية.» وأورد والبول بحقد أنه، نتيجة لذلك، كانت مآثر بانكس «منسية تماما.»
إن كانت أفريقيا حقا صرعة جديدة في لندن، فقد كانت أيضا موضوع أزمة أخلاقية وشيكة ستشكل سياسة بريطانيا الخارجية طيلة النصف القرن التالي. بحلول أواخر القرن الثامن عشر، كانت التجارة على سواحل غينيا - التي كانت قد عرفت كذلك بسبب سلعها الرئيسية من عاج، وذهب، وعبيد، وحبوب - قد أصبحت ركيزة أساسية في الاقتصاد البريطاني. وفي النصف القرن الذي سبق عام 1772، كانت التجارة الأفريقية قد ازدادت بمقدار سبعة أمثال، وصولا إلى مليون جنيه إسترليني تقريبا في العام. في ذلك العام كتب تاجر إنجليزي مجهول يقول: «كم هي هائلة أهمية تجارتنا مع أفريقيا، التي تمثل القاعدة والأساس الأولين من بين البقية الباقية كلها؛ الزنبرك الرئيسي في الآلة والذي يجعل كل ترس يتحرك!» كان قدر كبير من التجارة يتم في البشر؛ فكان القباطنة البحريون الذين يتخذون مقار لهم في لندن، وليفربول، وبريستول يقايضون البنادق المصنوعة في برمنجهام والقماش المصنوع في شرق إنجلترا بالعبيد، الذين كانوا يرسلون بالسفن إلى مزارع التبغ والسكر في الهند الغربية التي أبقت على الاقتصاد البريطاني قائما. وفي ستينيات القرن الثامن عشر حملت السفن البريطانية اثنين وأربعين ألف عبد في العام عبر المحيط الأطلنطي، وهو شيء لم تفعله أي أمة أوروبية أخرى.
ومع ذلك كانت بريطانيا قد بدأت تشعر بوخز الضمير، عندما حدث تواصل لأول مرة بين الناس وضحايا العبودية. كان يوجد عشرة آلاف رجل أسود يعملون خدما في المنازل في إنجلترا في عام 1770، وبحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر ظهر فيض صغير من الكتب الرائجة التي أظهرت شرور هذه التجارة، من بينها كتاب «القصة المثيرة لحياة أولوداه إيكوانو»، الذي أصبح نصا كلاسيكيا لنشطاء طائفة الكويكر المناهضين للعبودية الذين أسسوا فيما بعد حركة التحرير من العبودية. ومن منظور أعضاء نادي السبت مثل هنري بوفوي، انطوى إيجاد سلع أفريقية بديلة على إمكانية وضع حد لتجارة الرقيق. واشتم آخرون، من بينهم بانكس، رائحة فرص تجارية جديدة يمكن أن تكون جيدة لبريطانيا.
لم توضح هذه الدوافع صراحة في أدبيات النادي. كان السبب المقدم للتوجه الجديد إلى أفريقيا، حسبما وضعه بوفوي وأقره بانكس، هو نداء الاستكشاف الخالص والقائم منذ زمن بعيد:
من بين غايات الاستقصاء التي تسترعي اهتمامنا بأقصى قدر، ربما لا يوجد شيء يستثير بقدر كبير الفضول المستمر، من الطفولة إلى الشيخوخة؛ شيء يرغب المتعلم وغير المتعلم بنفس القدر في استكشافه، مثل طبيعة وتاريخ تلك الأجزاء من العالم، التي، بقدر علمنا، لم تستكشف إلى حد الآن.
أضاف بوفوي أنه بفضل نجاح الملاحة البحرية البريطانية، ورحلات كوك على وجه التحديد، «لم يبق شيء جدير بالبحث بحرا باستثناء القطبين نفسهما.» يكمن مستقبل الاستكشاف الآن في البر؛ فقد ظل ما لا يقل عن ثلث سطح اليابسة الصالح للسكنى مجهولا، وفي ذلك حيز كبير من آسيا وأمريكا، وتقريبا كل أفريقيا. بفضل جهود جورج فورستر، وهو موظف في شركة الهند الشرقية كان قد سافر من البنغال إلى إنجلترا عبر أفغانستان، وفارس، وروسيا، كان مرجحا للدراية بأجزاء آسيا أن «تتقدم نحو الكمال .» في الوقت نفسه كان من الممكن الاعتماد على تجار الفراء من مونتريال في التعامل مع مشكلة غرب كندا. لكن كان الداخل الأفريقي لا يزال «فراغا ممتدا عريضا فحسب» كان الجغرافيون قد اقتفوا فيه، بيد مترددة، «أسماء قليلة لأنهار غير مستكشفة وأمم غامضة.»
وأورد بوفوي أن هذا الجهل «يجب أن يعتبر مما يجلب التعيير بدرجة ما على العصر الحالي.» ولمداواة وصمة العار الجغرافية هذه، من شأن نادي السبت أن ينشئ كيانا جديدا، هو الرابطة الأفريقية، والذي سيكون مكرسا لتشجيع استكشاف القارة:
رغبة منهم في انتشال العصر الحالي من تهمة الجهل، التي، من نواح أخرى، لا يتسم بها إلا قليلا، وضع بضعة أفراد، على قناعة شديدة بنفع وفائدة توسيع نطاق دعم المعرفة البشرية، خطة لإنشاء رابطة لتشجيع اكتشاف الأجزاء الداخلية من أفريقيا.
سرعان ما اتفق على قواعد الرابطة: اتفق على رسم اشتراك بقيمة خمسة جنيهات في العام، واختيرت لجنة من خمسة أفراد. كان بانكس هو أمين الصندوق وبوفوي هو السكرتير، بينما عين اللورد رودان، وأسقف لانداف، والمحامي أندرو ستيوارت أعضاء مساعدين. ستكون مهمة هؤلاء الرجال هي تعيين «مبعوثين جغرافيين» ليضطلعوا برحلات الاستكشاف الأولى.
كان السؤال المتبقي إذن هو إلى أين، في تلك المساحة المجهولة من الأرض، ينبغي إرسالهم. •••
تم-بك-تو. إن معنى هذه المقاطع الثلاثة القصيرة محل خلاف. هل تشير إلى «جدار» أو «بئر» بكتو، وهي أمة عاشت في هذا المكان الشهير، الذي يوجد على بعد خمسة أميال وراء المنحنى الواقع في أقصى شمال نهر النيجر؟ أم أنها تشير إلى سونجاي، التي تعني «معسكر المرأة ذات السرة الكبيرة»؟ أم هل تدل ببساطة على مكان منخفض، مختف وسط الكثبان الرملية؟ توجد نظريات كثيرة، ومنطوقات كثيرة، وتهجيات كثيرة لهذه الكلمة، التي وصفها بروس تشاتوين بأنها «صيغة شعائرية، إذا ما سمعت مرة واحدة لا تنسى أبدا.» ما يبدو واضحا هو أن مستوطنة أقيمت هناك حوالي عام 1100، وتنامت لتصبح مدينة ذات تأثير بفضل موقعها عند ملتقى أكبر صحراء حارة في العالم وأطول أنهار غرب أفريقيا .
تنبسط الصحراء الكبرى على مساحة 3,6 ملايين ميل مربع تلفحها الشمس، وتمتد من المحيط الأطلنطي إلى البحر الأحمر ومن البحر المتوسط إلى الساحل الأفريقي. وهي تغطي من سطح الأرض ما يزيد عن الولايات المتحدة أو الصين، أو قارة أستراليا. وهي حسب المخيلة الشائعة تتألف من محيط من الكثبان الرملية، ومع أن هذه البحار من الرمال موجودة بالفعل، فإنها تمثل أقل من سدس المساحة الكاملة. ويطلق الطوارق على الصحراء الكبرى اسم «تيناريوين»، ويعني «الصحارى»، بالجمع، ليعكس طبائعها المختلفة الكثيرة. فتوجد جبال شاهقة ارتفاعها 11000 قدم ومسطحات ملحية بحجم بحيرة أونتاريو حيث يمكن للرمال المتحركة أن تبتلع سيارة. وفي الغالب، توجد مئات الآلاف من الأميال المربعة من الصخر المسطح العاري.
منذ ستة آلاف عام مضت، كانت الصحراء الكبرى خضراء؛ كانت تجوبها الأفيال، والزراف، وحيوانات وحيد القرن التي كانت تشرب من بحيراتها وتأكل من نباتاتها. أما الآن فقدر كبير منها لا يرى المطر لفترات تمتد لسنوات في المرة الواحدة. عندما ينزل المطر، تظهر سيول ماء هادرة تحفر خنادق عميقة في الأرض قبل أن تختفي بعد لحظات. وهذه الصحراء وفق بعض التقديرات أشد الأماكن حرارة على سطح الأرض، حيث يمكن لدرجات الحرارة في الظل أن تصل إلى 140 درجة، لكن في ليالي الشتاء، بدون دثار غطاء السحب، والتربة، والحياة النباتية، يمكن للصحراء أن تتجمد مكتسية بالصقيع. وفوق هذه المساحة الجرداء، تشكل الطبقات المتصادمة من الهواء الساخن والبارد رياحا عنيفة تهب باستمرار لفترات تمتد إلى خمسين يوما في المرة الواحدة، مثيرة غبارا خانقا يحجب الشمس ومستحثة أعاصير رملية دوامية تقتل الحيوانات وتقتلع الأشجار من جذورها.
إذا كانت الصحراء تمقت الحياة، فعلى حافتها الجنوبية الغربية تلتقي بالقوة الحيوية لغرب أفريقيا، المتمثلة في مسطح مائي يطلق عليه السكان المحليون اسم جوليبا، أي «النهر العظيم» أو «نهر الأنهار»، والذي يعرفه بقية العالم باسم «نهر النيجر». يبدأ نهر النيجر من مسيل صغير على ارتفاع 2800 قدم في مرتفعات فوتاجلون في غينيا، أحد أكثر الأماكن غزارة في هطول الأمطار على وجه الأرض. فوتاجلون هو مصدر ثلاثة مجار مائية عظيمة في غرب أفريقيا، والاثنان الآخران هما نهر جامبيا ونهر السنغال. يطلق اسم كل نهر من هذين النهرين على بلد، ولكن نهر النيجر العظيم يمنح اسمه لبلدين. إذا ما اتخذ هذا النهر الطريق الأقصر إلى المحيط الأطلنطي، فإنه سيصبح سيلا جارفا منحدرا بطول 150 ميلا؛ بدلا من ذلك إنه يتحرك بثقة في الاتجاه الخاطئ، شاردا جهة الشمال الشرقي لينزلق بطريقة عجائبية وسط كثبان الصحراء في التقوس العظيم لمنحنى النيجر قبل أن يصب، على بعد 2600 ميل من منبعه، في خليج بنين.
يتبدد ماء نهر النيجر، قرابة ثلث مسار رحلته الطويلة، في دلتا داخلية منبسطة بطول 300 ميل. من الجو يبدو هذا مثل جدول مائي يتضاءل وهو يمر على امتداد شاطئ: يتفرع الماء إلى عشرات من القنوات والجداول الضحلة. يتبخر ثلثا تياره هنا، وبحلول نهاية موسم الجفاف تنضب الحياة في مسالك شاسعة من مجرى النهر. في شهر يوليو، عندما يسقط المطر مجددا وتتدفق كميات هائلة من الماء في اتجاه مجرى النهر، تمتلئ القنوات والبحيرات الجافة وتزدهر الحياة من جديد. تتدفق الحشائش العائمة ونباتات الأرز البري؛ ويفقس بيض السمك والحشرات؛ وتأتي طيور أبو قردان وأبو ملعقة، منضمة إلى أفراس النهر، والتماسيح، وخراف البحر. يسوق رعاة الماشية حيواناتهم إلى الحشائش التي نمت على امتداد حافة النهر؛ ويحصد الفلاحون الأرز، والذرة البيضاء والرفيعة.
تقع تمبكتو عند نهاية مصب الدلتا، وعند الجزء الواقع أقصى شمال منحنى النهر. وهي تقع عند ملتقى طرق التجارة النهرية وطرق القوافل الصحراوية: فحسب القول المأثور القديم، هي الملتقى «لكل من يسافرون بالجمال أو بقوارب الكانو.»
مثلما منحت الفيضانات السنوية لنهر النيل الحياة لممالك مصر القديمة، احتضنت دلتا نهر النيجر الداخلية الخصبة حضاراتها. حتى في الأزمنة القديمة، تسربت أنباء عن هذه الأراضي إلى أوروبا. ففي القرن الخامس قبل الميلاد، أشار هيرودوت إلى وجود نهر في الطرف البعيد من الصحراء يعج بالتماسيح، وتوجد مدينة على ضفافه يسكنها سحرة سود. وصف بلينيوس الأكبر، فيما كتب بعد ذلك بخمسة قرون، قبائل متوحشة عاشت هناك، ومنها الأيجيباني، الذين كانوا «نصف رجال، ونصف وحوش»؛ والتروجلودايت، الذين لم يكن بوسعهم الكلام إلا بإصدار ضوضاء كصرير الخفافيش؛ والبليميون، الذين كانوا «بلا رءوس، وكانت أفواههم وعيونهم في موضع صدورهم.» بقي ذكر البشر المشوهي الخلقة موجودا حتى العصور الوسطى: أظهرت خريطة مابا موندي هيرفورد، التي وضعت حوالي عام 1300، البليميين وكذلك التروجلودايت في أفريقيا، بينما بالغ مؤرخون لاحقون في وصف أفارقة بلينيوس فجعلوهم أناسا بعين واحدة في منتصف جباههم، أو بقدم عملاقة واحدة كانت كبيرة بما يكفي لأن تحميهم من الشمس.
في القرن السابع، قطعت الجيوش المسلمة، التي انطلقت غربا تجتاح الساحل الجنوبي للبحر المتوسط إلى المحيط الأطلنطي، طريق أوروبا المسيحية لأفريقيا، وطيلة ألف ومائتي عام قلت المعلومات الآتية مما وراء الصحراء الكبرى متحولة إلى أصداء كانت تتسرب آتية عن طريق التجار الذين كانوا يجتازون الصحراء. غالبا ما كانت تلك المعلومات خيالية - وصلت أنباء عديدة في العصور الوسطى إلى أوروبا عن نمل عملاق يحصد الذهب من قيعان الأنهار الأفريقية - لكن كان ثمة أساس للأقاويل المتداولة عن ثراء الإقليم. قبل الاستعمار الإسباني للأمريكتين، كان ثلثا كل الذهب الذي يتداول في منطقة البحر المتوسط يأتي من السودان. روى الجغرافي المسلم الإدريسي، في القرن الثاني عشر، أن ملك غانا القديمة كان ثريا جدا حتى إنه كان يمتلك «لبنة من ذهب وزنها ثلاثون رطلا من ذهب، تبرة واحدة خلقها الله خلقة تامة من غير أن تسبك في نار ولا تطرق بآلة»، بينما في القرن الرابع عشر، أرخ ابن بطوطة - أحد أكثر الناس ترحالا في التاريخ - مآثر الإمبراطور المالي موسى الأول. إن هذا الإمبراطور - الذي في بعض الأحيان يعرف باسم مانسا موسى، ويعني «الملك موسى» - كان يقال عنه إنه حج إلى مكة في عام 1324 مع حاشية من ستين ألف جندي، وخمسمائة عبد، وطن من الذهب للنفقات، وأنه كان معطاء بشدة حتى إنه تسبب في هبوط سعر المعدن النفيس في القاهرة لمدة جيل.
ظهرت تمبكتو لأول مرة في الجغرافيا الأوروبية بعد ذلك بخمسين عاما، في الأطلس الكتالوني، وهو خريطة للعالم المعروف ظهرت عام 1375 أعدها رسام الخرائط المايوركي أبراهام كريسكيس من أجل ملك إسبانيا. كانت التهجية التي استخدمت لاسم المدينة هي «تينبوتش»، ومن البداية كانت مقترنة بالثراء، حيث إن كريسكيس رسم موسى بجوارها، ممسكا بصولجان ذهبي ضخم وبكتلة ذهب كبيرة وعلى رأسه تاج ذهبي ثقيل. بدت الأنباء اللاحقة وكأنها تؤكد معلومات كريسكيس: ففي عام 1454، وصل مستكشف فينيسي، يعمل لحساب الأمير البرتغالي هنري الملاح، إلى ودان، وهي واحة تجارية إلى الجنوب من طرابلس، وعاد جالبا معه سردا يوضح كيف أن قوافل الجمال تأخذ الملح الصخري إلى «تانبوتو» ثم إلى «ميلي، إمبراطورية السود»، حيث قويضت مقابل كميات كبيرة من الذهب. ومع ذلك، لم تنشر رواية مستقاة من شاهد عيان عن تمبكتو إلا في القرن السادس عشر، مؤكدة الأسطورة الذهبية.
كان اسم الرحالة هو الحسن بن محمد الوزان الزياتي. هناك معلومات قليلة متاحة عن سيرته الذاتية، ولكن يعتقد أنه ولد في غرناطة وانتقل عندما كان شابا إلى فاس، حيث تلقى تعليما جيدا. وفي وقت ما بين عامي 1506 و1510، في السابعة عشرة من عمره، قيل إنه رافق أحد أعمامه في مهمة دبلوماسية إلى السودان وزار تمبكتو. وبعد عقد من الزمن، أسر على يد قراصنة مسيحيين أخذوه إلى روما، وهناك حرره البابا ليون العاشر وتحول إلى المسيحية، متخذا اسم يوهانيس ليون دي ميديشي، الذي أصبح فيما بعد ليون الأفريقي. استقر ليون في إيطاليا وكتب عدة كتب، ولكن كتابه «وصف أفريقيا»، بسرده للحياة في السودان، هو الذي قوبل بأكبر قدر من الحماس؛ إذ قيل إنه قد اكتشف عالما جديدا على الأوروبيين، مثلما كان كولومبوس قد فعل باكتشاف أمريكا.
في وصف ليون، كانت تمبكتو مدينة غنية وساحرة. ومع أن منازلها كانت في الغالب مبنية من الطين والقش، فإنه في وسط المدينة كان يوجد «مسجد بناه معماري من بيتيس [في جنوب إسبانيا] بأحجار البناء والملاط الجيري ... وقصر كبير بناه هذا المهندس نفسه، حيث يقيم الملك.» وفرت آبار المدينة العديدة الماء العذب، وكان ثمة وفرة من الحبوب ، والماشية، واللبن، والزبد؛ إلا أن الملح كان غاليا جدا، لأنه كان يتعين جلبه مسافة خمسمائة ميل من المناجم الصحراوية. وذكر أن سكان المدينة كانوا «أثرياء جدا»، وعوضا عن استخدام النقود المسكوكة كانوا يستخدمون قطعا من الذهب الخالص. وإلى جانب الاحتفاظ بجيش نظامي دائم قوامه ثلاثة آلاف من الخيالة إضافة إلى عدد كبير من جنود المشاة الذين كانوا يطلقون سهاما مسمومة، امتلك ملك تمبكتو «كنزا عظيما من العملات والسبائك الذهبية»، التي كانت الواحدة منها تزن ألفا وثلاثمائة رطل، وكان بلاط قصره «فخما»:
عندما يذهب الملك من مدينة إلى أخرى مع حاشيته، يركب جملا، وتساق الخيل أمامه بأيدي السياس. وإذا دعت الضرورة إلى القتال، يعقل السياس الإبل، ويمتطي جميع الجنود الجياد. وعندما يريد أي شخص أن يخاطب الملك، يجثو بين يديه ويأخذ حفنة من التراب ويحثوها على رأسه وكتفيه.
كان لأهل المدينة طبيعة مرحة، إذ كتب ليون: «من عادتهم أن يتجولوا في المدينة ليلا بين العاشرة مساء والواحدة بعد منتصف الليل وهم يعزفون على آلات موسيقية ويرقصون.» كان يوجد هناك أيضا الكثير من الأشخاص المتعلمين. كان هذا يعني أنه كان يوجد نهم شديد للمخطوطات، التي كانت تلقى تقديرا في أسواق المدينة يفوق ما كانت تلقاه البضائع الأخرى:
في تمبكتو يوجد عدد كبير من القضاة، وعلماء الدين، والشيوخ، الذين يدفع إليهم جميعا راتب حسن من الملك، الذي يجل كثيرا المثقفين. وتباع كتب مخطوطة كثيرة آتية من بلاد البربر. وتدر تلك المبيعات أرباحا تفوق أي بضائع أخرى.
ترجم عمل ليون على نطاق واسع. نشرت نسخة باللغة الإنجليزية في عام 1600 وأدت إلى موجة من الاهتمام بأفريقيا: فقد كانت مصدرا محتملا لمسرحية شكسبير «عطيل»، وقد كان من شأن وصفها لثراء منطقة جنوب الصحراء الكبرى أن شجع المغامرين الإنجليز في ملاحقتهم للبرتغاليين أن يقطعوا شوطا أطول على ساحل غينيا. في عام 1620، وصلت حملة استكشافية بقيادة السيد الإنجليزي ريتشارد جوبسون إلى تيندا، على نهر جامبيا؛ وهناك أخبره تاجر أفريقي عن مدينة أبعد في اتجاه منبع النهر تسمى تمبوكوندا ، والتي يوجد فيها «منازل مكسوة بالذهب.» أعيد نشر رواية جوبسون لحملته في عام 1625 على يد جامع المقتطفات الأدبية صامويل بورتشاس، الذي حث مواطنيه على استكشاف القارة الأفريقية. أورد بورتشاس: «إن أغنى مناجم الذهب في العالم موجودة في أفريقيا، ولا يسعني إلا أن أتعجب من أن كثيرين أرسلوا كثيرين، وأنفقوا الكثير في رحلات أبعد إلى الشرق والغرب وتجاهلوا أفريقيا في المنتصف.»
بحلول أواخر القرن الثامن عشر، كانت أسطورة تمبكتو الذهبية قد استقرت في المخيلة الأوروبية. وكانت هذه بمثابة المغناطيس الذي من شأنه أن يجتذب الأوروبيين إلى قلب غرب أفريقيا.
لم يهدر مجلس الرابطة الأفريقية وقتا. بعد أربعة أيام من الاجتماع في حانة سانت ألبان، اجتمع أعضاؤه في منزل بانكس في ميدان سوهو ليناقشوا أمر إرسال أول مستكشف «بأقصى سرعة» بحثا عن اكتشافات جديدة. وعلى حد قول أحد رجال الدولة الأفارقة في القرن العشرين، فإنه لم يكن يهم كثيرا أنه «لم يكن يوجد ما يكتشف؛ فقد كنا موجودين هنا طوال الوقت.» •••
ما نوع الشخصية التي من شأنها أن تغادر من فورها إلى المجاهل الشاسعة لخرائط الرابطة الأفريقية؟ من كان شجاعا، أو يائسا، أو مغرورا بما يكفي لأن يجازف بالاستكشاف، وأن يغامر بحياته - ولقد كان ما يغامر به دوما هو «حياته هو» - في أرض كانت ملامحها الرئيسية مجهولة، فضلا عن طبيعة سكانها، ووحوشها، وطقسها وأمراضها؟ أي مكافأة يمكن أن تغري رجلا على أن يتجول على غير هدى وسط قبائل البليميين والتروجلودايت، دون أن يكون متسلحا إلا بمسدس ومظلة وأشياء قليلة أخرى؟ إن أي رجل أوروبي جيد الاطلاع طلب منه في عام 1788 أن يرتحل إلى المناطق الداخلية للقارة كان لا بد أن يعتبر الرحلة بمثابة حكم بالإعدام، كما كان حالها وأن يبقى بالديار. ولكن مستكشفي الرابطة الأفريقية لم يكونوا على اطلاع جيد. وكان ذلك، من نواح كثيرة، هو بيت القصيد.
لم تكن الحواجز الجغرافية مستعصية. نعم، كانت المسالك عبر الصحراء تعج بالهياكل العظمية للدواب والعبيد على حد سواء، ولكن الصحراء الكبرى، التي كانت تشبه إلى حد كبير محيطا، كانت تتقاطع فيها طرق التجارة وكانت تجتازها القوافل طيلة قرون. في المناطق الاستوائية، كان يمكن للأمطار الغزيرة الجارفة أن تعوق حركة المستكشف، لكن لم تكن توجد سلاسل جبال منيعة من قبيل تلك التي في آسيا، ولا غابات يستحيل اختراقها مثل تلك التي في حوض الأمازون. ويمكن للرحالة أن يتحرك من قرية إلى أخرى عبر شبكة من الدروب والمسالك المعروفة.
الأمر الذي كان يمكن أن يكون أكثر خطورة هو الاستقبال الذي كان من المرجح أن يلاقيه المستكشف المسيحي. بعد قرون من الصراع الديني، عرف المسلمون في شمال أفريقيا أن الأوروبيين كانوا يريدون تجارتهم وأرضهم، بينما كان الرحالة غير المسلمين بمثابة هدية لرجال القبائل الصحراوية الذين كانوا يبحثون عن مصادر مشروعة للسرقة. فحسبما أورد التاجر، الذي كان يتخذ من السنغال مستقرا، أنطوان برونو دي بومجورج في عام 1789: «من المستحيل أن يكون المرء على معرفة بالمناطق الداخلية البعيدة للبلد، لأن ... الرجل الأبيض الذي سيمتلك الشجاعة الكافية لأن يقدم على رحلة كهذه ستقطع رقبته قبل أن يصل إليها.»
على مسافة أبعد جنوبا، كان الناس أكثر تسامحا مع غير المسلمين، لكن كان يتربص بهم هنا تهديد أعظم، كما أوضح قول مأثور قديم عند تجار الرقيق:
احذر، احذر من خليج بنين؛
لأن قلة يخرجون منه مع أن كثيرين يدخلون إليه!
أدى المرض إلى جعل غرب أفريقيا المكان الأكثر فتكا في العالم بالأوروبيين. في أوائل القرن التاسع عشر كان يمكن توقع أن يلقى ما يقارب نصف أي سرية جنود متمركزة على الساحل الغربي الأفريقي، الذي أصبح معروفا بأنه «مقبرة الرجل الأبيض»، حتفهم في غضون عام. وكانت المناطق الداخلية تشتهر بأنها أكثر فتكا: فكانت بعثات التجارة في المناطق الداخلية، التي كان من شأنها أن تعني موتا شبه مؤكد للأوروبي، توكل من الباطن لتجار أفريقيي المولد.
كان يتفاخر في الإقليم بتلك البيئة الغنية بالطفيليات المخترقة للجلد، والفيروسات، والبكتريا، والحشرات التي ما كان بوسع أي مستكشف أن ينجو منها. اشتملت تلك الأشياء على دودة غينيا، التي كانت يرقاتها تدخل الجسم عن طريق مياه الشرب، ثم تنتقل إلى النسيج الذي يوجد تحت جلد الضحية، حيث كانت تنمو، على مدى عدة أشهر، حتى يصل طولها إلى ثلاثة أقدام. وإذا نجا العائل من هذا العذاب، كانت تظهر في أسفل الساق بعد عام بثور مليئة بالصديد ومؤلمة بشدة، ثم تنفتق إذ تشق الديدان العملاقة طريقها خروجا منها. في الوقت نفسه، كانت ذبابة التسي تسي الماصة للدماء تحمل داء النوم، الذي كانت أعراضه الأولية من حمى وفقدان للوزن تؤدي إلى حدوث تغيرات في الشخصية وحالة من النوم القهري مع انتقال المرض إلى المخ، ليقتل العائل بعد عدة أعوام فحسب. ويمكن لحالات العدوى المعوية مثل الدوسنتاريا الأميبية أن تكون مميتة أيضا.
ومع ذلك فإن أخطر مرض بفارق ما كان الملاريا. الشكل الأكثر شيوعا من هذا الطفيل في غرب أفريقيا، المعروف باسم «المتصورة المنجلية»، هو أيضا الأشد فتكا: إنه ما زال يقتل مئات الآلاف من البشر سنويا. تترعرع البعوضة التي تحمله حول البشر، ويمكن ليرقاتها أن تنمو في بركة صغيرة بصغر أثر قدم حيوان. وما إن تحقن كائنات الملاريا الدقيقة في الجسم، حتى تدخل في مجرى الدم وتحمل إلى الكبد، حيث تنمو داخل الخلايا التي تنفجر بعد ثمانية إلى اثني عشر يوما، لتنطلق عشرات الآلاف من الذرية، التي تبدأ بعد ذلك في اجتياح خلايا الدم الحمراء للعائل وتلتهمها من الداخل. وعندما تنهار كل خلية، تنتقل الطفيليات إلى خلايا أخرى، حتى يتعرض دم العائل للتكسر على نطاق هائل. يبدأ الضحايا في تقيؤ عصارة المرارة، ويكتسب جلدهم، وأظافرهم، وعيونهم لونا أصفر. وأخيرا، يتحول لون برازهم وبولهم إلى اللون الأسود، وحينئذ لا يكون الموت عنهم ببعيد.
في عام 1788، لم تكن الملاريا ولا الناقل الحشري لها مفهومين: كان المرض يعزى إلى الهواء الفاسد، أو «الميازما». ومع أن لحاء شجرة الكينا كان علاجا معروفا، فلم يكن يستخدم بطريقة فعالة ولم تستخلص منه مادة الكينين حتى عام 1820. كان سكان غرب أفريقيا يمتلكون على الأقل بعض المقاومة نتيجة لتعرضهم للمرض في الطفولة؛ أما الأوروبيون فلم يكن لديهم أي مقاومة له.
كحال مستكشفيهم، لم يكن أعضاء الرابطة الأفريقية الوليدة في لندن إلى حد كبير على دراية بهذه الأخطار. كان مكوث جيمس بروس المؤقت في إثيوبيا قد أثبت أن الترحال إلى أفريقيا لم يكن من اللازم أن يكون مميتا، بينما كان كوك وآخرون قد أظهروا أن العالم كان منفتحا أمام النوع الصحيح من الاستكشاف الحذر: فلماذا يجب أن يكون الترحال في أفريقيا أصعب من، مثلا، الإبحار في الحيد المرجاني العظيم؟ لرجل ذي شخصية من النوع الصحيح، وذي تكوين مناسب، وينعم بالإيمان والحظ الجيد، كان أي شيء ممكنا بالتأكيد.
لم يكن ينقصهم المتطوعون. ففي غضون أيام من اجتماعهم الأول، كان أعضاء مجلس الرابطة الأفريقية قد عثروا على متطوعين اثنين مناسبين للغاية.
كان سيمون لوكاس، ابن تاجر الخمور اللندني، قد أرسل إلى قادس وهو صبي ليتعلم مهنته، لكنه تعرض للأسر على يد عصابة من قراصنة البربر، تسمى قراصنة سلا، والتي باعته عبدا للبلاط الإمبراطوري للمغرب. وظل هناك مدة ثلاثة أعوام، وبعد إطلاق سراحه عاد ليعمل دبلوماسيا بريطانيا لمدة ستة عشر عاما، قبل أن يعود أخيرا في عام 1785 إلى إنجلترا، حيث عين ترجمانا شرقيا في بلاط سانت جيمس. وعرض خدماته على الرابطة الأفريقية بشرط أن يحصل له مجلس الرابطة على إجازة مدفوعة الأجر طوال مدة مهمته.
كان لوكاس مريضا في يونيو من عام 1788؛ لذا أصبحت الانطلاقة الأولى على عاتق متطوع الرابطة الثاني، الأمريكي جون ليديارد البالغ من العمر سبعة وثلاثين عاما. كان ليديارد هو الآخر ذا مؤهلات عالية، وإن كان بطريقة مختلفة جدا. يبدو أن كل من التقى بهذا الرجل ذي البنية الجسدية الرائعة كان ينبهر بنظرته الثابتة وطلعته البهية. كان، حسبما أورد بوفوي، «رجلا غير عادي»، والذي «بدا أنه شعر منذ شبابه برغبة لا تقهر في أن يطلع على المجهول، أو على أقاليم العالم غير المكتشفة على نحو كامل.»
كان ليديارد قد نشأ في هارتفورد، بولاية كونيتيكت، وأظهر ولعا مبكرا بالمغامرة بالهروب من كلية دارتموث حديثة التأسيس والتجديف بزورق كانو طوله أربعين قدما مسافة 150 ميلا في نهر كونيتيكت. بعد ذلك ترك دارتموث بلا رجعة، وانضم إلى تاجر يتاجر عبر المحيط الأطلنطي الذي أخذه معه إلى أوروبا، حيث عمل بحارا، في عام 1775، من أجل أن يحظى بفرصة تقديم نفسه للقبطان كوك. أخذ كوك ليديارد معه في رحلته الثالثة والأخيرة، والتي أثناءها، حسبما يزعم أحيانا، أصبح ليديارد أول حالة موثقة لأمريكي أوروبي يضع وشما. وبعد عودته، ترك البحرية الملكية لكيلا يقاتل بلده في صفوفها، واستقر ليكتب كتابا يسرد فيه رحلة الإبحار حول العالم وأصبح هذا الكتاب من الكتب الأكثر مبيعا.
في منتصف ثمانينيات القرن الثامن عشر عاش في باريس، حيث عقد صداقة مع جون بول جونز وتوماس جيفرسون. وكشأن الجميع، انبهر توماس جيفرسون، الذي كان في ذلك الوقت سفير الولايات المتحدة في فرنسا، بشخصية ليديارد، وكتب جيفرسون أنه كان «رجلا ذا عبقرية، وبعض المعرفة العلمية، وشجاعة وإقدام لا يعرفان الخوف.» واقترح على ليديارد أن يحاول العثور على طريق بري من أوروبا إلى الأمريكتين عبر سانت بطرسبرج، وكامشاتكا، وخليج نوتكا، وأشرك صديقه جوزيف بانكس بصفته ممولا. انطلق المستكشف نحو قفار سيبيريا ووصل إلى ياكوتسك قبل أن يقبض عليه باعتباره جاسوسا، بأوامر من الإمبراطورة كاترين العظيمة. وجرى ترحيله، بعد أن دفع ثمن مروره إلى لندن بشيك مسحوب على اسم بانكس، ووصل لمنزل رئيس الجمعية الملكية في لندن في يونيو من عام 1788، مرتديا أسمالا بالية. كان توقيت ذلك ممتازا. على الفور اقترح بانكس «مغامرة تكاد تضاهي في خطورتها تلك التي كان قد عاد منها»، في أفريقيا. كان ليديارد المفلس مستعدا، وبعث بانكس بمتطوعه المحتمل إلى بوفوي من أجل الحصول على رأي ثان. وغني عن القول أن ليديارد حاز قبوله، إذ كتب يقول:
أذهلني ما يتمتع به من رجولة، وصدر عريض، وطلعة بهية، وعينين لا تهدآن. بسطت خريطة أفريقيا أمامه، وقلت له، وأنا أرسم خطا من القاهرة إلى سنار، ومن هناك غربا في خط العرض والاتجاه المفترض إلى نهر النيجر ، أن ذلك هو الطريق، الذي كنت أتوق إلى أن تستكشف أفريقيا عبره، إن أمكن ذلك. فقال إنه يعتبر نفسه محظوظا على نحو استثنائي أن تعهد إليه هذه المغامرة.
ربما كان من شأن متعهد آخر للاستكشاف، في عصر آخر، أن يسأل إن كان الرحالة، الذي كان قد عاد حالا في أسمال بالية من رحلة دامت عامين، وقطع فيها 7000 ميل، مستعدا لمهمة من شأنها، إن سار كل شيء على ما يرام، أن تدوم ثلاثة أعوام أخرى. كان مطلوبا من ليديارد أن يسافر من مرسيليا إلى القاهرة، ومكة، ثم إلى النوبة، وأن يعبر الصحراء بطولها، وأن يعثر على نهر النيجر، وأن يشق طريقه عائدا. كان هذا يعني أن يقطع على الأقل 12500 ميل، معظمها برا، عبر بعض من أكثر المناطق عدائية على وجه الأرض. لكن بوفوي لم يساوره أي تردد. وسأل المرشح للقيام بالرحلة: متى سيكون بوسعه أن ينطلق في رحلته؟
أجاب ليديارد: «صباح الغد.»
في الواقع، منحته الرابطة عدة أيام أخرى. وغادر لندن في الثلاثين من يونيو، من عام 1788، قائلا لبوفوي إنه «معتاد على الشدائد» والشرور التي «يصعب تحملها»، لكنها لم تعقه أبدا عن تحقيق هدفه. وقال لبانكس: «إن كتبت لي الحياة، فسوف أؤدي، بإخلاص، وإلى أقصى حد ممكن، التزامي نحو الرابطة؛ وإن هلكت وأنا أحاول، فإن شرفي سوف يظل في مأمن؛ لأن الموت ينقض كل التعهدات.» •••
وصف ريتشارد فرانسيس برتون، فيما كتب بعد ستين عاما، لحظة الانطلاق في رحلة الاستكشاف الأفريقي بأنها واحدة من أسعد اللحظات في الحياة البشرية: «عندما يطرح الإنسان بجهد جهيد عن نفسه أغلال العادة، وأثقال الرتابة، وعباءة الاهتمامات الكثيرة واستعباد الوطن، يشعر مجددا بالسعادة. يتدفق الدم بسرعة تدفقه في الطفولة.» بالمثل كان ليديارد منتشيا بانطلاقته. فقد كتب لأمه يقول: «حقا إنه مكتوب أنه ما أبعد طرق الرب عن الاستقصاء وأحكامه عن الفحص.» وأضاف: «هل الرب عظيم هكذا؟ إنه أيضا صالح. وأنا مثال على هذا. لقد جعلت العالم يرتجف تحت قدمي، واستهزأت بالخوف، وسخرت من الخطر. وعبر ملايين من الهمج الشرسين، وفوق الصحارى القاحلة، والشمال القارس، والجليد الدائم، والبحار العاتية، مررت دون أن يصيبني أذى. كم هو صالح إلهي! كم لدي من موضوعات ثرية للتمجيد والحب والتوقير!»
قاده طريقه جنوبا عبر باريس، حيث أقام أسبوعا، تقابل أثناءه مع صديقه جيفرسون، الذي من الواضح أنه اعترض على عمله لحساب البريطانيين، لكنه ساعده في عمل ترتيبات الرحلة المقبلة؛ وفيما بعد أرسل ليديارد تحديثات دورية لمواطنه الأمريكي. في مرسيليا ركب سفينة متجهة إلى مصر، التي جابه فيها صعوبات فورية. فحسبما أخبر جيفرسون، كانت الإسكندرية «أكثر بؤسا» من أي شيء كان قد رآه قبلئذ، فقد كانت مليئة «بالفقر، والنهب، والقتل، والاضطراب، والتعصب الأعمى، والاضطهاد القاسي والوباء!» وصل القاهرة في وقت الحرارة الخانقة لمنتصف أغسطس ووجدها «جبا بائسا، ووكرا للمتشردين»، ورأى أنها في نصف مساحة باريس، بينما كان النيل العظيم «مجرد بركة مقارنة بالروايات التي لدينا عنه»، ولا يزيد روعة عن نهر كونيتيكت:
حلوة هي الأغنيات عن مصر على الورق ... من ذا الذي لا يأسر لبه أشجار الصمغ، والبلسان، والبلح، والتين، والرمان، والجوز، والجميز، دون أن يتذكر أن وسط هذه الأشياء غبارا، وقيظا، ورياحا خانقة، وبقا، وبعوضا، وعناكب، وذبابا، وجذاما، وحمى، وعمى يكاد يكون عاما؟
أمضى ثلاثة شهور في القاهرة، يعد العدة لتقمص دور مسافر مسلم يرتدي «اللباس التركي المعتاد» ومعرفة ما يستطيع عن الطريق الذي سيسلكه. تخلى عن خطته للذهاب إلى مكة وبدلا من ذلك بدأ يستقصي الطريق غربا عبر سنار، وهي سلطنة في شمال دولة السودان المعاصرة. كان أكبر مصدر لمعلوماته هو سوق العبيد. كان عشرون ألف عبد سيرسلون إلى مصر في ذلك العام، حسبما قيل له، ومن هؤلاء الناس بدأ يحظى بفكرة عن مدى رحلته والخطر الذي سيجابهه فيها. اكتشف أن «قافلة تمضي من هنا [القاهرة] إلى فزان، وهي ما يقولون إنها رحلة تستغرق خمسين يوما؛ ومن فزان إلى تمبكتو، وهي ما يقولون إنها رحلة تستغرق تسعين يوما. تسافر القوافل حوالي عشرين ميلا في اليوم، وهو ما يجعل المسافة على الطريق من هنا إلى فزان ألف ميل؛ ومن فزان إلى تمبكتو ألفا وثمانمائة ميل. معروف أن المسافة من هنا إلى سنار ستمائة ميل.» إن كان سيظل بعافيته ولن يتعرض لأذى وسيسافر دون توقف - وهي ثلاثة افتراضات هائلة - ستستغرق رحلته على الأقل ستة شهور حتى يصل إلى تمبكتو.
مع ذلك، كانت البلدان على امتداد طريقه تعد بالكثير، فحسبما أورد: «تسري الأقاويل هنا عن وانجارا أنها مكان ينتج الكثير من الذهب». وأضاف: «يقال إن ملك وانجارا (الذي آمل أن أراه في غضون نحو ثلاثة أشهر من مغادرتي هذا المكان) يتصرف في أي كمية يشاء من ذهبه؛ أحيانا يكون ذلك قدرا كبيرا، وأحيانا قدرا يسيرا أو لا شيء؛ ويقال إنه يفعل ذلك ليمنع الغرباء من معرفة مقدار ثرائه، وحتى يمكنه أن يعيش في سلام.» ومع ذلك، كان الإجهاد الذي كان يشعر به بسبب بيئة القاهرة والضغط الذي كان يعاني منه من المهمة التي كان بصددها واضحين وهو يتحضر لمغادرة المدينة في الخامس عشر من نوفمبر. وبحلول وقت إرساله لخطابه الأخير إلى جيفرسون كان في حالة مزاجية مختلفة جدا عن تلك التي كان عليها عندما شرع في رحلته:
أمضيت وقتي هنا على نحو غير مقبول ... أؤكد لك أنه حتى فضولك وحبك للعصور القديمة لن يبقيك في مصر ثلاثة شهور ... من القاهرة سأسافر في اتجاه الجنوب الغربي، حوالي ثلاثمائة فرسخ، إلى ملك أسود. بعد ذلك سيتركني المرشدون الحاليون لمصيري. فيما وراء ذلك، أظن أنني سأمضي وحدي ... لن أنساك؛ بالتأكيد، سوف تكون تعزية لي أن أفكر فيك في لحظاتي الأخيرة. كن سعيدا.
لم يصل ليديارد أبدا إلى الملك الأسود. كان لا يزال في القاهرة عندما أصابته «علة صفراء»، ربما كانت تقلصات في المعدة ناتجة عن الدوسنتاريا أو تسمم غذائي، في وقت لاحق في ذلك الشهر. لم يؤد المرض إلى موته، ولكن العلاج الذي تلقاه فعل: أخذ العلاج التقليدي الذي كان عبارة عن حمض الكبريتيك، لكنه استهلك منه قدرا كبيرا لدرجة أنه أدى إلى «آلام حرقة شديدة» كانت منذرة بأن تكون قاتلة. حاول أن يعالج هذه الأعراض بالطرطرات المقيء، وهو ملح بوتاسيوم كان الغرض منه أن يسبب التقيؤ، لكنه بدلا من ذلك جعل حالته أسوأ. سجل كاتب سيرته جاريد سباركس: «كل شيء كان بلا طائل.» وأضاف: «استدعي أمهر طبيب في القاهرة لنجدته ولكن دون جدوى.» وبعد ثلاثة أيام، توفي ليديارد.
أعقب ذلك مراسلات بين بانكس، وبوفوي، وجيفرسون، وأحد معارف بانكس، وهو توماس بين. أخبر رجال الرابطة الأفريقية توماس بين بأن القافلة التي انتوى ليديارد السفر معها كانت قد تعرضت للتأخير باستمرار، وفي النهاية دفع ليديارد إلى الدخول «في حالة من الغضب العنيف مع مرشديه مما أدى إلى حدوث اختلال في شيء ما في جسمه.» وبعد أعوام عدة، ذكر بانكس متأملا أنهم كانوا غير محظوظين في هذه المهمة الأولى، «إذ إنها فشلت بوفاة رحالتنا ليديارد، الذي بدا أن صحته لدى مغادرته إنجلترا كانت واعدة بحياة مديدة، وأن من شأن قوة جسده أن تتغلب على عناء الترحال ... فقد سبق أن اختبرت على أتم وجه.»
في رثاء له، ذكر بوفوي أن ليديارد كان «مغامرا على نحو يفوق مفهوم الرجال العاديين، ومع ذلك كان حريصا ومتأني التفكير، ومنتبها إلى جميع الاحتياطات.» كتب بوفوي أنه بدا «وكأن الطبيعة قد شكلته لتحقيق إنجازات جريئة وخطرة.» ومع ذلك، كان مستحيلا إخفاء الحقيقة؛ فلقد مات بالمصادفة أول رحالة للرابطة الأفريقية، بألم شديد، دون أن يصل إلى أبعد من القاهرة.
الفصل الثالث
الجحيم ليس ببعيد
مارس 2012
بحلول عام 2012، كانت تمبكتو التي عرفها حيدرة في شبابه قد تبدلت متبعة الطرق الحديثة المعتادة. كانت حينئذ مكانا يحوي شاحنات تنخر وعوادم ديزل، وسيارات رباعية الدفع ودراجات بخارية ملوثة للبيئة، وأضواء كهربائية، وأجهزة تليفزيون ذات شاشات بلازما مسطحة بمقاس أربع وخمسين بوصة وبها مائة قناة فضائية تعيد عرض أفلام «ستار تريك». كانت لوحات الشوارع الإعلانية تعلن عن كوكاكولا وخدمات الهواتف المحمولة بنظام الدفع المسبق، بينما كان المتسوقون الذين يرتدون سراويل الجينز والتيشيرتات يفحصون الملابس الشبابية في متجر هارلم الخاص بألمادو ديكو ومركز فيكتوريا التجاري بما فيه من «موضات الملابس الجاهزة». كان احتمال أن يرتدي الأطفال الذين يلعبون في الشوارع قمصان فريقي برشلونة وريال مدريد المخططة يضاهي احتمال أن يرتدوا قمصان منتخب مالي بألوانها الحمراء والخضراء والذهبية.
ولكن حتى ذلك الوقت ظلت بعض الأشياء كما كانت دوما. كانت أوقات الأعياد لا تزال تحسب تبعا للتقويم القمري، والأيام تضبط في الأغلب تبعا لارتفاع الشمس وتحدد أوقاتها تبعا لمواقيت الصلاة. فقبل ساعة من شروق الشمس، كان المؤذن يؤذن لصلاة الفجر، فيتوضأ المؤمنون متخلصين من نعاسهم ويصلون متوجهين صوب الشرق. كانت النساء اللواتي كن يتولين إدارة مخابز المدينة يلقمن الأفران العامة المبنية في كل زاوية شارع بحلقات مسطحة من العجين، ويملأن الهواء بالروائح العتيقة للدخان الناتج عن حرق الخشب وصنع الخبز. وكانت الحمير لا تزال تجر العربات، وكانت الماعز والأغنام لا تزال ترعى وسط بقايا الطعام في الشارع، بعدما أطلقت من حظائر مصنوعة من عصي وحبال ومن - ويا له من ابتكار - سيور مراوح السيارات القديمة.
وعند النهر، كان متعهدو النقل ينزلون من القوارب حاملين حمولات في طريقها إلى السوق الكبير. وفي الطريق إلى المدينة كانوا يمرون بمزارعين يحرثون حقولهم ونساء ينفضن غسيلهن ويضعنه على الشجيرات ليجف. ومع أن ألواح الملح كانت تجلب بالشاحنات هذه الأيام، فقد كانت لا تزال تعرض للبيع في السوق الصغير، إلى جانب الأسماك الطازجة والمجففة، ولحم الماعز، والضأن، والبقري، والجملي.
بعد صلاة الضحى، كان أهل تمبكتو يعودون للبيت لتناول الطعام، وبعد ذلك، عندما تكون الشمس قد وصلت إلى ذروتها الشديدة، كانوا يجدون لأنفسهم مكانا ظليلا ليناموا. وعند وقت صلاة العصر كانوا يستيقظون ويعودون للعمل حتى وقت صلاة المغرب، عند الغسق. وكان من عادتهم بعد ذلك، في المساء العليل، أن يمضوا للقاء أصدقائهم، ليتبادلوا أحاديث النميمة، ويشربوا الشاي، ويعزفوا الموسيقى، ويلعبوا ألعابا، ويتحدثوا في السياسة والشعر حتى وقت صلاة العشاء، وعندئذ كانوا يستعدون للنوم.
طيلة أسابيع، كان الحديث عن الأزمة قد استحوذ على هذه التجمعات المسائية. كان قلة من الناس في الأيام الأولى من العام قد اعتقدوا أن من شأن القتال أن يصل إلى تمبكتو. وفي يناير، سأل محمد دياكيتي، وهو موظف كبير في معهد أحمد بابا، النصيحة من جندي صديق له: هل ينبغي أن يبقي عائلته هنا أم يتوجه إلى بلد أكثر أمانا في الجنوب؟ أجاب الجندي قائلا إنه لن يكون ثمة مشكلة في تمبكتو. فالمدينة نفسها ستظل آمنة. ومع ذلك، بعد ذلك بفترة، بدأت وجهة نظر الجندي في التغير. كانت الأمور قد انحرفت عن مسارها، وكشأن الجميع كان لديه الآن «القليل من الخوف.»
ثم بدأت الأمور تتغير بسرعة كبيرة. وبدا الأمر لدياكيتي غير حقيقي، وكأنه حلم.
في يوم الخميس، التاسع والعشرين من مارس، بعد أسبوع من الانقلاب في باماكو، أعلن كبراء المدينة عن اجتماع في فدان الرمال الواسع بجوار مسجد سانكوري ليحاولوا توحيد صفوف المجتمعات المحلية خلف الميليشيا العربية في المدينة، قوة دلتا. دعي الناس من كل مجموعات تمبكتو العرقية - السونجاي، والفولانيين، والبامبارا، والطوارق، والبيلا، والدوجون - لتقديم أي شيء بوسعهم توفيره لدعم المقاتلين الذين كانوا حينئذ معقد أملهم. فقدموا مالا، وحبوبا، وماشية، ولفات من القماش، وقدم كل ذلك مع إظهار قدر عظيم من التضامن، وشعروا بالأمان بقدر أكبر قليلا.
في اليوم التالي، عادت الأنباء تأخذ منعطفا سيئا. كانت بلدة كيدال، التي كانت تضم حامية عسكرية وتقع في أقصى الشمال الشرقي، قد سقطت في قبضة المتمردين. سرت موجة جديدة من الخوف عبر تمبكتو، وبدأ الناس يحزمون أمتعتهم ليتحركوا جنوبا. وفي صباح ذلك اليوم، قال مدير معهد أحمد بابا، محمد غالا ديكو، لموظفيه السبعين أن يأخذوا معهم إلى البيت قدر ما يستطيعون من معدات المؤسسة المكتبية. إذا سقطت تمبكتو، فعلى الأقل لن تنهب أجهزة الكمبيوتر، والكاميرات، ومحركات الأقراص الصلبة. البعض، مثل الباحث، القاضي معيجا، لم ينزعج؛ فقد كانت كيدال بلدة نائية في منطقة صراعات؛ موقع أمامي أكثر عرضة للخطر من تمبكتو ذات الشهرة العالمية.
وقال أشخاص آخرون إن المدينة كانت بالفعل محاصرة.
في الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم، وبينما كانت الشمس تغرب، انطلق ركب صغير من سيارات الدفع الرباعي من تمبكتو، متجها شرقا بمحاذاة النهر نحو الصحراء. كانت قد ذاعت بين الميليشيا العربية أنباء بأن متمردي الحركة الوطنية لتحرير أزواد كانوا يريدون عقد اجتماع معهم، ومن ثم اختير وفد من شيوخ المدينة، إلى جانب عدد من المقاتلين من قوة دلتا. كان من بين المندوبين الأربعة قادر خليل، الذي كان رجلا في الخامسة والستين من عمره ذا وجه طويل كوجه لي مارفن وصوت خشن، وآراء مفعمة بالحيوية عادة ما كانت تسمع في راديو بوكتو، المحطة الإذاعية المحلية التي كان يديرها من مقصورة من الطوب خلف مكتب رئيس البلدية.
بينما كانت السيارات تقفز على الطريق الوعر، كان خليل يشعر بتعاسة شديدة. كان منهكا وخائفا، وكانت قرح معدته تتعاظم، وظن أنه هو ورفاقه من أهل تمبكتو كانوا يقتادون إلى فخ، ولكن لم يكن لديهم خيار: إذا أراد الناس منك أن تفعل شيئا، فلا يمكنك أن ترفض.
في السابعة والنصف مساء، توقفوا في قرية بر لينتظروا تعليمات المتمردين، واتصل خليل بزوجته ليخبرها أنه لن يكون في البيت لتناول العشاء. وقال لها: «ربما تكون هذه هي آخر مرة تسمعين فيها صوتي.»
كان الوقت قد قارب منتصف الليل عندما عاد الركب الصغير من سيارات الدفع الرباعي إلى الانطلاق مجددا، وهذه المرة متجها صوب جهة الشمال الشرقي. وعلى بعد ستة أميال من قرية بر، رن الهاتف المحمول لقائد الميليشيا وأصغى خليل بتشكك إلى نبرة الحديث. هل كان مهذبا أكثر من اللازم، وحريصا للغاية على إرضاء محدثه؟ قال رجل الميليشيا عندما انتهت المكالمة إنهم لا بد أن يطفئوا أنوارهم، حتى لا ينكشف موقع معسكر المتمردين. تابعت السيارات سيرها مطفأة الأنوار مسافة ثلاثة أميال أخرى، وتوقفت في منطقة رمال ناعمة، وحشائش صحراوية، وأشواك سنط.
ترجل الرجال من السيارات، وهم يطئون الأرض المظلمة بحرص. جاءت نقاط الضوء الوحيدة من إشعال سيجارة أو عود ثقاب، لكن حتى في العتمة كان بوسع خليل المكتئب أن يتبين عددا كبيرا من الرجال المسلحين ، وبنادقهم الكلاشينكوف التي كانت في كل مكان وعمائمهم الثقيلة، وشاحنات صغيرة رابضة تحت شبكات تمويه أو متوارية عن الأنظار بالأشجار الصحراوية المنخفضة.
اقتيدوا صعودا على كثيب إلى موضع كان قد بسط فيه بساط. وبعد برهة، اقتربت مجموعة، يقودها رجل شاحب الوجه من الطوارق في العقد السادس من عمره وعلى وجهه مسحة من شارب أسود. كان هذا الرجل هو محمد آغ ناجم، وهو عقيد سابق في الجيش الليبي وكان حينئذ قائد أركان جيش الحركة الوطنية لتحرير أزواد. تكلم بالعربية، التي ترجمها قائد ميليشيا تمبكتو إلى الفرنسية.
قال ناجم: «مرحبا.» وأضاف: «رجاء، اعتبروا أنفسكم في بيتكم.»
في وجود الرمال والسيارات والسماء المفتوحة، وهمهمة الحديث، وصوت طائر في الصحراء، شعر المندوبون وكأنهم في موقع تصوير فيلم سينمائي.
قال خليل: «ما نطلبه هو هذا.» وأضاف: «هل يمكنك أن تترك تمبكتو وشأنها؟»
أجاب آغ ناجم: «هذا محال.» «إذن لا بد أن تمنحنا الوقت لتحضير الناس حتى يستطيعوا أن يقرروا إما أن يبقوا أو يغادروا.» «كم من الوقت تريدون؟» «شهرا.»
كرر آغ ناجم قوله: «هذا محال.» كان رجاله قد حشدوا وكانوا سيصلون إلى تمبكتو في تلك الليلة لو لم يوافق كبراء المدينة على المقامرة بالمجيء للقاء ناجم. ولكن ما داموا قد أبدوا الشجاعة للمجيء، فسيمنحهم خمسة أيام، إذا استوفوا شروطا معينة، وهي أنه يتعين على كل أولئك الذين لا يريدون أن يعيشوا في دولة أزواد المستقلة أن يغادروا، كما يتعين ذلك على كل المنتمين إلى عرق البامبارا، وهم سكان الجنوب ذوو البشرة السوداء الذين سيطروا على الطبقة الإدارية والجيش في مالي. عندئذ فقط سيتعهد بأن يدخل تمبكتو دون أن يقصفها.
قال آغ ناجم: «بحلول يوم الخميس، سيبقى أولئك الذين يمكنهم البقاء معنا في تمبكتو، ولكن أولئك الذين يريدون أن يلوذوا بالفرار لا بد أن يفروا منها.»
كان الوقت قد شارف على الفجر عندما سارع المندوبون بالعودة إلى سياراتهم من أجل رحلة العودة إلى المدينة. •••
في صباح ذلك اليوم، السبت، الحادي والثلاثين من مارس، استيقظت تمبكتو على خبر سيئ آخر: كانت جاو، أكبر مدينة في الشمال ومركز قيادة الجيش المالي في الإقليم، قد سقطت.
جالت بفكر القاضي خاطرة بسيطة عندما سمع بهذا، والتي كانت: «لقد انتهى أمر تمبكتو.»
كان خليل في هذا الوقت يسابق الزمن للعثور على رئيس البلدية، هلي عثمان سيسيه، ليوصل له إنذار الحركة الوطنية لتحرير أزواد. أخبر خليل سيسيه بأن المتمردين في طريقهم إلى تمبكتو، وأنه لم يكن الآن ثمة شك في الأمر. كانوا قد وعدوا بألا يأتوا حتى يوم الخميس التالي، ولكن خليل لم يثق بهم: يمكن أن يكونوا هنا في أي وقت، حتى اليوم. سرعان ما هرع رئيس البلدية سيسيه بدوره للقاء كبيري ممثلي الدولة - محافظ تمبكتو، الكولونيل ميجور مامادو مانجارا، وقائد المنطقة العسكرية، العقيد جاستون دامانجو - ليبلغهما بما كانت الحركة الوطنية لتحرير أزواد قد قالته: سيدخل المتمردون المدينة بسلام فقط إذا كان كل العسكريين والعاملين الحكوميين قد غادروها.
قال لهما رئيس البلدية سيسيه: «يجب ألا نضحي بالسكان.» ثم أضاف: «يتعين عليكما المغادرة الآن. إن لم تفعلا، فمن الذي سينقذنا؟»
لم تدم مقاومة القائدين العسكريين طويلا. فلم يكن ثمة شيء بوسعهم فعله، على أية حال. كان المجلس العسكري في باماكو قد أصدر أوامره للقوات المالية بالانسحاب من قاعدتها في جاو للحيلولة دون وقوع خسائر في أرواح المدنيين، وكان قد صدر حالا أمر لرتل تعزيزات كان قد وصل إلى تمبكتو في الساعات الأولى من صباح اليوم بأن يتراجع صوب الجنوب. كان هذا الآن عبارة عن انسحاب في حالة من الفوضى. ما الأمل الذي تركه ذلك للحامية، التي بالفعل انهارت معنوياتها وأضعفتها حالات الانشقاق والفرار من الخدمة؟ استحضر مانجارا ذكرياته قائلا: «في أعقاب الانقلاب لم تكن توجد قوات يمكن أن تدافع عن تمبكتو، على الرغم من وجود الرغبة في ذلك.» وافق المحافظ على ترك المدينة.
أبلغ كبار ممثلي الدولة أنه يتعين عليهم أن يغادروا وأن يأخذوا معهم ما يمكنهم أخذه. وعندما انتشر نبأ أن ممثلي الحكومة كانوا ينسحبون، بدأ الذعر يسري في المدينة.
وفي صبيحة ذلك اليوم، كان القاضي متلهفا إلى الاستجابة إلى طلب مديره بأن ينقل كل الأغراض القيمة من معهد أحمد بابا. ركب دراجته البخارية وانطلق مغادرا المنزل الذي كان يسكن معه فيه زوجته، وطفلاهما الصغيران، وشقيقه في حي أباراجو في شمال غرب المدينة. وبينما كان يقود دراجته البخارية عبر السوق صوب مبنى معهد أحمد بابا في شارع شيمنيتز، رأى الناس يجرون في كل اتجاه، بعضهم من أجل أن يحملوا عائلاتهم ومتعلقاتهم في الشاحنات، والحافلات، وسيارات الدفع الرباعي التي كانت تتجه جنوبا، وآخرون من أجل أن يتركوا أطفالهم مع أصدقائهم أو أقاربهم الذين كانوا يعيشون في مناطق أكثر أمنا في المدينة، بعيدا عن معسكر الجيش. وأينما كان القاضي يتوقف، كان يسمع الناس يتحدثون عن أفضل الطرق للهروب. وعندما وصل إلى المعهد، أخذ الكمبيوتر المحمول الخاص به، وكاميرا من طراز كانون، ومحرك أقراص صلبة كان يستخدمها لرقمنة المخطوطات، ووضعها في حقيبة، ثم قاد دراجته البخارية عائدا عبر فوضى السوق إلى منزله، حيث ظل بقية اليوم.
كان إخوته في المملكة العربية السعودية، وبوركينافاسو، وكوت ديفوار يتصلون به على مدى عدة أيام، يستحثونه للوذ بالفرار من الإرهابيين. ورغبت زوجته، فطومة، هي الأخرى في المغادرة، لكن القاضي ارتأى أن لحظات الذعر هذه هي الأخطر، حيث إن ذلك هو الوقت الذي يفقد فيه الناس صوابهم. قال لها إن الموقف سيستقر وإنها سترى ذلك. جلسا أمام التليفزيون، يتنقلان بين قنوات الجزيرة، وفرنسا 24، وبي بي سي وورلد نيوز. أحيانا، عندما كان يشتد قلقهما، كانا لا يشاهدان أي شيء على الإطلاق.
عندما مضى وقت ما بعد الظهر وحل المساء، أصبح الطريق جنوبا من تمبكتو مختنقا بأناس يحاولون الهرب، فرارا نحو العبارة في كوريومي، والمعبر الصحراوي الطويل المؤدي إلى دوينتزا والجنوب. غادر مانجارا ودامانجو في الساعة السادسة مساء. أما العسكريون الآخرون الذين لم يتمكنوا من الهرب أو لم يرغبوا في ترك عائلاتهم في تمبكتو، فهجروا معسكر الجيش وحاولوا الاختباء وسط السكان. وفي استعجالهم للفرار من قاعدتهم، تركوا وراءهم متعلقاتهم وتجهيزاتهم: الماشية ، وأدوات الطبخ ، وأجهزة التليفزيون. وحيث إنهم لم يتلقوا أوامر واضحة، تركوا أيضا مخزونهم الاحتياطي من الأسلحة والذخيرة.
عند الغسق، ذهب إسماعيل ديادي حيدرة، مالك مكتبة فوندو كاتي، إلى سانكوري للقاء أصدقائه، الذين كانوا يجتمعون هناك كل ليلة. كان يسيطر على المدينة الآن نوع من «الذهان الاجتماعي»، حسبما تذكر إسماعيل، وهو رجل دمث الخلق يضع نظارة مستديرة صغيرة. قال البعض إن المتمردين سيصلون في أي لحظة؛ بينما قال آخرون إن هذا غير صحيح، وإنهم لن يأتوا أبدا. كان أشد ما يعتريهم هو الشعور بالعجز. فكر في ابنيه الصغيرين، اللذين كانا معه في تمبكتو، وفي آلاف المخطوطات في المكتبة التي كانت في الناحية المقابلة من منزله في حي هامابانجو الشرقي.
في الساعة السابعة مساء، عاد إسماعيل إلى البيت. وعندما خلد الابنان إلى النوم، ذهب إلى المكتبة. كان قد نقل بالفعل بعضا من مخطوطاته إلى مخبأ، والآن بدأ ينقل بقيتها من فوق الأرفف إلى خزائن. وجد من المستحيل أن يحدد الأولويات؛ «أي مخطوطات يمكنني أن آخذ؟ وأيها سأترك لتتعرض للإتلاف؟ إن الأمر كما لو كنت تسأل والدا أن يختار من بين أبنائه، من سينقذ ومن سيضحي به.» ظل يعمل حتى الساعة الحادية عشرة مساء، ثم مضى إلى فراشه. وفي أنحاء تمبكتو رقد الناس مستيقظين، يصغون إلى أصوات المدينة وهي تخلو من سكانها. •••
كان الظلام لا يزال مخيما عندما غادر إسماعيل منزله في الصباح التالي ليتمشى على الكثبان الرملية. كانت قد نمت لديه عادة تمضية ساعة عند بزوغ فجر كل يوم في التجول في المدينة، مستنشقا هواء الفجر العليل، ومستقبلا أول ضوء شاحب، وبدء الحياة كل يوم. كان الشارع خاليا من المارة وهو ينسل عبر باب الجدار الخارجي للمجمع السكني ويغادر متجها نحو حافة المدينة. لم يكن قد مضى إلا بضع مئات من الخطوات عندما رآه أحد جيرانه. قال له الرجل إن الخروج من المنزل ليس آمنا. قال إسماعيل محتجا: «إنني ذاهب للتمشية لبعض الوقت»، لكن الجار كان لجوجا، فقرر أن يعود أدراجه. عاود الدخول إلى ساحة المنزل بعد بضع دقائق، بينما بدأت الشمس تطلع. وعندما جاء ابنه ذو الأربعة عشر ربيعا خارجا من المنزل للقائه، سمعا صوتا حادا لطلقتين من أعيرة نارية. «أبي، هل سمعت ذلك؟ لقد جاء المتمردون.»
قال إسماعيل: «سمعته.»
كان هذا بعد الساعة السادسة صباحا بقليل.
بعد بضع دقائق، جعلت قعقعة الأعيرة النارية الناس يستيقظون مفزوعين في سائر أنحاء تمبكتو. استيقظ ديادي حمدون معيجا، الذي كان نائبا سابقا لرئيس البلدية، في بيته في ساراكينا، شرقي المدينة، على صوت رنين طلقات نارية «في كل مكان». في أباراجو، وجد القاضي، الذي كان مستيقظا منذ الساعة الخامسة، أن طقسه اليومي الذي يشتمل على الاستيقاظ، والصلاة، والاستماع إلى الأخبار، قد قاطعته أصوات فرقعة الأعيرة النارية. قال له شخص ما إنه صوت طائرة، لكنه كان يعرف أنه لم يكن كذلك.
في منزل دياكيتي بالقرب من مسجد سيدي يحيى، كانت الأسرة قد استيقظت قبل الفجر على صوت قرع متعجل على الباب. اندفع أحد الجيران، الذي كان رجلا عسكريا، داخلا دون أن يخلع حذاءه أو يضع بندقيته. قال: «عليك أن تسعى لإنقاذ أسرتك.» وأضاف: «لقد تلقينا الأوامر بأن نترك المدينة.» وغادر مجددا، ليتخلص من بندقيته ويغير ملابسه ليتخلص من زيه العسكري، وبعد دقائق سمع دياكيتي صوتا سيتذكره بوضوح لأعوام تالية: صوت انطلاق أعيرة نارية من سلاح آلي.
بعد أن قاد إسماعيل ابنه إلى الداخل، عاد إلى مدخل الباب. ومن نهاية الشارع أتى صوت هدير مركبات، ثم مر ركب مسرعا، متجها إلى ميدان الاستقلال، ومبنى المحافظة، ومعسكر الجيش. رأى آخرون رجالا مسلحون يصلون سيرا على الأقدام: سارت مجموعة في الطريق الرملي لفندق بوكتو المنخفض ذي الطلاء الرمادي في الطرف الغربي للمدينة وبدءوا يطلقون النار فوق رءوس عمال الفندق. سار الرجال داخلين إلى منطقة الاستقبال بالفندق، التي تحوي طاولات الطعام الأنيقة والأرضية ذات اللونين الأحمر والأبيض كرقعة الشطرنج، ونهبوا محتويات درج النقود، التي لم تكن سوى فرنكات تافهة تعادل خمسين دولارا، ثم طلبوا مفاتيح سيارة اللاند كروزر الجديدة التي كانت واقفة في الواجهة، بجوار الحديقة المزروعة بزهور ونكة مدغشقر الوردية. على عجل أحضر مالك السيارة المفاتيح، لكن سرعان ما اتضح أن الرجال المسلحين لم يكونوا يعرفون كيفية قيادة السيارة.
مع تصاعد إطلاق الأعيرة النارية، أغلق الناس أبوابهم وحاولوا أن يبقوا أنفسهم وأطفالهم هادئين. وأخذ البعض يصلي. أخذ إسماعيل ابنه وابنته إلى المكتبة، ثم أغلق الباب وتابع المهمة التي كان قد بدأها في الليلة الماضية، وهي مهمة نقل مخطوطاته بعناية إلى الخزائن. نزل آخرون إلى الشارع ليروا ما يحدث ووجدوا هرجا ومرجا. كان رجال مسلحون ينطلقون في الجوار في شاحنات صغيرة، وهم يطلقون النار ويصيحون، بينما كان مدنيون يركضون في كل الاتجاهات، والبعض يحاول أن يغادر المدينة بأي طريقة ممكنة: بالسيارات، أو الدراجات البخارية، أو الحمير، أو حتى سيرا على الأقدام، رغم أن المسافة إلى أقرب طريق مسفلت كانت 130 ميلا.
كانت الهيستيريا التي تسبب فيها الرجال المسلحون «شديدة»، على حد قول حوداي آغ محمد، أحد المسئولين الحكوميين القلائل الذين لم يكونوا قد لاذوا بالفرار بعد. بدا له الأمر أنه استراتيجية متعمدة لتخويف أي جنود ماليين باقين يريدون القتال، وقد كانت ناجحة: عندما نزل إلى الشارع، وجد مجندين مغتمين يجاهدون لخلع ملابسهم العسكرية، والتخلص من أسلحتهم، والعثور على مكان للاختباء. ومع اهتزاز حي سان فيل الجنوبي الذي كان يعيش فيه جراء الانفجارات المتكررة، سارع بالعودة إلى منزله وصاح في أفراد أسرته طالبا منهم أن يدخلوا غرفهم ويغلقوها عليهم لأن «الجحيم ليس ببعيد!» بعيد ذلك سمع همهمة حديث خافتة تحت نافذة منزله ووجد مجموعة من الجنود كانت قد تسللت إلى مجمعه السكني. توقعت زوجته معركة ضارية في داخل بيتهم، وقالت إنه لم يعد أمامهم ما يفعلونه سوى انتظار ملاقاة حتفهم. إلا أن حوداي اقترب بحذر من الشباب، الذين عرضوا عليه أن يأخذ عدة دجاجات وسياراتهم العسكرية ليعتني بها. رفض هداياهم وأقنعهم بدلا من ذلك أن يختبئوا في منزل أحد جيرانه والذي كان قد غادر.
في سائر أنحاء المدينة كان الجنود يحاولون العثور على ملجأ لهم. ظهرت مجموعة منهم على عتبة منزل إسماعيل. ظنا منه أن بنايته كانت بالفعل هدفا بما يكفي، بمكتبة مخطوطاتها الشهيرة ووجود عمود هاتف على السطح، أقنعهم بأن يذهبوا إلى أي مكان آخر. أدخل أشخاص آخرون جنودا إلى بيوتهم: رحب دياكيتي، الذي ظل ملازما أسرته، بعودة صديقه العسكري، الذي كان حينئذ غير مسلح ويرتدي ملابس مدنية متمثلة في تيشيرت وبنطال. كان سيبقى لعدة أيام، ومعه أحد زملاء دياكيتي وبعض الطلاب من المدرسة الفرنسية العربية.
كانت عملية السلب والنهب، التي كانت قد بدأت في فندق بوكتو، حينئذ آخذة في الانتشار. كان رجال الميليشيا يعرفون جيدا معسكر الجيش منذ الأيام التي تلقوا فيها تدريباتهم مع القوات الحكومية، ولذا أخذوا يستولون على كل شيء تركه الجنود، من الثلاجات والكراسي إلى الأسلحة وصناديق الذخيرة، ويحملون غنائمهم في شاحنات صغيرة وعلى دراجات بخارية ويحملونها متوجهين صوب الصحراء. كانت سيارات الدفع الرباعي مكدسة عاليا لدرجة أن أحد السكان شاهد صناديق القنابل اليدوية تسقط عنها، والمتفجرات تصطدم بالأرض وتتدحرج مثل حبات المانجو الساقطة من شجرة. كانت السيارات من أهم أهداف اللصوص. اختفى صف من سيارات الدفع الرباعي التي كان الجيش المالي قد أوقفها بجوار معسكر الجيش، وكذلك كان حال معظم السيارات المملوكة للدولة وللمنظمات غير الحكومية.
في صباح ذلك اليوم، شاهدت فطومة هاربر، وهي مدرسة في المدرسة الفرنسية العربية، شابا يتأهب للنهب. قال: «إذا اقتحموا البنوك فسأبحث عن حصتي من المال.» وأضاف: «وإلا فالسلاح سيجدي نفعا.» انطلق صوب المعسكر. وبعد بضع دقائق، خارج أحد المساجد، دخل في مشادة مع أحد المراهقين على بندقية مسروقة: كانا يتجاذبان إياها عندما ضغط الصبي على الزناد وأرداه صريعا.
ما إن أخذ الرجال المسلحون قدر ما يمكنهم حمله، حثوا المارة على أخذ ما تبقى. رأى إسماعيل أشخاصا يهرعون وهم يحملون قطع أثاث على رءوسهم. وحتى الأطفال الصغار كانوا من ضمن الحشود التي مارست عمليات النهب.
في الساعة التاسعة صباحا، هز المدينة انفجار كبير. سمع القاضي «صوت انفجار هائل» وركض إلى الفناء ليجد السماء ممتلئة بدخان أسود. شعر إسماعيل، الذي كان أكثر قربا من معسكر الجيش، بأن المنزل يهتز. كان بوبكر ماهامان، أحد شيوخ المدينة والذي كان يلقب «جانسكي» تيمنا بأحد نجوم كرة القدم في غرب أفريقيا في سبعينيات القرن الماضي، جالسا في حديقة سطح منزله في السوق الكبير عندما سمع صوت التفجير. قال متأملا: «آه، أجل.» ثم أضاف: «الآن بدأ الحفل حقا.» كان رجال مسلحون، وهم يحاولون كسر قفل مستودع ذخيرة في المعسكر، قد أصابوا المتفجرات التي كانت بالداخل، وعندئذ أخذت القذائف تتطاير خارجا في كل اتجاه، ودمرت أجزاء من سور المعسكر وسقطت على المنازل القريبة. انجرفت سحب دخان وأبخرة كريهة الرائحة جنوبا مع هبوب النسيم، فجعلت الهواء في سان فيل يكاد يكون غير صالح للتنفس.
فيما يتعلق بإسماعيل، كانت هذه هي أكثر لحظات اليوم مرارة، اللحظة التي أدرك فيها أن المدينة قد سقطت. قال: «قلت لنفسي إنه لا يوجد ما يمكننا فعله؛ فكل شيء قد ضاع.» •••
عندما رأى ديادي، نائب رئيس البلدية السابق، من الذي كان يطلق النار، أدرك على الفور أنهم رجال الميليشيا العربية، قوة دلتا، وعرف أن تمبكتو قد تعرضت للخيانة. لم تكن الحركة الوطنية لتحرير أزواد متخلفة عن الركب. وبناء على نصيحة من شقيقه، وهو ضابط شرطة من ذوي الرتب العالية، اختبأ خليل وأسرته في الدور الأرضي لمنزله في السوق الكبير عندما سمعوا صوت سيارة تتوقف في الخارج وطرقا على الباب. فتح الباب ليجد رجلا يرتدي العمامة الثقيلة التي يلبسونها في عمق الصحراء.
قال المبعوث: «محمد آغ ناجم عند مدخل المدينة ويريد أن يقابلك فورا.» وأضاف: «لديه بعض المعلومات المهمة جدا.»
أوضح له خليل أن الوقت ليس مناسبا، وربما يستطيع أن يعود في وقت آخر. لكن المبعوث أصر، وبعد أن تطوع ابن خليل ذو الخمسة وعشرين ربيعا أن يرافقه، تبع المذيع المسن على مضض المتمرد خارجا إلى الشارع.
مضوا بالسيارة خروجا عبر الفوضى - وهو مشهد وصفه جانسكي بأنه «يبدو مثل نهاية العالم» - إلى جنوب المدينة، وكان خليل في حالة من الاهتياج المتزايد. وبالقرب من الاستاد على طريق كابارا، وهم يمرون بمجموعة من الشاحنات الصغيرة الممتلئة برجال مسلحين ملثمين في طريقهم إلى المدينة، طلب أن يعودوا قائلا: «إن لم تذهب بي إلى البيت، فسأخرج من السيارة!» رفض السائق أن يتوقف، فاتصل خليل بآغ ناجم على الهاتف المحمول الذي كان قد أعطاه رقمه على الكثيب خارج بر.
قال لقائد الحركة الوطنية لتحرير أزواد: «يجب أن أعود!»
قال آغ ناجم، وصوته يعلو على الضجيج الذي حوله، لخليل: «تعال لخمس دقائق.» ثم أضاف: «لدي تصريح عاجل جدا أريد منك أن تذيعه.»
قال خليل: «أخي، لا أريد أن أقحم بين المطرقة والسندان! غدا أو بعد غد، عندما تصبح الأمور أهدأ، يمكنك أن تتصل بي.»
وافق آغ ناجم، واستدار السائق عائدا أدراجه.
حينئذ كانت شاحنات الحركة الوطنية لتحرير أزواد تقوم بجولات مع الميليشيا العربية. ومع أنه كان من الصعب على المرء أن يتبين رجلا مسلحا من آخر، كانت عربات الحركة الوطنية لتحرير أزواد تحمل شعارات الاستقلال باللغة العربية وأحيانا علم الحركة ذا الألوان الأخضر والأحمر والأسود والذهبي، الذي رفعه المقاتلون فوق مكتب رئيس البلدية، ومبنى المحافظة، وقسم الشرطة، ومعسكر الجيش. تسارعت حينئذ وتيرة عمليات النهب إذ تسابقت مجموعات المسلحين المختلفة بعضها مع بعض على الجوائز الأقيم: المكاتب الحكومية، والمتاجر الكبيرة، والبنوك، والخدمات العامة. وحتى منزل المحافظ جرد مما كان يحتويه من أغراض.
بحلول الساعة الواحدة بعد الظهر، كانت المدينة قد استنزفت. شاهد سيدو بابا كونتا، وهو مرشد سياحي عاطل عن العمل ومعروف عالميا باسم باستوس، مجموعة من رجال الحركة الوطنية لتحرير أزواد يصلون إلى البنك المقابل لمنزله ويبدءون في مداهمته ويطلقون النار في الهواء بينما كانوا يفعلون ذلك. كانت زوجته وأطفاله السبعة في المنزل، لذا سار عابرا الطريق. وقال للرجال المسلحين: «انهبوا البنك عن آخره، لا مانع عندي.» ثم أضاف: «ولكن أيمكنكم أن تتوقفوا عن إطلاق النار في كل مكان؟»
استمرت دفعات من أسلحة صغيرة تقعقع عبر المدينة حتى المساء، مختلطة بالدخان الأسود المنبعث من المعسكر المحترق.
في الساعة السادسة إلا أربع دقائق، وهو وقت تزامن مع هدوء في إطلاق النار، صدر تصريح على موقع الويب «توماست للأنباء» التابع للمتمردين معلنا أن الحركة الوطنية لتحرير أزواد قد وضعت للتو نهاية للاحتلال المالي لتمبكتو. الآن، على حد قولهم، كان علم الحركة الوطنية لتحرير أزواد يرفرف في كل مكان في الإقليم. •••
كان حيدرة على الطريق طيلة اليوم. وفي ليلة يوم السبت نام في موبتي، المدينة الرئيسية في وسط مالي، وفي الصباح شق طريقه صوب تمبكتو. ترك سيارته في سيفاري - كان قد قيل له إنه إن مضى بها أكثر من ذلك، فمن المرجح أن تسرق - وتابع طريقه مع سائقه بوسائل النقل العام، ماضين عكس تيار اللاجئين والجنود المتجهين جنوبا. في دوينتزا، على بعد 130 ميلا من تمبكتو، حيث انحرف الطريق الرئيسي المؤدي إلى المدينة عن الطريق المرصوف ومضى مجتازا الصحراء، وجدا عربة أجرة أدغال ذات دفع رباعي يمكن أن تأخذهما إلى معبر النهر في كوريومي. بدا أنهما الشخصان الوحيدان المتجهان شمالا.
وصلا إلى العبارة في الساعة الواحدة بعد الظهر، ولكن قيل لهما إن العبور كان خطرا للغاية: كان القتال على الضفة الأخرى في غاية الاحتدام. وهكذا مضيا مع مجرى النهر مسافة قصيرة وقابلا في الطريق قارب صيد صغيرا. أخذهما صياد السمك إلى قرية هوندوبونجو على الضفة الشمالية، حيث أجرى حيدرة اتصالا بصديق له في تمبكتو.
قال له صديقه: «يوجد إطلاق نار في كل مكان.» وحتى مع ذلك، إن انتظرا، فسيرى ما بوسعه فعله.
في الساعة الرابعة عصرا، وصل الصديق في سيارة من طراز مرسيدس كان قد تمكن من أن يقترضها. كان الخروج من المدينة صعبا؛ أما العودة إليها فكانت أصعب. تذكر حيدرة أنه كل بضع مئات من الياردات كان يوقفهم رجال مسلحون يطلقون نيران أسلحتهم في الهواء عندما يقتربون، وفي كل توقف كانوا يواجهون وابلا من الأسئلة. من هم؟ سيارة من هذه؟ لماذا كانوا قادمين إلى المدينة؟ كيف وصلوا إلى هنا؟ أين السيارة التي جلبتهم إلى تمبكتو ؟ استغرق الأمر منهم ساعتين لاجتياز ثمانية أميال إلى البوابة التي كانت علامة على مدخل المدينة.
أثناء مضيهم بالسيارة دخولا إلى تمبكتو في الظلام تلقى حيدرة لمحة أولى عن الفوضى التي كانت سائدة طيلة معظم اليوم: كان دوي إطلاق النار متواصلا، رغم أنه لم يستطع حتى أن يحدد أي المجموعات كانت تطلق النار. هرول مسرعا إلى منزله في الجانب الشرقي، والذي يوجد على مسافة قصيرة من مكتبته في هامابانجو، وأغلق الباب.
ولم يخرج مجددا طيلة أسبوع.
الفصل الرابع
المستكشف الرابع
1795-1820
في الأول من مايو من عام 1797، كتب جوزيف بانكس رسالة قصيرة إلى صديقه المفوض الفرنسي في لندن بينت بإيجاز موقف الرابطة الأفريقية. كانوا يرون أن مسألة إرسال مستكشفين لاستكشاف المناطق الداخلية من أفريقيا هي أمر أصعب مما كانوا يأملون. كتب يقول: «لقد فقدنا بالفعل ثلاثة رجال مؤهلين تأهيلا جيدا، دون أن نستجلي قدرا كبيرا من الجغرافيا الداخلية للبلاد، لكننا ما زلنا مستمرين في عزمنا.»
في حقيقة الأمر، كان مستكشفان اثنان فقط قد «فقدا» على نحو بات. كان لوكاس قد شد الرحال بعد ليديارد بوقت قصير، مغادرا إلى طرابلس في أغسطس من عام 1788، لكن تمردا في جنوب ليبيا أعاق طريقه جنوبا وعاد سالما دون مغادرة ساحل البحر المتوسط. بعد ذلك جاء العسكري الأيرلندي المثقل بالدين دانيل هوتون، الذي عرض أن يحاول الوصول إلى الداخل من نهر جامبيا، والعثور على مدينة «تومبوكتو» الشهيرة، ثم اقتفاء المسار المجهول لنهر النيجر؛ كل ذلك مقابل مبلغ إجمالي متواضع قيمته 260 جنيها إسترلينيا. وافقت الرابطة بسرور على عرضه، وانطلق هوتون في رحلته في عام 1790. وفي الأول من سبتمبر من العام التالي كتب رسالة قصيرة بالقلم الرصاص من سيمبينج، في مملكة لودامار السودانية، يقول فيها إنه بصحة جيدة، ولم تصل عنه أي أخبار بعد ذلك مطلقا.
ومع ذلك، كان ثمة مستكشف رابع في المجال كان بانكس يأمل بشدة أن يكون الآن في طريق عودته من «تومبوكتو». كان هذا الرجل هو الاسكتلندي ذا الخمسة والعشرين ربيعا مونجو بارك، الذي كان في تلك اللحظة بعينها يشق طريقه بجهد جهيد نحو ساحل غرب أفريقيا بعد رحلة دامت عامين فقد فيها كل شيء عدا قبعته المصنوعة من جلد القندس. ومع أن هذا يبدو غير واعد، فسيتضح أن رحلة بارك كانت أعظم نجاح للرابطة الأفريقية، والتي وضعت نموذجا جديدا للشخصية البطولية للرجل الأبيض في القارة السمراء والذي فيما بعد سيكون المقياس الذي يقاس عليه المستكشفون اللاحقون. سافر بارك عبر أراض تعج ب «المور» القتلة والحيوانات البرية الشرسة، دون سلاح تقريبا إلا جرأته البريطانية، وإيمانه الذي لا يتزعزع، وتكوينه الجسماني الرائع. والأهم من كل ذلك أنه سيرجع حيا.
تلقى بارك، الذي كان ابن مزارع ثري، تدريبا ليصبح جراحا، لكن ما اجتذب اهتمام بانكس إليه كان علم النبات. رتب له رئيس الجمعية الملكية أن يسافر إلى جزر الهند الشرقية الهولندية للحصول على العينات، واستأجرته الرابطة الأفريقية بعد عودته ومعه ثمانية توصيفات جديدة للأسماك السومطرية. كان شجاعا ومثابرا، حتى بعد إخباره باختفاء هوتون؛ إذ كتب: «عرفت أنني كنت قادرا على تحمل المشقة، واعتمدت على شبابي وقوة تكويني الجسماني ليحفظاني من تأثيرات الطقس.»
أبحر من بورتسموث في الثاني والعشرين من مايو من عام 1795، حاملا معه اعتمادا مستنديا بقيمة 200 جنيه إسترليني وتعليمات تنص على «مواصلة الطريق حتى نهر النيجر، عند الوصول إلى أفريقيا ... والتأكد من اتجاه ذلك النهر، وأيضا، إن أمكن، من منبعه ومصبه»، ثم استخدام «قصارى جهده» لزيارة البلدات أو المدن الرئيسية المجاورة له، وتحديدا «تمبكتو، وهوسة» مع أن هوسة، أو هوسا، لم تكن مدينة وإنما شعب. وباكتمال تلك المهمات، يمكن لبارك أن يعود من أي طريق يختاره.
في الحادي والعشرين من يونيو، وصل المركب التجاري الصغير الذي كان يحمله إلى مصب نهر جامبيا، ثم بدأ المركب يمضي ببطء عكس تيار النهر إلى جالية التجار الأوروبيين في جونكاكوندا، حيث سيوصل البريد ويحمل بضائع شمع العسل والعاج. وجهت الدعوة إلى بارك أن يقيم على بعد ستة عشر ميلا أخرى شرقا، في قرية بيسانيا، مع أحد معارف بوفوي، تاجر الرقيق جون لايدلي . وهناك مكث ليتعلم لغة الماندينكا ويجمع أي معلومات يمكنه جمعها عما يكمن أمامه في طريقه. بعد ثلاثة أسابيع تعرض لأول نوبة ملاريا وأصابه الهذيان، وطوال معظم شهري أغسطس وسبتمبر أجبر أن يكون ملازما للمنزل، ممضيا «الساعات المملة» وهو يستمع إلى الأصوات المروعة للعالم الغريب الذي كان على وشك أن يقدم على الخوض فيه:
يمضي الرحالة المرتعب الليل في الإصغاء إلى نقنقة الضفادع (التي كانت أعدادها تفوق الخيال)، والصراخ الحاد لابن آوى، والعواء العميق للضباع؛ يا لها من حفلة موسيقية كئيبة، لا يقطعها إلا هدير الرعد الهائل لدرجة لا يستطيع أي شخص أن يستوعبها إلا أولئك الذين سمعوه!
كان من شأن الأشخاص أصحاب الهمم الأقل أن يستسلموا عند ذلك الحد، لكن بارك أظهر دوما حماسا استثنائيا، وبحلول أوائل شهر ديسمبر، عندما كانت أشعة الشمس الحارقة قد حلت محل الأمطار وانخفض منسوب النهر، شعر بعافية تكفي لأن يبدأ رحلته. غادر بيسانيا بصحبة رجل معتق يسمى جونسون، والذي كان قد نقل يوما ما إلى جامايكا وإنجلترا، وأحد عبيد منزل لايدلي، ديمبا، الذي تلقى وعدا بنيل حريته إذا عاد المستكشف حيا. كان بحوزة بارك حصان؛ وتشكيلة صغيرة من الخرز، والعنبر، والتبغ للمقايضة؛ ومظلة؛ وقبعته المصنوعة من جلد القندس. في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم الثالث من ديسمبر من عام 1795، ترك رفاقه الأوروبيين وركب حصانه منطلقا نحو الغابات الأفريقية. عندئذ، كان إدراكه للواقع الخطر قد حل محل حماسه لفكرة أن يصبح «مستكشفا»، تماما كما كان الحال بالنسبة لليديارد، ولذا، كان في حالة مزاجية كئيبة وانطوائية:
كان أمامي الآن غابة لا حدود لها، وبلد، كانت الحياة المتحضرة غريبة على سكانه، ولمعظمهم كان الرجل الأبيض محل فضول أو نهب. تذكرت متأملا أنني كنت قد فارقت آخر أوروبي ربما تقع عليه عيناي، وربما أكون قد تخليت للأبد عن وسائل الراحة التي يكفلها المجتمع المسيحي.
لم يدم قنوط بارك طويلا. فبحلول شهر فبراير كان قد ارتحل مسافة ثلاثمائة ميل إلى الداخل، ووصل إلى مملكة كارتا، حيث أحسن الملك دايزي كوراباري استقباله. وبغية تجنب اندلاع الحرب الوشيك بين دايزي وجاره مانسونج ديارا، ملك البامبارا، اتجه المستكشف شمالا صوب لودامار، الأرض التي كان هوتون قد اختفى فيها. كان «المور» - وهو الوصف الأوروبي الشامل لمسلمي شمال أفريقيا من البربر أو من ذوي الأصل العربي - يقطنون هذا الإقليم، الواقع بالقرب من حدود مالي وموريتانيا الحاليتين، وكان من شأن تجربة بارك هناك أن تمثل له علامة فارقة لبقية حياته.
في أيامه الأولى في لودامار عرف على الأقل المصير الذي كان قد آل إليه هوتون. كان العسكري الأيرلندي قد دفع لبعض تجار المور مقابل أن يرشدوه للطريق إلى تمبكتو، حسبما قيل لبارك، ولكن بعد يومين أصابه الارتياب من نواياهم وأصر على أن يعود أدراجه، وعندئذ سرقه التجار وانطلقوا تاركين إياه دون طعام ولا ماء. وبعد أن سار هوتون أياما عدة وصل إلى بئر، ولكن الناس الذين التقى بهم هناك رفضوا أن يعطوه أي طعام. كتب بارك يقول: «ليس معروفا على وجه التحديد إن كان قد هلك جوعا، أو قتل على الفور على يد المحمديين المتوحشين.» جر جسد العسكري إلى الغابة، وأطلع بارك على الموضع بالضبط الذي كان قد ترك فيه ليهلك.
لم تثن هذه القصة البشعة بارك عن التعمق أكثر في لودامار، ولا تصريح جونسون بأنه سيتنازل عن أي مطالبة بمكافأة في مقابل ألا يمضي قدما خطوة واحدة أبعد. منحه بارك نسخا من أوراقه ليعود بها إلى نهر جامبيا وتابع طريقه مع ديمبا، لكنهما تعرضا لمضايقات متزايدة من سكان الإقليم، الذين حاولوا استفزاز المستكشف بالفحيح والصياح فيه والبصق على وجهه، وإخباره بأن كونه مسيحيا فمن حقهم سلب ما معه من متعلقات. وفي السابع من مارس، دخلت مجموعة منهم الكوخ الذي كان يقيم فيه وقبضوا عليه. أخذوه إلى بينوم، إلى مخيم علي، حاكم البلد؛ الذي كان رجلا «طاغية وقاسيا»، بحسب بارك. حبس علي المستكشف وكإهانة إضافية له ربط خنزيرا خارج الكوخ الذي كان محتجزا فيه. بعد ذلك عذب أتباع مخيم علي - الذين يعدون «أسوأ المتوحشين على وجه الأرض»، من وجهة نظر بارك - كلا من الحيوان النجس والمسيحي من شروق الشمس وحتى غروبها:
هنا وجدت صفات الفظاظة، والوحشية، والتعصب، التي تميز المور عن بقية البشر، شخصا مناسبا ليمارسوا عليه نزعاتهم. كنت «غريبا»، وكنت «بلا حماية»، وكنت «مسيحيا»؛ وكل اعتبار من هذه الاعتبارات كاف لطرد كل شرارة إنسانية من قلب الموري؛ لكن عندما امتزجت، كما في حالتي، في نفس الشخص، وساد الشك في أنني كنت قد جئت بصفتي جاسوسا إلى البلد، سيسهل على القارئ أن يتخيل أنه، في موقف كهذا، كان لدي كل الأسباب التي تدعوني إلى الخوف.
يمكن القول، بالنظر إلى سلوك الأوروبيين في المستقبل في أفريقيا، إن بارك كان «بالفعل» جاسوسا، مع أنه كان من شأن بانكس أن يقول إن رحلته كانت تجري من أجل دافع أنقى يتمثل في زيادة المعرفة البشرية. على أي حال، كانت هذه هي أسوأ فترة في حياة الشاب، وستظل تطارده في أحلامه لأعوام لاحقة. بينما كان يعاني نوبات الملاريا، قيل له بطرق مختلفة إنه سيعدم أو تقطع يده أو تفقأ عيناه، وتعرض لإعدام وهمي. حرم من الطعام، وعندما حل موسم الحر وأصبح الماء شحيحا، صار يشرب الماء من حوض للماشية، حيث خشي المسلمون من أن تسمم شفتاه المسيحيتان أوعية شربهم. وإذ لم يكن الأمر واضحا له بالفعل، ففي أبريل، وصل شريف - وهو رجل زعم أنه ينحدر مباشرة من نسل النبي محمد - إلى المخيم وفسر له سلوك قبائل الصحراء تجاه المسيحيين. كان الشريف قد قضى عدة سنوات في تمبكتو وسأل بارك إن كان ينوي أن يسافر إلى هناك. وعندما أجاب بارك بأنه ينوي ذلك، ما كان من الرجل إلا أن «هز رأسه، وقال إن هذا «غير مقبول»؛ وذلك لأنه كان ينظر إلى المسيحيين هناك باعتبارهم أبناء الشيطان، وأعداء النبي.»
من الواضح، مع ذلك، أن الشريف أشفق على الاسكتلندي الشاب وأخبره بموقع المدينة الأسطورية. ومن أجل أن يبلغها، كان عليه أولا أن يسافر إلى والاتا، على مسيرة عشرة أيام، وكانت تمبكتو تبعد عنها مسيرة أحد عشر يوما أخرى. سأله بارك مرارا وتكرارا عن الاتجاه الذي تقع فيه المدينة، ودوما كان الشريف يشير إلى جهة الجنوب الشرقي، دون أن يغير الاتجاه مطلقا قيد أنملة.
في أواخر يونيو من عام 1796، بعد ثلاثة شهور في الأسر، تمكن بارك من الهرب، وإن كان قد تعين عليه أن يترك وراءه ديمبا، الذي كان قد أخذ ضمن جيش عبيد علي. سافر بارك عبر السافانا، مختبئا من مجموعات «المور»، ودنا من نهر النيجر بالقرب من سيجو عاصمة أمة البامبارا. وفي العشرين من يوليو أخبره رفقاؤه في السفر أنه سيرى النهر العظيم نفسه في اليوم التالي. كان متحمسا للغاية لدرجة أن النوم قد جافاه وأسرج حصانه قبل أن يطلع النهار، لكن بوابات القرية التي كان يقيم فيها كانت تبقى موصدة ليلا لإبعاد الأسود عنها، وانتظر بفروغ صبر أن يطلع الفجر. وأخيرا فتحت البوابات، وبعد ساعتين من السفر أبصر جائزته:
بينما كنت أنظر حولي بتلهف بحثا عن النهر، صاح أحد [رفقائي]: «انظر إلى الماء»؛ وإذ نظرت أمامي، رأيت بسرور لا حد له الهدف العظيم لمهمتي؛ نهر النيجر المهيب الذي طال السعي إليه، يتلألأ تحت أشعة شمس الصباح، في اتساع نهر التيمز عند وستمنستر، ويتدفق ببطء «في اتجاه الشرق».
كان قد أصبح أول مستكشف أوروبي تقع عيناه على نهر كان وجوده مصدرا للتكهنات منذ زمن هيرودوت. لم يفاجئه أن يجد أنه يتدفق في اتجاه شروق الشمس - في الاتجاه المضاد لذلك الذي اعتقده علماء الرابطة الأفريقية - إذ كان ذلك ما قاله له كثير من الناس الذين قابلهم. أما عن مصبه، فحتى التجار الذين سافروا فيه لم يكن يبدو أنهم يعرفون في أي موضع يبلغ البحر، لكنهم فقط قالوا إنهم يعتقدون أنه يجري «إلى نهاية العالم.»
هرع إلى حافة النهر، وشرب بعضا من مائه، ثم صلى صلاة شكر حارة إلى الرب لأنه كلل مساعيه بالنجاح.
على الضفة البعيدة كانت توجد سيجو، العاصمة العظيمة لأمة البامبارا، التي شكلت احتمالا لوجود «حضارة وعظمة» من نوع لم يكن بارك يتوقع أن يجده في أفريقيا. نقل نبأ وصوله إلى ملك البامبارا، لكن مانسونج كان متشككا في بارك ورفض أن يسمح له بالدخول، لذا التمس المستكشف مأوى في قرية قريبة. وطوال اليوم انتظر تحت شجرة، وهو المكان التقليدي الذي يجلس فيه الغرباء حتى يتقدم مضيف ويستضيفهم، لكن أهل القرية نظروا إليه بدهشة وخوف ورفضوا أن يضيفوه. عند الغسق كان جائعا وقلقا: كانت الريح تتصاعد، والمطر ينذر بالهطول، وكان وجود الوحوش البرية الكثيرة في المنطقة يعني أنه سيتعين عليه أن يحاول النوم على أفرع الشجرة. أخيرا ضيفته امرأة عائدة من عملها في الحقول، وأعطته ماء، وسمكة حلوة المذاق جدا لعشائه، وحصيرة لينام عليها، وبينما كان يستريح، كانت الفتيات في الأسرة يغزلن القطن ويغنين تكريما له أغنية حلوة وحزينة تأثر بها وسجلها:
هدرت الرياح، وهطلت الأمطار.
الرجل الأبيض البائس، الضعيف والخائر القوى
جاء وجلس تحت شجرتنا.
إنه لا أم له لتحضر له لبنا،
ولا زوجة لتطحن له الذرة.
الجوقة:
هيا نشفق على الرجل الأبيض؛
فلا أم له.
ربما بسبب ما كان قد عاناه بارك في مخيم علي، كان متأثرا بشدة بهذا التصرف الكريم. فبعد ستة شهور من التهديد والتوتر، أطلق كرم هذه المرأة العنان لعاطفة قوية لديه. كتب قائلا: «كان الموقف مؤثرا لأقصى درجة.» ثم أضاف: «أسرني ذلك اللطف غير المتوقع؛ وطار النوم من عيني.» كان هذا واحدا من كثير من أعمال الخير التي أظهرت نحوه في غرب أفريقيا، ونموذجا للمعاملة التي تلقاها من النساء. كتب متذكرا: «لا أذكر حالة واحدة من القسوة نحوي من النساء.» ثم أردف: «في كل تجوالي هائما على وجهي وبؤسي، وجدتهن عطوفات ورحيمات على وتيرة واحدة.»
عندما وصلت كلمات فتيات البامبارا إلى بريطانيا، أصبحت موضع فضول وسرور. كانت «مشاعر بسيطة وشجية»، حسبما قال البعض، لكنها أظهرت أن بوسع هؤلاء الوثنيين أن يظهروا إنسانية اعتقد كثيرون أنها حكر على المسيحيين. تأثرت المؤلفة والناشطة السياسية جورجيانا كافنديش، دوقة ديفونشاير بهذه الكلمات وأعادت نظمها في قصيدة مقفاة ، ولحنتها:
امض ، أيها الرجل الأبيض، امض؛ ولكن احمل معك
مرتجى الزنوج، وصلاة الزنوج،
وذكرى رعاية الزنوج.
في الصباح، منح بارك مضيفته الأشياء الوحيدة ذات القيمة التي كان لا يزال يمتلكها: زرين نحاسيين من صدريته. •••
راجع بارك الآن تعليماته التي كانت واضحة، ولكنها ملحة. كان قد حقق واحدا من الأهداف الرئيسية التي حددتها له الرابطة الأفريقية، وهو: العثور على نهر النيجر وتحديد اتجاهه. ما تبقى - بصرف النظر عن الطلب المستحيل بأن يكتشف أيضا منبع النهر ومصبه - كان مهمة استخدامه «قصارى جهوده» لزيارة المدن والبلدات الواقعة على امتداده، وبخاصة تمبكتو. كان هذا هو الهدف الذي شرع بارك في تحقيقه. تتبع مسار النهر مسافة مائة ميل في اتجاه الشمال الشرقي، وصولا إلى سيلا في نهاية يوليو. وهناك، تغلب عليه أخيرا الإرهاق الناتج عما بذله من جهود. كتب يقول: «كنت مرهقا بسبب المرض، ومنهكا بسبب الجوع والمشقة، وشبه عار، وليس معي أي غرض ذي قيمة يمكنني أن أدبر به مؤنا، أو ثيابا، أو مأوى.» وفوق كل ذلك أدرك أنه كان متجها على نحو أعمق في منطقة أولئك «المتعصبين العديمي الرحمة»؛ المور. وخوفا من أنه إن قتل فستموت اكتشافاته معه، قرر أن يعود أدراجه، لكنه كان عليه أولا أن ينتزع من تجار سيلا كل المعلومات التي يستطيع انتزاعها عن تمبكتو، «الهدف العظيم للاستكشاف الأوروبي»، والتي قيل له إنها تقع على مسافة أبعد في اتجاه الشمال الشرقي. مما لا شك فيه أن أسئلة بارك ركزت على مضطهديه، وقيل له بحق إن المدينة كانت مليئة بالمسلمين الذين كانوا «أشد قسوة وعدم تسامح في مبادئهم من أي من القبائل المورية الأخرى في هذا الجزء من أفريقيا.» ذكر رجل أسود مسن، كان في زيارته الأولى لتمبكتو، كيف أن المالك في نزله كان قد بسط حصيرة على الأرض ووضع عليها حبلا، قائلا: «إن كنت مسلما فأنت صديقي، واجلس؛ ولكن إن كنت كافرا، فأنت عبدي، وبهذا الحبل سأقتادك إلى السوق.»
ومع ذلك، إن كان بمقدور أي أحد أن يتغلب على هذه الصعوبات، فإن الجوائز ستكون عظيمة، حيث بدا أن استفسارات بارك عن ثراء المدينة تؤكد الشائعات:
الملك الحالي لتمبكتو يسمى أبو أبراهيما؛ ويقال إنه يمتلك ثروات هائلة. ويقال إن زوجاته ومحظياته يلبسن الحرير، وإن كبار رجال الدولة يعيشون في أبهة كبيرة. كل نفقات حكومته تحمل، حسب ما قيل لي، على ضريبة على السلع، تجبى على بوابات المدينة.
بعدما انتهت أبحاثه، عاد بارك المنهك إلى الوطن. سافر بحذاء نهر النيجر في اتجاه الجنوب الغربي إلى باماكو، التي كانت في ذلك الوقت أكبر قليلا من قرية، حيث ترك النهر العريض ليمضي غربا نحو الساحل. كان الوقت هو الموسم المطير وكان السفر صعبا: تعين عليه ثلاث مرات أن يسبح في خضم مجار مائية فائضة، وهو يدفع حصانه أمامه، ودفتر يومياته مدسوس في قمة قبعته. وعلى بعد مسافة قصيرة من باماكو، سلبه اللصوص الأشياء القليلة التي كانت باقية بحوزته، ولم يعيدوا له إلا أسوأ قمصانه وبنطالا، لكنه أبى أن ييأس، وأمر كبير القرية التالية أحد خدمه أن يعثر على ملابسه وحصانه وأن يعيدهما إليه. أعطاه بارك الحيوان الهزيل على سبيل الشكر، قبل أن يتابع طريقه بجهد جهيد إلى بلدة كاماليا الصغيرة. بحلول ذلك الوقت كان في وضع خطر: كان محموما، وأحد كاحليه مصاب مما يعني أنه لم يكن بوسعه إلا أن يمشي وهو يعرج، ولم يكن معه طعام أو أغراض ليقايض بها. كان أمامه خمسمائة ميل أخرى إلى بيسانيا، وسرعان ما سيمضي به طريقه عبر براري جالونكادو الكئيبة، حيث كان يوجد المزيد من الأنهار الخطرة التي كان سيتعين عليه أن يعبرها ولا مأوى لخمسة أيام. كتب يقول: «كدت أن أحدد المكان الذي كان محكوما علي فيه ... بالهلاك.»
في كاماليا، حالف الحظ بارك بأن يصادف حسن ضيافة مثالية أخرى.
أبصر مجموعة من الناس ينصتون إلى رجل يقرأ من نص باللغة العربية. لاحظ القارئ، الذي كان تاجر رقيق يسمى كارفا تورا، بارك وسأله بابتسامة إن كان قد فهم ما كان مكتوبا في الكتاب. لم يكن بارك يقرأ العربية، لذا طلب تورا من أحد رفقائه أن يأتي بمجلد صغير كان قد جلب من الغرب. عندما فتحه بارك، وجد أنه كان «كتاب الصلاة المشتركة». شعر الرجلان بسعادة غامرة في تلك اللحظة - كان ما أسعد تورا هو حقيقة أن هذا الغريب ذا الأسمال البالية يستطيع قراءة الكلمات الإنجليزية التي لم يكن بوسع أي أحد آخر أن يفهمها؛ أما ما أسعد بارك فقد كان اكتشاف نص مسيحي ب «اللغة الإنجليزية» في غرب أفريقيا - ونشأت رابطة فورية بين الرجلين. عرض تورا أن يوفر لبارك مسكنا مجانا حتى ينتهي الموسم المطير، وقال إنه سيرشده بعد ذلك إلى نهر جامبيا مع مجموعة العبيد التي كان سيأخذها إلى الساحل. وقبل بارك عرضه. بعد ثلاثة أيام شعر بإعياء شديد لدرجة أنه لم يستطع السير، وظل في كاماليا طيلة الشهور السبعة التالية، وأخذ يسجل ملاحظات عن الحياة في المدينة عندما بدأ يسترد عافيته. أثناء هذا الوقت أصبح أول أوروبي يسجل أن المخطوطات كانت تستخدم في الداخل الغرب أفريقي.
عندما رحل تورا في رحلة عمل، ترك بارك في رعاية معلم مسلم يسمى فانكوما، والذي كان يمتلك عددا كبيرا من المخطوطات. كان قد عرض على بارك وثائق مماثلة في أماكن أخرى أثناء أسفاره، لكن الآن كان لديه الوقت ليناقشها بتفصيل:
مستعلما من المعلم حول الموضوع، اكتشفت أن بحوزة الزنوج (من ضمن مخطوطات أخرى) نسخة عربية من «بانتاتيك موسى» [الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم]، والتي يطلقون عليها «توراة موسى». هذا الكتاب ذو قيمة كبيرة حتى إنه عادة ما يباع بقيمة عبد من النخبة.
كان لدى السودانيين أيضا نسخ من المزامير ومن سفر إشعياء، وكانت تحظى بتقدير كبير، واكتشف بارك أن أناسا كثيرين في كاماليا كانوا يعرفون قصص العهد القديم؛ وفي ذلك قصص آدم وحواء، ومقتل هابيل، وطوفان نوح، وسيرة حياة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقصة يوسف وإخوته، وقصص موسى وداود وسليمان. وأصيب بالدهشة عندما وجد عددا من الناس الذين كان بوسعهم أن يسردوا عليه هذه القصص بلغة الماندينكا، وأذهلهم أن يكتشفوا أنه كان هو الآخر يعرفها.
استخدم فانكوما مخطوطاته لتعليم السبعة عشر صبيا والبنتين الذين كانوا في مدرسته. كان الصبية يتعلمون في الصباح والمساء ويؤدون الواجبات المنزلية لمعلمهم أثناء اليوم، وكان ذلك أثناء ما كان يعلم البنات. كان التلاميذ يتعلمون قراءة القرآن وتلاوة عدد من الأدعية، وعندما يصبحون جاهزين، كانت وليمة تعد ويجتاز التلميذ اختبارا، أو «[يأخذ] درجته»، على حد تعبير بارك. حضر المستكشف ثلاثة من هذه الاحتفالات، واستمع بغبطة إلى «الإجابات المميزة والذكية» التي أجاب بها كل واحد من التلاميذ. وعندما يصبح الممتحنون راضين، كانت الصفحة الأخيرة من القرآن توضع في يد التلميذ، ويطلب منه أو منها أن تتلوها جهرا. وأخيرا كان كل العلماء ينهضون، ويصافحون كل واحد من التلاميذ ويسبغون على كل واحد منهم لقب «بوشرين» أو عالم.
كان آباء الصبية يعطون المعلم عبدا أو السعر المعادل لذلك عند تخرج أطفالهم. (لم يقل بارك إن كان نفس الأمر ينطبق على الفتيات أم لا.) ذكر بارك أن هذا كان يحدث دوما إذا كان بمقدور الآباء تحمل تكلفته، وإلا يظل الصبي بمثابة الخادم المنزلي للمعلم إلى أن يتمكن من جمع أموال كافية ليفتدي نفسه بها. ومع أن التلاميذ كانوا يتلقون تعليما إسلاميا، فقد ذكر بارك أن معظم تلاميذ فانكوما لم يكونوا مسلمين، وأن هدف آبائهم من إدخالهم المدرسة كان يتمثل فقط في تعليم أطفالهم. لم يكن وجود مدرسة في كاماليا أمرا غير مألوف. إذ كان قد لاحظ أنه «كان ثمة تشجيع ... يولى للتعلم (على علاته) في أنحاء كثيرة من أفريقيا.»
بعد كتابة هذه الملاحظات عن هذا النظام التعليمي الأفريقي الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر، غادر بارك كاماليا في أبريل من عام 1797. سافر مع قافلة تورا المكونة من خمسة وثلاثين عبدا، الذين كان بعضهم قد بقي مكبلا بأغلال حديدية لسنوات وكان بالكاد يستطيع السير، ولكنهم كانوا الآن في طريقهم إلى حياة بائسة في الأمريكتين أو إلى ميتة مريعة أثناء نقلهم. استغرق الأمر شهرين لعبور الأميال «المملة والمرهقة». وعندما اقتربوا من بيسانيا ، التقى بارك بامرأة تتحدث الإنجليزية والتي كانت تعرفه قبل أن ينطلق في رحلته لكنها حينئذ ظنت خطأ أنه مسلم. عندما أخبرها بهويته، نظرت إليه «بدهشة عظيمة، وبدت غير مستعدة للإقرار بما شهدت به حواسها.» كان قد قيل لتجار نهر جامبيا منذ وقت طويل إن بارك قد أردي قتيلا في لودامار، ولم يتوقعوا أبدا أن يروه مجددا. •••
بلغ بارك فالموث قبل أعياد الميلاد المجيد لعام 1797 مباشرة، بعد غياب عن إنجلترا دام لعامين وسبعة شهور. ابتهجت بريطانيا باكتشافاته، وكان الأكثر ابتهاجا بها هم أعضاء الرابطة الأفريقية، الذين صار لديهم أخيرا ما يحتفلون به. كان بوفوي قد توفي سنة 1795، لذا أعد المستكشف سردا لرحلته مع سكرتير الرابطة الجديد، براين إدواردز. نشر كتاب «أسفار في المناطق الداخلية لأفريقيا» الذي تضمن خرائط جديدة رسمها رسام الخرائط البارز جيمس رينيل، في عام 1799. كان الكتاب عبارة عن قصة مغامرات واقعية، أعطى فيها بارك القراء الأوروبيين أول سرد صحيح عن بلاد السودان وشعبها، وسرعان ما صار من الكتب الأكثر مبيعا. وأصبحت تمبكتو ونهر النيجر حديث أوروبا.
كانت الرابطة الأفريقية قد نمت نموا هائلا في العقد الذي مضى منذ تأسيسها. في الخامس والعشرين من مايو من عام 1799، التقى أعضاؤها في حانة «ستار آند جارتر» في شارع بول مول، حيث هنأ بانكس الجمع على كتاب بارك، «الذي تلقاه الجمهور بقبول حسن.» وفي حين أنه لم يكن قد أحسن اختيار لوكاس وهوتون، فقد أظهر بارك «قوة لبذل الجهود، وبنية جسدية تتحمل المشقة، ورباطة جأش قادرة على تحمل الإهانات بصبر، وشجاعة للاضطلاع بمجازفات خطرة، وحسن تقدير لوضع حدود لجهوده عندما كان من المحتمل أن تكون الصعوبات التي واجهها مستعصية.»
كان موقف أوروبا تجاه أفريقيا قد تغير في العقد الذي مر منذ أنشأ نادي السبت الرابطة. كانت بريطانيا وفرنسا في خضم سلسلة طويلة من الحروب، وكان نابليون قد احتل مصر ليحاول تهديد المصالح البريطانية في الهند. كان ثمة قيمة استراتيجية لركن واحد على الأقل من القارة الأفريقية، وتحدث بانكس، الذي عمل دوما على تعزيز مصالح الأمة، صراحة الآن عن استغلال معلومات بارك الجديدة من أجل الربح، وذلك بالوسائل العسكرية. كان بارك قد فتح «بوابة على الداخل الأفريقي»، حسبما قال بانكس، يمكن «لكل أمة» أن تدخل من خلالها وتوسع تجارتها. وأضاف: «عن قريب ستجعل فصيلة من 500 من الجنود المختارين ذلك الطريق ميسورا، وستبني موانئ على [نهر النيجر] - إذا ركب 200 من هؤلاء سفينة ومعهم قطع حربية ميدانية فسيكون في مقدورهم التغلب على كل القوات التي يمكن لأفريقيا أن تجلبها في مواجهتهم.» وبالاستعانة بالتكنولوجيا الأوروبية، يمكن تلقين «المتوحشين الجهلة» المنتمين إلى الداخل الأفريقي كيفية التنقيب عن ذهبهم بطريقة أفضل، وسيكون من المرجح أن تزيد قيمة العائد السنوي، التي قدرها بأنها حاليا مليون جنيه إسترليني، بمقدار مائة ضعف.
وضع الاجتماع مذكرة لتقديمها للجنة المجلس الملكي الخاص للتجارة والمزارع، محددا أجندة استعمارية صريحة. نصحوا بأن «أول خطوة للحكومة يجب أن تتمثل في أن تؤمن للتاج البريطاني، إما بالغزو أو بالمعاهدات، سائر ساحل أفريقيا من أرجين إلى سيراليون؛ أو على الأقل أن تحصل على تنازل عن نهر السنغال.»
تزوج بارك في ذلك العام وعاد إلى اسكتلندا ليعمل طبيبا، لكن العمل لم يناسبه وسرعان ما اشتاق إلى العودة إلى أفريقيا. أخبر الكاتب الروائي والشاعر السير والتر سكوت أنه كان يعاني من خلل عصبي كان يجعله يستيقظ فجأة ليلا معتقدا أنه ما زال سجينا في خيمة علي في لودامار. عندما عبر سكوت عن استغرابه من أنه لا يزال يريد العودة إلى القارة، أجاب بارك قائلا «إنه يفضل أن يواجه أفريقيا وكل أهوالها عن أن يضيع حياته في جولات طويلة وشاقة بحصانه عبر تلال اسكتلندا، والتي كان مقابلها كافيا بالكاد للحفاظ على تماسك الروح والجسد.»
بحلول موسم شتاء عامي 1803-1804، كانت وزارة الحرب وشئون المستعمرات تناقش إرسال قوة عسكرية لاحتلال تمبكتو، بعدما تزايد قلقها من المحاولات الفرنسية للسيطرة على غرب أفريقيا. في النهاية اتفق على إعادة إرسال أنجح مستكشفي الرابطة الأفريقية مع فصيلة صغيرة من الجنود. أبحرت حملة بارك الاستكشافية الثانية هذه من إنجلترا في الثلاثين من يناير من عام 1805، وكلفت بأن تتبع مسار نهر النيجر «إلى أقصى مسافة ممكنة يمكن تتبعه إليها.»
إن كان العامل الرئيسي لنجاح رحلته الأولى هو طبيعتها التي لم تكن تشكل تهديدا - مدعومة بلطف مضيفي بارك، وقليل من الحظ الحسن، وقوة احتمال شخصية هائلة - فقد كانت الحملة الثانية تستهدف القتال. مضى بارك برتبة نقيب، وراتب 5000 جنيه إسترليني، و5000 جنيه إسترليني أخرى للنفقات، وفريق يضم خمسة وأربعين فردا، يشمل سرية من الجنود، وبحارة، ونجارين، وزوج أخته ألكسندر أندرسون، وصديقا من سيلكيرك، هو جورج سكوت. جند الجنود من جوري، وهي جزيرة قبالة ساحل السنغال كان الإنجليز قد استولوا عليها مؤخرا من الفرنسيين، لذا كانوا متأقلمين جزئيا مع غرب أفريقيا، لكن المرض ظل يودي بحياتهم بسرعة في الداخل. وبحلول وقت بلوغهم باماكو، كان واحد وثلاثون من الأوروبيين قد لقوا حتفهم. لكن الرهان على بارك كان أعلى من أي وقت مضى، وتابع طريقه بتصميم. بلغ سانساندينج في أكتوبر، حيث بنى مركبا شراعيا طوله أربعون قدما وأطلق عليه اسم قارب صاحب الجلالة «جوليبا»، وهو اسم نهر النيجر بلغة الماندينكا. واستأجر مرشدا، هو أمادي فطومي، واشترى ثلاثة بحارة عبيد للمساعدة في تشغيله، ولكن بحلول وقت استعدادهم لمغادرة سانساندينج لم يكن باقيا إلا خمسة أوروبيين، وكان أندرسون وسكوت قد توفيا.
لا بد أن الناجين بحلول ذلك الوقت كانوا يعرفون أنه من غير المحتمل أن تكتب لهم النجاة في المنطقة الداخلية، وأصاب اضطراب عقلي واحدا من الجنود على الأقل. ومع ذلك، لم يكن أي شيء سيجعل بارك يحيد عن مساره. أبلغ لندن في برقيته الأخيرة أن لديه «تصميما راسخا على أن يكتشف نهاية نهر النيجر أو أن يهلك دون ذلك»، مضيفا أنه إن فقد حياته فعلا، فعلى الأقل سيموت في النهر. أبحر قارب صاحب الجلالة «جوليبا» في نوفمبر من عام 1805، وانقطعت أخبار بارك بعد ذلك للأبد.
استغرق الأمر من الحكومة البريطانية ستة أعوام حتى تكتشف ما حدث. في عام 1811، تعقب واحد من مرشدي بارك السابقين فطومي، الذي كان قد كتب روايته عن الأيام الأخيرة للحملة الاستكشافية باللغة العربية. كان القارب «جوليبا» قد أبحر مع تيار النهر مسافة 1500 ميل، واختار بارك، الذي كانت تجربته مع «المور» لا تزال تطارده، ألا يرسو حتى يبلغوا الساحل. وكلما واجهوا تهديدا كانوا يشقون طريقهم خلاله وهم يطلقون النار، ومع انتشار الأنباء عن عدوان المسيحيين، كذلك انتشرت المقاومة في طريق تقدمهم. لا تذكر رواية فطومي البسيطة عن مرور «جوليبا» بتمبكتو سوى تلميحات عن الأيام الأخيرة للطاقم الذي أنهكته الأمراض بينما كان أفراده على شفير الجنون:
وصلنا إلى [كابارا]؛ ولدى مروري بها، جاءت ثلاثة زوارق صغيرة لتعترض طريقنا، فدرأناها بالقوة كما في السابق؛ ووصلنا إلى [تمبكتو]؛ ولدى مرورنا بها تعرضنا من جديد لهجوم من ثلاثة زوارق صغيرة أخرى، ودرأناه؛ ومررنا [بجورما]، وبعد مرورنا بها [جاءت] سبعة زوارق صغيرة في إثرنا، وبالمثل درأنا هجومها؛ وفقدنا رجلا أبيض، بسبب المرض؛ بعد ذلك لم يكن على متن [«جوليبا»] سوى أربعة رجال بيض، وأنا، وثلاثة عبيد كنا قد اشتريناهم، أي إن عددنا مجتمعين كان ثمانية؛ وكان لكل واحد منا 15 بندقية مسكيت، ملقمة جيدا، وجاهزة دوما للقتال ... جاء في إثرنا [ستون] زورقا صغيرا، فدرأنا هجومها بعد أن قتلنا كثيرا من السكان الأصليين، وهو ما كنا قد فعلناه في كل اشتباكاتنا السابقة.
في هذا القتال الأخير كان واحد من الجنود القليلين الباقين على قيد الحياة، وهو الملازم جون مارتين، في حالة تعطش وحشي للدماء وأخذ يطلق طلقات كثيرة لا داعي لها حتى إن فطومي أمسك بيديه وحاول أن يكبح جماحه. وقال لمارتين: «لقد قتلنا ما يكفي.» ثم أضاف: «فلنتوقف عن إطلاق النار!» حول الجندي غضبه إلى المرشد، لكن بارك تدخل لينقذه.
بجهد هائل نابع من الإرادة، بلغ المركب الدموي بلدة يلوا، في نيجيريا المعاصرة، في أوائل عام 1806، حيث غادرهم فطومي. كانوا على بعد خمسمائة ميل فقط من دلتا نهر النيجر، حيث يصب نهر النيجر في خليج غينيا، لكنهم لن يصلوا لأبعد من ذلك. مباشرة فوق شلالات بوسا شديدة الانحدار، تعرضوا لهجوم من ضفة النهر. انجرف المركب نحو ضفة النهر، وقفز بارك والأوروبيون الثلاثة الباقون إلى النهر، حيث غرقوا جميعا. •••
بحلول عام 1820 كانت الحكومة البريطانية قد أخذت على نحو متزايد تضطلع بدور الرابطة الأفريقية في استكشاف القارة. كان نفوذ الرابطة قد تضاءل وكذلك عدد أعضائها، من خمسة وسبعين عضوا في عام 1810 إلى ستة وأربعين بحلول عام 1819. كانت قد ملأت كثيرا من الفجوات في خرائط أفريقيا واستحدثت نموذجا جديدا للاستكشاف ستستند عليه الجمعيات الجغرافية التي كانت على وشك أن تظهر فجأة وبسرعة في سائر أنحاء العالم. ومع ذلك، كانت اكتشافات الرابطة قد أحرزت بتكلفة ما؛ إذ إن جميع «مستكشفيها»، باستثناء سيمون لوكاس، قد لقوا حتفهم خارج البلاد. وصل الألماني الشاب فريدريك هورنمان إلى فزان متنكرا في هيئة مسلم في عام 1799 وأرسل معلومة مفادها أن «تمبكتو هي بالتأكيد المدينة الأبرز والأهم في الداخل الأفريقي»، قبل أن يختفي. وبعد عشرين عاما بلغ بريطانيا نبأ موته في عام 1801 في نيجيريا الحالية. أرسل هنري نيكولز من خليج غينيا في عام 1804 للعثور على نهاية نهر النيجر، دون أن يدرك أن هدف بحثه كان هو نفس الموضع الذي كان قد انطلق منه. وتوفي في عام 1805، ربما بسبب الملاريا. وفي عام 1809 أرسلت الرابطة يوهان لودفيك بركهارت، الذي تجول في الشرق الأوسط تسعة أعوام، تعلم خلالها اللغة العربية وأعاد اكتشاف مدينة البتراء، التي كانت قد فقدت منذ ألف سنة، والمعبد العظيم لرمسيس الثاني في أبو سمبل، الذي كان مدفونا بالرمال. وعندما جهز نفسه أخيرا ليتجه صوب بلاد السودان في أواخر عام 1817، أصيب بالدوسنتاريا ومات.
في هذا الوقت كان بانكس قد صار مسنا. كان بدينا ومصابا بالنقرس وأمضى ساعات استيقاظه على كرسي متحرك، ومع ذلك استمر في رئاسة الجمعية الملكية حتى وفاته، التي حدثت في التاسع عشر من يونيو من عام 1820. استغرق الأمر ستة أعوام أخرى قبل أن يصل مستكشف أوروبي أخيرا إلى تمبكتو.
الفصل الخامس
القاعدة تهب للإنقاذ
أبريل 2012
مع شروق شمس يوم الإثنين جاء موكب جديد من السيارات من الشرق. وتقدم على طول الشارع الرملي الذي امتد مارا بمنزل إسماعيل، واصطبغت ألوان الصحراء القاتمة بألوان شاحنات التويوتا، وعلى كل منها مدفع رشاش محمول في الخلف إلى جانب حفنة من الرجال الذين أخذوا يتمايلون. وعلى خلاف السيارات التي كان إسماعيل قد رآها في اليوم السابق، سلكت هذه السيارات الطريق بتأن. وأثناء مرورها استطاع أن يرى أنه بدلا من أن ترفع راية الحركة الوطنية لتحرير أزواد ذات الألوان المتعددة حملت أعلاما سوداء منقوشا عليها باللون الأبيض حروف عربية. مضى القادمون الجدد إلى معسكر الجيش وأوقفوا سياراتهم عند راية الحركة الوطنية لتحرير أزواد ذات الألوان المتعددة وأحرقوها قبل أن يستبدلوا بها علمهم المستطيل الأسود. كان مكتوبا على أعلامهم «لا إله إلا الله».
بحلول الساعة العاشرة صباحا رن هاتف جانسكي. كانت مجموعة من القادمين الجدد قد توقفت أمام المسجد بالقرب من نصب شعلة السلام عند الطرف الشمالي الغربي للمدينة، حسبما قيل له، لذا ركب سيارته ليذهب ليرى من كانوا. سالكا الطريق الدائري مر بمجموعة من قادة المتمردين يقودون عرباتهم في الاتجاه الآخر. رن هاتفه مجددا. كانت مجموعة أخرى قد وصلت عند المستشفى. فاتجه جنوبا.
كان من شأن قائمة الجهاديين الذين وصلوا إلى تمبكتو في ذلك اليوم أن تمثل عددا من أهم «المجرمين المطلوبين» على مستوى العالم. كانت تضم اثنين من كبار قادة تنظيم القاعدة: يحيى أبو الهمام، «أمير إمارة الصحراء»، ومختار بلمختار، أمير كتيبة الملثمين في تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. كان كلاهما في العقد الرابع من عمرهما، وكانا من قدامى المحاربين في الحرب الأهلية الجزائرية وكان قد حكم عليهما بالإعدام غيابيا، وبحلول عام 2015 ستوضع مكافأة قدرها 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض على أي منهما أو قتله. كان يشاع أن الهمام كان متورطا في قتل رهينة فرنسية في الثامنة والسبعين من عمره في النيجر، بينما كان بلمختار - الذي كان من قدامى المحاربين في أفغانستان والذي عرف بمجموعة من الألقاب المتنوعة التي تشمل «الأعور» و«صعب المنال » - مطلوبا في سلسلة من جرائم القتل والخطف.
لكن هذين الرجلين سيلعبان أدوارا ثانوية في مستقبل المدينة، مقارنة برجلين آخرين وصلا إلى تمبكتو في ذلك اليوم: عبد الحميد أبو زيد وإياد آغ غالي. كان أبو زيد هو الآخر من قدامى المحاربين في الحرب الجزائرية، وكان أكبر سنا من الآخرين، وأكثر ما كان يميزه هو قصر قامته: كان طوله حوالي خمسة أقدام. كان «الأمير القصير» نجما صاعدا في تنظيم القاعدة لبلاد المغرب الإسلامي بفضل الأموال التي كان قد اكتسبها من عمليات الخطف، مما أدى إلى أن يحصل التنظيم على ملايين اليوروات. وقيل إنه يحتفظ بأمواله مدفونة في مكان سري في الصحراء، وإنه شوهد وهو يدفع لمقاتليه أجورهم بأوراق نقدية جديدة من عملة اليورو. وربما يكون أبو زيد قاسيا لا يرحم - في عام 2009 قتلت كتيبة الجهاديين التابعة له رجلا بريطانيا، هو إدوين داير، الذي كان قد وقع في الأسر بالقرب من تمبكتو - وأينما كان يذهب، كان رهائنه الغربيون يربطون بالقرب منه. وعلى الرغم من ثرائه عاش حياة تقشف، وكجهادي صالح كان يحمل بندقيته الكلاشينكوف في جميع الأوقات. كان يتكلم بهمهمة قيل إنها مستوحاة من نبرة بن لادن الناعمة. وكان يشرب الكوكاكولا ويستمتع باللبن الممزوج بالأرز والبلح.
أما آغ غالي فكان من نفس عشيرة الطوارق التي كان منها محمد آغ ناجم. ومثل آغ ناجم. كان قد انضم إلى عسكر القذافي في ريعان شبابه لكنه عاد إلى مالي في ثمانينيات القرن الماضي ليشق طريقه العملي كأحد الثوار. كانت له لحية سوداء ووجه طفولي، ومع أنه فيما مضى كان يستمتع بالويسكي والموسيقى، أصبح منذ ذلك الحين متطرفا. ذكر دبلوماسي أمريكي في تحليل له أنه ألقى بظلال كئيبة على شمال البلاد وكان يعاود الظهور «مثل القرش الرديء الذي يضرب به المثل» ليأخذ حصته كلما دفعت فدية. كانت قدرته على أن يلعب كلا الدورين خرافية: أرسلته الحكومة المالية ذات مرة ممثلا لها في المملكة العربية السعودية، لكنه طرد لصلاته بتنظيمات دينية متطرفة. وعندما رفض عرضه لقيادة الحركة الوطنية لتحرير أزواد، استحدث جماعة جهادية جديدة تسمى أنصار الدين، وأدت هذه الجماعة دور جناح محلي لتنظيم القاعدة. في ذلك اليوم، كان في تمبكتو لاختطاف انتصار الحركة الوطنية لتحرير أزواد.
في الساعة الثامنة صباحا، ذهب القاضي لرؤية زميل له، وقررا أن يذهبا إلى المدينة على دراجة القاضي البخارية الصغيرة لمعرفة ما يحدث. في السوق الصغير شاهدا شاحنتي تويوتا تتوقفان بجوار مسجد صغير. كانت كل واحدة منهما مكدسة برجال مسلحين يضعون عمائم تنحدر أذيالها إلى خصورهم، وفي الشاحنة الأمامية كان يوجد رجل ذو أسنان لامعة مميزة ولحية مصبوغة بالحنة والذي تعرف عليه القاضي بأنه عمر ولد حماها. كان حماها، الذي كان معروفا لمعظم الأشخاص باسم «ذو اللحية الحمراء»، من أهل تمبكتو وقائدا جهاديا.
قال حماها للناس المحتشدين في السوق بلغة فرنسية جيدة: «تعالوا، تجمعوا حول السيارة»، بينما قفز مقاتلوه لينزلوا من الشاحنتين الرباعيتي الدفع ليجلبوا الناس إليه. ثم أضاف: «لم نأت لنقتلكم.» وأردف: «جئنا باسم الإسلام.»
عندما اجتمع حشد من الناس، بدأ حماها يشرح مهمتهم.
قال إنهم لا يسعون إلى الاستقلال عن مالي، ولا يريدون أن يتسببوا في إلحاق أي أذى بالناس. لقد كانت تمبكتو يوما ما مدينة إسلامية عظيمة، وهم ببساطة يريدون لها أن تعود عظيمة مجددا. المشكلات التي كان الناس يعانون منها - الفقر، والبطالة، والتعاسة - وجدت لأنهم كانوا قد ضلوا عن شريعة الله. أما الآن، وأن الله قد أتاح لهم أن يحتلوا المدينة، فإن مشيئته سبحانه هي أن يكفلوا أن تعيش تمبكتو تبعا لشريعة الإسلام.
بعد خطبته، تلقى الأسئلة، وعندما انتهى من الرد عليها، ابتعد مسافة قصيرة وبدأ رجاله يحشدون جمهورا جديدا. استمر على هذا النحو معظم اليوم، وفعل جهاديون آخرون نفس الأمر، حتى تنقل رسالتهم إلى الناس.
لم يمض وقت طويل حتى أصبح يغلب على جلسات الأسئلة والأجوبة هذه شكاوى حول عمليات النهب. استمع الجهاديون. ثم بدءوا يوزعون أرقام هواتف يمكن لأصحاب المظالم أن يتصلوا بها، ومن ذلك الحين فصاعدا، كلما واجه أي شخص مشكلة مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد - عندما كانت سيارة أحدهم أو دراجته البخارية تؤخذ أو ينهب متجره - كانوا يتصلون بالجهاديين، وإذا كانت الأغراض المسروقة أملاكا خاصة، كان من شأن الجهاديين أن يأمروا أفراد الحركة الوطنية لتحرير أزواد بإعادتها. تذكر سانيه شريفي ألفا، صديق حيدرة منذ الطفولة والرئيس السابق لهيئة السياحة في المدينة، قائلا: «قال أفراد جماعة أنصار الدين إن نهب الأشخاص العاديين لم يكن أمرا مقبولا.» وأضاف: «إن كان الأمر ضد الدولة، فهذا مقبول، ولكن إن كان ضد مواطنين عاديين، فلا يحق لهم فعله. وفي كل مرة كان شخص ما يستولي على ملكية خاصة، كان أفراد جماعة أنصار الدين - وعناصر من تنظيم القاعدة أيضا - يأخذون على عاتقهم أمر إعادتها».
كانت بعض الأصول الحيوية المملوكة للدولة محمية هي الأخرى. كانت المدينة في وضع «كارثي» بعد عمليات النهب، حسبما قال المتحدث باسم جماعة أنصار الدين، سندة ولد بوعمامة، لذا بادروا إلى محاولة إصلاح ذلك. تأكدوا من تأمين المرافق - وفي ذلك إمدادات المياه، ومحطة كهرباء شركة طاقة مالي، ومعدات الاتصالات - بالإضافة إلى راديو بوكتو والمستشفى. وفي ليلة يوم الأحد كان رئيس هيئة الخدمات الصحية في تمبكتو قد تلقى اتصالا هاتفيا من أحد مساعديه الذي أخبره بأنه لم يعد لديه مكتب: كان قد نهب وأتلف. وفي صباح يوم الإثنين ذهب آغ غالي إلى المستشفى بنفسه وسأل اختصاصي الصحة عما كان ناقصا. كانت السيارات، وفي ذلك عربات الإسعاف، قد سرقت، بالإضافة إلى الآلات واللوازم الطبية، لذا أحضر آغ غالي شاحنتين ليستعاض بهما عنها.
بعد موجة التدمير التي كانت قد اجتاحت المدينة يوم الأحد، أعجب الناس بذلك. تذكر ديادي قائلا: «كانوا بمثابة أطباء نفسيين، وعرفوا كيف يكسبون رضا الناس.» ثم أضاف: «بدءوا بالإصغاء. وإذا كان ثمة أناس محبطون، أو أناس قد سرقت أشياؤهم، كان من شأنهم أن يصلحوا ما حدث ويحاولوا شراء احترامهم.» واعترف جانسكي نفسه بأن آغ غالي كان «زعيما.»
ومع ذلك لم يكن النهب قد توقف كليا، وفي وقت لاحق في يوم الإثنين ذهب كبراء المدينة لرؤية آغ غالي ليشتكوا له: كانت بيوت العائلات لا تزال تتعرض للاقتحام، حسبما قالوا، وكانت الأشياء تتعرض للسرقة أو التدمير. في تلك اللحظة، أمر زعيم جماعة أنصار الدين أفراد الحركة الوطنية لتحرير أزواد بالخروج عن وسط المدينة بالكامل. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، أمسك مقاتلوه الجهاديون بزمام الأمور في المدينة، بينما أصبحت الأحياء الجنوبية، وفي ذلك المطار وضفة النهر، هي نطاق سيطرة أفراد الحركة الوطنية لتحرير أزواد العلمانيين. قال سانيه شريفي ألفا: «كان لأفراد الحركة الوطنية لتحرير أزواد الحق في أن يأتوا وينجزوا شئونهم هنا، وأن يشتروا احتياجاتهم، ولكن لم يكن مسموحا لهم بالبقاء في المدينة بعد الساعة الثامنة مساء.» وعندما كانوا يأتون إلى المدينة، كان يتعين عليهم أن يأتوا دون أسلحة أو أعلام، في سيارات بدون مدافع.
ومع ذلك، كان من شأن تمبكتو أن تدفع ثمن حماية آغ غالي لها. ففي مساء ذلك اليوم، دعا زعيم جماعة أنصار الدين الأئمة للمجيء إلى معسكر الجيش ليشرح لهم أنهم «سيقاتلون حتى الموت» أولئك الذين أرادوا أن يتحدثوا عن إقامة جمهورية علمانية - بعبارة أخرى، الحركة الوطنية لتحرير أزواد - وحدد متطلبات النظام الديني في الحاكم الجديد.
أذيعت تفاصيل فلسفة آغ غالي السياسية على راديو بوكتو في وقت لاحق من ذلك الأسبوع. بدأ بالاستشهاد بحديث محل خلاف يزعم فيه أن النبي محمد قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة.» وقال إن جماعة أنصار الدين ليست جماعة عرقية أو قبلية أو عنصرية، وإنما جماعة إسلامية تعادي الكفار والمشركين. وأضاف أن معاناة المسلمين كانت جراء قوانين اليهود والنصارى:
لا يخفى على أحد حجم المعاناة التي يعاني منها مجتمعنا المسلم، ومن أعظم ذلك تعطيل الشريعة الإسلامية، التي أكرمنا الله بها، واستبدال القوانين الوضعية المستوردة من اليهود والنصارى وأتباعهم بها، وقد نشأ عن ذلك من الظلم والعدوان والفسوق والعصيان والفقر والحرمان ما لا يعلمه إلا الله.
وتابع يقول، إنه لهذه الأسباب:
اجتمع إخوانكم من المجاهدين ومن جماعة أنصار الدين وتعاهدوا على نصرة الحق وإقامة الدين ورفع الظلم عن المظلومين، وجمع شمل المسلمين، وتوحيد كلمتهم على كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
من أجل النجاح في مسعاه، طلب آغ غالي ثلاثة أشياء من أهل تمبكتو. أولا، دعا «شرائح المجتمع المسلم كافة إلى إعانتنا على إقامة الدين»، ونشر العدل والأمن والحكم بين الناس بالقسط، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثانيا، قال: «ندعو إخواننا التجار» إلى مواصلة إمداد المدينة بالمواد الغذائية الأساسية والوقود والأدوية؛ لأن «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.» وأخيرا، يتعين على الناس كافة، وخاصة «أصحاب الكفاءات والقدرات» الوقوف مع المجتمع، وإفادة الناس، بكل ما أمكن من دعم مالي أو تطوع؛ إذ إنه مكتوب في القرآن الكريم:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
في مساء يوم الإثنين، بدأت تمبكتو أول ليلة لها في ظل الشريعة الإسلامية. •••
لقي وصول الجهاديين ارتياحا لدى حراس المخطوطات. فقد ظنوا أنه مهما كانت الأفكار الغريبة التي كانت لدى هؤلاء الناس عن العقيدة الإسلامية، فإنهم بالتأكيد لن يمثلوا تهديدا لما كان، في نهاية المطاف، في معظمه نصوصا إسلامية. بل إنهم حتى ربما يساعدون في حمايتها من اللصوص.
كان عبد الله «إير مالي» شاباني - الذي كان رجلا بدينا، ولقب تيمنا بالخطوط الجوية الوطنية في الماضي بسبب سرعته في ملعب كرة القدم - جالسا قبالة مبنى معهد أحمد بابا الجديد في سانكوري صباح يوم الإثنين عندما رأى سيارتين تتوقفان أمام المبنى والعديد من الرجال المسلحين يدخلونه. بعد لحظة تفكير وقف ولحق بهم. في داخل المجمع، رأى شابين في الدور الأرضي والعديد من الشبان الآخرين في المكاتب بالأعلى، وكلهم مسلحون، وفكر في أنه من الحكمة أن يغادر. وبعدما عاد ليجلس خارجا، سمع كثيرا من الصياح آتيا من المبنى، وسرعان ما عاود الرجال الظهور، وهم يحملون حقيبة بلاستيكية مليئة بالأسلاب. شاهدهم يصعدون إلى سياراتهم ويمضون بها مبتعدين.
بعد ساعة، وصلت مجموعة أخرى، في شاحنة صغيرة عليها علم أسود. كان قائدهم رجلا ملتحيا بدينا وبدا أجنبيا. اقترب إير مالي منه وقال له إن «المهووسين» كانوا قد جاءوا وزاروا المكان. كان قد سمع قدرا كبيرا من الجلبة لكنه لم يعرف ماذا فعلوا. سأله الجهادي: «هل ما زالوا هناك؟» عندما أجاب إير مالي بالنفي، قال القائد إنهما ينبغي أن يدخلا معا.
في الداخل، وجدا المكاتب محطمة والنوافذ مكسورة. فكر إير مالي في أنه لا بد أن الرجال كانوا يفتشون عن مبالغ نقدية؛ لأنه كانت توجد هواتف محمولة ملقاة على الأرض في أنحاء المكان، ولكنهم لم يهتموا بأخذها. وبدا أيضا أنهم قد حاولوا فتح الخزينة، ولكن لم يحالفهم النجاح.
سأله القائد: «أين العاملون؟»
قال إير مالي: «ذهبوا.» ثم أردف: «لاذوا بالفرار.»
صرح القائد بجدية بأنه يجب الحفاظ على المركز؛ لأنه كان يضم تاريخ الناس؛ فقصص آبائهم وأجدادهم كانت كلها محفوظة هنا. وسأل إير مالي إن كان يعرف أي أحد يمكنه أن يأتي ليقيم الضرر اللاحق.
شعر إير مالي بارتياح يغمره: بدا له أنه يمكن حمل الجهاديين على أن يفهموا. وحتى إن كان كل شيء آخر قد تعرض للنهب، فيمكن على الأقل إنقاذ هذا المكان. اتصل هاتفيا بمدير حسابات المعهد وشرح له الأمر. في أول الأمر قال إنه لا يستطيع القدوم، ولكن إير مالي ألح عليه، ووصل المدير في عصر ذلك اليوم وجرد المحتويات. قال إنه ينبغي نقل كل الأشياء القيمة الباقية إلى مكان آمن؛ أجهزة الكمبيوتر، والأثاث - كل شيء عدا المخطوطات. كانت المخطوطات في مكان آمن ولن تنقل إلى أي مكان. على أي حال، لقد أظهر اللصوص آنفا أنهم لم يكونوا مهتمين بأخذها.
عندما أجري الجرد، أعطى المدير قائمة بالأغراض المفقودة للجهاديين، الذين قالوا إنهم سيتحرون الأمر. وأضافوا أنهم سيرسلون أشخاصا في اليوم التالي لحراسة المبنى.
مرت عدة أيام، ولكن لم يأت أحد.
في تلك الأثناء أمضى إسماعيل ديادي حيدرة جل يوم الإثنين في مكتبة فوندو كاتي الخاصة به، منتهيا من مهمة نقل مخطوطاته. وفي عصر ذلك اليوم كان جالسا تحت الشجرة التي في فناء منزله مع أحد أصدقائه عندما توقفت سيارة في الخارج. كان يوجد خمسة رجال مسلحون في الخلف واثنان في الأمام، واستعلم قائدهم عن المسئول عن المنزل. وقبل أن يتمكن إسماعيل من الكلام، قال صديقه إن المدير لم يكن موجودا.
قال: «لقد ذهب إلى باماكو.» ثم أضاف: «لاذ بالفرار.»
تساءل المتمرد: «ما هذا المكان؟» ثم أردف: «هل هو مكتب؟» «كلا، إنها مكتبة.» «ماذا يوجد في داخل هذه المكتبة؟» «كتب. مصاحف.»
قال الرجل: «حسنا.» ثم أردف: «إن كانت مصاحف، فلن يلمسها أحد إلى أن يعود مالك المكان.»
انطلقت الشاحنة الصغيرة مغادرة. وعلى بعد خمسين ياردة في الشارع توقفت ورجعت للوراء، ونزل الجهادي منها وذهب ليخاطب الرجل الذي كان يملك المتجر المجاور. ظن إسماعيل أنهم كانوا يحاولون التحقق مما قاله صديقه.
قال إسماعيل لرفيقه: «يجب أن نظل هادئين.» ثم أضاف: «أنا الذي سأتحدث إن سألنا مجددا.»
اشترى الجهاديون بضعة أشياء من المتجر، من ضمنها السكر والشاي، ثم عادوا. تذكر إسماعيل قائلا: «لقد كانت لحظة حساسة وصعبة للغاية.» ثم أردف: «كانوا على مسافة لا تزيد عن خمسة أمتار من المكتبة.»
قال قائدهم: «أنا أعرفكما الآن، أنتما الاثنان، لقد رأيتكما.» ثم أردف: «إن حدث شيء لهذا المنزل، فسآتي بحثا عنكما.»
قال إسماعيل: «لا مشكلة.» ثم أضاف: «الجميع هادئون. ولن يلمس أحد أي شيء هنا.»
بعدما غادر الرجال، استدار صديق إسماعيل نحوه مخاطبا إياه. وقال: «سيرجع أولئك الأشخاص مرة أخرى.» ثم أضاف: «يجب أن ترحل عن هنا. اترك هذه المدينة، لأنك معروف؛ الجميع يعرفونك. في النهاية سيأتون للبحث عنك.»
قال إسماعيل: «ربما.» ثم أضاف: «أجل.»
الفصل السادس
سوف تكون من نصيبي
1824-1830
ربما يكون جوزيف بانكس قد مات والرابطة الأفريقية في انحدار، ولكن في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر كان منافس أوروبي جديد على وشك أن ينضم إلى سباق الوصول إلى تمبكتو. في الثالث من ديسمبر من عام 1824، تلقت اللجنة المركزية للجمعية الجغرافية المشكلة حديثا في باريس معلومة مثيرة للفضول من أحد مسئوليها المؤسسين ، رسام الخرائط آدم فرانسوا جومار. بحسب محضر اجتماع الجمعية:
أعلن السيد جومار أن أحد الأعضاء تبرع بألف فرنك ... لمكافأة أول رحالة يشق طريقه حتى مدينة تمبكتو عن طريق السنغال، والذي يتحصل على ملاحظات مؤكدة ودقيقة عن موقع هذه المدينة، وعن مسار الأنهار التي تجري في المنطقة المجاورة لها، وعن التجارة التي هي مركزها؛ ومعلومات مرضية للغاية حول البلاد التي بين تمبكتو وبحيرة تشاد، بالإضافة إلى اتجاه وارتفاع الجبال التي تشكل حوض السودان.
من المؤكد أن فكرة مكافأة تمبكتو قد أسرت خيال المائتين وسبعة عشر عالما الذين كانوا قد أنشئوا الجمعية الجغرافية؛ إذ إن قيمتها بدأت تتعاظم على الفور. فقد أضيف إليها على الفور مبلغ ألف فرنك على سبيل التبرع من أجل «الاكتشافات الجغرافية» من الكونت جريجوري أورلوف، الذي كان عضوا في مجلس الشيوخ الروسي وكان يعيش في فرنسا، مما ضاعف الجائزة، ثم ضاعفها مجددا وزير البحرية الفرنسية. وحتى لا يتفوق عليه أحد، أضاف وزير الشئون الخارجية ألفي فرنك أخرى، وتبرع وزير الداخلية بألف فرنك إضافية. قدم عدة أعضاء آخرون المزيد، بحيث بلغت قيمة الجائزة في أوائل عام 1825 ما يعادل 10 آلاف فرنك وهو ما كان مبلغا ضخما، أضافت إليه الجمعية - التي كانت ستقرر من هو الفائز - الوعد بمنح الفائز جائزة رفيعة هي «الميدالية الذهبية الكبرى للاستكشاف ورحلات الاكتشاف» إلى جانب المبلغ النقدي.
ومع ذلك، لم يكن استحقاق هذا المبلغ الكبير أمرا سهلا. بالإضافة إلى كون المتنافس المنتصر «محظوظا بما يكفي لأن يتغلب على كل الأخطار المتعلقة ببلوغ تمبكتو» أعلنت «نشرة الجمعية الجغرافية الفرنسية» أنه يتعين عليه أن يتحصل على حقائق مفيدة عن جغرافيا البلاد، وإنتاجها الزراعي، وتجارتها. تحديدا، طلبت الجمعية خريطة مستندة على الملاحظات الفلكية، وتقريرا مكتوبا بخط اليد يحتوي على معلومات عن طبيعة الأرض، وعمق الآبار والمياه الموجودة فيها، وعرض المجاري المائية والأنهار وسرعة جريانها، ولونها ونقاوتها، ونتاج الأرض التي تمدها بالمياه، والمناخ، وانحراف الإبرة المغناطيسية وميلها، وأنواع الحيوانات التي تعيش هناك. كان يتعين أيضا على المتسابقين أن يجلبوا معهم عينات من الأحافير، والأصداف، والنباتات، ودراسة تفصيلية عن سكان المنطقة:
عن طريق مراقبة الناس، على [المستكشف] استقصاء عاداتهم، واحتفالاتهم، وملابسهم التقليدية، وأسلحتهم، وقوانينهم، وعبادتهم، والطريقة التي يتغذون بها، وأمراضهم، ولون بشرتهم، وشكل وجوههم، وطبيعة شعرهم، وأيضا أهداف تجارتهم المختلفة.
لأي شخص عاش في بلاد السودان، كان من شأن قراءة هذا أن تكون مقلقة. ومع ذلك، كما كان الحال مع الرابطة الأفريقية، أجريت الدراسة بداعي الجغرافيا - كانت «حقلا شاسعا يتعين تعهده من أجل معرفة الأجناس البشرية»، حسبما أعلنت «النشرة»، و«من أجل تاريخ الحضارات، ومن أجل لغاتها، وملابسها التقليدية، وأفكارها الدينية!» - وأيضا كانت تلك هي بالضبط نوعية المعلومات التي تتطلبها أي قوة استعمارية. كان من شأن الكرم الذي أغدق به الوزراء أموال الحكومة أن يكون مثيرا للريبة. في الواقع، كانت «الجائزة الممنوحة لتشجيع القيام برحلة إلى تمبكتو» تشبه كثيرا محاولة وافد متأخر لإيجاد سبيل له إلى مباراة الاستكشاف الأفريقي التي بدأها منافسه قديم العهد. أقرت «النشرة» بذلك: كانت بعثة للحكومة البريطانية إلى وسط أفريقيا في عام 1823 هي التي جذبت انتباه الأوروبيين مجددا إلى القارة، وكان من الطبيعي أن تولي الجمعية الجغرافية الفرنسية، التي لم يكن قد مر على تأسيسها سوى ثلاث سنوات، وجهتها إلى هذا الاتجاه. كان من مصلحة فرنسا التجارية أن تجد طريقا إلى الداخل الأفريقي يقتفي أثر الطريق الذي سلكه مونجو بارك، وهو ما من شأنه أن يرتبط ارتباطا ملائما بالمستعمرات الفرنسية، القائمة منذ فترة طويلة، في السنغال.
مع انتشار نبأ الجائزة، أشيع أن ستة مغامرين كانوا يعدون العدة لمحاولة الوصول إلى المدينة، ولكن كان يوجد شخصان هما من أصبحا بوجه خاص مقترنين بالسباق المحفز حديثا إلى تمبكتو: رينيه كاييه والميجور ألكسندر جوردون لينج.
كان لينج هو من سيرسل «أول خطاب على الإطلاق يكتبه مسيحي من ذلك المكان»، على حد تعبير القنصل البريطاني في طرابلس، هانمر وارينجتون. عمل لينج، الذي كان ابن مدير مدرسة من أدنبرة، لفترة قصيرة معلما هو الآخر قبل أن يهرب إلى الجيش ويرسل إلى أقاليم غريبة هي بربادوس وجامايكا وسيراليون، التي أرسل إليها في عام 1819. في غرب أفريقيا قاد عددا من الحملات إلى الداخل، مبديا شجاعة، وصلابة جسدية، ومقدرة على تعزيز الذات وهي صفات ستصبح أساسية في محاولة الوصول إلى تمبكتو التي كانت بالفعل قد بدأت تتبلور في رأسه. لقد كتب إلى أصدقاء له في عام 1821: «لقد كان لدي طيلة أعوام كثيرة رغبة قوية في التوغل إلى الداخل الأفريقي، وقد تزايدت لدي تلك الرغبة تزايدا عظيما بوصولي إلى الساحل [الخاص بغرب أفريقيا].»
في عام 1824، أرسل إلى الديار، معتل الصحة، ليكتب تقريرا لوزير الدولة للحرب والمستعمرات، اللورد باتهورست، عن الهزيمة الكارثية للبريطانيين على يد إمبراطورية الأشانتي في نسامانكو. مستعينا بالتملق والاسترضاء، حظي الميجور البالغ من العمر تسعا وعشرين سنة بقبول باتهورست الذي عينه قائدا ل «حملة إلى تمبكتو»، وكان ذلك من دواعي غضب عارم لدى قائده المباشر في سيراليون، السير تشارلز تيرنر، الذي اشتكى من أن لينج كان «يفتقر إلى الحكمة، وإلى الانضباط العسكري، وجبانا» وأن «أعماله العسكرية كانت أسوأ [حتى] من نظمه للشعر.» وفي مايو من عام 1825 وصل لينج إلى طرابلس، حيث استقبله بترحاب وارينجتون، الذي كان سكيرا ومحبا لوطنه، وكان يشاع أن زوجته كانت ابنة غير شرعية للملك جورج الرابع، وعلى الفور دخل في علاقة عاطفية صاخبة مع ابنة القنصل، إيما. وتزوجا في ضيعة والدها الكبيرة في ضواحي المدينة في الرابع عشر من يوليو، قبل أربعة أيام من انطلاق العريس في رحلته إلى تمبكتو. كان وارينجتون قد رأى كثيرا من المستكشفين الذين ينطلقون إلى هلاكهم في الصحراء ورفض أن يسمح للعروسين أن يتمما زواجهما حتى عودة لينج. وفي واحدة من أكثر المكاتبات التي تلقتها وزارة الحرب والمستعمرات غرابة، كتب إلى باتهورست يقول: «سأحرص بشدة على أن تظل ابنتي طاهرة وعفيفة كالثلج.»
استأجر لينج تاجرا، هو الشيخ باباني، ليأخذه إلى تمبكتو مقابل مبلغ 2500 دولار، ودفع له ألفا مقدما. كان لدى كل من المستكشف والقنصل ثقة كبيرة في الشيخ باباني، الذي قيل إنه عاش في المدينة الغامضة أعواما كثيرة. كان رجلا «ممتازا في كل شيء»، حسبما أورد لينج، «هادئ الطبع، غير مؤذ، ومسالما»، بينما اعتبره وارينجتون «من خيرة من رأيت في حياتي، وذو طبع معتدل للغاية، ويتصف بأكثر طلعة جذابة وقعت عليها عيناي.» اتفق على أن يأخذ الشيخ لينج إلى تمبكتو في شهرين ونصف، وفي نهاية تلك المدة سيترك لينج في رعاية صديقه المقرب، «الشيخ الكبير والزعيم مارابوط مقتة»، الذي كان لديه من النفوذ ما يضمن للمستكشف مرورا آمنا إلى الساحل. بخلاف باباني، ضمت الحملة الاستكشافية بحارين أفريقيين، كان لينج يأمل أن يبنيا له قاربا يبحر به في نهر النيجر؛ ومترجما يهوديا؛ ونافخ بوق عسكريا كثير الأسفار، مولودا في جزر الكاريبي، يدعى جاك لي بور، والذي كان الخادم الشخصي للمستكشف. كان النهج الذي كان لينج ينوي أن ينتهجه تنقصه الفطنة: كانوا سيسافرون في ملابس إسلامية، ولكن لئلا يخطئ أحد في تحديد هويتهم الحقيقية، كان سيتلو صلوات مسيحية على مساعديه كل يوم أحد، حيث سيظهرون جميعهم معا «مرتدين ملابس رجال إنجليز.»
انطلقت الحملة الاستكشافية إلى الصحراء في أوج فصل الصيف، عندما كان مقياس الحرارة يصل دوما إلى 120 درجة وكانت الأرض جدباء لدرجة أنه، حسب لينج، «كان العشب الذي يمكن العثور عليه يماثل في قلته ما يمكن أن تجده في قعر منجم قصدير في كورنوول.» استغرق الأمر قرابة شهرين للوصول إلى مدينة وواحة غدامس القديمة، على بعد أقل من ثلاثمائة ميل من طرابلس، بعد أن قاد باباني القافلة في طريق ملتو مسافة ألف ميل. أصاب العرج سبعة جمال في هذا الجزء الأول من الرحلة، بينما نفد طعام الرجال وتراجعت حصصهم من الماء حتى وصلت إلى آخرها. أيضا تحطم معظم معدات لينج العلمية، وكذلك بندقيته الوحيدة، التي كان جمل قد داس عليها «بخفه المتورم الكبير.»
لكن روح لينج الرومانسية كانت هي ما مثل معظم التهديد المبكر الكبير للحملة الاستكشافية. ففي غدامس تلقى حزمة من الخطابات من عروسه الجديدة، من بينها صورة شاحبة لها كانت قد رسمت في طرابلس. جعله مظهر حبيبته الدال على إصابتها بالسل يدخل في نوبة هيستيرية. في صباح اليوم التالي كتب إلى وارينجتون، مهددا بالتخلي تماما عن مهمته إذ كان جليا أن إيما مشتاقة إليه:
إن حبيبتي إيما مريضة، ومكتئبة، وتعيسة - تطارد مخيلتي عيناها الغائرتان، وخدها الشاحب، وشفتها عديمة اللون، ووداعا للصمود - لو كنت على مسيرة يوم من تمبكتو، وبلغني أن حبيبتي إيما مريضة، فسأرجع، وأقتفي أثر خطواتي عائدا إلى طرابلس؛ ما تمبكتو؟ وما نهر النيجر؟ ما أهمية العالم لي دون حبيبتي إيما؟
ولكن بحلول الساعة السادسة مساء، كان قد تعافى من هذه النوبة الرومانسية وعاد ليكتب من جديد، طالبا أن يلتمس له العذر عن «اضطرابه صباحا.» في اليوم التالي كان يتعهد مجددا بأن يؤدي واجبه «مثل رجل طروادي.»
بعد البقاء ستة أسابيع في غدامس، غادرت قافلة الشيخ باباني صوب الجنوب الغربي، ووصلت عين صالح، في إقليم توات، في الثاني من ديسمبر. هنا، بعيدا عن متناول السلطات الطرابلسية، بدأ الباباني يتغير: كان حينئذ «معوزا وجشعا إلى أبعد حد»، كما كتب لينج. في التاسع من يناير انطلقوا من جديد. كان يشعر أفراد القافلة بالتوتر. كانت كل شجيرة بعيدة تعتبر عصابة من لصوص الطوارق، وفي إحدى المرات ظن عن طريق الخطأ أن لينج هو مونجو بارك، لكنه لم يعر اهتماما كبيرا للخطر الذي انطوى عليه ذلك. في سهل تنزروفت القاحل الكبير، الذي كان «منبسطا مثل مسطح بولينج أخضر، ومنعدم الخضرة مثل جزيرة ميلفيل [في الدائرة القطبية الشمالية] في ذروة الشتاء»، انضمت إليهم مجموعة مدججة بالسلاح من طوارق الأهقار على جمال سريعة، وسارت جنبا إلى جنب مع القافلة. وبعد بضعة أيام، بعد ما وصفه لينج بأنه فعل ينطوي على «خيانة خسيسة» من جانب الباباني، أحاط الطوارق في صمت بخيمته في الساعة الثالثة فجرا وأطبقوا عليه. حاول المترجم أن يلوذ بالفرار لكنهم أمسكوا به وقتلوه، وحدث الأمر نفسه مع واحد من البحارين الأفريقيين. جرح الآخر في ساقه، بينما تمكن جاك لي بور من الهرب. أما لينج فأصيب بطلقات وطعن أربعا وعشرين طعنة وترك بعدما اعتبر في عداد الأموات.
بطريقة ما، تمكن المستكشف المثخن بجراح خطيرة من أن يصعد على جمل في ذلك الصباح. حمله الجمل مسافة أربعمائة ميل أخرى إلى منطقة شيخ قبيلة عرب كونتا ذي النفوذ، سيدي محمد، حيث كتب في العاشر من مايو من عام 1826 إلى حميه بيده اليسرى المشوهة، يخبره بالتفصيل عن إصاباته المروعة. وحتى بينما كان لينج يتعافى، اجتاحت كارثة مخيم سيدي محمد الصحراوي. ففي الأول من يوليو، كتب لينج مجددا إلى وارينجتون بالأنباء، معينا هذه المرة مكان كتابة خطابه بأنه «أزواد»:
بذهن مكتئب مع الأسف بالمرض، والحزن، وخيبة الأمل، أكتب إليك بقلم مكره لأطلعك على أنني لم أمض في رحلتي أبعد مما كنت حين كتبت إليك آخر مرة.
كان مرض ما، «شيء يشبه الحمى الصفراء»، قد اجتاح المخيم وقتل نصف تعداده، وفي ذلك الباباني، وسيدي محمد نفسه، وجاك لي بور. كانت الحمى قد أصابت لينج هو الآخر، لكنه كان قد تعافى منها، وكان حينئذ الفرد الوحيد من جماعته الأصلية الذي بقي على قيد الحياة. كان لا يزال يعاني من «آلام مريعة» في رأسه، ناشئة عن شدة جراحه. ومع ذلك، مدفوعا بشعور، يقترب من الجنون، بأن هذا هو مصيره، صمم على أن يمضي قدما.
كان على بعد مسيرة بضعة أيام قليلة فقط من تمبكتو، لكن توقيت وصوله لم يكن من الممكن أن يكون أسوأ من ذلك: كانت المدينة في طريقها للوقوع تحت سيطرة الحاكم المسلم لإمبراطورية ماسينا الفولانية، أحمد لوبو. كان لوبو قد تلقى منذ وقت قريب تحذيرا من سلطان خلافة صكتو القوية بألا يدع الأوروبيين يزورون بلاد السودان بسبب الانتهاكات ووقائع الفساد التي كانوا قد ارتكبوها في مصر وفي أماكن أخرى، وكتب عندئذ إلى حاكم تمبكتو، منذرا بالشر ويخبره أن «ينتزع [من لينج] كل أمل في العودة إلى ممالكنا.» حذر شيخ كونتا الجديد، نجل سيدي محمد الأكبر، المختار الصغير، مرارا وتكرارا المستكشف داعيا إياه ألا يتابع طريقه، لكن لينج أصر. فعل الشيخ المختار ما في وسعه؛ إذ أعطاه مرشدا إلى تمبكتو وكتب إلى حاكم المدينة، طالبا منه أن يحمي لينج.
بلغ لينج المدينة في الثالث عشر من أغسطس من عام 1826، بعد ما يزيد قليلا عن عام من مغادرته طرابلس، وبعد خمسة أسابيع كتب خطابه الوحيد من تمبكتو إلى وارينجتون. لم يكن، بالمعنى الدقيق للكلمة، أول أوروبي يبلغ تمبكتو - فعلى أية حال، كان ليون الأفريقي قد ولد في أوروبا وعاش في إيطاليا، وقاتل مرتزقة ومرتدون أوروبيون في صفوف الجيش المغربي الذي غزا المدينة في عام 1591 - لكنه كان أول مستكشف يصل إلى هناك ويرسل إلى الوطن إفادة بذلك، رغم ما كانت عليه من اقتضاب وغموض. لو كانت المدينة مخيبة للآمال، ما كان لينج سيقول ذلك الآن. من المرجح أنه أمضى أسابيع في تمبكتو يملأ يومياته بملاحظات كان يأمل أن تنشر يوما ما، لكنه لم يكن يرغب بعد في أن يطلع عليها الحكومة البريطانية، وفجأة لم يكن ثمة وقت: كان من المتوقع مجيء وفد من الفولاني وكان قد ألح عليه في المغادرة على الفور. ومع ذلك، لم يستطع أن يخيب أمل قرائه كليا، ولذلك ذكر ببساطة أن «المدينة العظيمة في وسط أفريقيا» كانت قد «أوفت تماما بتوقعاته» من كل ناحية فيما عدا مساحتها، ووعد بأن يكتب على نحو أوفى من سيجو، مع أن الطريق أمامه كان «سيئا»، وكان يعرف أن الأخطار لم تكن قد انتهت.
غادر لينج تمبكتو في حوالي الثالثة عصرا في اليوم التالي، الموافق الثاني والعشرين من سبتمبر، بصحبة عبد معتق يدعى بونجولا، وصبي عربي. انطلق شمالا إلى الصحراء، صوب أروان، في طريق ملتو الغرض منه تجنب رجال لوبو. ثم، كشأن كثيرين قبله، اختفى. •••
احتفظت الصحراء الكبرى بقليل من الأسرار. فعلى الرغم من مساحتها الهائلة وصغر تعداد سكانها، كانت الشائعات تنتقل سريعا. كانت القوافل تلتقط الشائعات من كل مستوطنة كانت تمر بها، من الأسواق الكبيرة وحتى أصغر الواحات، وتحملها معها إلى وجهاتها. كان هذا دوما مصدر دهشة لدارسي الصحراء الكبرى، وأورد المؤرخ إي دبليو بوفيل أن «في هذه الصحراء الهائلة كان الأمر يبدو كما لو أن الجميع يعرفون ما يفعله جميع الناس الآخرين.» في أوائل القرن التاسع عشر، كان القليل من المعلومات ينتقل على نحو أسرع مما تنتقل به أخبار أوروبي دخيل.
وصلت الأصداء الأولى لمتاعب لينج إلى وارينجتون في طرابلس في مارس من عام 1826: أنه قد حدث هجوم غادر على جماعته وأن المستكشف قد أصيب إصابات بليغة. بعد ذلك، توقفت الأخبار الآتية من الصحراء. بصفته القنصل وكذلك حما المستكشف، كان وارينجتون في موقف حرج زاد من سوئه فجيعة ابنته وعلمه بمخادعة البلاط الطرابلسي. كان لينج قد سافر تحت حماية باشا طرابلس القوي، يوسف القرمانلي، وكان وارينجتون يضغط الآن على القرمانلي ضغطا كبيرا من أجل أن يأتيه بأخبار عن لينج. ففي ربيع عام 1827، قدم الباشا إلى وارينجتون نسخة من إفادة أرسلها الشيخ المختار نفسه.
كان قادة تمبكتو في حرج بين رغبتهم في رعاية ضيفهم ومطالب ملكهم الجديد، أحمد لوبو، حسبما أوضح الشيخ:
من أجل التوفيق بين المصلحتين، سمحوا له بأن يبقى في تمبكتو قرابة شهر ... حتى التقى بعدو الله ورسوله، أحمد ولد عبيدة ولد رشال البربوشي، الذي أقنعه بأن بوسعه أن يرشده إلى أروان، ومن هناك يركب النهر من سانساندينج، وأن يتابع طريقه من هناك إلى المحيط الكبير.
كان «عدو الله» هو شيخ عرب البرابيش، الذي كان يعرف أيضا باسم أحمدو لعبيدة. غادر هو ولينج تمبكتو معا، لكن في منتصف الطريق أمر المرشد خدمه أن يمسكوا لينج ويقتلوه. بعد ذلك فتشوا أمتعته، التي كانت «كل الأشياء العديمة النفع فيها، من [نحو] أوراق، وخطابات، وكتب، قد مزقت وألقيت لتذروها الرياح، خشية أن تحتوي على بعض السحر، واحتفظ بالأغراض القيمة.» قال الشيخ المختار إن هذه كانت القصة الصادقة لملابسات وفاة لينج.
أحال وارينجتون الأخبار إلى وزارة الحرب والمستعمرات، دون أن يصدقها تصديقا تاما. وبعد بضعة شهور فجع الدبلوماسي البريطاني لدى سماعه بأمر خطاب أرسل في الخامس من أبريل إلى الصحيفة الفرنسية «ليتوال»، والذي ذكر وفاة لينج باعتبارها حقيقة واقعة. لم يرفق اسم بالخطاب، لكن ذكر في ترويسته أنه كتب في «سوقارة في طرابلس»، التي تصادف أنها كانت مقر إقامة القنصل الفرنسي، البارون جان بابتيست روسو. كان وارينجتون يكره الفرنسيين عموما وروسو بوجه خاص، وحينئذ كان قد وجد هدفا لغضبه وحزنه. كيف استطاع روسو أن يعرف ما لم يعرفه وارينجتون. تصور في مخيلته مؤامرة محكمة بين الفرنسيين، والقرمانلي باشا، ووزير خارجية الباشا، والذي كان رجلا محبا للفرنسيين ومثقلا بالديون يدعى حسونة الدغيس. اعتقد وارينجتون أن هذا الرجل كان متواطئا مع الباباني منذ البداية، وربما حتى يكون قد مول قاتل لينج في نهاية المطاف. عندما أرسل وارينجتون بتقارير يلمح فيها إلى هذه المؤامرة، حولت فرقاطة من البحرية الملكية مسارها إلى طرابلس لإقناع الباشا بالتعاون أكثر مع تحريات القنصل. في ذلك اليوم، الموافق الثاني والعشرين من أبريل من عام 1828، اعترف الباشا لأول مرة بأن لينج قد لقي حتفه. في أغسطس، وصل بونجولا إلى طرابلس، حيث أكد أن شيخ البرابيش قد «قتل [المستكشف]، بمعاونة خدمه السود بطعنات كثيرة أثناء نومه.» لم يكن ثمة شك في مصير لينج.
كان للأمر وقع كارثي على إيما التي كانت بالفعل معتلة، والتي تزوجت مرة أخرى وانتقلت للإقامة في إيطاليا، لكنها توفيت في العام التالي، في الثامنة والعشرين من عمرها، بعد أربعة أعوام فقط من مشاهدتها لحبيبها يشد الرحال مغادرا إلى تمبكتو. بينما انصب اهتمام والدها اليائس على يوميات المستكشف، رافضا أن يصدق تأكيد الشيخ المختار بأنها قد أتلفت. لم يكن ثمة شك في أنه كان من شأنها أن تحتوي على معلومات حيوية عن الداخل الأفريقي كانت ستجعل اسم زوج ابنته بارزا، وبنفس القدر من الأهمية، تدعم أي مطالبة بريطانية مستقبلية بالأحقية في السيطرة على الداخل الأفريقي الغني بالثروات. اتجهت شكوكه مجددا إلى الدغيس والقنصل الفرنسي.
في أثناء ذلك أجج روسو عن غير عمد جنون الارتياب لدى خصمه بتصريحه بأنه قد اكتشف وجود تاريخ لتمبكتو، وهو ما كان يأمل أن يكون في حوزته عما قريب. نشرت رسائل البارون التي تعلن اكتشافاته في «نشرة الجمعية الجغرافية الفرنسية» في عام 1827 ومن شبه المؤكد أنها تعتبر أول ذكر لما يعرف باسم كتاب «تاريخ السودان» في الكتابات الأوروبية، على الرغم من أنه لم يكن يعرف أنه كان يسمى بذلك الاسم. كتب كتاب «تاريخ السودان»، الذي عادة ما ينسب على وجه الخطأ إلى أحمد بابا، في القرن السابع عشر على يد عالم تمبكتي آخر، هو عبد الرحمن بن عبد الله السعدي. وما إن عثر على هذا الكتاب، حتى أصبح النص الأساسي للمؤرخين عن المنطقة.
في رسالته الأولى، ذكر روسو متأملا أن عاصمة بلاد السودان، «تن بكتو»، أفلتت دوما من أكثر الاستقصاءات مثابرة. قال: «الجميع يتحدث عنها، ولم يرها أحد بعد.» كان يأمل أن يأتي مستكشف، مدفوعا بما أعلنته الجمعية الجغرافية الفرنسية عن «منافسة نبيلة وسخية» وأن «يسعد بأن يميط عنها ... لثام الغموض وهو ما من شأنه أن يكشفها أمام أعين الباحثين الأوروبيين.» واستطرد القنصل الفرنسي قائلا إنه، إلى أن يحدث ذلك، كان قد تمكن من جمع القليل من المعلومات عن الموضوع:
يبدو أنه يوجد تأريخ مفصل لهذه المدينة، كتبه شخص يدعى سيدي أحمد بابا، المولود في أروان، وهي بلدية في الإقليم [المسمى كونتا]، وهو تأريخ يحدد وقت تأسيسها بأنه عام 1116 ميلادية. في هذا العمل، هذه هي الكيفية التي تروى بها الملابسات التي أحاطت بتأسيس تن بكتو: «استقرت امرأة من قبيلة الطوارق، تسمى بكتو، على حافة نيل الزنوج، في كوخ تظلله شجرة كثيفة الأغصان؛ وكانت تمتلك بعض النعاج، وودت أن تمارس كرم ضيافتها مع المسافرين من قومها الذين كانوا يمرون من ذلك الطريق. وسرعان ما أصبح منزلها المتواضع ملاذا مقدسا، ومكانا لراحة وسرور القبائل المحيطة، التي أطلقت عليه اسم «تن بكتو»، أي ملك بكتو (كلمة «تن» في اصطلاحهم هي ضمير الملكية للغائب). بعد ذلك جاءت هذه القبائل من كل الجهات لتجتمع وصنعت مخيما شاسعا، تحول فيما بعد إلى مدينة شاسعة وآهلة بالسكان.» هذا، بحسب سيدي أحمد بابا، هو أصل الاسم وأصل تأسيس تن بكتو، التي ربما كانت شهرتها في نهاية المطاف هي مجرد وهم، سيزول ما إن نتمكن من قهر العقبات الكثيرة التي تمنع الوصول إليها.
نشرت رسائل أخرى لروسو، مؤرخة في الثالث من مارس وفي الثاني عشر من يونيو، 1828، في «نشرة الجمعية الجغرافية الفرنسية» في العام التالي. هذه المرة خلط هو أو محررو النشرة بين اسم أحمد بابا والبطل الشعبي علي بابا: إذ كتب روسو: «آمل أن يكون بحوزتي قريبا تاريخ تمبكتو الذي كتبه سيدي علي بابا من أروان، والذي أترقب وصوله من توات.»
أما وارينجتون فاعتبر هذا دليلا إضافيا على الحيل الفرنسية القذرة. كيف أمكن لروسو أن يكون في وضع يتيح له أن يتحصل على تاريخ تمبكتو الذي كتبه «علي بابا» بينما لم يكن أي فرنسي قد وصل إلى المدينة؟ هل كان هذا هو الكتاب الذي كان لينج قد ألمح إليه في خطابه الوحيد من ذلك المكان، والذي كان قد كتب فيه أنه قد «كوفئ بسخاء» في عمليات بحثه عن سجلات المدينة؟ كان يوجد تفسير بسيط للأوراق المفقودة: وهو أن الفرنسيين قد سرقوه. وكلما واصل في هذا المسار من التحقيقات، ازداد عدد الشهود الذين تقدموا ليعطوه الإجابة التي رغب فيها. أخبره بونجولا بأن الدغيس قد استحوذ على أوراق لينج، بينما قال موظف سابق لدى روسو إنه قد رأى الدغيس يسلم وثائق إلى القنصل الفرنسي مقابل مبلغ من المال. خمن وارينجتون أنه لا بد أن يكون الدغيس قد حصل على ثمار رحلة لينج، وباعها للفرنسيين ليساعدوه على دفع ديونه.
بينما كان وارينجتون يتأهب لمواجهة روسو بشأن أوراق لينج المفقودة، كانت الأنباء على وشك أن تذيع بشأن أن أوروبيا ثانيا قد وصل إلى تمبكتو. كان هذا التطور سيئا على نحو مضاعف لوارينجتون؛ لأن المستكشف كان فرنسيا. •••
كان رينيه كاييه من نواح كثيرة يمثل نقيض لينج. كان شخصا بسيطا، وابن مجرم مدان، وصار يتيما في الحادية عشرة من عمره، كما كان طفلا مهملا يتسم بشخصية حالمة، بل كئيبة. كانت إحدى بوادر حظه الحسن المبكر القليلة هي أن ظهر في حياته معلم شجعه على قراءة قصص المغامرات. كان ما ألهب مخيلة كاييه على وجه خاص هو رواية دانييل ديفو، «روبنسون كروزو»، لكن لم يثر حماسه شيء في الأدب بقدر خريطة أفريقيا. في طفولته، كان قد تمعن في شكل القارة الذي يشبه تركيبا مأخوذا من أجسام حيوانات ثديية، من ردف مستدير إلى قرن وحيد القرن، وتأمل طويلا تعليقاتها التوضيحية المدهشة. أي مدن تقع في تلك الفجوات غير المكتشفة؟ وأي مخلوقات غير منظورة؟ وأي حضارات مجهولة؟ ازداد شغفه بالجغرافيا حتى صار ولعا. وقرر أن يصنع لنفسه اسما بارزا باكتشاف ما مهم في هذه القارة التي لم يستكشف منها إلا القليل. انعزل عن أصدقائه، ونبذ الرياضة ووسائل اللهو الأخرى، وكرس وقت فراغه للكتب والخرائط. في السادسة عشرة من عمره - وهو نفس عدد الأعوام التي كانت قد مرت من القرن التاسع عشر - ترك وطنه وفي جيبه ستون فرنكا، متجها إلى أفريقيا.
كان العقد الأول من حياة كاييه المهنية في الاستكشاف بمثابة تعلم للأخطاء التي يمكن أن يقع فيها المغامرون الأوروبيون. أبحرت سفينة «لوار»، التي عمل على متنها مقابل أن تحمله جنوبا، من فرنسا بصحبة الفرقاطة «ميدوسا»، وهي سفينة لاسمها سمعة سيئة. تحطمت «ميدوسا» في مياه أرجين الضحلة السيئة السمعة، وهي جزيرة قبالة الساحل الغربي بالقرب من كيب بلانكو، وعندئذ هرب القبطان والضباط إلى القوارب، وأودعوا 147 فردا من أصحاب الرتب الأدنى طوفا مؤقتا جنح بهم بعيدا عن الشاطئ. لم ينج إلا خمسة عشر شخصا من مشاهد القتال المخمور، والمجاعة، وأكل لحوم البشر التي اندلعت على متن الطوف، والتي خلدها تيودور جيريكو في لوحته «طوف ميدوسا»، كناية عن فساد الصفوة الفرنسية.
سرعان ما وجد كاييه كوارث كبرى مماثلة تجري على البر. كان من بين هذه الكوارث حملة استكشافية بريطانية كبيرة إلى الداخل الأفريقي وتمبكتو بقيادة الميجور جون بيدي، كانت قد انطلقت من منطقة مستنقعات ينتشر بها داء الملاريا من عند مصب نهر نونيز. توفي بيدي جراء الحمى قبل حتى أن يترك الساحل، ولم تقطع حملته إلا ثلاثمائة ميل في الداخل حتى أجبرت على العودة ومعها نصف ضباطها موتى. لم يفت ذلك من عضد البريطانيين، وحاولوا مجددا، هذه المرة بدءا من نهر جامبيا، لكن ملك بوندو استنزف الحملة الاستكشافية بخبرة كبيرة حتى إن قائدها، الميجور ويليام جراي، سرعان ما اضطر إلى أن يرسل إلى الساحل في طلب المزيد من الهدايا. انضم كاييه إلى قافلة إعادة التموين، التي حملت قدرا أكبر بكثير مما يلزم من الأمتعة وأقل مما يلزم بكثير من المياه إلى الصحراء. أصبحت عينا الشاب مجوفتين بسبب الجفاف، وشاهد اليأس يستولي على الرجال الآخرين حتى إنهم شربوا بولهم. ولاحقا، أصابته الحمى، وكان من حسن حظه أن تمكن من العودة إلى فرنسا على قيد الحياة. وهناك سمع أن هذه الحملات العسكرية البريطانية الفاشلة كانت قد تكلفت مبلغا خياليا يصل إلى 750 ألف جنيه إسترليني، وهو ما يعادل 3,4 ملايين دولار في هذا الوقت.
ومع ذلك ظل كاييه مثابرا. في عام 1824 عاد إلى أفريقيا ومعه فكرته الخاصة عن الهجوم على الداخل الأفريقي. على خلاف حالات الفشل التي كان قد شهدها، كانت مهمته ذات تكلفة قليلة ومتسمة بالحذر. كان سيتنكر في هيئة عربي مصري بائس كان قد تعرض للاختطاف على يد القوات الفرنسية في طفولته وكان الآن متوجها إلى الإسكندرية عائدا إلى الديار. أمضى ثلاث سنوات في التحضير لدوره، فتعلم العربية والنصوص الإسلامية، وأتقن قصته الملفقة، وتعلم كيف يرتدي ثيابه، ويصلي، ويأكل مثل المسلمين. لم يكن الفرنسيون والبريطانيون سيوفرون التمويل المالي لمهمته المنفردة، لكن كان من شأن جائزة الجمعية الجغرافية الفرنسية أن تكون مكافأة كافية له. كان سيعطي المال لأخته، التي كانت تعيش في فقر في فرنسا.
أقسم في نفسه: «حيا أو ميتا، سوف تكون من نصيبي.»
غادر كاييه ساحل غينيا في التاسع عشر من أبريل، عام 1827، في لباس عربي، وهو يحمل معه مصحفا والمظلة الضرورية. ارتقى مستنقعات الملاريا إلى مرتفعات غينيا، وبذل جهدا جهيدا وهو يمر عبر الممرات الجبلية والوديان والسيول الزاخرة بالعواصف المدارية. استظل من الشمس تحت أشجار البومباكس الوارفة وأكل ثمار التمر الهندي ليدرأ الحمى التي كانت تهدده دوما بأن تباغته. وفي مرتفعات فوتاجلون، عبر نهر النيجر - وحتى هنا، بالقرب من منبعه، كان عرضه يبلغ مائتي ياردة - وبالقرب من كانكان نجا من محاولة مرشده اكتشاف أنه مسيحي. تفشت في قدميه جروح نازفة وأدت إصابته بالإسقربوط إلى تعرية سقف حلقه حتى صار عظمه مكشوفا، لكنه تعافى من ذلك. وواصل مسيره. وفي مارس من عام 1828 بلغ بلدة جني أو جينيه على نهر باني، حيث وجد قاربا يأخذه شمالا إلى نهر النيجر، ثم 250 ميلا أخرى إلى كابارا، مرفأ تمبكتو. وفي التاسع عشر من أبريل، من عام 1828، بعد مرور عام من انطلاقه في رحلته، كان أخيرا قد اقترب من غايته.
في الساعة الواحدة من بعد ظهر ذلك اليوم، كان يختبئ في قعر القارب عندما ناداه الطاقم ليخبروه أنهم يقتربون من كابارا، فسارع بالصعود إلى السطح. للوهلة الأولى لم يتمكن من رؤية أي شيء إلا مستنقع تغطيه طيور مائية؛ ثم ظهر المرفأ الصغير الذي يخدم تمبكتو، طافيا فوق خط الفيضان على تلة صغيرة. كانت المياه في النهر ضحلة للغاية بحيث لم تكن تسمح للقارب بأن يقترب؛ لذا ركب قاربا صغيرا جره العبيد عبر المياه الضحلة.
لم يكن المرفأ مثل لو هافر أو مرسيليا، لكن كان ثمة الكثير من الضجة حول كابارا. كان رصيف الميناء مزدحما برجال ونساء يحملون البضائع جيئة وذهابا، بينما أخذ نجارو السفن يعملون على إصلاح قوارب صغيرة كانت قد نقلت إلى الشاطئ. كانت شوارع المدينة الضيقة نفسها مليئة بصخب أناس يبيعون السمك، واللبن، وجوز الكولا، والفستق، بينما أخذت مجموعات متتابعة من الحمير والجمال تمر باستمرار، تحمل البضائع إلى تمبكتو. كان ذلك اليوم هو اليوم الأخير من شهر رمضان، وعند الغسق عجت المدينة بالرقص والاحتفالات.
في الساعة الثالثة والنصف من عصر اليوم التالي، انضم كاييه إلى قافلة صغيرة كانت تتجمع على الطريق إلى تمبكتو.
كان الطريق شمالا أبيض برمال لامعة ناعمة جدا حتى إنها جعلت السير عليها صعبا. مر الطريق ببحيرات غير متوقعة كانت ضفافها مكسوة بغزارة بالنباتات، وعبر غابة قزمة من النخيل وشجيرات الميموزا وصمغ الأكاسيا. وطيلة معظم الرحلة كانوا يتبعهم رجل من الطوارق كان على صهوة جواد بديع وكان هذا الرجل قد نظر إليه نظرات متفحصة وسأل سائقي القافلة عن الجهة التي جاء منها، لكن الفارس فقد اهتمامه بعد أن أخبروه أن كاييه كان مصريا فقيرا. وعلى بعد ميلين ونصف الميل على المسار، في منتصف الطريق بين كابارا وتمبكتو، بلغوا موضعا اشتهر بأنه كانت ترتكب فيه جرائم القتل وكان يعرف باسم «لا يسمعون»؛ لأنه من ذلك الموضع لم تكن صيحات الاستغاثة تسمع في أي من المدينتين. مضت القافلة آمنة عبره. وبعد مسيرة ميلين آخرين، كانت الشمس في الأفق عندما صعد المسار كثيبا رمليا قاحلا. وأخيرا، من فوق قمته، استطاع كاييه أن يبصر مقصده.
كانت المدينة أمامه منبسطة ومنخفضة، ممتدة بين سماء هائلة وصحراء شاسعة. كتب رحالة لاحق عن بلوغ هذه البقعة: «لا شيء ينقص من المشهد الشاسع الذي يضيئه الوهج النابض لشمس الصحراء القوية.» وأردف: «حقا إنها متوجة في الأفق بجلال ملكة. إنها بالفعل مدينة الخيال، تمبكتو التي حكت عنها الأسطورة الأوروبية.» استحوذ الانفعال على كاييه:
الآن رأيت عاصمة بلاد السودان هذه، وصار ما كان لأمد طويل موضع أمنياتي في متناولي. لدى دخولي هذه المدينة الغامضة، التي هي موضع فضول وبحث أمم أوروبا المتحضرة، شعرت برضا لا يوصف. لم أشعر من قبل بمشاعر مماثلة وكانت نشوتي مفرطة.
لم يكن بوسعه أن يشاطر فرحه مع الآخرين خوفا من أن تنكشف هويته. وبدلا من ذلك شكر ربه في صمت؛ فقد بدت العقبات والأخطار مستعصية، لكن بحفظ الرب ورعايته حقق ما كان يطمح إليه.
ولكن عندما اقترب أكثر، بدأت حماسته تتلاشى. لم تكن تمبكتو رائعة بقدر ما كان يتوقع:
لم تكن المدينة، لأول وهلة، سوى كتلة من المنازل القبيحة المنظر، المبنية من الطين. لم يكن ثمة ما يرى في كل الاتجاهات سوى سهول هائلة من رمال متحركة ذات لون أبيض مصفر. كانت السماء بلون أحمر شاحب على امتداد الأفق: اكتست الطبيعة كلها بمظهر كئيب، وساد سكون عميق للغاية؛ فلم يكن يسمع حتى صوت تغريد طائر.
لم تكن أبنيتها عالية ولا ضخمة ضخامة مميزة؛ وكان معظمها يتألف من طابق واحد. لم يكن للمدينة أسوار. لم يكن ثمة نسمة ريح، وعندما استلقى لينام جعلته الحرارة الخانقة يشعر بعدم الراحة أكثر من أي وقت مضى. وفي صباح اليوم التالي، بعدما تفحص المدينة في ضوء النهار، وجد أنها لم تكن كبيرة ولا مزدحمة بقدر ما كان قد انساق إلى أن يعتقد. كان سوقها الفاخر صحراء جرداء مقارنة بسوق جني. كان جوها يبعث على الخدر. أورد قائلا: «كان لكل شيء مظهر كئيب.» ثم أضاف: «دهشت من الركود، بل يمكنني حتى أن أقول الجمود، الذي تجلى في المدينة.»
كما كان البارون روسو قد توقع، كانت المدينة العظيمة ذات المنازل المسقوفة بالذهب مجرد وهم. كتب كاييه أن «التصورات المبالغ فيها» عن هذه المدينة التي كانت «موضع فضول لعصور عديدة» كانت قد سادت، مشتملة تعدادها، وحضارتها، وتجارتها مع بلاد السودان. كانت مدينة صغيرة، قطرها ثلاثة أميال، ومثلثة الشكل تقريبا، وكانت قائمة على تربة كانت «غير صالحة للزراعة على الإطلاق» ولم يكن فيها أي نباتات سوى أشجار متقزمة وشجيرات.
ومع ذلك، كان للمدينة بعض الميزات الإيجابية التي كان من شأنها أن تقلل من خيبة أمله. كانت شوارعها نظيفة، وأهلها متأنقين، ولطفاء وميالين لمساعدة الغرباء، على النقيض مما كان قد قيل لبارك. لم تكن النساء محجبات مثل النساء في المغرب وكان مسموحا لهن الخروج متى شئن وزيارة من شئن. كان يوجد في المجمل سبعة مساجد، منها مسجدان كبيران، وكانت تعلو كلا منها مئذنة من الطوب. وعندما ارتقى كاييه برج مسجد جينجربر الكبير، لم يسعه إلا أن يعبر عن إعجابه بحقيقة أن مدينة قد بنيت هنا أصلا: «لم يسعني سوى أن أتأمل في ذهول المدينة المذهلة التي أمامي، التي لم تنشأ إلا لدواعي التجارة، والمفتقرة إلى كل مورد عدا ما يتيحه موقعها العرضي بصفتها مكانا لتبادل السلع.»
كان حاكم تمبكتو تاجرا يدعى عثمان، كان قد ورث ثروة كبيرة من أسلافه، وكان «ثريا جدا» على نحو مرض. استقبل الحاكم كاييه بينما كان جالسا على بساط جميل عليه وسادة فاخرة:
بدا أن الملك كان ذا طبيعة ودودة للغاية؛ ربما يكون عمره حوالي خمسة وخمسين عاما، وكان شعره أبيض ومجعدا. كان متوسط الطول، وكان لونه قاتم السواد. كان له أنف معقوف، وشفتان رفيعتان، ولحية رمادية، وعينان واسعتان، وكانت طلعته في مجملها مقبولة؛ أما ملبسه فكان، كملابس المور، يتألف من أشياء أوروبية الصنع. كان على رأسه طاقية حمراء، تلتف حولها قطعة كبيرة من نسيج قطني على هيئة عمامة. كان حذاؤه مصنوعا من جلد الماعز المدبوغ، على شكل النعال التي نرتديها في الصباح، ومصنوعا محليا. وكان كثيرا ما يزور المسجد.
كانت التجارة هي شريان الحياة لهذه المدينة التي كانت «واحدة من أكبر المدن» التي رآها كاييه في أفريقيا، و«المركز التجاري الرئيسي» لهذا الجزء من القارة. كان يوجد الكثير من المغاربة هنا، والذين كانوا يقيمون من ستة إلى ثمانية شهور ليبيعوا بضائعهم ويشتروا المزيد من البضائع التي يحملونها إلى الشمال. كتب كاييه أنه، فيما يتعلق بالتجارة، كان الناس مجتهدين وأذكياء؛ وكان التجار عموما أثرياء، ويسكنون أفضل المنازل في المدينة ويمتلكون الكثير من العبيد. تألفت السلع بالأساس من الملح وبضائع أخرى كانت تصل إلى تمبكتو عن طريق القوافل أو بالقوارب. وكانت توجد حتى أغراض من أوروبا؛ إذ وجد كاييه بنادق ذات ماسورتين عليها علامة مصنع الأسلحة الفرنسي المملوك للدولة في سانت إتيان، إلى جانب مصنوعات أوروبية «زجاجية، وعنبر، ومرجان، وكبريت، وورق، وما شابه.» كان ما أورده كاييه عن «الورق، وما شابه» هو أقرب إشارة جاء على ذكرها فيما يتعلق بالمخطوطات.
أقام الفرنسي في المدينة أسبوعين. وكرس أيامه القليلة الأخيرة لمحاولة معرفة ما أصاب لينج، الذي كان قد سمع اسمه في جني، وأراه أحدهم الموضع الذي قيل إنه قد قتل فيه. بكاه كاييه سرا؛ إذ كان ذلك هو «الإعراب الوحيد عن الأسف الذي يمكنني تقديمه للرحالة المنكود.» غادر كاييه تمبكتو في الرابع من مايو، من عام 1828، مرتحلا مع قافلة تحمل ريش النعام، والعاج، والذهب، والعبيد إلى أسواق المغرب. وأعطاه مضيفه، سيدي عبد الله شبير، الذي كان «رجلا رائعا»، بضاعة كافية لتمويل رحلته القادمة واستيقظ مبكرا في يوم الرحيل ليرافقه لبعض المسافة، قبل أن يصافح كاييه بمودة ويتمنى له التوفيق.
كان رجال القافلة أقل تمسكا بكرم الضيافة. لم يظهر سائقو القافلة أي رحمة بالمسافر المعدم، وكانوا أسوأ مع العبيد. كان الماء شحيحا دوما حتى إن كاييه شعر باستمرار أنه على وشك الموت، ورفض سائقو القافلة أن يعطوه المزيد حتى عندما توسل إليهم. انطوت العواصف الرملية على خطر أن تطمر القافلة كلها، متخذة في بعض الأحيان هيئة زوابع ترابية هائلة. وحتى عندما كانوا يرتحلون تحت السماء الحارقة، لم يسعه إلا أن ينبهر برحابة الطبيعة الصحراوية، بآفاقها التي لا حدود لها، وسهولها الشاسعة البراقة. •••
بلغ كاييه القنصلية الفرنسية في طنجة في السابع من سبتمبر، بعد 507 أيام من انطلاقه. كان منهكا، ومعتلا، ويرتدي أسمالا، لكن كان بوسعه أخيرا أن يتخلى عن تنكره، فارتدى ملابس أوروبية، وعثر على سفينة متجهة إلى تولون. وهناك كتب إلى جومار في الجمعية الجغرافية الفرنسية، الذي أرسل إليه على الفور خمسمائة فرنك لتغطية نفقات رحلته إلى العاصمة الفرنسية. وفي باريس، استجوب جومار وزملاؤه الرحالة من أجل التحقق من روايته، التي أعلنوا أنها حقيقة؛ فقد حقق «كل شيء ممكن ... أكثر مما كان يؤمل بما كان لديه من الموارد»، وقد «نجح نجاحا كاملا.» وعلى الرغم من الاعتراضات البريطانية، منح كاييه الجائزة المالية، وفي عام 1830، منح الميدالية الذهبية، على الرغم من أنه اتفق على أنه ينبغي تقاسمها مع لينج.
قوبل انتصار كاييه بصيحات تفاخر مزهوة في فرنسا. فصرحت إحدى الصحف الفرنسية: «ها نحن ذا لدينا ما هو محط فخر لفرنسا، ومحط غيرة من منافستها الدائمة!» وأضافت: «ما عجزت إنجلترا عن إنجازه، بمعاونة مجموعة كاملة من المستكشفين، وبتكلفة تجاوزت عشرين مليونا، فعله رجل فرنسي بموارده الشخصية الشحيحة وحدها، وبدون أن يكلف وطنه أي نفقات.» رد البريطانيون بغضب عارم. كيف استطاع فرنسي بسيط، متواضع التعليم، أن يبلغ الهدف الذي كانوا يسعون إليه لعقود؟ كانت شدة حمى بلوغ تمبكتو قد تمخضت عن العديد من الادعاءات الكاذبة في الأعوام الأخيرة؛ ومن المؤكد أن رواية كاييه كانت مجرد كذبة أخرى. الأمر الأرجح أن السفينة التي كان على متنها قد تحطمت على الساحل البربري وأنه سمع بعض المعلومات المبهمة عن الداخل الأفريقي وتظاهر بأنها من عنده. لم يؤد تظاهره بالإسلام إلا إلى زيادة الغضب البريطاني؛ لأنه إن كان المستكشف على استعداد لأن يبدل دينه طوعا، فكيف يمكن لملاحظاته أن تكون محل ثقة؟
ذكرت دورية «كوارترلي ريفيو» أن «هذا الصياح والأنين الأبدي حول «غيرة» و«منافسة» إنجلترا» لا يدل إلا على «إدراك دائم التكرر للأفضلية الفكرية والجسدية لمواطنينا على مواطنيهم»، ومضت بعد ذلك لتبذل قصارى ما في وسعها للطعن في «تدليس» كاييه. وأردفت أن لينج كان المكتشف الحقيقي لتمبكتو، بينما كان كاييه «شخصا جاهلا»، وأن جومار لم يفعل ما يمليه عليه ضميره في التحقق من رحلته. وأضافت: «إننا لن نبدي أي رأي بشأن ما إذا كان السيد كاييه قد بلغ تمبكتو أم لم يبلغها، لكننا لن نتردد في أن نقول، فيما يتعلق بأي معلومات عاد بها، بشأن جغرافيا وسط أفريقيا، أو بشأن مسار «جوليبا»، إنه ربما كان من الأفضل لو أنه كان قد بقي في وطنه.» واختتم النقد اللاذع برواية مطولة وجيدة الإحاطة لنظرية المؤامرة البريطانية التي مفادها أن روسو والدغيس قد سرقا أوراق لينج.
تأذى كاييه بشدة من هذه الهجمات، التي أثرت فيه، حسبما قال، أكثر من «كل المشقات، والمتاعب والشظاف» التي كان قد جابهها في الداخل الأفريقي.
في طرابلس، دفع الاحتفال بالفرنسي وارينجتون إلى أن يمشط الصحراء أكثر مما مضى بحثا عن يوميات لينج، التي كانت حينئذ تتحمل عبئا مزدوجا من إنقاذ لمجد بلاده ومجد زوج ابنته. وفي أكتوبر من عام 1828، كتب إلى وزارة الحرب والمستعمرات عن «المؤامرة البائسة» التي كان لديه فيها «ما يدعو إلى الاشتباه في أن القنصل الفرنسي ربما يكون قد سرق أوراق الميجور لينج.» وبحلول شهر مايو من عام 1829، كان يبلغ الحكومة البريطانية بأن الدغيس لم يكن ينتظر فحسب وصول نسخة من كتاب «تاريخ تمبكتو» وإنما أيضا وصول مؤلفه «سيدي علي بابا الأرواني» من توات. (هذا بغض النظر عن حقيقة أن «أحمد» بابا كان قد توفي منذ أكثر من مائتي سنة.)
قال وارينجتون إنه، في البداية، كان يميل إلى السخرية من فكرة أن تأريخا لتمبكتو قد صدر في أفريقيا؛ لأنه لم يكن يعتقد أن أي أفريقي سيهتم بماضي بلده. وتساءل: «هل من المحتمل أن يكون سيدي علي بابا هذا قد فحص السجلات وكتب تاريخ تمبكتو؟ صدقني، إن قصعة كسكسي لهي موضع للبحث عند أي من المور أكثر من تاريخه.» ومع ذلك، كان حينئذ مقتنعا بأن لينج لا بد أن يكون قد تحصل في تمبكتو على تأريخ «علي بابا»، وأن هذا من ثم كان دليلا على المخطط الفرنسي. وأعلن أنه «من المؤكد أنه يحق لنا أن نصدق أن لينج كان بحوزته تاريخ تمبكتو.» كانت ثمة خطوة قصيرة ما بين هذا التوهم واستنتاج أن من كان بحوزته نسخة من هذا «التاريخ» فإن بحوزته أيضا يوميات لينج.
لإجبار الباشا على إخراج الوثائق، قطع وارينجتون العلاقات الدبلوماسية في يونيو من ذلك العام ونكس العلم البريطاني. أما الباشا، الذي اعتمد بقاؤه على أن يستعين بالنفوذ البريطاني في مواجهة الفرنسيين، فقد أصابه الذعر. وفي الخامس من أغسطس أعلن أن مجموعة من الناس كانوا آتين من الصحراء سيشهدون بالتأكيد بأن أوراق لينج قد أعطيت إلى الدغيس والقنصل الفرنسي. وبعدما استقرأ الدغيس الرياح السياسية، قرر أن يهرب؛ وبعد ثلاثة أيام هرب إلى خارج طرابلس على متن فرقاطة أمريكية صغيرة. وبعد ذلك بوقت قصير، أمر الباشا بتنكيس العلم الفرنسي من فوق قنصلية روسو.
تتكشف حالة وارينجتون العقلية في رسالة كتبها إلى وكيل وزارة المستعمرات، آر دبليو هاي، في العاشر من أغسطس، من عام 1829، والتي قال فيها بوضوح: «إن رغبت في أن تتخذ أي خطوات مع السلطات الفرنسية فيمكنك أن تتخذها باطمئنان وثقة؛ لأنني أخشى من أن السيد روسو سيهرب إلى أمريكا هو الآخر، ما إن يسمع بأن فعلته الشائنة قد اكتشفت. إنه لم يختلس من الحكومة الإنجليزية يوميات ومخطوطات الميجور لينج فحسب، وإنما أيضا سرق خطابات لزوجته، ولي، ولعائلتي.»
واختتم وارينجتون بقوله إن الأمر «حقا مروع للغاية ولا يمكنني المتابعة.»
وبعد يومين، توج هجوم وارينجتون المخبول على روسو بعرض للمبارزة. كان البارون بالفعل قد تحمل ما فيه الكفاية؛ وخوفا على حياته، طلب من الولايات المتحدة أن تساعده في الهروب من طرابلس، وهرب، مثل الدغيس، على متن سفينة أمريكية. وبعد أن صارت «مسألة لينج» أزمة دبلوماسية كاملة، عينت الحكومة الفرنسية لجنة للتحقيق في مزاعم وارينجتون. وفي وقت لاحق من ذلك العام، أعلنت أن روسو بريء من كل التهم.
لم تكن التداعيات قد انتهت بعد. كانت تلك الأحداث قد جعلت فرنسا تبدو بلهاء واحتاجت إلى تدارك ذلك. في عام 1830، وصلت سفينة حربية فرنسية إلى مرفأ طرابلس وأمر الباشا علنا بأن يسحب كل التهم التي وجهها إلى القنصل الفرنسي وأن يسدد إلى دائنيه الفرنسيين ديونا بقيمة 800 ألف فرنك. وإذ كانت قاعة عرش الباشا في نطاق المدافع الفرنسية، اضطر إلى أن يقبل. وبعد أن أصبحت الأسرة الحاكمة القرمانلية مفتقرة إلى المال وكذلك إلى المصداقية، كان حكمها يشارف على نهايته؛ وفي عام 1832 أطيح بالباشا من فوق عرشه وعين حاكم عثماني بعد ذلك بفترة وجيزة. توفي الرجل، الذي كان يوما ما حاكم طرابلس القوي، وهو يرتدي أسمالا بالية في كوخ على مسافة قصيرة من القصر الذي كان قد سكنه وقتا طويلا جدا.
كان حال روسو أفضل قليلا. يبدو أنه لم تصل إليه أي نسخة من كتاب «تاريخ السودان»، وهو المخطوط الذي كان من الممكن أن يجعل اسمه بارزا. وبعد التدخل الفرنسي، عاد إلى طرابلس، لكن الشكوك في باريس ولندن ظلت قائمة بشأن مسلكه، ومات بعد ذلك بوقت قصير، في عام 1831. انتهت قصة كاييه نهاية أسعد قليلا. اختير عضوا في جوقة الشرف وكوفئ بمعاش منتظم، وجعله الكتاب الذي يحوي روايته لأسفاره في ثلاثة مجلدات، والذي نشر على نفقة الدولة في عام 1830، رجلا مشهورا. وعلى الرغم من أنه لم ينجح في أن يحظى بدعم من أجل المزيد من الحملات إلى أفريقيا، فقد عاش مع زوجته وأطفاله في مزرعة في غرب فرنسا حتى وقع ضحية لمرض السل وتوفي في السابع عشر من مايو من عام 1838. أما وارينجتون فبقي في طرابلس حتى عام 1846، وعند ذلك الحين أجبر على الاستقالة بعد شجار مع قنصل نابولي على علبة سيجار. وانتقل إلى باتراس، باليونان، حيث مات في العام التالي. ولم يكن قد عثر على يوميات لينج.
أما فيما يتعلق بالمدينة التي كانت موضع الاشتهاء الأوروبي؛ فقد تحقق هدف الوصول إلى تمبكتو، ولكن ليس بالطريقة التي كان يتمناها أي أحد. ومع ذلك، ألهم تبديد كاييه العلني للأسطورة الذهبية التي كانت قد دامت منذ العصور الوسطى طالبا جامعيا في كامبريدج في التاسعة عشرة من عمره أن ينظم شعرا عنها. ففي عام 1829، العام التالي لعودة المستكشف الفرنسي، اشترك الشاب ألفريد، اللورد تنيسون، بقصيدته «تمبكتو» في مسابقة الجامعة الشعرية. تروي القصيدة حكاية كيف بدد «الاستكشاف» حلم الشوارع الفضية والقباب المرتعشة التي كان يعتقد يوما ما أنها موجودة في المدينة الكائنة في الصحراء الكبرى:
أيتها المدينة! أيها العرش الأخير! حيث نشأت
على أنه لغز من الحسن
في كل العيون، اقترب الوقت
الذي يتعين علي فيه أن أترك هذا الوطن المجيد
إلى الاستكشاف المتبصر: قريبا الأبراج المتألقة القاصية
ستعتم بتلويح عصاه السحرية؛
ستعتم، وتتضاءل وترتعش متحولة إلى أكواخ،
بقع سوداء وسط صحراء من رمال كئيبة،
مستوطنات بربرية منخفضة البناء، ذات جدران طينية.
كم تبدلت من هذه المدينة الجميلة!
وفي نهاية القصيدة، قال: «القمر/قد سقط من سماء الليل، وكل شيء صار ظلاما!»
الفصل السابع
قائمة إسماعيل
أبريل 2012
بدا الأمر وكأن تمبكتو قد قصفت بالورق . خارج كل مبنى حكومي - مبنى البلدية، ومبنى المحافظة، والبنوك - فرش بساط من وثائق مكتوبة بالآلة الكاتبة، أو مطبوعة، أو مكتوبة بخط اليد، إنجازات مائة عام من البيروقراطية الحكومية. كان الإداريون قد عملوا منذ أزمنة الاستعمار على جمع تفاصيل لكل جانب من جوانب الحياة في تمبكتو، لكن الثوار، أثناء تحطيمهم لمكاتب المدينة، كانوا قد سحبوا الملفات من كل رف وخزانة ورموها في الطرقات والأزقة، حيث طرحت لتداس بالأقدام. في أحد الأيام مر إسماعيل ديادي حيدرة، بالقرب من المدخل الجنوبي للمدينة، من كثيب رملي مغطى بأوراق أخذت الريح الساخنة تقلبها. تذكر حوداي آغ محمد، الذي كان هو نفسه مسئولا حكوميا لأمد طويل قائلا: «انكشفت دخيلة المدينة أمام الجميع. كانت أسرارها التي أحيطت بكتمان شديد ملقاة في الشوارع.» ولأولئك الذين رأوا العالم من خلال المخطوطات، كان هذا نذيرا بما قد يأتي.
بعد رحلته الطويلة بالسيارة إلى الشمال، بقي حيدرة مع زوجته وأطفاله الخمسة في بيتهم في هامابانجو. أثناء تلك الأيام أمضى جل وقته في مكالمات هاتفية، يتحدث مع أصدقائه وزملائه، ومن وقت لآخر مع صحفيين أيضا. قال لمراسل لصحيفة «لوبوان» إنه منذ وصول الجهاديين كانت الفوضى في المدينة قد أصبحت إلى حد كبير تحت السيطرة. لم يكن قد حدث بعد أي تهديد خطير للمكتبات، لكن هذه الأوقات كانت أوقاتا مضطربة؛ وقال: «تكمن المشكلة في أننا لا نعرف حقا ما يحدث، فضلا عن أن ما نعرفه عما ستأتي به الأيام القادمة أقل.»
كان قلق متزايد يساور منظمات العناية بالتراث خارج مالي. في يوم الثلاثاء، الموافق الثالث من أبريل، اليوم التالي لاستيلاء جماعة أنصار الدين على مقاليد الأمور، أصدرت إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو، تحذيرا بشأن مباني المدينة التاريخية، قائلة: «إن عجائب الهندسة المعمارية المصنوعة من الطوب اللبن في تمبكتو التي تتضمن مساجد جينجربر، وسانكوري وسيدي يحيى العظيمة يجب أن تصان.» واصفة المدينة بأنها «أساسية للحفاظ على هوية الشعب المالي وتراثنا العالمي.» وتوقع آخرون وجود خطر كبير على المخطوطات. قال شاميل جيبي، رئيس مشروع مخطوطات تمبكتو التابع لجامعة كيب تاون: «ليس لدي ثقة في المتمردين.» ثم أضاف: «ربما يكون القائمون على قيادتهم من المتعلمين، لكنهم يرسلون جنودا يتصفون بالجهل وإذا رغبوا في شيء فسيأخذونه ... لن يكون لديهم أي احترام للثقافة الورقية.»
في ذلك الوقت بدأت عريضة أطلقتها مجموعة من واحد وخمسين فردا من كبار الباحثين ومديري المكتبات تكتسب زخما على الإنترنت. اجتذبت العريضة، الداعية إلى حماية المخطوطات خشية أن يتعرض جانب مهم من ذاكرة العالم «للانمحاء»، أسماء أكثر من 1500 أكاديمي من جامعات في أربع وسبعين دولة، من ضمنها ييل، وهارفرد، وأكسفورد، وكمبريدج، والسوربون. أما رئيس معهد أبحاث غرب أفريقيا، فحذر من أن الوثائق الثمينة قد تباع بطريقة غير قانونية أو تتعرض للإتلاف على أيدي المحتلين. وقال الباحث حمادي بوكوم: «هذه المخطوطات ظلت باقية عبر العصور بفضل نظام علماني.» ثم أردف: «وبوصول الإسلاميين، اختل ذلك النظام العلماني، وصارت تلك الثقافة في خطر.»
كان إسماعيل هو الآخر قلقا بشأن نهاية النظام العلماني. شكل تنظيم القاعدة منذ أمد طويل تهديدا لمعلمي اللغة الفرنسية في مالي، وكان النظام التعليمي أحد الأهداف الأولى لبرنامج الأسلمة الذي اتبعته جماعة أنصار الدين. أصدر الجهاديون أوامر بفصل الأولاد عن البنات، ولكن لم يكن يوجد ما يكفي من المعلمين الباقين للتدريس للفصول الإضافية، فبقيت المدارس مغلقة. وأعلن أيضا حظر تدريس الفلسفة، وهو ما وجد إسماعيل أنه يمثل تهديدا شخصيا له؛ لأنه حسب علمه كان هو الوحيد في المدينة الذي كان يدرسها. كان لديه مكتبة كبيرة من الكتب المطبوعة المكرسة لهذه المادة، ومن بينها أعمال لأفلاطون وأرسطو وسينيكا وسبينوزا ودي مونتين، وكان يعرف أن الجهادي ذا اللحية الحمراء، حماها، كان على علم بوجودها لأنه هو وشقيقه الأكبر، الذي كان صديقا للعائلة، كانا قد اعتادا على أن يأتيا لقراءة تلك الكتب.
غير أن مصدر القلق الأكبر لإسماعيل كان يتمثل في مخطوطاته. كان مشغولا في مكتبة فوندو كاتي الخاصة به، وبحلول يوم الأربعاء كانت الوثائق قد صارت مخبأة في أماكن رفض أن يبوح بها حتى بعد عامين ونصف. وكان كل ما قاله: «بهذه الطريقة، حتى وإن أتى الرجال إلى المبنى، ما كانوا سيجدون أي شيء.»
لم يكن هو الوحيد الذي يخفي المخطوطات. كانت مكتبة الونجري - التي كان يقال إنها تعتمد على المجموعة الأصلية للشيخ محمد باغايوغو (بغيغ)، العلامة الذي عاش في تمبكتو في القرن السادس عشر - تحت رعاية القائم عليها محمد سيسيه بينما كان مالكها في الخارج. في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس، انزعج سيسيه من تحذير جاءه في مكالمة هاتفية من مجهول. قال المتحدث: «توخ الحذر، فالأشرار واقفون أمام بوابتك.»
جعلت المكالمة سيسيه يقع في حيص بيص. ماذا كان بوسعه أن يفعل؟ كان عليه أن يذهب ليرى من هؤلاء «الأشرار» ويعرف مبتغاهم. عندما بلغ مبنى المكتبة، القائم في أحد التقاطعات في متاهة الشوارع الواقعة خلف مسجد سيدي يحيى، رأى شاحنتين صغيرتين من شاحنات الجهاديين واقفتين بالخارج أمام واجهة المبنى. حسبما بدا له، لم يكن الرجال المسلحون ينوون الدخول، ولكن مع ذلك كان قلقا. في تلك الليلة اتصل بمالك المكتبة، مختار بن يحيى الونجري، ليخبره بما حدث، واتفقا على أنه ينبغي نقل المخطوطات. وبعد يومين، جاء سيسيه وشقيق مختار الأكبر في جنح الظلام ببضع حقائب وبعض الخزائن لبدء عملية النقل.
تذكر سيسيه الأمر قائلا: «تأملت الجو العام [حول المكتبة]، وتحققت مما إذا كان هادئا حقا وأنه لم يكن يوجد أشخاص مسلحون يتسكعون عند الناصية.» كان الشارع خاليا من المارة؛ لذا انسلا إلى الداخل وأغلقا الباب خلفهما، وشرعا في إنزال المخطوطات من فوق الأرفف ووضعها في الحقائب والخزائن. ومن شدة ارتباكهما لم يعطيا الأولوية للمخطوطات الأكثر أهمية؛ وإنما أخذا ما استطاعا أخذه. استغرق الأمر من نصف ساعة إلى ساعة لملء كل خزانة. أضاف قائلا: «في كل مرة كنا نأخذ مخطوطة، كان يتعين علينا أن نفعل ذلك برفق، وأن نتوخى الحذر حتى لا نتلفها؛ لأن المطويات قديمة جدا. كان ذلك هو السبب في استغراق الأمر الكثير من الوقت.» عندما كان أحد الصناديق يمتلئ، كان يغلق بقفلين. وضعا بعض المخطوطات في حقائب أيضا، لكن كان يصعب حمل هذه الحقائب.
أصغيا بانتباه قبل أن يغادرا، وعندما كان الشارع في الخارج هادئا، أخذا نفسا عميقا وفتحا الباب. حمل أحد الرجلين الخزائن على عربة يد، بينما أحضر الآخر الحقائب الثقيلة. كان شقيق مختار يقطن على مسافة قريبة، على الطريق الرئيسي في الناحية المقابلة لمسجد سيدي يحيى، وأخذا المخطوطات إلى منزله ووضعاها في غرفة مظلمة، وغطياها بأغراض منزلية أخرى بحيث حتى لو جاء أحد ما وتفقد المكان، ما كان سيراها.
لم يكن إخفاء المخطوطات خيارا متاحا للمكتبة الأكثر ظهورا للعيان، الكائنة في مبنى أحمد بابا الجديد في سانكوري، التي احتوت على حوالي 15000 وثيقة من جملة وثائق المعهد البالغ عددها 38803 وثائق. كان رئيس المعهد عاكفا على العمل في هذه المهمة في أيامه الأخيرة ثم سلمها إلى مدير جديد، ولاذ بالفرار من المدينة في ذلك الأسبوع. كان عبد الله سيسيه، وهو رجل طويل القامة ذو وجه بارز العظام، هو الآن أقدم موظفي المؤسسة في تمبكتو. وفي يوم الخميس، تلقى هو الآخر تحذيرا من مجهول. قيل له: «ثمة عصابات تريد أن تأتي وتدمر مكتبتك.» قرر أنه يوجد شيء يمكنه فعله؛ وهو أن يطلب المساعدة من المحتلين الجدد للمدينة.
انطلق صوب معسكر الجيش، الذي كان الجهاديون يتخذونه قاعدة لهم في ذلك الوقت، وسأل حارسا ملتحيا يرتدي زيا عسكريا إن كان يمكنه أن يتحدث مع إياد آغ غالي. لكن قائد جماعة أنصار الدين لم يكن هناك، وبدلا من ذلك أحيل سيسيه إلى قائد آخر، وهو رجل تشادي يدعى أداما الذي سيشتهر بأنه يرتدي سترة انتحارية أينما ذهب. أوضح له سيسيه أنه كان قد تلقى تهديدا بأن مبنى أحمد بابا سيتعرض للنهب، وأخبره أنه يجب حمايته مهما كلف الأمر. وعده أداما بأنه سيرى ما بوسعه فعله.
بعد يومين، وصلت مجموعة من الجهاديين إلى سانكوري وبدأت في الانتشار حول المبنى. ذهب سيسيه ليتحدث إليهم، وأخبرهم أنه كان يعمل لحساب المعهد وأنه تمبكتي؛ قال: «أنا من المدينة ولن أغادرها»، وأنه يتعين عليه أن يأتي بانتظام ليتحقق من أن كل شيء في أمان، فتلك كانت وظيفته. اتفقوا على أن يدعوه يتفقد المكان متى أراد، واستمر في زيارة المبنى كل بضعة أيام ليتأكد من أنه لم يحدث أي ضرر به.
في مبنى أحمد بابا القديم في شارع شيمنيتز، كان متعهد المبنى أبا تراوري وحفيده حاسيني يحاولان أن يصدا مجموعات اللصوص الذين طلبوا منهم أن يفتحوا المخازن، وكانا يخبرونهم بأنهما لم يكن معهما أي مفاتيح. وعندما شرحا هذه المشكلة للجهاديين، تلقيا رسالة باللغة العربية مفادها أن المبنى كان تحت حمايتهما وأنه يجب أن يترك وشأنه. تذكر حاسيني قائلا: «عندما كان يجيء اللصوص، كنا نريهم الرسالة، وكانوا يذهبون على الفور.» ثم أردف: «هكذا تعاملنا مع الأمر.» •••
طوال شهر أبريل، مع ازدياد حرارة الجو، انحسر الناس من شمال مالي. جهز اللاجئون أمتعتهم بالقليل من الأشياء الأساسية، وأغلقوا بيوتهم، ومضوا لركوب أي وسيلة مواصلات استطاعوا أن يجدوها. غادر البعض إلى بلدان مجاورة - موريتانيا، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار - حيث انتهى بهم الحال إلى معسكرات لاجئين؛ وذهب آخرون إلى جنوب مالي، متوقفين في سيجو، أو موبتي، أو باماكو. غادر قرابة نصف مليون شخص الشمال في ذلك العام. ذهب البعض للإقامة مع أقربائهم، وتشاركوا في شقق صغيرة مع عائلات كانت تكدح من أجل لقمة العيش حتى قبل الأزمة، وعاشوا على هبات من برنامج الغذاء العالمي ومنظمات خيرية كانت موجودة في البلاد منذ عقود. فقد البالغون وظائفهم، وفقد الأطفال تعليمهم، وفي كل مرحلة من مراحل هروبهم كان اللاجئون يتعرضون للنهب، على يد المتمردين في الأرض التي كانوا يلوذون بالفرار منها وعلى يد «العسكريين» في الإقليم الذي كانوا يهربون إليه.
كانوا يهربون في الغالب لأنهم كانوا خائفين. تذكر دياكيتي قائلا: «كان بوسعك أن تطالع الخوف على وجوه كل من تراهم.» تذكر أن أفراد أسرته كانوا في حالة من الخوف لدرجة كانوا بالكاد يأكلون. أضاف: «كان الجميع خائفين. لم يكن الناس يعرفون ما الذي كان يحدث في ذلك اليوم، أو ما سيحدث في اليوم التالي .» سرت الشائعات في أرجاء المدينة حول الفظائع التي يرتكبها المتمردون. قالت مغنية تدعى بينتو قربة: «قال الناس إنك إن كنت فنانا فسيقطعون لسانك؛ لأنهم يكرهون الموسيقى ويريدون منعها.» لم يقطع الجهاديون الألسنة، لكنهم منعوا الموسيقى وعاقبوا الناس بسبب عزفها، لذا هربت إلى باماكو.
حتى أولئك الذين أرادوا البقاء وجدوا أنهم لم يكن لديهم أي وسيلة للعيش. فبعدما نهبت المدينة وغادر الموظفون الحكوميون، تعطل قدر كبير من البنية التحتية. كان الجهاديون قد أنقذوا محطة الكهرباء، لكنها كانت تعاني من نقص في الوقود وكان ثمة حالات متكررة من نقص الطاقة وانقطاع التيار الكهربائي. كانت متاجر قليلة مفتوحة، وكانت البنوك كلها قد تعرضت للتحطيم؛ لذا لم يكن ثمة سبيل للحصول على المال. كان السبب الرئيسي لبقاء دياكيتي في المدينة هو وظيفته في المعهد، لكن الآن كان المعهد قد أغلق. تذكر قائلا: «قلت لنفسي، عندما ينفد ما في جيوبي من نقود قليلة، ما الذي سيحدث بعد ذلك؟» ثم أضاف: «يمكنني أن أتأقلم، لكن ماذا عن أطفالي الصغار؟ إن نفد مالي، كيف سأتمكن من الخروج من المدينة، أو حتى أن أجد طعاما؟» عندما وجد مكانا في شاحنة متوجهة جنوبا في اليوم الثالث من الاحتلال، لم يتردد. ترك بعض أجهزة الكمبيوتر ومحركات الأقراص الصلبة عليها نسخ ممسوحة ضوئيا من المخطوطات في منزل أحد زملائه - كان مجرد جزء صغير من المجموعة، لكنه فعل ما بوسعه - ثم غادر المدينة.
تناقش القاضي وزوجته فطومة كل يوم بشأن المغادرة. كان منزلهم في حي أباراجو الذي يقطنه العرب والطوارق، حيث كان يعيش كثيرون من المتمردين والمتعاطفين معهم، والآن شعرا بأنهما مهددان. كانا سيريان قادة تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي في الشارع يوميا، وكان كل جيرانهم من ذوي البشرة الداكنة مثلهما قد غادروا أو يستعدون للمغادرة؛ فمهما يكن ما يقوله الجهاديون عن أن كل الأجناس متساوية أمام الله، لم يصدق القاضي وفطومة قولهم. كان القاضي يقطن بجوار متجر يبيع أرصدة الهواتف المحمولة، وفي أحد الأيام طرقت مجموعة من اللصوص باب بيته، معتقدة أنه كان يدير المتجر. أخبر فطومة أن تغلق الباب على نفسها بعد ذلك.
كان لا يزال يخرج يوميا، ويتجول في أنحاء المدينة على دراجته البخارية الصغيرة، مراقبا ما يجري فيها. في بعض الأحيان كان يتوقف عند محطة الحافلات في وسط السوق الكبير، محاولا قياس مدى سهولة المغادرة، لكنها كانت دوما مزدحمة بالناس لدرجة أنه لم يكن حتى يستطيع أن يدخلها. كان زملاؤه كلهم يلوذون بالفرار؛ ففي كل يوم كان يكتشف أن واحدا آخر قد غادر. ذات مرة طلبت منه مجموعة منهم أن يذهب معهم في سيارة كانوا قد استأجروها، لكنه رفض؛ فقد كان لا يزال ثمة الكثير من الفوضى. كان من الأفضل البقاء حتى تستقر الأمور وبعد ذلك يرى ما يتعين عليه فعله. كان لا يزال يعتقد أن الجيش المالي قد يعود ويستعيد السيطرة على المدينة.
ظل القاضي وزملاؤه على تواصل مع أبا، القائم على مبنى أحمد بابا القديم في شارع شيمنيتز، الذي كان لا يزال يحوي معظم المخطوطات؛ حوالي 24 ألفا. وعلى الرغم من أن الرجال المسلحين كانوا يحومون حول المكان، كانت المخطوطات آمنة. كان أفراد الحركة الوطنية لتحرير أزواد هم من كانوا يشكلون الخطر الأعظم، والآن بعد أن طردوا من المدينة، لم يكن التهديد كبيرا جدا. تذكر قائلا: «لم نكن قلقين بشأن الجهاديين في البداية؛ لأن المخطوطات كانت تتكلم عن الإسلام.» ثم أضاف: «كانت تتكلم عن أمور جيدة. وبما أن هؤلاء الناس كانوا مسلمين، فلن يمسوها بسوء.»
على أية حال، حتى إن أرادوا نقل المخطوطات، ما كان بوسعهم فعل ذلك. لقد كانت أكثر بكثير من أن يستطيعوا نقلها. •••
من بين كثير من الروايات عن الهروب من تمبكتو، لم تكن توجد واحدة مليئة بالحيوية أكثر من رواية إسماعيل ديادي حيدرة. كانت، حسبما قال لاحقا، مثل فيلم «قائمة شندلر» مالي.
إذ كانت مخطوطاته مخبأة، قرر أن يغادر بهدوء في أول يوم سبت بعد الاحتلال، والذي كان يوافق السابع من أبريل، واستأجر شاحنة صغيرة لتأخذه إلى النهر، حيث كانت مكتبة فوندو كاتي تمتلك قاربا. وصلت السيارة في فجر ذلك اليوم، وحمل طفليه ومتعلقاته. عندما فتح الباب الأمامي لمنزله، وجد حشدا من أكثر من خمسين من أصدقائه وجيرانه واقفين في الشارع ومعهم حقائبهم.
سألهم: «ماذا تفعلون هنا؟»
أجابوا: «نحن آتون معك.»
كان من شأن الخروج الهادئ الذي كان يتخيله أن يكون مستحيلا مع هذا العدد الكبير جدا. كان من المحتم أن يسمع أفراد جماعة أنصار الدين أو الحركة الوطنية لتحرير أزواد الجلبة ويأتوا لتحري الأمر، وعلى أية حال لم تكن الشاحنة التي كان قد استأجرها كبيرة بما يكفي لأن تحملهم. لكنهم كانوا يائسين. وكان عليه أن يحاول. طلب منهم أن يصعدوا إلى الشاحنة - كان يوجد امرأتان في الثمانينيات من عمرهما، بالإضافة إلى أطفال وحتى رضع - وعندما أصبحت الشاحنة محملة فوق طاقتها تماما قال للآخرين إن السائق سيعود من أجلهم. بعد ذلك صعد إسماعيل إلى الشاحنة ومعه طفلاه - الفردان الوحيدان من أسرته اللذان كانا معه في تمبكتو - وكذلك جهاز كمبيوتر وأربع من أثمن مخطوطاته، التي حملها معه في حقيبة. حذره السائق من أنه إذا رأى الرجال الحقيبة عند أول نقطة تفتيش، فستسرق، ولكن بوسعه أن يخبئها في المساحة التي تحت مقعده، وكان هذا هو الموضع الذي وضعت فيه بالفعل.
عندما شرعت الشاحنة في التحرك، بدأ الناس الذين خلفهم وراءه في النحيب. طلب إسماعيل من السائق أن يتوقف ومضى إليهم ليطمئنهم. قال لهم: «سوف تغادرون تمبكتو.» ثم أضاف: «لن يبقى شخص واحد هنا.» ثم عاد ليصعد إلى المركبة المثقلة بالركاب، والتي انطلقت صوب النهر.
أوقفوا عند نقطة تفتيش تابعة للحركة الوطنية لتحرير أزواد عند الطريق الجانبي المؤدي إلى المطار، حيث صوب إليهم اثنان من مقاتلي المتمردين بندقيتيهما بينما صعد آخرون إلى الشاحنة لتفتيشها، وأخذوا يسألون إن كان معهم أسلحة أو كانوا يخفون جنودا. أجابهم إسماعيل قائلا: «لا، لا يوجد جنود هنا. كلنا مدنيون.» بعد تفتيش الحقائب بدقة، لوح لهم جنود الحركة الوطنية لتحرير أزواد بأن يمضوا في طريقهم، وتابعت الشاحنة مسيرها نحو العبارة في كوريومي . هناك تعرضوا للاستيقاف مجددا، ومن جديد طلب من الجميع أن يترجلوا من الشاحنة بينما فتشها مقاتلو الحركة الوطنية لتحرير أزواد.
سأل القائد: «من المسئول هنا؟»
فتقدم إسماعيل.
قال القائد: «إن كنت تريد المغادرة، فسيتعين علي أولا أن أوضح من نحن ولماذا أصبحنا الحركة الوطنية لتحرير أزواد.» ثم انخرط في حديث سياسي دام أكثر من عشر دقائق، مخبرا اللاجئين أنهم كانوا يقاتلون من أجل الجميع، ليس فقط الطوارق وإنما كل أهل الشمال، الذين كانوا ينوون أن يحرروهم من سيطرة الحكومة المالية. أوضح منشأ الحركة والهدف منها، وصولا حتى إلى تصميم علم الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وعندما انتهى من حديثه، تساءل إن كان الجميع قد فهموا. فأومأ الركاب بالإيجاب.
أمسك بكتف إسماعيل وسأله: «ما رأيك؟»
قال إسماعيل: «أنت تطلب مني رأيي، لذا سأخبرك بما أظن.» ثم أردف: «أظن أنكم قد اقترفتم أمرا سيئا جدا. إن كنتم قد أتيتم إلى هنا لتحرير السكان، فبدلا من إحراق المنازل وإطلاق النار وإخافة الناس، ينبغي عليكم أن توضحوا هذا للناس في تمبكتو، وأنا شبه واثق من أنه عندئذ سيتبعكم جانب كبير منهم. يجب أن تأخذوا الناس في الحسبان. فنحن لدينا رأي أيضا. يمكننا أن نتفق معكم، أو نختلف.»
نادى القائد على رجل آخر، كانت عمامة صحراوية ملفوفة حول وجهه بحيث كانت عيناه فقط مرئيتين. طلب من إسماعيل أن يكرر ما قاله، وبدأت مناقشة استمرت قرابة نصف ساعة. وعندما انتهوا، كان سائق الشاحنة قد عاد إلى تمبكتو ليصطحب المجموعة الثانية من عند المكتبة ويحضرها إلى كوريومي.
كانت الساعة عندئذ الثانية بعد الظهر، وكان تبادل الحجج السياسية لا يزال يجري عندما قال المتمرد المقنع إنهم إن أرادوا المغادرة، فيجب عليهم أن يذهبوا فورا؛ لأنه ورجاله كانوا على وشك أن ينالوا راحتهم من الخدمة، ولم يكن بوسعهم أن يضمنوا أن المجموعة التالية ستدعهم يغادرون.
شكره إسماعيل.
قال الرجل المقنع: «ثمة أمر آخر.» ثم أردف: «عندما يحل الليل، فأينما كنتم، توقفوا هناك. سوف يطلقون النار على أي شيء يتحرك.»
مضى اللاجئون إلى المرفأ، حيث صعدوا على متن قارب مكتبة فوندو كاتي. كانوا قد سافروا مسافة قصيرة فقط عندما حل الليل، لكن إسماعيل، عملا بنصيحة المتمرد، طلب من قائد المركب أن يتوقف عند القرية التالية. رحب بهم بالطعام والمراتب في منازل القرويين، وعند الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي تابعوا طريقهم صوب موبتي. استغرق الأمر قرابة أسبوع، لكن في النهاية وصل كل الركاب الذين كانوا مع إسماعيل إلى إقليم خاضع لسيطرة الحكومة.
في باماكو، انتقل رجل المكتبات إلى منزل خال كان مملوكا لشقيقه. قال: «كان في صحبتي عندئذ كل أفراد عائلتي.» كان معه أيضا مخطوطاته الأربعة الأثمن، التي كان قد أخرجها من تمبكتو. •••
بينما كان إسماعيل يرتحل في عكس مجرى النهر، كان حيدرة يغادر منزله ليتفقد المدينة. كان قد مضى أسبوع على الاحتلال، وكانت أول مرة يغامر فيها بالخروج منذ وصوله في يوم الأحد السابق. سار جنوبا صوب الحي الإداري، مارا بمقر البلدية ومبنى المحافظة في ميدان الاستقلال. أفزعته الأوراق التي كانت متناثرة في الشوارع؛ كان هذا النوع من الخطر هو بالتحديد ما جعله يعود إلى تمبكتو. قال: «جعلني ذلك أشعر حقا بالاستياء.» ثم أردف: «كانوا قد بدءوا بالمباني الحكومية وانتقلوا إلى كل المباني الإدارية الأخرى. كانت كلها منهوبة.» كانت بعض عمليات النهب لا تزال تجري، وأدرك أنه إن استمرت، فستصل في نهاية الأمر إلى المكتبات، التي كانت عادة في مبان كبيرة وكانت أهدافا واضحة.
عاد إلى المنزل في حالة من القلق، مصمما على أن «يفعل شيئا.» كان من المستحيل عقد لقاءات في ذلك الوقت؛ لذا أمضى الأيام التالية في الحديث عبر الهاتف مع زملائه وأصدقائه من العائلات الرئيسية المالكة للمكتبات. «سألوني: «ما الذي تريد قوله؟ أجل، نرى الأوراق في الشوارع، ونرى الأضرار، ولكن ماذا تقترح؟»»
قال إنهم ينبغي أن يجمعوا المخطوطات في صناديق وخزائن، ويحضروها إلى المنازل العائلية. «قالوا: «حسنا، نحن متفقون معك في هذا، ولكن ليس معنا مال لشراء خزائن. لا يمكننا أن نفعل ذلك.»»
لم يكن بحوزة حيدرة أي نقود هو الآخر، ولكن كانت معه منحة بقيمة 12 ألف دولار من مؤسسة فورد كان الغرض منها أن يدفع بها تكلفة تعلمه الإنجليزية في جامعة أكسفورد. لم يكن قد استخدمها - وقال أصدقاؤه إنه لم يكن يعتزم أن يستخدمها - وفي ذلك الوقت بعث برسالة إلى مؤسسة فورد يقول فيها إنه يريد تصريحا لأن ينفق المال على المخطوطات. تذكر حيدرة قائلا: «قالوا: «بالتأكيد، اعتبر الأمر منتهيا؛ نصرح لك بذلك».»
كانت العقبة التالية التي واجهها هي أن يتحصل على المال. كانت البنوك قد نهبت، لكن وسائل النقل كانت لا تزال تعمل؛ لذا حرر شيكا وأرسله مع أحد زملائه مسافة 250 ميلا جنوبا إلى موبتي، التي كانت لا تزال تحت سيطرة الحكومة. كان المال أكثر بكثير من أن يأخذه كله دفعة واحدة؛ لذا عقد اتفاقا مع أحد التجار هناك والذي وافق على أن يحمله ويدفع منه مبالغ صغيرة عندما يقتضي الأمر ذلك. عندئذ أصبح بحوزته مبلغ كبير من المال - خمسة أو ستة ملايين فرنك غرب أفريقي - يمكنه أن يشتري بواسطته خزائن. كان يشتريها بعد ذلك كل يوم تقريبا في السوق، حتى نفدت من المدينة واستلزم الأمر طلب المزيد منها. وبمرور الوقت كان المخزون في موبتي سينفد أيضا، وكان سيتعين على حيدرة أن يجعلهم يصنعوها، فاشترى براميل زيت خاوية من تمبكتو وأرسلها جنوبا لتحويلها إلى خزائن وشحنها شمالا مجددا.
لم يكن حيدرة هو الوحيد الذي طلب من الناس أن ينقلوا مخطوطاتهم إلى منازلهم؛ لم يكن كثير من العائلات المالكة للمخطوطات، وفي ذلك عائلة إسماعيل والونجري، بحاجة إلى أن يطلب منها ذلك. قال سانيه شريفي ألفا إنه في تلك الأيام الأولى للاحتلال عقد «لقاء سري»، استهدف بدرجة كبيرة المخطوطات المملوكة لمعهد أحمد بابا. قال: «التقينا بأعضاء المجلس الإسلامي الأعلى.» ثم أضاف: «شعروا بأن عليهم أن يفعلوا شيئا لنقل المخطوطات.» في النهاية بدا أن نقل أرشيف الدولة سيكون مخاطرة كبيرة، لكن نصح الآخرون بأن يحاولوا نقل مخطوطاتهم بتكتم: «تناقلوا فيما بينهم رسالة مفادها أن على كل واحد منهم أن يهرب مخطوطاته ويخبئها حيثما استطاع.»
تقدمت العملية تقدما سريعا؛ وفي حالة حيدرة كان التقدم أسرع من اللازم. في الأسبوع الثاني من الاحتلال، زار طاقم من قناة الجزيرة تمبكتو. كانت جماعة أنصار الدين قد أعطت محمد فال، مراسل القناة في شمال أفريقيا، إذنا بأن يقدم تقريرا عن الحياة في المدينة المحتلة، وسأل عن مجموعات المخطوطات. أخبره الجهاديون بأنها آمنة تماما، وأنه ينبغي أن يرى ذلك بنفسه.
في يوم السبت، الموافق الرابع عشر من أبريل، ذهب فال لمقابلة ابن أخت حيدرة، محمد توريه، الذي كان يعتني بمكتبة مما حيدرة التذكارية، وأخبره بأنه يريد أن يقوم بجولة في المبنى ليرى المخطوطات الشهيرة. بدأ توريه يتصبب عرقا؛ فقد كان يعرف أن المكان شبه خاو وقد يتهم بالسرقة. قال لفال إن المكتبة لا تستحق المشاهدة؛ فلم يكن يوجد هناك أي شيء مثير للاهتمام حقا، ولن تكون مادة جيدة على التليفزيون، وإنه على أي حال لم يكن لديه وقت ليريه المكان. عاد فال وأخبر الجهاديين بما جرى.
بعد ذلك بوقت قصير، أتى رجال مسلحون إلى منزل توريه وبصحبتهم طاقم تليفزيوني. قال توريه: «أجبروني على الذهاب إلى المكتبة.» ثم أردف: «ذهبت، وفتحتها، وصوروا كل شيء، وشاهدوا الأماكن، والمكاتب، وكل شيء.» ولكن لم يكن يوجد أي شيء هناك؛ كبرت الصورة الملتقطة بالكاميرا مصورة أرففا وخزائن خاوية. كانت المخطوطات الوحيدة التي استطاعوا أن يجدوها هي عدة صناديق كان توريه قد خبأها في أحد الحمامات.
سأله فال، بينما كانت المجموعة المرافقة له، والتي كانت عبارة عن ثلاثة من الجهاديين، تنتظره عند باب المكتبة: أين بقية المخطوطات؟ قال توريه كاذبا: «لا أعرف.» ثم أردف: «سيتعين عليك أن تتحدث مع الرئيس. لا اطلاع لي على هذه الأمور.»
قدم فال تقريرا مشوشا إلى حد ما.
في تلك الأثناء استمر عبد الله سيسيه يزور المبنى الجديد في سانكوري ليتحقق من أنه لم تتعرض أشياء أخرى للنهب. في الأسبوع الثاني، وجد جهاديا جديدا مسئولا عن المكان لم يتعرف سيسيه عليه. قيل لسيسيه إن القادة الكبار اتخذوا المبنى مقر إقامة لهم، وإنه لا يمكنه الدخول. وبعد بضعة أيام، سمع سيسيه أن عبد الحميد أبو زيد، الذي كان قد انتقل إلى المكان ومعه العديد من الرهائن الفرنسيين، كان من ضمن «القادة الكبار». كان معهد أحمد بابا قد صار ثكنة جهادية.
لن يسمح لسيسيه بالدخول ثانية.
الجزء
التدمير
كن حمارا في معشر جهلاء
أيقنوا أنهم أولو العرفان؛
فهم يحسبون للجهل من ليس
حمارا خلوا من الإيمان.
عمر الخيام، «الرباعيات»، (تعريب أحمد الصافي النجفي)
الفصل الثامن
مستكشف من فوق مقعده الوثير
1830-1849
حتى بمقاييس القرن التاسع العشر لرسوم البورتريه، يبدو ويليام ديزبورو كولي مشاكسا. في رسوم البورتريه التي تصوره، نجده عالقا في مرحلة الكهولة، ينظر إلى المستقبل بفم مقلوب، وعينين منتفختين متشككتين. لن تكون الأجيال القادمة رحيمة بكولي. ولم يكن مستكشفو عصره كذلك؛ إذ كان قليلون من «جغرافيي المقاعد الوثيرة»، حسبما وصف على سبيل الاستهزاء، مكروهين أكثر من هذا الشخص. ومع ذلك، كان كولي يمتلك بالفعل قدرات جديرة بالملاحظة. فبينما كانوا يطئون بأقدامهم مستنقعات أفريقيا الاستوائية وغاباتها الموبوءة بالأمراض مسلحين بالخرائط والبوصلات، كان يصنع اكتشافات رائدة مماثلة بتصفح الوثائق في المكتبة البريطانية. كان كولي هو من دفع البحث عن تمبكتو وبلاد السودان ليتجاوز مجرد رسم الخرائط، بادئا الاستقصاء الأوروبي حول تاريخ وسط أفريقيا القديم.
كان قد ولد في أيرلندا، على الأرجح في عام 1795، وهو العام الذي انطلق فيه بارك لأول مرة من أجل العثور على نهر النيجر. كان كولي ابنا لمحام وحفيدا لمهندس معماري مرموق، وتلقى تعليمه في جامعة ترينيتي، بدبلن، وانتقل في شبابه للعيش في إنجلترا، حيث التحق بالمشهد الأدبي اللندني، وأصبح كاتب مقالات في مجلة «أثينيوم» وأسهم في دورية «أدنبرة ريفيو». في عام 1830، شرع في وضع سرد لاستكشاف أوروبا للعالم، وهو كتاب «تاريخ الاستكشاف البحري والبري»، والذي رسخ سمعته بصفته جغرافيا، وأصبح واحدا من أوائل أعضاء نادي الاستكشاف الجديد الذين كانوا يلتقون في غرف جمعية البستنة في شارع ريجينت. بعد ذلك أطلق على هذه المنظمة، التي سرعان ما استوعبت الرابطة الأفريقية الآخذة في الانحسار، اسم الجمعية الجغرافية الملكية.
سرعان ما انخرط كولي بروحه القتالية في مسألة تصويب المزاعم المبالغ فيها لبعض معاصريه. في عام 1832 حقق انتصارا مبكرا على منافس لإنجلترا بفضح الأسفار التي كان من الواضح أنها مدلسة للمستكشف جان بابتيست دوفيل، الذي زعم أنه وصل إلى عمق المناطق الداخلية لأنجولا ونال على هذا الإنجاز ميدالية ذهبية من الجمعية الجغرافية الفرنسية. بدأ كولي استعراضه لكتاب دوفيل المكون من ثلاثة مجلدات «الرحلة إلى الكونغو والمناطق الداخلية لأفريقيا الاستوائية» بسخرية معتادة؛ إذ كتب: «لم تتمخض أفريقيا، التي تميزت في كل العصور بأنها أرض للمعجزات والعجائب، عن شيء أكثر استثنائية من المجلدات التي بين أيدينا»، قبل أن يثبت أن من شأن الرحلة أن تكون مستحيلة في المدة التي كان دوفيل قد زعم أنها استغرقتها. كانت العواقب كارثية على المستكشف الفرنسي؛ إذ دمرت سمعته وانتحرت خطيبته خجلة. تحدى دوفيل للمبارزة أي شخص يكرر ملاحظات كولي، لكنه في نهاية الأمر هرب من فرنسا إلى البرازيل، حيث قتل على ضفاف نهر الأمازون في عام 1837.
يبدو أن تلك الحادثة التعيسة جعلت كولي يتذوق طعم الإطاحة بالأشخاص. من المؤكد أن الأمر عزز من سمعته؛ ففي عام 1832 انتخب لعضوية مجلس الجمعية الجغرافية الملكية، وبعد ذلك بثلاثة أعوام أصبح نائب الرئيس، ولكن صعوده عبر مناصب المؤسسة الإنجليزية توقف فجأة عندما افتعل شجارا مع سكرتير الجمعية الجغرافية الملكية، العقيد ألكسندر ماكونوكي، متهما إياه بسوء السلوك المالي. تصاعدت الواقعة، التي ربما يكون قد أشعل شرارتها أمر تافه بقدر إضاعة رسوم اشتراك كولي، حتى وصلت إلى دعوات للمبارزة، وأجبر كولي على التنحي من منصبه الرسمي. ومنذ ذلك الحين، كرس نفسه للبحث عما أطلق عليه الشخصية الرائدة والبارزة في الاستكشاف الفيكتوري، ديفيد ليفينجستون، «الاكتشافات النظرية»، والتي، مع ذلك، أعطت منهجا وموثوقية للأفكار الأوروبية بشأن أفريقيا، وعلى الأخص غرب السودان.
في عام 1834، أجرى كولي مقابلة مع تاجر عربي وعبده الأسود في لندن بشأن جغرافيا شرق أفريقيا. وربط بين معلوماته وبين المصادر البرتغالية وغيرها من المصادر وأخرج عملا رائدا عن المناطق الداخلية في القارة، اقترح فيه فكرة وجود بحر داخلي غير مكتشف في شرق أفريقيا يسمى بحيرة نياسي، والتي تعرف حاليا باسم بحيرة تنجانيقا. قاده هذا إلى استكشاف شامل لمجموعة أخرى من المصادر، والتي كانت حتى ذلك الحين مستخدمة استخداما قاصرا؛ وهي المصادر الجغرافية العربية القديمة. بالاستعانة بهذه المصادر اعتقد أن بوسعه تصويب أخطاء أسلافه، وبخاصة رسام الخرائط الفرنسي اللامع من القرن الثامن عشر جان بابتيست بورجينيون دانفيل ورسام الخرائط الخاص بالرابطة الأفريقية، جيمس رينيل:
تطرح الجغرافيا العربية لأفريقيا، في الوقت الحاضر، قدرا كبيرا، ولكنه مشوش، من المادة العلمية، التي أحيانا ما يستعين بها الكتاب المعاصرون، ليختار كل منهم ما يبدو أنه يخدم غرضه، ويكيفه بما يتلاءم مع وجهات نظره بتأويل يكافئ في ضحالته وتحيزه طريقته في البحث. سمح جغرافيون معاصرون - دانفيل ورينيل على غير المتوقع - لأوجه تشابه متخيلة في نطق الأسماء أن تقودهم بعيدا عن الحقيقة وعن مسار الاستقصاء القويم ... جردت الفوضى التي أدخلتها هذه الطريقة الخاطئة في الأسلوب الأعمال الجغرافية الأولى عن وسط أفريقيا من كل قيمة لها.
عزم كولي على «فحص أعمال المؤلفين العرب الأعظم قيمة» وتطوير المعلومات الواردة فيها. ساعده في هذه المهمة صديق، هو المستشرق الإسباني باسكوال كيانجوس، الذي كان يضع مخططا لتاريخ الإسلام في بلده بالعودة إلى مخطوطات المؤرخين العرب ومقارنتها بالروايات الأوروبية الموجودة. استعان كولي بنفس التقنية؛ وهي المقارنة المرجعية بين المصادر العربية ومصادر مؤرخين أوروبيين، مثل المؤرخ البرتغالي جواو دي باروس والإسباني لوي دل مارمول كربخال، بالإضافة إلى الكتابات الأحدث لبارك وكاييه. بهذه الطريقة استطاع تقدير مدى موثوقية كل مصدر وتحديد أصل المعلومات. كان من شأنه أن يبدأ من الصفر، متخليا عن كل الفرضيات السابقة عن مواضع إمبراطوريتي غانا ومالي. وبهذه المعالجة الحيوية، التي دعاها «تصحيح المصادر»، استبعدت التقارير الأكثر خيالية والروايات المستقاة من مصادر غير مباشرة.
كانت استعانة كولي بالنصوص العربية مؤشرا على النهج الذي كان يتبعه، والذي كان واسع الأفق مقارنة بعصره . كانت الجغرافيا الأوروبية من وجهة نظره ضيقة الأفق؛ وأكدت كتاباته على حقيقة أن الأفارقة السود كان لهم ماضيهم الخاص بهم، وكانت إلى حد كبير متحررة من العنصرية التي ظهرت بعده. على سبيل المثال، لم يغفل، عند وصفه لعمليات الإعدام «الهمجية» في بلاط مواتا يامفو في شرق أنجولا، عن ملاحظة أن القوانين الجنائية في البلدان الأوروبية كانت شديدة القسوة على نحو مماثل.
كان جغرافيان عربيان مفيدين بوجه خاص لكولي؛ وهما الأندلسي أبو عبيد الله البكري، الذي كتب أهم عمل له، كتاب «المسالك والممالك»، في عام 1068، وابن خلدون، وهو عالم ولد في تونس في عام 1332. لاحظ كولي أن هذين المؤلفين كانا قد كتبا باستفاضة عن حضارات غرب أفريقيا. كان البكري مفيدا على نحو خاص فيما يتعلق بإمبراطورية غانا القديمة، والتي كانت، على خلاف الدولة الحديثة التي تحمل نفس الاسم، تقع على بعد ثلاثمائة ميل غرب تمبكتو وكانت لا تزال في تصاعد عندما كان على قيد الحياة. أما ابن خلدون فكان المصدر الرئيسي للمعلومات عن إمبراطورية مالي، التي امتدت من جاو إلى الساحل السنغالي وتضمنت غانا في القرن الثالث عشر.
لاحظ البكري أن اسم غانا كان يعني أشياء متنوعة. كان لقبا يعطى لحكام المملكة، ولكن كان يوجد أيضا ما سمي «مدينة غانا» التي هي:
مدينتان سهليتان. إحداهما المدينة التي يسكنها المسلمون، وهي مدينة كبيرة فيها اثنا عشر مسجدا أحدها يجمعون فيه. ولها الأئمة والمؤذنون والراتبون، وفيها فقهاء وحملة علم. وحواليها آبار عذبة منها يشربون وعليها يعتملون الخضراوات.
على بعد ستة أميال من مدينة غانا كانت تقع «مدينة الملك»، والتي كانت تسمى «الغابة». وكان فيها قصر، ومسجد، ومبان مقببة، وحولها غابات كانت تحتوي على سجون، وكذلك بساتين وأدغال حيث كان يسكن «سحرتهم، وهم الذين يقيمون دينهم». كان الملك وثنيا، يتحلى بحلي النساء في العنق والذراعين ويجعل على رأسه الطراطير المذهبة، لكنه كان يحيط نفسه بمترجمين ووزراء مسلمين. وحول قبته عشرة أفراس بثياب مذهبة ووراء الملك عشرة من الغلمان يحملون الحجف والسيوف المحلاة بالذهب، وعن يمينه أولاد ملوك بلده قد ضفروا رءوسهم بأنواع الذهب وعليهم الثياب الرفيعة. وعلى باب القبة كلاب منسوبة لا تكاد تفارق موضع الملك تحرسه، في أعناقها سواجير الذهب والفضة يكون في الساجور عدة رمانات ذهب وفضة.
وكان يقال إن ملك غانا كان إذا احتفل يضع مائتي ألف رجل في الميدان، منهم رماة أزيد من أربعين ألفا. وكان يمول قوته العسكرية بفرض الضرائب على المواد الخام التي كانت تستخرج في المملكة، بحسب ما أورد البكري:
ولملكهم على حمار الملح دينار ذهب في إدخاله المملكة وديناران في إخراجه. وله على حمل النحاس خمسة مثاقيل وعلى حمل المتاع عشرة مثاقيل. [المثقال، وهو المكافئ السوداني للدينار أو الدوقية، كان حوالي 4,25 جرامات من الذهب.] وأفضل الذهب في بلاده ما كان بمدينة غياروا، وبينها وبين مدينة الملك مسيرة ثمانية عشر يوما في بلاد معمورة بقبائل السودان التي مساكنها متصلة ... وإذا وجد في جميع معادن بلاده الندرة من الذهب استصفاها الملك، وإنما يترك منها للناس هذا التبر الرقيق. ولولا ذلك لكثر الذهب بأيدي الناس حتى يهون. والندرة تكون من أوقية إلى رطل.
وفقا للبكري، كان الملك يمتلك ندرة من الذهب في حجم حجر ضخم.
بعد ذلك بثلاثمائة عام، في عام 1374، شرع ابن خلدون، الذي كان قد سافر أسفارا واسعة في شمال أفريقيا وإسبانيا، وعمل في بلاط فاس وغرناطة وتلمسان والقاهرة، في كتابة كتاب ضخم من سبعة مجلدات عن تاريخ العالم. احتوى آخر مجلدات الكتاب، الذي يعرف عادة باسم «تاريخ البربر»، على معلومات قيمة عن غرب السودان، وعن حكام إمبراطورية مالي. وذكر أنه، في حقبته، كانت الإمبراطورية الغانية قد ضمتها مملكة مالي، التي امتدت حتى جاو، على بعد مائتي ميل شرق تمبكتو، وكانت قد صارت «بالغة القوة.» كانت إمبراطورية مسلمة؛ إذ اعتنق ملوك مالي الأوائل الإسلام في القرن الثالث عشر، وحج كثير منهم إلى مكة. أفاض ابن خلدون بوجه خاص في الحديث عن رحلة حج عام 1324 التي أداها مانسا موسى، الذي كان «رجلا مستقيما وملكا عظيما .» وظلت الحكايات عن موسى تحكى في شمال أفريقيا بعد ذلك بخمسين عاما. جلب موسى معه العديد من العلماء المسلمين عند عودته من مكة، ومن ضمنهم الشاعر والأديب الأندلسي أبو إسحاق الساحلي. قال أحد هؤلاء الرفقاء لابن خلدون:
كنا نواكبه أنا وأبو إسحاق الطونجق [الساحلي] دون وزرائه ووجوه قومه نأخذ بأطراف الأحاديث، نتمتع. وكان متحفا في كل منزل بطرف المآكل والحلاوات. والذي تحمل آلته وحربته من الوصائف خاصة اثني عشر ألفا لابسات أقبية الديباج والحرير اليماني.
عاد الساحلي مع الملك إلى عاصمته، حيث تمنى أن يكون له منزل مبني بالكلس، وهو ما كان غير معتاد في أرضه، فنهض الأندلسي بالمهمة، وأقام بناية مربعة الشكل لها قبة. قيل لابن خلدون إنه قد: «استفرغ فيها إجادته. وكان صناع اليدين.» ثم أضاف المتحدث: «وأصفى عليها من الكلس ووالى عليها بالأصباغ المشبعة فجاءت من أتقن المباني. ووقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم، ووصله باثني عشر ألفا [حوالي 50 كيلوجراما] من مثاقيل التبر مثوبة عليها، إلى ما كان له من الأثرة والميل إليه والصلات السنية.» قيل أيضا إن الساحلي بنى قصرا لموسى في تمبكتو، وأول تجسيد لمسجد جينجربر.
دام حكم موسى خمسة وعشرين عاما، بحسب ابن خلدون، وسرعان ما انهارت الإمبراطورية المالية بعده، أثناء حكم حفيده ماري جاطه. وصف مصدر ابن خلدون، الذي كان قاضيا شرعيا مغربيا، والذي عمل في جاو، ماري جاطه بأنه «كان أشر وال عليهم بما سامهم من النكال والعسف وإفساد الحرم.» أهدر جاطه ثروة الإمبراطورية ب «سرفه وتبذيره»، بل إنه اضطر حتى لبيع حجر الذهب الذي كان أنفس ذخائر الخزانة المالية. وعند وفاته في عام 1373 / 1374، كان الملك في أزمة، ولم يتمكن خلفه، الذي كان حاكما أفضل منه بكثير، من الحفاظ على السلطة. •••
في عام 1841، نشر كولي عمله غير المسبوق «نيجرولاند العرب، مفحوصة ومشروحة». كان أول سرد موثوق فيه عن الجغرافيا التاريخية لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ومثل بزوغ فجر فرع جديد من فروع المعرفة، وهو تاريخ غرب أفريقيا. لم يعترض أهل الخبرة اللاحقون على معظم تحديداته لأسماء الأماكن المأخوذة من المؤرخين والجغرافيين العرب في العصور الوسطى، وشكل كتاب «نيجرولاند» أساسا لكل جهود البحث اللاحقة. وعادة ما كان يستمتع بالأخطاء التي كان قد اكتشفها في أعمال الآخرين؛ إذ خلط رينيل بين كانو، في نيجيريا المعاصرة، وغانا، وبرهن كولي على أن الاسمين كانا مختلفين من ناحية الأصل. كذلك أدرك أن «غانا» كانت تمثل مملكة وأيضا اسم الملك نفسه، وأن العاصمة التي أقام بها الحاكم لم تكن دوما نفس المدينة، ولكن ربما كانت «اسما متنقلا» استخدم لوصف أماكن مختلفة في أزمنة مختلفة.
ومع ذلك ظل كولي شخصية محل جدل - «طائر نوء هائج»، على حد وصف أحد النقاد - ولم يكن ثمة اعتراف يذكر بإسهاماته أثناء حياته. بعد وفاته في عام 1883، وصفه التأريخ الرسمي لجمعية هاكلوت، وهي مؤسسة كانت قد أنشئت لنشر روايات المستكشفين لرحلاتهم، بأنه «عبقري غريب الأطوار إلى حد ما.» شككت تأبينات أخرى صراحة في قواه العقلية استنادا إلى آرائه الثابتة على نحو غير عادي. ومع أنه كان قد استنتج على نحو صحيح وجود جبلي كليمنجارو وكينيا، فإنه أصر على أنهما لا يمكن أن يكونا مغطين بالثلوج بعد وقت طويل من رؤية مستكشفين أوروبيين أنهما كانا كذلك، واعتقد أن بحيرتي مالاوي وتنجانيقا الأفريقيتين العظيمتين كان يضمهما مسطح مائي واحد عملاق، على النقيض من مشاهدات ليفينجستون. مات كولي فقيرا في منزل خلف نهايتي السكة الحديدية لمحطتي كينجز كروس ويوستن، في لندن، ولكن عمله عن غرب السودان سيظل واحدا من الأعمال القليلة في تلك الحقبة التي «ترقى إلى مستوى متطلبات الدراسات الحديثة»، كما كتب المؤرخ جون رالف ويليس.
أيضا كان عمل كولي هو العمل المفضل لمستكشف يبدو أنه كان قد أقام معه علاقة احترام متبادل، وهو رجل لم يكن يخلو من ميول كراهية للبشر، بل تشارك مع كولي في ميله إلى الصلف العلمي العنيد. كتب المستكشف: «قبل رحلتي إلى إقليم نهر النيجر، لم تكن توجد أية بيانات معروفة تذكر فيما يخص تاريخ هذه البقعة الواسعة والمهمة ، عدا حقائق قليلة منفردة، توصل إليها السيد كولي بعبقرية وبحث عظيمين.»
كان هذا هو الرجل الذي سيمضي ليميط اللثام عن أسرار أكبر مملكة في تاريخ غرب أفريقيا، وهي إمبراطورية تزامن أوجها مع أوج تمبكتو، وكانت أوروبا على جهل تام بها. كانت المملكة تسمى سونجاي، وكان اسم المستكشف هو هاينريش بارت.
الفصل التاسع
فارس بلا رأس
أبريل-مايو 2012
عاد حيدرة إلى باماكو في بداية شهر مايو ليجد العاصمة في حالة من الفوضى. تنحى الضابط الذي كان قد قاد الانقلاب في العاصمة، النقيب أمادو «بولي» سانوجو، بعدما واجه عقوبات اقتصادية قاسية فرضتها دول غرب أفريقيا المجاورة، وتألفت الحكومة في ذلك الوقت من تحالف غير مستقر بين مؤيديه ورئيس مدني مؤقت. في غضون شهر كانت البلاد قد فقدت قائدها المنتخب ونصف أراضيها، وقطعت المساعدات الأجنبية التي كانت تعتمد عليها، وسحب الدبلوماسيون وأغلقت السفارات أو تركت بموظفين أساسيين. وعلى حد تعبير منظمة العفو الدولية، كانت مالي في خضم «كارثة دولية كبرى.»
في الرابع والعشرين من أبريل كان مدير جديد قد تولى رئاسة معهد أحمد بابا. كان عبد القادر إدريسا معيجا رجلا عنيدا قوي البنية، ولم يكن من الممكن أن يبدأ وظيفته الجديدة في وقت أسوأ من ذلك. كان سلفه قد سلمه وثيقة مثنية الحافة في حافظة بلاستيكية فيها قائمة بأصول المؤسسة، ولكن الله وحده كان يعلم كم بقي منها. كان مقر عمله في تمبكتو يستخدم ثكنة للجهاديين، وكان موظفوه قد لاذوا بالفرار، ولم يكن معه أي أموال، حيث كان أحد القرارات الموضوعية القليلة للحكومة منذ الانقلاب هو إيقاف الإنفاق بالكامل على الشمال. كان يوجد أيضا تهديد فعلي للمخطوطات التي كانت مهمته حمايتها. إذن ماذا كان بوسعه أن يفعل؟
بدأ بتجميع مبلغ أربعمائة دولار شهريا بصعوبة لاستئجار غرفتين فوق متجر سمك ودجاج تتفشى فيه الجرذان في ضاحية كالابان كورا في جنوب باماكو. من هناك، سيحاول أن يتوصل إلى كيفية دفع مرتبات موظفيه، وكيفية البقاء على اتصال مع القليلين الذين بقوا في تمبكتو. كان على اتصال دوري بعبد القادر حيدرة في الفترة التي سبقت بدء وظيفته الجديدة - في الواقع، كان حيدرة هو الذي أخبره بأن المنصب سيعرض عليه - وحينئذ اقترح التمبكتي أن يعقدا اجتماعا.
سأله معيجا: «مع من؟» «مع إسماعيل ديادي حيدرة. سأتصل به.»
وحيث إن معيجا كان الوحيد الذي لديه مكتب في باماكو، اتفق الرجال الثلاثة على أن يتقابلوا هناك. وبعد وقت قصير كان المسئولون عن أشهر مجموعات مخطوطات في تمبكتو، الذين كان بوسعهم أن يزعموا فيما بينهم أنهم يتحكمون في حوالي 90 ألف وثيقة من وثائق المدينة، يلتقون بصفة شبه يومية. تذكر عبد القادر حيدرة قائلا: «اجتمعنا، وتكلمنا عن المخطوطات، وتحدثنا عما كان يتعين علينا فعله للحصول على مساعدة.»
كان التباين بين هذه الشخصيات الثلاثة واضحا. كان معيجا، الذي كان مباشرا في حديثه، وفظا أحيانا، رئيسا سابقا لقسم اللغة العربية في جامعة باماكو وكان قد عمل على مشروع لرقمنة المخطوطات وتصنيفها يطلق عليه
MLI/015 «مالي خمسة عشر» لذا كان يعرف المخطوطات، لكنه كان مبتدئا بالمقارنة بزملائه مالكي المخطوطات. أما إسماعيل، فكان شديد التهذيب، وأرستقراطيا، وذا شخصية آسرة. كان يقول إنه كان سليلا للعلامة التمبكتي الذي كان يعيش في القرن السادس عشر، محمود كاتي، الذي سميت مكتبته فوندو كاتي تيمنا باسمه، وكان يحتفظ ببيت في غرناطة. ثم كان يوجد حيدرة نفسه، الذي كان يزعم هو الآخر أنه كان سليل عائلة تمبكتية من العلماء. كان يمكن أن يكون متقلبا، ويوزع المعلومات حسبما يناسبه، لكنه كان يحب أن يجعل الناس يضحكون، حتى في لحظات التوتر الشديد. كان من شأنه هو وإسماعيل أن يخاطب كل منهما الآخر مازحا في هذه الاجتماعات بقوله «يا بني»، وحتى معيجا كان يتورط أحيانا في هذا المزاح الخشن. تذكر قائلا: «في البداية، كان حقا فريقا قويا.» ثم أضاف: «كنا حقا نثق بعضنا في بعض في البداية. كان حقا جوا وديا.»
في هذه الاجتماعات كان رجال المكتبات يتشاركون أي معلومات كان بوسعهم أن يستقوها من الأشخاص الذين كانوا على اتصال بهم في الشمال. اعتقدوا أن الخطر الأعظم على المخطوطات في هذه المرحلة كان من العصابات ولصوص الحركة الوطنية لتحرير أزواد.
طيلة شهر، كانت منظمة اليونسكو تصدر تصريحات دورية عن التهديد الذي كان يشكله المتمردون على تراث تمبكتو. في منتصف شهر أبريل كانت المنظمة قد حذرت من أن انتقال الجهاديين إلى مبنى أحمد بابا الجديد كان سببا ل «انزعاج شديد»؛ لأنه كان يحتوي على وثائق يرجع تاريخها إلى حقبة تمبكتو المجيدة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر؛ قالت المديرة العامة للمنظمة إيرينا بوكوفا: «لا بد من الحفاظ على هذا التراث.» ثم أضافت: «لقد احتشد مواطنو تمبكتو من أجل حماية هذه الوثائق القديمة، وأنا أحيي شجاعتهم وتفانيهم. ولكنهم يحتاجون إلى مساعدتنا.» وناشدت أن تتخذ إجراءات متضافرة من الفصائل المالية المتناحرة، وحكومات الدول المجاورة، والإنتربول، ومنظمات الجمارك، وسوق الأعمال الفنية، وجامعي التحف الفنية للحيلولة دون خسارة هذه الكنوز، التي مثلت أهمية كبيرة للبشرية جمعاء.
بينما أعربت منظمة اليونسكو عن قلقها، كانت غرائز رجال المكتبات تقول إن عليهم أن يفعلوا العكس، وكان القرار الأول الذي اتخذوه أن يحاولوا إبقاء المخطوطات بعيدا عن نظر الرأي العام. سنحت لحيدرة فرصة أن يحاول إسكات المنظمة التابعة للأمم المتحدة في الثامن عشر من مايو، عندما حط وفد للطوارئ في باماكو من أجل أول اجتماع كبير مع الحكومة المالية منذ بداية الأزمة. دعي حيدرة إلى مؤتمر في وزارة الثقافة مع المسئولين الذين عملوا على التراث المالي، وذهب ومعه أجندته الخاصة. عندما طلب منه أن يقدم تقريرا عن حالة المخطوطات، قال للسياسيين، والمسئولين، والصحفيين الذين كانوا حاضرين إنه على الرغم من أنه كان قد عاد حالا من تمبكتو فإنه لم يكن بوسعه أن يقول أي شيء عن مجموعات المخطوطات. سئل عن السبب في ذلك. أجاب قائلا إن السبب هو أن المخطوطات كانت الأشياء الأكثر هشاشة في التراث الثقافي للمدينة، وإنه يجب ألا تذكر في الإذاعة أو التليفزيون. ناقش المسئولون المسألة باقتضاب، ثم وقفت وزيرة الثقافة، ديالو فاديما توريه وطلبت من الصحفيين ألا ينشروا أو يبثوا أي شيء قيل عن المخطوطات. وقالت: «يجب أن تغفلوا كل شيء تسمعونه.»
مضى حيدرة، راضيا، يشرح ما تم حتى ذلك الحين، وأخبرهم أن كثيرا من المجموعات قد نقلت إلى بيوت الناس، حيث كانت آمنة بما يكفي في الوقت الراهن. كانت المساعدة الوحيدة التي احتاج إليها حقا في هذه المرحلة هي ألا تذكر المخطوطات في وسائل الإعلام. وقال: «هذا كل شيء.» كانت رسالة رجال المكتبات قد وصلت إلى الصحافة وإلى أكبر كيان مدافع عن التراث العالمي، وستنقل إلى الآخرين. قال إسماعيل: «في اجتماعاتنا الكثيرة ناقشنا بالتفصيل استراتيجيات الاتصال هذه.» ثم أضاف: «طلبنا من هيئات معينة ألا تتحدث كثيرا بشأن المخطوطات في الصحف أو في التليفزيون أو الإذاعة.»
بعد أن أصبح التعتيم الإعلامي قائما، انتقل رجال المكتبات لمناقشة أمور مهمة أخرى. كان يوجد أمل ضئيل في أن الموقف سيتحسن؛ وفي الواقع، تعين عليهم أن يفترضوا أنه سيسوء. ماذا سيفعلون إذن؟ كان معيجا يتساءل عن كيفية إيصال مخطوطات المعهد إلى بر الأمان منذ أن تولى منصبه الجديد، والآن ناقش الرجال الثلاثة الفكرة صراحة.
لم يعتقد حيدرة في البداية أن إجلاء المخطوطات كان هو السبيل الصحيح. كان شحن عشرات الآلاف من الوثائق الهشة إلى خارج تمبكتو تحت أنظار المحتلين وعبر الصحراء الخطرة أمرا يحمل مخاطر كبيرة، ليس فقط على الوثائق. كان عدد حالات الضرب والتشويه في الشمال يتزايد يوميا، وكذلك حالات الاغتصاب والقتل التي كان يرتكبها مسلحون من مجموعات مختلفة؛ فبنهاية شهر أبريل كانت إقامة شريعة أنصار الدين قد أدت إلى حالات إعدام بإجراءات موجزة، وعقوبات جلد، وبتر للأعضاء، بل قطع أذن امرأة لارتدائها تنورة قصيرة. ماذا كان سيفعل هؤلاء الناس إذن في شخص قبض عليه وهو ينقل المخطوطات؟ ثم كانت توجد مسألة المال: كانت تذكرة الذهاب بوسائل النقل العام من وإلى باماكو تتكلف 25 ألف فرنك غرب أفريقي، أو ما يوازي حوالي أربعين دولارا. أخذا في الاعتبار عدد الشحنات، والمبالغ الإضافية التي سيلزم إنفاقها على القائمين على النقل والرشاوى الضرورية للشرطة ورجال الجمارك، كان من شأن الإجلاء الكامل للمخطوطات أن يكون باهظ الثمن.
تذكر حيدرة قائلا: «قلنا إننا يجب أن ننتظر.» ثم أضاف: «لم نكن نظن أن إجلاء المخطوطات كان فكرة جيدة في ذلك الوقت. كان ثمة الكثير من التوتر، وإن بدأنا، لم نكن نظن أن الأمر سينجح. قلنا إنه كان من الضروري أن نترك الأشياء على ما هي عليه في الوقت الحالي، لبعض الوقت.»
ومع ذلك، بدءوا بالفعل في الأعمال التحضيرية.
كانت توجد شخصية رابعة في باماكو كانت تلتقي بين آن وآخر مع حيدرة، وهي امرأة أمريكية تدعى ستيفاني دياكيتي. كانت دياكيتي محامية، حسبما قالت لاحقا، وخبيرة مدربة في حفظ الكتب، وكانت تدير منظمة استشارات تنموية باسم «دي إنترناشيونال». كانت في الخمسينيات من عمرها، وذات شعر أشقر رمادي، ومفعمة بالنشاط، وكانت دولية حقا. كانت تمتلك منازل في سياتل وباماكو، وعلى الرغم من أن مهارتها اللغوية كانت تعني أنها كان بوسعها أن تسب بعنف باللغتين البامبارية والإنجليزية، كانت بارعة جدا في النقاش المتعلق بالاستشارات، الذي يمكن أن تخرج منها فيه عبارات مثل «التدوير في استخدام أجهزة الاتصال والبرامج» و«تيسير الاستثمار» دون أي صعوبة. كانت هي وحيدرة قد التقيا لأول مرة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت تسافر في أرجاء منطقة تمبكتو تقيم مشروعا لتعليم الفتيات، ونشأت بينهما صداقة دائمة، ولكن صاخبة، بسبب المخطوطات. (كان أزواجهما - فقد كان له زوجتان؛ وكان لها زوج مالي الجنسية - يحبون أن يطلقوا عليهما «الثنائي الرهيب»، حسبما قالت لاحقا.) كان هو المالك لمجموعة مخطوطات مهمة، بينما كانت تمتلك هي صلات بعالم التنمية الدولية، وكانت جيدة في عملية بدء المؤسسات. كانا قد حولا «سافاما»، المنظمة غير الحكومية التي أنشأها حيدرة لحماية مستقبل تراث المدينة المكتوب، إلى مؤسسة يمكن للجهات المانحة الدولية أن تعمل معها.
صاغت دياكيتي نداء وأرسلته إلى كل المؤسسات الثقافية الكبرى التي لديها في سجل جهات الاتصال، بينما قام رجال المكتبات بجولة في السفارات لمحاولة الحصول على دعم مالي. في مرحلة ما، كان حيدرة مقتنعا بأنهم يحظون بمساندة جنوب أفريقيا؛ وقيل له إنهم لم يكن عليهم سوى أن يعدوا خطابا يطلبون فيه المساعدة ويوقعونه بالاشتراك مع رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في مالي. تذكر حيدرة قائلا: «في الخطاب، طلبنا من إخوتنا المسلمين في جنوب أفريقيا أن يهبوا إلى عوننا، أو أن يأتوا معنا إلى تمبكتو لنرى كيف سنضطلع بالأمور.» أرسلوا الخطاب، وكل يوم كانوا ينتظرون أخبارا سارة، ولكن لم يأتهم رد أبدا، وتدريجيا أدركوا أن المساندة الجنوب أفريقية لن تتجسد على أرض الواقع. قال حيدرة: «كنا محبطين جدا.» ثم أضاف: «كان الأمل الوحيد الذي لدينا، وكان قد ضاع.»
استمروا في الاتصال بآخرين - سفارات، ومؤسسات، ومنظمات غير حكومية - لكن لم يرغب أحد في أن يضطلع بهذه المهمة الجريئة والمحفوفة بمخاطرة سياسية. تذكر معيجا: «قالت منظمة اليونسكو إن التهريب لم يكن يتلاءم مع نطاق صلاحيتها.» ثم أردف: «قالوا إنهم لن يدخلوا في تلك اللعبة.» •••
في الشمال، كان الجهاديون يعززون من إحكام قبضتهم على تمبكتو. وفي الأسبوع الأخير من أبريل، شاهد المرشد السياحي العاطل عن العمل باستوس موجة نشاط في بنك التضامن المالي (بي إم إس) الخاوي على الناحية الأخرى من الشارع قبالة منزله. من موقع المراقبة الممتاز من حديقة سطح منزله، رأى مجموعة من الجهاديين تصل في شاحنة مكدسة بمراتب وأغطية أسرة كانوا قد أخذوها من فندق لا بالميراي الفاخر، الذي كان فيما مضى مكانا مفضلا لنجوم الغناء الشعبي الذين كانوا يأتون أحيانا إلى تمبكتو. دخلوا البنك المنهوب، وتفقدوا المكان، ونظفوه، وانتقلوا إليه بكل ما كان معهم من أثاث.
أمضى باستوس، الذي لم يكن لديه في الوقت الحاضر ما يفعله سوى الاعتناء بحديقته المشرفة على النهر، معظم العام التالي يشاهد الأنشطة اليومية لجيرانه في المبنى المقابل عبر الشارع. كان معظم من يعيشون فيه من جنود المشاة، ورجال الشرطة، وموظفي الجمارك، والحراس. اختار القادة الإقامة في مكان آخر، لكنهم تعاملوا مع مبنى بنك التضامن المالي باعتباره مكتبا. كان أبو زيد، «الزعيم الكبير»، يصل كل صباح في الساعة الثامنة، ومعه بندقيته الكلاشينكوف معلقة على كتفه وهاتف أقمار صناعية في جيبه، في سيارة يقودها شاب قيل لباستوس إنه ابنه. لم يرتد أبو زيد سوى ثلاثة أطقم من الملابس أثناء مدة الاحتلال كلها، حسبما قال باستوس، ولكنه كان يحمل مبالغ مالية ضخمة: «رأيت الطريقة التي كان ينفق بها المال. كان المال لديهم بلا قيمة.» كان يوجد مقصف في مبنى بنك التضامن المالي، وكل صباح كان أبو زيد يتحدث مع الطاهي حول قائمة الطعام قبل أن يعطي ملاحظات كانت كافية له ليشتري ما احتاجه من السوق. مما أثار حفيظة باستوس أن الطاهي كان كثيرا ما يأتي إليه ويأخذ توابل وأواني من مطبخه. لم يكن بوسع باستوس أن يرفض؛ إذ قال: «فهمت عقليتهم.» ثم أضاف: «إن رفضت، سيظنون أنك ضدهم، وستصبح عدوهم. لذا من الأفضل ألا تقول شيئا.»
كل يوم كان باستوس يراقب أبو زيد يغادر مبنى بنك التضامن المالي في حوالي الثالثة بعد الظهر، وكل مساء كان يشاهد المزيد من صغار المقاتلين يسيرون عبر السقف إلى مبنى مبيت ملاصق. أصبح بإمكانه أن يتعرف على هؤلاء الرجال جيدا، وعرف من لهجاتهم أنهم أتوا من كل أنحاء العالم الإسلامي. بعدما كان نبأ احتلال تمبكتو قد انتشر، كان الجهاديون من كل الجنسيات قد أتوا إلى المدينة. كان كثيرون منهم جزائريين، ولكن كان يوجد أيضا باكستانيون، وصوماليون، ومغاربة، وتونسيون، بل إنه كان يوجد رجل فرنسي، هو جيل لو جوين. كان لو جوين قد أمضى ثلاثين عاما في الأسطول التجاري قبل أن ينتقل إلى الصحراء، معتنقا الإسلام، ومتسميا بالاسم الجهادي الحركي عبد الجليل.
كان يوجد ماليون وسط الجهاديين أيضا، وكان كثيرون منهم قد تحولوا إلى جهاديين على يد الدعاة المتطرفين الذين كانوا يأتون إلى تمبكتو طيلة عقود. وبحسب محمد «حامو» ديديو، وهو باحث تمبكتي معاصر، كان الدعاة قد وصلوا في قوافل يبلغ عددها أربعين، وأقاموا في مساجد المدينة. في البداية كانوا موضع ترحيب. بل إن الناس كانوا يستمعون إلى فلسفتهم وينخرطون معهم في نقاشات دينية. كانوا يدعون الوهابيين، نسبة إلى رجل الدين المتشدد من القرن الثامن عشر محمد بن عبد الوهاب؛ أو السلفيين، نسبة إلى السلف، وهم الأجيال الثلاثة الأولى من المسلمين، الذين قال عنهم النبي: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.» اعتقد الوهابيون السلفيون أن الإيمان النقي للأيام الأولى للإسلام قد لوثته البدع الدينية والتأثيرات الأجنبية، وأنه كان يتعين التخلص منها حتى يعود المسلمون إلى حالتهم الأولى المباركة. ولكن بمرور الوقت، سئم التمبكتيون بقدر كبير من الانتقاد والتعالي، وزادت شكوكهم في وسائل هؤلاء الدعاة. تساءلوا: من الذي كان يمولهم؟ ومن الذي يمكن أن يتحمل أن يقضي ثلاثة شهور بعيدا عن زوجته وعائلته، يعظ في أفريقيا؟ وعندما بدءوا يتكلمون في المساجد، كانت جماعات الناس تقوم واقفة وتنصرف. لكن الزوار لم ييأسوا.
كان بعض السلفيين من المحليين. كان حماها ذو اللحية الحمراء من هؤلاء لكن الأكثر تطرفا كان حامد موسى. كان موسى قد ولد في عائلة من الطوارق على مسافة ليست ببعيدة من المدينة وعاش بعض الوقت في المملكة العربية السعودية قبل أن يعود إلى تمبكتو، عازما على تحويل المدينة إلى طريقته في التفكير. كان غير محبوب على الإطلاق - فحسبما تذكر أحد جيرانه: «كان روحا مظلمة»؛ كان شخصا عنصريا يعتقد أن السود ينبغي أن يكونوا عبيدا وكان يهوى إذلالهم - ولكن كان بإمكانه الحصول على مبالغ مالية كبيرة من أجل مشروعه الراديكالي، وعندما لم تعد مواعظه موضع ترحيب في مساجد المدينة، بنى مسجدا خاصا به. أصبح مسجد موسى ملاذا للراديكاليين والوعاظ الأجانب، وقرر المصلون العاديون الذين كانوا يعيشون في الجوار أنهم سيكونون أكثر أمنا بتأديتهم للصلاة في البيت. ومن أجل أن يجتذبهم للعودة أعطاهم موسى وأصدقاؤه طعاما ومالا بشرط أن يأتوا للاستماع، ودعي الأتباع الأكثر حرصا إلى حضور معسكرات تطرف مدتها أسبوع في الأدغال.
كان آغ الحسيني هوكا، المعروف باسم «هوكا هوكا»، واحدا من التمبكتيين الذين أصبحوا متطرفين بهذه الطريقة. كان رجلا ذكيا، ومعلما في المدرسة الفرنسية العربية، وكان من رسخ إيمانه هو أخوه الكبير محمد عيسى، الذي كان ذا شخصية جادة وعلى معرفة عميقة بالقرآن. عندما كان وعاظ السلفيين يتكلمون، كان عيسى يقول لهوكا وللشباب أن يأخذوا حذرهم. كان يقول: «إنهم يحاولون خداعكم.» لكن عيسى مات في سن مبكرة، وبعد موته، وقع هوكا تحت تأثير موسى. وبدأ يحضر المعسكرات في الأدغال، وسرعان ما أصبح يعظ الناس في مسجد موسى. كان أحمد الفقي المهدي رجلا محليا آخر أصبح من المتحولين إلى السلفية. ولاحقا صار المهدي أول رجل تحكم عليه المحكمة الجنائية الدولية بتهمة التدمير الثقافي.
سارع موسى، وهوكا هوكا، والمهدي إلى الانضمام إلى المتمردين في أبريل 2012؛ وإذ احتاجت الثورة الإسلامية في مالي إلى ماليين مرموقين، منح الثلاثة كلهم أدوارا بارزة في الإدارة الجديدة للمدينة. عين هوكا هوكا القاضي الشرعي، بينما انضم موسى والمهدي إلى الشرطة الإسلامية، وتولى الأخير رئاسة هيئة الحسبة. عهد إلى هؤلاء الثلاثة مهمة فرض قانون العقوبات الجديد بما يتوافق مع التفسير الحرفي للحدود الستة المذكورة في القرآن والسنة:
حد السرقة:
قطع اليد.
حد الزنا:
الرجم حتى الموت أو مائة جلدة.
حد قذف المحصنات:
ثمانين جلدة.
حد شرب الخمر:
ثمانين جلدة.
حد الردة:
القتل أو النفي.
حد قطع الطريق:
القتل.
بعد أيام عدة من وصول الجهاديين إلى البنك المقابل لمنزل باستوس، رأى أنهم قد وضعوا لوحة مكتوبا عليها باللغة العربية «الشرطة الإسلامية». انتقلت إلى المبنى مجموعة من الرجال المسلحين الذين كانوا يرتدون طبارد زرقاء مزينة بشارة عبارة عن بندقيتي كلاشينكوف متقاطعتين وبدءوا دوريات في أنحاء المدينة، مع أنهم كانوا حريصين في البداية على ألا يطبقوا القوانين الجديدة بصرامة مفرطة.
تذكر باستوس قائلا: «كانوا ماكرين للغاية.» •••
وخلال أبريل ودخولا في مايو كان سكان تمبكتو بين شقي رحى المجموعتين المتمردتين المتناحرتين. كانت الحركة الوطنية لتحرير أزواد لا تزال تحتل الأطراف الجنوبية للمدينة، وكلما أرادوا إنجاز شيء ما، كانوا يذهبون إلى القادة المدنيين للمدينة، بينما كان الجهاديون يذهبون إلى المسئولين الدينيين في المجلس الإسلامي الأعلى، بقيادة الإمام الأكبر، عبد الرحمن بن السيوطي. لذلك كانت إدارة المدينة في حالة من الفوضى وكان أهلها مشتتين. أحيانا كانت القرارات تتخذ مرتين أو لا تتخذ على الإطلاق، وعندما كان يقبض على الناس في ظل القوانين الجديدة، لم يكن أحد يعرف إلى من يذهب ليدافع عن نفسه. من الذي من شأنه أن يتولى إدارة شحنات المساعدات الخيرية المرسلة إلى تمبكتو من الجنوب؟ من الذي من شأنه أن يتولى تنظيم ري الحقول، إذ كان موسم المطر يقترب؟
فعل كبراء تمبكتو - المدينة الديمقراطية إن كانت توجد مدينة هكذا - ما كانوا يفعلونه دوما في أوقات الاضطراب؛ عقدوا اجتماعا. أسفر الاجتماع عن تشكيل هيئة مدنية جديدة، هي لجنة الأزمة، التي تألفت من قادة أحياء تمبكتو الثمانية عشرة، واتخذوا من رئيس البلدية سيسيه رئيسا لهم ونائب رئيس البلدية السابق ديادي نائبا للرئيس. تقرر أن تجتمع لجنة الأزمة في مكتب رئيس البلدية مرتين أسبوعيا، وكإجراء احترازي حدد الكبراء غرضهم كتابة وأرسلوه إلى الجهاديين للتصديق عليه.
بينما كانوا ينتظرون ردا، قرر الكبراء أن يناقشوا القضية الأكثر إلحاحا، وهي قضية تنظيم ري الحقول. بثوا رسالة على محطة الإذاعة المحلية يطلبون حضور كل المزارعين الذين عملوا في المناطق الزراعية الرئيسية إلى مبنى البلدية في صباح اليوم التالي. في الساعة التاسعة صباحا، في اليوم التالي، بينما كان الناس يبدءون في التجمع، توقفت سيارتان تابعتان للشرطة الإسلامية أمام المبنى وأمرت الناس بأن يتفرقوا. قرر أربعة أعضاء في لجنة الأزمة، وفي ذلك ديادي، أن يبقوا في ساحة المبنى، وبعد ثلاثين دقيقة عاد الجهاديون. لقموا أسلحتهم وجهزوها للإطلاق ونزلوا من شاحنتيهم. «ألم تسمعونا نقول إنه يتعين على الجميع أن يغادروا؟»
قال ديادي: «بلى.» ثم أردف: «لقد قلتم للناس أن يغادروا. ولقد غادروا.» «وماذا تفعلون أنتم هنا؟»
قال ديادي: «نحن المسئولون.» ثم أضاف: «قلنا للناس أن يأتوا. والآن يتعين علينا أن ننتظر لنخبر الناس الذين يأتون عن السبب في أنه لا يوجد أحد هنا وسبب عدم وجود اجتماع. عندما ننتهي من إخبارهم سنذهب، ولكن لا يمكننا أن نذهب قبل ذلك. نحن ممثلو الناس.»
بعد أربعة أيام، تلقى ديادي مذكرة استدعاء للجنة الأزمة للمثول أمام الجهاديين. ذهبوا إلى مركز الشرطة، ومن هناك اقتيدوا بسيارة إلى مكتب السجل العقاري السابق، حيث كان أبو زيد يقيم في ذلك الوقت، وأرشدوا إلى منطقة إقامة رحبة جهزت بالسجاد والفرش للضيوف. وهناك وجدوا القيادة العليا للجهاديين بكامل هيئتها؛ آغ غالي ذو الوجه الطفولي، وأبو زيد الضئيل الحجم، وسندة ولد بوعمامة الناطق الرسمي الوسيم اللطيف، ومجموعة من ضباط آخرين من جنسيات مختلفة، بجوار كل واحد منهم بندقية كلاشينكوف. أثناء احتساء الشاي أوضح محتلو المدينة أنهم كانوا قد أجروا تحريات، وأنه يسعدهم قبول أن لجنة الأزمة كانت بالفعل تمثل أهل تمبكتو. كرروا شعار أنهم كانوا قد جاءوا ببساطة من أجل أن يكفلوا أن تعيش المدينة المقدسة تبعا للتعاليم التي أوحى بها الله. وقالوا إنهم قريبا سيعقدون في جاو مؤتمرا سيعلن فيه عن إقامة جمهورية أزواد الإسلامية، ومن تلك اللحظة يجب أن يفهم أنه لم تكن توجد دولة في شمال مالي - لا حاكم مقاطعة، ولا محافظ معين من قبل باماكو، ولا رئيس بلدية ولا دستور مالي - لا وجود إلا للشريعة. ينبغي أن تفهم اللجنة أهدافهم وتساعدهم في إرشاد المدينة إلى الطريق القويم، ولن ينفعهم أن يعبسوا أو يتشاجروا؛ لأن الله قد وهبهم وسيلة لجعل الناس يفعلون ما يشاءون. ومع ذلك كانوا يفضلون الإقناع على الإجبار، ولهذا السبب دعي الكبراء اليوم.
تذكر ديادي: «من ذلك الوقت فصاعدا كان يتعين أن نعمل معا.» ثم أردف: «وإذا شعرنا أن أمورا لم تكن مناسبة، فعلينا أن نخبرهم، والعكس صحيح. كان التعاون قد بدأ بشكل أو بآخر.»
ومع ذلك، كانت توجد بعض الموضوعات التي لن تتمكن اللجنة والجهاديون من مناقشتها. من هذه الموضوعات كان موضوع المخطوطات؛ إذ يتذكر رئيس البلدية سيسيه: «كان موضوعا خطيرا للغاية.» ثم أضاف: «كانت تلك مشكلة مخفاة.»
الموضوع الآخر كان مصير آثار التراث العالمي بالمدينة. كان الجهاديون يعتبرون ذلك أمرا غير قابل للتفاوض. •••
ذات مرة وصف أمادو همباطي با إمبراطورية أحمد لوبو المسلمة بأنها قامت على «أساس قديم من الأديان المحلية.» بحسب همباطي با، أنشأ هذا إطارا اجتماعيا يمكن أن تعيش فيه الشعوب المختلفة جنبا إلى جنب مع الحرص على الحفاظ على أعراقها وخصائصها المختلفة. في بداية القرن الحادي والعشرين، كان هذا الخليط من المعتقدات لا يزال موجودا على ضفاف نهر النيجر. كانت مالي دولة مليئة بالمساجد، حيث كانت حياة الناس محكومة بالأساس بمبادئ المذهب المالكي السني، ولكن كانت أيضا دولة كان فيها المرابطون يصنعون تمائم «جو جو» و«جريس جريس» لسائقي الشاحنات وربابنة القوارب لدرء الشر، والصحفيون يطلبون تعاويذ لمساعدة ضيوفهم على أن يفضوا بما لديهم. بعض هذه الممارسات كان دليلا على وجود «الأساس القديم»؛ وبعض الممارسات الأخرى كان مظاهر للروحانية الصوفية التي كان لها منذ وقت طويل دور في الإسلام الأفريقي.
يعتقد الصوفيون، بوجه عام، أن الأحياء يمكن أن يصلوا إلى الاستنارة من خلال التكريس الداخلي لأنفسهم لله. ينشئ كبار قادة الصوفية علاقة حميمة خاصة مع الذات الإلهية، وأحيانا يبجلون باعتبارهم أولياء. ضمت الأضرحة في أنحاء تمبكتو رفات مئات من هؤلاء الأولياء، ومن شأن الناس أن يتبركوا بأقواهم وأشهرهم ليتشفعوا لهم في حياتهم. أدرج ستة عشر ضريحا من هذه الأضرحة في قائمة اليونسكو لآثار التراث العالمي في عام 1988، إلى جانب مساجد جينجربر، وسانكوري، وسيدي يحيى، وشكل الأولياء المدفونون فيها - وهم شخصيات تاريخية مثل العم الأكبر لأحمد بابا، وهو الشيخ سيدي محمود، قاضي تمبكتو العظيم في القرن السادس عشر، والشيخ ألفا موي، الذي قتل على يد القوات المغربية في عام 1594 - متراسا روحيا صان المدينة بطريقة معجزة. شرح إير مالي الكيفية التي كان يعمل بها هذا عمليا: «إذا نظرنا إلى مدينة تمبكتو، نجد أضرحة عند أركانها الأربعة، وكل ولي يحتل ركنا. هذا يعني أن لا شيء سيئ يمكن أن يدخل هناك، ولذلك فالمدينة آمنة. وحتى إن ألقيت قنبلة أو قذيفة، فتذكر أنها لن تسقط بداخل المدينة. بل ستسقط خارجها.» وبحسب سانيه شريفي ألفا، كان الدفاع الروحي قد أنقذ المدينة من وابل من قذائف الهاون التي سقطت عليها أثناء تمرد الطوارق في عام 1992، ولكنها لم تنفجر. وقال: «لا يوجد تفسير علمي للأمر.»
اعتبر الجهاديون كثيرا من هذه المعتقدات، وفي ذلك تبجيل أولياء تمبكتو، «بدعا» خطرة على شعائر السلف، أول وأطهر المسلمين. ومن أجل إعادة المدينة ودينها إلى الحالة النقية، كان لا بد من استئصال هذه البدع.
ومع ذلك، عندما نشب الصراع لم ينشب بسبب أحد الأولياء، وإنما بسبب جن.
في النصف الثاني من أبريل قيل إن شبحا ظهر في المدينة، متسربلا بثياب بيضاء، وقطعة طويلة من القطن ملفوفة حول وجهه بطريقة الطوارق، وكان راكبا على حصان أبيض. كان هذا هو الفاروق، وهو الرمز التعويذي للمدينة، والذي حفظ المدينة طيلة قرون من الأرواح الشريرة والسلوك السيئ. كان يقال إن الفاروق يذرع المدينة جيئة وذهابا بعد حلول الظلام فارضا نظاما لحظر التجول يقوم على ثلاثة تعديات؛ ففي المرتين الأوليين اللتين كان يقبض فيهما على شبان يسيئون التصرف كان يرسلهم إلى البيت محذرا إياهم، ولكن في المرة الثالثة كان يجعلهم يختفون للأبد. ذات مرة، منذ قرون، كان قد حاول أن يوبخ زوارا مقدسين من بلدة جني كانوا قد بقوا في المسجد لوقت متأخر، ومن شدة غضب إمام مسجد سانكوري حبس الفاروق سبعمائة عام في مياه نهر باني. وبعد ذلك، عاد الجني، واسترد مكانه الصحيح في قلب تمبكتو، وصار له نصب خاص على جزيرة مرورية في ميدان الاستقلال.
ظن مامادو قاسي، وهو شاب مالي قيل إن والده كان مؤذنا في باماكو، أن الفاروق صنم وثني زائف. عندما وصل إلى تمبكتو في أبريل من عام 2012 للانضمام إلى الجهاد وأخبر عن الجني، قرر أن أفضل ما يفعله هو أن يهدم النصب. قال: «تسلقته وهشمته أمام الجميع الذين قالوا لي إن هذا هو الجني الذي يحمي المدينة.» لم يتمكن من هدم النصب كله - كانت القاعدة كبيرة ومصنوعة من خرسانة سميكة - لكنه تمكن من أن يسقط رأس الفارس وقدميه وقدمي جواده. قال لحشد الناس الذين تجمعوا ليشاهدوا: «انظروا، لا وجود لجنكم!» ثم أضاف: «إن الله هو الذي يحمينا!»
وبدلا من أن يقتنع الناس، أغضبهم العمل التجريبي الذي ارتكبه وأظهروا غضبهم بأن خرجوا في مسيرة إلى معسكر الجيش. فرق الجهاديون المحتجين بإطلاق النار فوق رءوسهم.
لم يكن نصب الفاروق قديما ولا ذا قيمة خاصة، ولكنه كان رمزا لشيء أراد المحتلون استئصاله، وكان العمل التخريبي الذي اقترفه قاسي ذا أهمية كبيرة لأنه كان بمثابة استهلال للحرب المقبلة على أشباح تمبكتو.
بعد أسبوعين من استهداف نصب الجني هاجم الجهاديون شيئا أثمن بكثير: ضريح الشيخ سيدي محمود. كان هذا الولي، الذي توفي في عام 1548، عالما جليلا من علماء تمبكتو، ومعروفا بعلو شأنه. كان قبره، المصنوع من الحجارة والطين اللبن، قد بني على تلة منخفضة على موقع ردهة منزله، شمال المدينة. كان أتباعه مدفونين حوله، بحيث كان الآن في مركز مقبرة كبيرة، وكان الناس يذهبون إلى هناك على نحو منتظم للتبرك.
في يوم الجمعة، الموافق الرابع من مايو، رأت مجموعة من الجهاديين المتعبدين وقالت لهم إن ما يفعلونه محرم وينبغي عليهم أن «يطلبوا العون من الله مباشرة دون وسيط» وليس من شخص ميت. بعد ذلك بدءوا يهاجمون المقبرة، ويحطمون باب الضريح ويقتلعون نوافذه، ويحرقون الستار الأبيض الذي يفصل القبر عن مكان الصلاة ويحطمون العديد من شواهد القبور. قال أحد معاوني رئيس البلدية لأحد المراسلين في اليوم التالي إن الجهاديين كانوا قد توعدوا الناس بهدم أضرحة أخرى، وكذلك بعض المخطوطات. وقال: «إن تمبكتو مصدومة.»
تفاعل الخبراء الثقافيون حول مالي مع الأمر بمزيج من الغضب والحزن. قال البروفسيور بابا أكيب حيدرة، وهو خبير مخطوطات تمبكتي: «إنني أعاني والجميع يعانون بنفس الطريقة معي.» ثم أردف: «إنهم يعودون بنا إلى الوراء، إلى الوراء، هذا غير مقبول. إنهم يهاجمون قيمنا، وروحانياتنا، المتغلغلة في روح تمبكتو. يجب على اليونسكو أن تعمل على تعبئة الرأي العام الدولي. هذا ليس الإسلام، وستقع كارثة عظيمة إن لم يفعل أحد شيئا.» وبالنسبة للمخرج ووزير الثقافة المالي السابق شيخ عمر سيسوكو، كانت المقبرة تمثل «جزءا من التراث الثقافي والروحي لتمبكتو، وللإنسانية بوجه عام»، والتعصب الذي تمثل في الهجوم عليها كان «مأساويا». أما الحكومة المالية فأدانت «حتى الرمق الأخير» ما وصفته بأنه «عمل حقير يهدم المبادئ الأساسية للإسلام، دين التسامح والاحترام.»
في الرابع عشر من مايو، أطلق المجتمع الثقافي بالمدينة - الفنانون، والمثقفون، والعاملون في المخطوطات - نداء استغاثة إلى الأمين العام للأمم المتحدة. نص الإعلان على أن «الفوضى الشاملة وغياب القانون سائدان هنا في تمبكتو»، مضيفا أنه كان «يوجد خطر جسيم يتمثل في تدمير كل ثرواتها.» إن كان التراث العالمي يعني شيئا، فيجب على المجتمع الدولي أن يبادر بالتحرك الآن، لأن «تمبكتو على وشك أن تفقد روحها. إن تمبكتو مهددة بتخريب شائن. إن سفاحا يضع سكينه الحاد على عنق تمبكتو.»
لم يتأثر الجهاديون بأي من ذلك. فقد كانوا ينفذون تعاليم الله. قال حماها ذو اللحية الحمراء موضحا: «يجب ألا يتجاوز ارتفاع القبر مستوى الكاحل.» وأضاف: «إذا كان القبر أعلى من ذلك، يجب عليك أن تهدمه.» •••
لرجال المكتبات الثلاثة في باماكو، كان تدنيس قبر سيدي محمود تطورا جديدا مقلقا. إلى أي مدى سيصل هؤلاء الناس؟ وما الذي يعنيه هذا للمخطوطات؟ كما كان يعرف أي أحد أمضى وقتا مع الوثائق، لم تكن محتوياتها قاصرة على موضوعات يعتبرها الجهاديون مقبولة. على وجه التحديد، كانت فكرة الشفاعة - التي تعني أنه يمكن للمسلمين التوسل إلى أحد الأولياء ليتوسط إلى الله من أجل تحقيق مطالب خاصة - محل نقاش واسع في المخطوطات، لكن السلفيين كانوا يعتبرونها أمرا محرما وملعونا. فبحسب ما ذكر اللاجئون الذين خرجوا من المدينة، اعتبر محتلو المدينة أن بعض الكتب في معهد أحمد بابا «لا تتماشى مع الإسلام.»
أيضا وصلت إلى رجال المكتبات أنباء بأن الجهاديين كانوا قد بدءوا في الاعتراض على الاحتفال الديني الرئيسي في تمبكتو، وهو المولد النبوي. يحتفل المسلمون السنة في سائر أنحاء العالم الإسلامي بالمولد النبوي منذ القرن الثاني عشر، لكن السلفيين لم يوافقوا عليه؛ فمن وجهة نظرهم، كان المولد النبوي بدعة ارتقت بالنبي إلى درجة قريبة من الألوهية. كان هذا موضع قلق كبير لرجال المكتبات؛ لأن احتفالات المولد النبوي في تمبكتو كانت تستند على «القصيدة العشرينية»، وهي قصيدة مجازية من عشرين بيتا في مدح النبي. كان هذا النص التعبدي، الذي كتبه عبد الرحمن الفزازي في القرن الثالث عشر في قرطبة، قد جاء إلى تمبكتو من المغرب في القرن الخامس عشر ونسخ على نطاق واسع. أثناء الاستعداد للاحتفال، كانت القصيدة بكاملها تقرأ أربع مرات؛ أولا على مدى أربعين يوما، ثم على مدى أسبوع، ثم على مدى ثلاثة أيام. وأخيرا، كانت تقرأ على مدى الليلة الأخيرة التي تسبق اليوم المقدس نفسه. وحيث إن هذا العمل كان موجودا في الكثير من مجموعات المخطوطات، خشي حيدرة أن يجتذب انتباه محتلي المدينة إلى وثائق معينة لم تكن ستعجبهم.
تذكر حيدرة قائلا: «عقدت لقاءات كثيرة في تمبكتو بين المحتلين والأعيان والمرابطين حول تنظيم المولد النبوي.» ثم أردف: «سمعنا أن المحتلين قالوا: «لا، لا، الاحتفال بالمولد النبوي حرام. كما أن المخطوطات التي تتحدث بشأنه ليست في الحقيقة مخطوطات جيدة.» سمعنا ذلك. وجعلنا هذا نبدأ في التفكير. قلنا إن ذلك ربما يكون تهديدا.»
بدأ أيضا يسمع أنباء عن أن المتمردين قد قبضوا على أشخاص معهم مخطوطات في حقائبهم وأتلفوها. تذكر قائلا: «وجدوا بعض المخطوطات وأحرقوها.» ثم أردف: «لم يكن بالأمر الجلل؛ إذ كانت مخطوطات قليلة، لكنهم أحرقوها.» تلاعبت هذه القصص بمخيلة حيدرة. إن كانوا قد أتلفوا بضع حزم من المخطوطات، فماذا سيفعلون بمكتبة مليئة بها؟
قال حيدرة: «قلنا إن ذلك ليس جيدا.» ثم أردف: «كنا نعرف أن الأمور تبدأ هكذا، شيئا فشيئا.»
بحسب ما قال معيجا، تبلورت هذه النذر القليلة من المعلومات في هيئة قرار اتخذ في الأسبوع الأخير من مايو.
تذكر حيدرة قائلا: «في أحد الأيام، قلت لمعيجا إنني أرى أننا يجب أن نجد حلا لنقل المخطوطات إلى باماكو. وقلت إن الآن هو الوقت المناسب.»
الفصل العاشر
بابا تمبكتو
1850-1854
في صباح يوم الحادي والثلاثين من مارس من عام 1850، غطى ضباب كثيف غرب ليبيا، وهو أمر نادرا ما كان يحدث، منذرا باحتمال سقوط أمطار . كان الربيع مطيرا ، وبينما كان هاينريش بارت وزميله البروسي أدولف أوفرويج ينتظران قائد حملتهما في مكان اللقاء جنوب طرابلس، فوجئا باخضرار الصحراء، التي بدت مثل مرج؛ إذ كانت مليئة بحقول الذرة، والعشب، وقطعان الأغنام، ومجموعة وافرة من زهور برية زرقاء. عندما بدأ المطر يهطل، وصلت جماعة جيمس ريتشاردسون، وراقب بارت بتشكك بينما بدأ خدمه ينصبون خيمة بحجم مستشفى ميداني. هطل المطر بغزارة طيلة الأربع والعشرين ساعة التالية مما جعلهم يؤجلون خططهم للرحيل، لكن مع أن بارت كان محبطا، فإنه لم يوثق هذا في يومياته. كان أخيرا على وشك أن ينطلق في الرحلة التي ستميزه، رحلة ملحمية مدتها خمسة أعوام من شأنها أن تحل لغز قلب أفريقيا الذهبي المفقود.
كان قلة من الرجال مؤهلين جدا لمهمة كهذه بقدر ما كان بارت مؤهلا للاستكشاف. صورته صورة بطباعة الليثوجراف في هيئة شاب متشكك، له شارب متصل بلحيته وظهر مستقيم بصرامة. كان من غرس فيه تلك الصرامة هما والديه، يوهان وتشارلوت بارت من هامبورج، اللذين كانا لوثريين ربيا أولادهما تبعا للمبادئ الصارمة للأخلاق، والواجب، والمثابرة. كان هاينريش الابن الثالث من أربعة أبناء، وقد ولد في عام 1821، وأرسل في عمر الحادية عشرة إلى أكاديمية يوهانيم المرموقة، حيث كان له قلة من الأصدقاء وأظهر ما وصفه أحد معاصريه بأنه «انطواء أرستقراطي.» ومع ذلك كان تلميذا مفعما بالتصميم والحيوية، وكان يشغل وقت فراغه في قراءة تاريخ وجغرافيا الإغريق والرومان باللغتين اليونانية واللاتينية. وفي أيام مراهقته، معتقدا أنه كان ضعيفا من الناحية البدنية، اتبع نظاما من التدريبات والاستحمام بماء بارد، حتى في الشتاء، من أجل تقوية جسده.
بعد أسبوعين من ترك أكاديمية يوهانيم في عام 1839 التحق بجامعة برلين، إحدى أكثر المؤسسات التعليمية حيوية في ذلك الوقت، حيث كان من ضمن زملائه من الطلاب كارل ماركس، وفريدريش إنجلز، وسورين كيركجور. تلقى بارت تعليمه على يد اثنين من عمالقة العلم في القرن التاسع عشر: كارل ريتر، مؤسس الجغرافيا الحديثة، وألكسندر فون هومبولت، عالم الطبيعة الذي كان قد قام برحلة استكشاف ملحمية دامت خمسة أعوام في أمريكا اللاتينية جمع فيها ستين ألف نوع من النباتات وخمسة وثلاثين صندوقا من الحشرات، والطيور، والأحجار، وغيرها من العينات. من شأن هذا التعليم الراقي وحده أن يميز بارت عن المغامرين الذين كانوا قد مضوا للاستكشاف من قبل. كان يحمل معه كتاب كولي «نيجرولاند»، وتكشف يومياته عن معرفة تفصيلية بالجغرافيين العرب، وكذلك باكتشافات سابقيه بارك، وكاييه، والضابط البحري الاسكتلندي هيو كلابرتون، الذي زار وسط أفريقيا في عشرينيات القرن التاسع عشر. لا بد أنه كان يبدو لخبراء الجمعية الجغرافية الملكية المسنين متعلما تعليما زائدا عن اللزوم، لكنه يمكن أيضا أن يوحي بخبرة كبيرة في المجال. وبعد عام من تخرجه في الجامعة كان قد انطلق في رحلة منفردة لمدة ثلاث سنوات من طنجة عبر بلاد البربر والشرق الأوسط. وفيما بين طرابلس ومصر تعرض للهجوم ليلا على يد عصابات بدوية، وأصيب بطلقات رصاص في كلتا ساقيه وسقط مغشيا عليه. وعندما عاد إلى الديار، كان، بحسب زوج أخته ولاحقا كاتب سيرته الذاتية جوستاف فون شوبرت، «صامتا ومنطويا على نفسه»، ورجلا يصعب التعرف عليه:
استغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن أتمكن من إذابة الجليد الذي كان يحيط بقلبه ومن التعرف على أعماق شخصيته. في خطابه الأول لي، كتب: «إن جعلت أختي تعيسة، فسأرديك قتيلا»، وهو ما كان واضحا بما يكفي.
تحت هذه القشرة الخارجية كان يوجد رجل يحتاج إلى أن تكون ثمة حاجة إليه؛ فقد كتب ذات مرة أن هدفه الوحيد هو أن «أكون «نافعا» للبشر، وأن أشجعهم على التنوير المشترك، وأن أغذي أرواحهم وأمنحهم القوة.» من المؤسف أن رواية بارت عن رحلته في شمال أفريقيا كانت مخيبة لآمال البشرية. كتب ناقد بمجلة «أثينيوم» عن كتابه «رحلات على شواطئ البحر المتوسط القرطاجية والقورينية» أنه «عينة محيرة أكثر ... من بعض من أسوأ أخطاء النثر الألماني التي نادرا ما وقعت في طريقنا»، وألغيت الخطط المتعلقة بكتابة مجلد ثان. الأمر الذي كان أكثر إيلاما حتى من الانتقادات المهنية التي تلقاها في هذا الوقت كان الرفض الذي تلقاه لعرض بالزواج. كتب شوبرت، دون أن يسجل اسم المرأة: «كانت التجربة بمثابة لطمة شديدة لكبرياء بارت.» ثم أضاف: «دام خوفه المرير من العلاقات العاطفية وقتا طويلا بعد ذلك، وحتى في الأعوام اللاحقة لم يستطع أن يرغم نفسه على الزواج.»
ليس ذلك مهما. سيوظف بارت شغفه في البلدان الأجنبية، حيث كان دوما يبدو أكثر ارتياحا.
في عام 1849، عثر على فرصته، في حملة جيمس ريتشاردسون الاستكشافية البريطانية إلى المناطق الداخلية الأفريقية. كان ريتشاردسون البروتستانتي قد انضم إلى جمعية مناهضة العبودية في بريطانيا والخارج عند تأسيسها في عام 1839 ونشأ لديه اهتمام خاص بالجانب المتعلق بالتجارة التي كانت تعبر الصحراء الكبرى. وفي عام 1845، قادته رحلاته إلى واحة غات، في فزان، ولدى عودته طرح فكرة القيام بحملة استكشافية إلى بحيرة تشاد على وزير الخارجية، اللورد بامرستن، بهدف الاستعاضة عن تجارة الرقيق بالسلع المصنعة البريطانية. ووافق بامرستن على ذلك. ولأن ريتشاردسون لم يكن خبيرا في الملاحظات الجغرافية، فقد لجأ إلى معارفه من البروسيين ليرشحوا له عالما، وبناء على توصية من ريتر استخدم بارت وأوفرويج. كان من شأنهم أن يسافروا على نفقة بريطانيا فيما أطلق عليه ريتشاردسون «رحلة استكشاف وعمل خيري إلى وسط أفريقيا عن طريق الصحراء الكبرى».
على غير العادة، وربما على نحو منذر بالشؤم، وضع الثلاثة عقدا قبل مغادرتهم ليحددوا أدوارهم. كان من شأن ريتشاردسون، بصفته القائد، أن يقرر اختيار الطريق ووسيلة التقدم، ولكنه كان ملزما أيضا بأن يعاونهما في عملهما العلمي. وإذا وصلوا إلى بحيرة تشاد على قيد الحياة، فسيعود، تاركا للرجلين الألمانيين أي أدوات يحتاجان إليها للقيام بملاحظاتهما.
كان التوتر بين بارت وقائده واضحا منذ البداية. كانت الجملة التي سيختار بارت، بعد أعوام، أن يفتتح بها سرده للرحلة في خمسة مجلدات هي: «كان السيد ريتشاردسون في باريس ينتظر المراسلات بينما كنت أنا والسيد أوفرويج قد وصلنا إلى تونس»؛ وبعد ستة أسابيع أخرى وصل ريتشاردسون المرتبك إلى طرابلس. استغل بارت الوقت في أن يأخذ أوفرويج في جولة كبيرة إلى المناطق الساحلية ، وهو انحراف اعتبره البريطاني دلالة على «تهور أوروبي». وبعد وصول ريتشاردسون، زادت حالات التأخير أكثر؛ إذ انتظر أن تشحن كميات هائلة من المعدات من مالطا. وكان أكبر سبب للتأخير هو القارب. فعلى الرغم من أن الأميال الألف والخمسمائة الأولى من طريق الحملة الاستكشافية كانت ستقطع عبر الصحراء، كان عليهم أن يحملوا قارب تجديف ثقيلا كانوا يأملون أن يستخدموه يوما ما في معاينة بحيرة تشاد. واحتاجوا أيضا إلى بحار لتشغيله؛ وكان ريتشاردسون قد عين قريبا له لهذه المهمة، لكنه كان صعب المراس حتى إنه أعيد إلى الديار عندما كانوا في منتصف الطريق وسط الصحراء.
هذا النوع من الأخطاء الفادحة كان أمرا معتادا من ريتشاردسون، بحسب القنصل البريطاني في طرابلس، جي دبليو كرو، الذي أعرب لوزارة الخارجية عن دهشته الشديدة من أن يختار رجل كهذا لقيادة حملة استكشافية إلى المناطق الداخلية: «أخشى أن يؤدي سوء إدارته الشديدة إلى إضعاف السمعة التي تتمتع بها حتى الآن الأمة الإنجليزية في وسط أفريقيا.»
بينما رتب ريتشاردسون عملية نشر القارب إلى قطع يمكن أن تحمل على ثمانية جمال كبيرة، انطلق البروسيان النافدا الصبر جنوبا، بعدما وعداه بأن ينتظراه بعد أربعين ميلا في وادي المجينين. وأخيرا، في صباح يوم الثاني من أبريل من عام 1850؛ وإذ كان الجو صحوا، كانت الحملة تستعد للرحيل. كان من شأن المشهد الذي تقع عليه عينا زائر الوادي أن يكون جديرا بسيرك بارنوم وبيلي.
امتلأ مجرى النهر الجاف باثنين وستين جملا، بينما اشتبك حولها عشرات من قادة الجمال، والخدم، والتابعين في عراك وجدال. كان ريتشاردسون قد وظف ترجمانا سكيرا يسمى يوسف موكني، الذي كان ابنا لحاكم سابق لفزان، والذي كان قد أجبر على توقيع عقد بالامتناع عن شرب الخمر، واثنين من الإنكشارية العرب اللذين أمضيا الأسابيع الأولى في التهديد بأن يقتل أحدهما الآخر. بعد ذلك أتت حفنة من العبيد المعتوقين، العائدين مع عائلاتهم من تونس إلى وطنهم في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومرابط من فزان. كان الشخصان الأكثر جدارة بالملاحظة من الجميع هما تابعان وصفهما ريتشاردسون بأنهما «رفيقان مجنونان»، واللذان تشكك في أن الهدف الوحيد من وجودهما كان التهكم على الحملة. كان لدى أحد هذين الرجلين، والذي زعم أنه يحمل لقب شريف من نسل النبي، «عادة كريهة تتمثل في التهديد بقطع عنق الجميع». وما إن وصل حتى أثار استياء القافلة ببدء المشاحنات وإخبار الآخرين بأنه سيطعنهم أو يطلق عليهم النار. «ولكنه كان يتملقنا نحن الأوروبيين»، بحسب ما ذكر ريتشاردسون، «بينما كان معه سكين ضخم يخفيه تحت ثيابه جاهزا للهجوم.» كانت مجموعة من الدبلوماسيين والمغتربين قد أتت أيضا إلى الوادي لتودعهم: القنصل الأمريكي، السيد جينز؛ ونائب القنصل البريطاني، السيد ريد؛ وفريدريك وارينجتون، وزوج أخت ألكسندر جوردون لينج وصديق بارت، وهو رجل وصفه البروسي بأنه «ربما يكون أروع مثال على الأوروبيين المستعربين».
ما إن أعيد «الرفيقان المجنونان» إلى طرابلس، وأحدهما، وهو الشريف، تحت الحراسة، انطلقت الحملة الاستكشافية. ركب وارينجتون معهم الأيام القليلة الأولى حتى مدينة غريان التي تقع على قمة جبل. أقاموا مخيما وسط شجيرات الأكاسيا وراقبوا المخروط البركاني لجبل تكوت بينما كانت قصعة كبيرة من الكسكسي تحضر لوارينجتون. وفي صباح اليوم التالي، الخامس من أبريل، راقبهم وهم يغادرون صوب الأفق الجنوبي، مثلما راقب والده ألكسندر جوردون لينج يرحل منذ خمسة وعشرين عاما.
كتب بارت بعد عدة أعوام: «افترقنا عن السيد وارينجتون، وكنت الوحيد من الرحالة الثلاثة الذي سوف يراه مجددا.» •••
اتضح أن ريتشاردسون ضعيف في القيادة بقدر ما توقع الجميع، وكانت رحلتهم عبر الصحراء تماثل في تعرجها تقريبا رحلة لينج. كانت القافلة مستنزفة على يد مرشديها ومطاردة من قبل قراصنة الطوارق. وبحلول شهر سبتمبر من عام 1850، عندما وصلوا إلى الأمان في تنتالوس في جبال آير، كان الإرهاق قد بلغ بريتشاردسون مبلغه. وبينما انطلق بارت في حملة استكشافية فرعية إلى أغاديس، حيث سمع عن وجود إمبراطورية سونجاي السودانية العظيمة، استراح ريتشاردسون في خيمته. لم يستطع أن يحتمل حرارة الجو، وحاول واهنا أن يرجع إلى طرابلس لكنه لم يتمكن من العثور على مرشد. ومات في شهر مارس في العام التالي دون أي مقاومة. عندئذ تولى بارت مسئولية الحملة، وأجرى بالاشتراك مع زميله البروسي مسحا شاملا لبحيرة تشاد، لكن نوبات متكررة من الحمى دمرت صحة أوفرويج، وبحلول أواخر شهر سبتمبر من عام 1852 مات هو الآخر. دفنه بارت في قبر على ضفة البحيرة، بجوار القارب.
اغتم بارت بشدة لوفاة أوفرويج. وكتب في يومياته: «وهكذا مات صديقي ورفيقي الوحيد، في العام الثلاثين من عمره، وهو في ريعان شبابه.» عندئذ شعر أن بحيرة تشاد «لا تطاق»، ولم يكن أمامه سوى أن يفعل أمرا واحدا، وهو أن يمضي قدما. ترك بامرستن أمر وجهة الحملة المستقبلية بالكامل لسلطته التقديرية، وكتب له أنه سيكون «راضيا تماما» بمسار غربي إن اختار بارت هذا، وكان ذلك هو ما فعله المستكشف حينئذ. كتب: «عزمت على أن أنطلق بأسرع ما يمكن في رحلتي صوب نهر النيجر، إلى بلاد جديدة وأناس جدد.» وفي الخامس والعشرين من نوفمبر، شرع في المضي على الطريق الخطر إلى تمبكتو، متنكرا في هيئة مسلم، كما فعل كاييه من قبل. ادعى أن اسمه «عبد الكريم»، وأنه سوري يتكلم التركية كان مسافرا إلى المدينة ومعه كتب لشيخ تمبكتو، وهو رجل يدعى أحمد البكاي كان بارت قد سمع به في أسفاره.
كان الطريق غربا رحلة شاقة، في «مناطق تكاد تكون مجهولة، ولم تطأها قدم أوروبية من قبل»، واستلزمت عبور ممالك كثيرة علاوة على تضاريس جعلتها الأمطار خطرة. ومع ذلك، وقبل أن يصل إلى المدينة بوقت طويل، بدأ بارت يكتشف اكتشافات بالغة الأهمية فيما يتعلق بتاريخ سونجاي، وهو موضوع كان افتتان المستكشف به يتزايد.
في أبريل من عام 1853، تقريبا في منتصف طريق رحلته الممتدة لمسافة 1500 ميل إلى تمبكتو، وصل إلى وورنو في صكتو، حيث التقى برجل متعلم يدعى عبد القادر دان تافا، والذي كان ملما «إلماما كاملا في ذهنه»، على حد قول بارت، بقدر كبير من تاريخ السلالات الحاكمة في سونجاي، وهي معلومات كانت «بالغة الأهمية» في تبصير المستكشف بماضي المنطقة. كان الأكثر إثارة، مع ذلك، هو أن هذا الرجل أخبره بوجود سجل تاريخي كبير لإمبراطورية سونجاي، كتبه، بحسب قوله، العلامة أحمد بابا.
بدأ بارت يسعى إلى الحصول على مخطوطات أينما ذهب. في ذلك الشهر، وجد على الأقل، مخطوطتين، «تزيين الورقات»، وهي سجل تاريخي كتبه عبد الله بن محمد فودي، وكتاب محمد بيلو «إنفاق الميسور»، الذي كان كلابرتون قد جلب مقتطفا منه في عام 1825، لكنه كان قد فقد منذ ذلك الحين. يحكي الكتابان عن الجهاد الفولاني في أوائل القرن التاسع عشر، والذي أسفر عن إقامة خلافة صكتو، ومع ذلك كان هذان الكتابان مكافأة صغيرة مقارنة بالوثيقة التي كان سيعثر عليها على مسافة أبعد غربا. في شهر يونيو، مع بداية هطول أمطار شديدة، وصل بارت إلى جاندو، على حدود دولة النيجر المعاصرة، حيث أعير نسخة من «ذلك العمل التاريخي الأقيم الذي كتبه أحمد بابا»، وهو تاريخ السودان الذي كان عبد القادر دان تافا قد أخبره عنه. جلس بارت لمدة ثلاثة أو أربعة أيام يقرأ في «مجلد قطع الربع الكبير الحجم» الذي يحتوي على الوقائع التاريخية، مستعينا بإتقانه للغة العربية ليستخرج أهم الفقرات. كتب عن هذه الفقرات أنها:
منحتني نظرة جديدة تماما فيما يتعلق بتاريخ مناطق المسار الأوسط لنهر النيجر، الذي كنت متوجها إليها، مثيرة في داخلي اهتماما أكثر حيوية بكثير مما كان لدي في السابق بمملكة وجدت منصوصا هنا، بخطوط عريضة واضحة ومتميزة جدا، النفوذ العظيم الذي كانت تتمتع به، في الأزمنة الماضية.
نسخ بارت من سجل الوقائع التاريخية بقدر ما أتاح الوقت، مركزا على البيانات التاريخية، لكنه لم يستطع أن يستوعب ما كان يقرؤه استيعابا صحيحا قبل أن يتابع المضي في طريقه صوب تمبكتو.
في العشرين من يونيو، في ساي، ابتهج برؤية نهر النيجر للمرة الأولى، الذي كتب عنه أنه «مجرى مائي مهيب غير متقطع» يبلغ عرضه نحو سبعمائة ياردة. انساب النهر العظيم في اتجاه الجنوب والجنوب الغربي بتيار معتدل بسرعة ثلاثة أميال في الساعة تقريبا. عبرت جماعته الصغيرة في قاربين مصنوعين من جذوع شجر مفرغة مربوط بعضها إلى البعض ، وكان بارت «ممتلئا بالسرور عندما كنت طافيا على مياه هذا المجرى الذائع الصيت، الذي كانت تكلفة استكشافه التضحية بالكثير من الأرواح النبيلة.» وسرعان ما عاد يشق طريقه بصعوبة غربا من جديد، على طول دروب كان المطر قد حولها إلى برك، وعبر أنهار تفيض بالمياه على نحو خطر. أصابت عدوى دودة غينيا واحدا من خدمه، واخترق البعوض والذباب القارص ملابسهم وجعله محموما، لكن في أواخر شهر أغسطس وصل إلى ساريامو، في الدلتا الداخلية، حيث تمكن من استئجار قارب نهري ليأخذه إلى قرب وجهته. وبينما كان البحارة يعملون، كانوا ينشدون أغنية عن مآثر حاكم بارز لسوناجاي، هو أسكيا العظيم.
في الخامس من سبتمبر كان بارت قد وصل إلى كابارا وماضيا حينئذ على خطى ذلك «الرحالة الفرنسي الجدير بالتقدير جدا»، رينيه كاييه. وانزعج عندما علم هناك أن الشيخ البكاي، الرجل الذي كان يعتمد عليه في أن يوفر له الحماية، لم يكن في تمبكتو. فأرسل مرشده ليسبقه إلى المدينة ليطلب الحماية من شقيق الشيخ، سيدي العواتي، ومر بيوم مشحون بالتوتر، تعرض فيه لمضايقة الطوارق، منتظرا جوابا. كان قد شعر بأنه يتعين عليه أن يخبر العواتي سرا أنه مسيحي، وأن يقول إنه كان تحت حماية سلطان إسطنبول. وأخيرا، في منتصف الليل تقريبا، وصل العواتي. كان متشككا وطلب أن يرى خطاب حماية العثمانيين لبارت، وهي وثيقة كان المستكشف قد طلبها من وزارة الخارجية لكنها لم تصل أبدا. شعر بارت بالإحراج لأنه لم يكن معه دليل مكتوب على ادعائه، وهو ما جعله في موقف خطر، لكن العواتي وافق مع ذلك على حمايته.
في الساعة العاشرة من صباح يوم السابع من سبتمبر من عام 1853، انطلق بارت وجماعته شمالا على الدرب السيئ السمعة الذي يبلغ طوله ثمانية أميال. وقبل نقطة منتصف الطريق المشتهرة بجرائم القتل، أبصر حشدا من الناس آتين من المدينة لتحية زائرهم المهم، عبد الكريم. مدركا أنه يتعين عليه مواجهة الموقف أو أن يخاطر بأن يتعرض للقتل، تقدم إلى الأمام، وفي يده بندقية، ليتلقى تحياتهم الكثيرة. كادت هويته المزيفة تنكشف على يد رجل خاطبه باللغة التركية، التي كان بارت قد نسيها، لكنه سار متخطيا الحشد ليتجنب المزيد من الأسئلة ويلوذ بالأمان في المدينة. سار عبر الشوارع والأزقة الضيقة إلى حي سانيه جونجو «العامر بالسكان والغنى»، حيث قدم له منزل قبالة منزل الشيخ البكاي.
وهناك، أصيب بنوبة شديدة من الحمى وانهار. •••
كانت تمبكتو مكانا يشكل التواجد فيه خطورة على رجل مسيحي في عام 1853 تماما كما كان عليه الحال في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر. كانت لا تزال تحت سيطرة إمبراطورية ماسينا الفولانية، التي كان يحكمها آنذاك حفيد لوبو الشاب أحمد الثالث، مع أنه كان قد بدأ يفقد سيطرته على المدينة لصالح الطوارق. كان الشيخ البكاي، الحاكم الروحي والسياسي للمدينة، يمارس توازنا دقيقا، بحيث كان يناور مجموعة بالأخرى من أجل أن يحافظ على درجة من الاستقلال؛ وكان قد وضع نظاما يضم قاضيين شرعيين للفصل في المنازعات بين الفولانيين والطوارق، لكنه كان سلاما غير مستقر، وكانت المدينة مليئة بعملاء ينتظرون اللحظة المناسبة لينقضوا وينالوا رضا أحمد الثالث. كان من شأن هذا الجو المحموم أن يبقي بارت في تمبكتو قرابة العام.
وبعد أن طرح بارت عنه تنكره، أمضى المستكشف أسابيعه الثلاثة الأولى في المدينة متحصنا داخل المنزل، مقتنعا بأن العواتي كان يتآمر مع مرشده الخائن لسرقته قبل مقتله المحتوم، ولكن في الساعة الثالثة من فجر يوم السادس والعشرين من شهر سبتمبر سمع الموسيقى تصدح خارج نافذته؛ إذ كانت مجموعة من النساء تحتفل بوصول البكاي. كان حماس بارت لظهور الرجل الذي كانت سلامته تعتمد عليه قد جعله يصاب بنوبة جديدة من الحمى، ولم يتمكن من أن يزوره في اليوم التالي لتحيته والتعبير عن احترامه، لكن الشيخ، مظهرا أخلاقه الحميدة المشهورة، أرسل رسالة يرجو فيها من المستكشف أن يستريح، مقدما له هدية عبارة عن ثورين، وغنمتين، ووعاءين من الزبد وحملي جمل من الأرز والذرة، مع تحذير بألا يأكل أي شيء إلا ما كان آتيا من منزله. كانت هذه بداية ميمونة للعلاقة بين المستكشف والرجل الذي سيطلق عليه فيما بعد «صديقي» و«نصيري»، والذي سيشبه نفوذه بنفوذ قداسة البابا. لم تحظ أي شخصية في سرد بارت الهائل لحملته - لا أوفرويج، ولا حتى حكام ولايات وسط أفريقيا التي زارها - بالإعجاب الذي أغدقه المستكشف على البكاي، الذي كان أول علامة من تمبكتو يكون بينه وبين شخص أوروبي تواصل مطول وموثق.
في صباح اليوم التالي - الذي كان يوما عاصفا، يوافق الذكرى السنوية لوفاة أوفرويج، كما ذكر بارت نفسه - كان المستكشف قد تعافى بما يكفي لأن يؤدي زيارة مجاملة إلى منزل البكاي. وجد الشيخ في غرفة علوية صغيرة كانت تطل على حديقة سطح، وبصحبته اثنين من تلاميذه وابن أخ شاب. كان الرجل، الذي انتصب واقفا لتحية بارت، في نحو الخمسين من عمره، طويلا و«كامل التناسق»، وله لحية رمادية وملابسه كلها سوداء اللون. لاحظ بارت على الفور قسمات وجهه البشوشة الذكية و«شخصيته الواضحة والصريحة»: كان قد قامر بحياته على هذا الرجل، والآن كان متأكدا من أنه كان في أمان. وبعد أن ألقى عبارات المجاملة وقدم للبكاي هدية عبارة عن مسدس سداسي الطلقات، انخرطا في حوار متبادل مطول وعميق. كان لينج، المسيحي الوحيد الذي قابله بعلم مسبق أي أحد في تمبكتو، هو موضوع محادثتهما الأول، وعرف بارت أن البكاي كان ابن سيدي محمد الكونتي، الشيخ الذي كان قد ساعد لينج قبل يستسلم لوباء ألم به.
سرعان ما وجه المسدس ... الذي أهديته له، دفة حديثنا إلى موضوع تفوق الأوروبيين في مهارة التصنيع ... وأحد الأسئلة الأول التي طرحها علي مضيفي كان عما إذا كان صحيحا، كما أخبر [الميجور لينج] والده، سيدي [محمد]، أثناء إقامته في أزواد، أن عاصمة الإمبراطورية البريطانية كان تضم مليوني شخص.
عبر البكاي عن «إعجابه بقوة الميجور الجسدية، وكذلك بشخصيته التي تنطوي على النبل والفروسية»، لكن عندما استفسر بارت عن أوراق لينج، قيل له إنها لم تعد موجودة، ومع ذلك كان الشيخ على علم بأن لينج كان قد رسم خريطة للجزء الشمالي من الصحراء بكامله أثناء إقامته في أزواد.
بعد لقائهما، بعث بارت بمزيد من الهدايا إلى منزل الشيخ عبر الشارع، لكن البكاي رجاه أن يتوقف عن ذلك، طالبا منه فقط ألا ينساه عندما يعود إلى إنجلترا، وأن يقدم «طلبا إلى حكومة صاحبة الجلالة أن ترسل إليه بعض الأسلحة النارية الجيدة وبعض الكتب العربية.» كان الأدب محل تقدير عظيم لدى صفوة تمبكتو. وبينما كان في المدينة، سمع بارت شائعات عن وجود مكتبات قديمة ضخمة، كان بعضها قد دمره الفولانيون، والبعض الآخر كان مخبئا، ومع أن البكاي لم يطلع بارك على مجموعة مخطوطات، فقد كشف عن مجموعة صغيرة من الأعمال المقدرة، من بينها نسخة من كتابات أبقراط بالعربية كان كلابرتون قد أهداها لسلطان صكتو، والتي كان السلطان قد أعطاها بدوره للبكاي. كان يوجد طلب عظيم على الأعمال المكتوبة هنا وفي جنوب السودان عموما، بحسب ما أورد بارت، حتى إنه
يمكنني أن أؤكد، بثقة كاملة، أن تلك الكتب القليلة التي أخذها الكابتن الاسكتلندي الهمام [كلابرتون] إلى وسط أفريقيا كان تأثيرها في استمالة أصحاب السلطة في أفريقيا إلى شخصية الأوروبيين أكبر من أغلى هدية قدمت لهم على الإطلاق.
وإذ أخذ بارت يراقب الشيخ خلال الأسابيع والشهور التالية، أصبحت طبيعة التمبكتي اللطيفة والمحبة للعلم أكثر وضوحا من ذي قبل. كثيرا ما كان تلاميذ يحضرون إلى البكاي، وكان بعضهم يأتي من مسافات بعيدة ليتتلمذوا على يديه. كان قد أنشأ مكانا للصلاة في الساحة الصغيرة أمام منزله حيث كان يمكن للتلاميذ أن يمضوا ليلتهم، وفي وقت متأخر من المساء كان يحكي لهم قصصا متعلقة بمواضيع دينية، أو يفتح معهم نقاشات دينية، مظهرا «براهين لا لبس فيها على عقل مستنير وراق.» كان من موضوعاته المفضلة سير الأنبياء، الذين قال إن كل واحد منهم كان يمتلك سمة شخصية تميزه عن بقيتهم: فأورد بارت أنه «ركز بوجه خاص على الصفات المميزة لموسى، الذي كان مفضلا جدا لديه.» في إحدى المناسبات تأثر المستكشف تأثرا عميقا بالطريقة التي قاد بها البكاي تلاميذه في تلاوات لنصوص إسلامية:
كان الشيخ في جزء من اليوم يقرأ ويتلو على تلاميذه فصولا من أحاديث البخاري، بينما يسمع ابنه الشاب بصوت مرتفع درسه من القرآن، وفي المساء كان التلاميذ يتلون بطريقة جميلة، حتى ساعة متأخرة من الليل، العديد من سور القرآن الكريم. لم يكن يوجد أي شيء أكثر جاذبية لي من سماع هذه الآيات الجميلة تتلى من هذه الأصوات الجهورية في هذا البلد الصحراوي المفتوح.
لم يكن البكاي مجرد فقيه ورجل دين؛ إذ كان قوة سياسية في المنطقة استخدم نفوذه لصالح تمبكتو. في بعض الأحيان كان يحل نزاعات بين عشائر متناحرة، أو يحاول أن يعيد فتح طرق تجارة كانت القبائل قد أغلقتها، أو يخطط لتحرير المدينة من الطاغية الذي كان يسيطر عليها، أحمد الثالث. كان وجود بارت يمثل صداعا سياسيا ضخما للبكاي، لكنه صداع يبدو أن الشيخ كان يستمتع به. طوال ثمانية شهور كان يناور بمهارة لإدخال المستكشف إلى المدينة وإخراجه منها، مستدعيا حلفاءه لحماية بارت عندما كانت الضرورة تستدعي ذلك. كان دون شك مدفوعا بالندم لما كان قد جرى للينج وبالأمل في أن بريطانيا يمكن أن تكون حليفا له في مواجهة الفرنسيين، الذين كانوا بالفعل يشنون توغلات عسكرية عدوانية في الصحراء الكبرى، لكن السبب الرئيسي الذي كان يدعوه إلى حماية المسيحي، بحسب بارت، كان أن يظهر للفولانيين من الذي كان يحكم تمبكتو.
في أواخر عام 1853، بعد أن كان البكاي قد أحبط العديد من المحاولات للإمساك ببارت، أرسل السلطان أحمد رسالة يأمر فيها بأن يسلم إليه المسيحي ومتعلقاته. كان سخط الشيخ من النسب الوضيع للرسول يكاد يوازي سخطه من محتوى الرسالة، وردا على ذلك، نظم قصيدة مسيئة، هاجم فيها السلطان لتآمره لقتل صديقه، الذي كان رجلا متبحرا في الدين أكثر من الحاكم الفولاني نفسه. وأعلن، بعدما أورد قائمة بأصله الممتد والنبيل، قائلا: «إن ضيفي هو شرفي.» هل حقا أرسل أحمد العبد لاعتقال بارت، «حتى يتمكن [أحمد] من نهب متعلقاته وتقييده بالأغلال؟» إن أصر السلطان على ذلك، فسيكون البكاي بلا جريرة أمام الله إن دعا أتباعه في ماسينا إلى الإطاحة بحكم السلطان:
إن لي وسط قبيلة فولان طائفة من الرجال في الأرض ممن يسارعون ويهبون للدفاع عن دين الله. إن دين الله، عز وجل، أحب إليهم من بيوتهم وأهليهم وأنفسهم. متى رأوا كفرا وعصيانا لربهم، قاوموه، وابتعدوا عن كل شخص أثيم ضال. ولي بعض من رجال الله في الأرض، وأيضا من الملائكة، على هيئة جيش مؤازر ومنتشر ... هو الله، والله أكبر! وهو يضاعف عونه ضد كل ظالم عنيف ومتجاوز.
أرسلت بطانة أحمد العديد من المبعوثين الآخرين إلى تمبكتو لمحاولة أسر بارت، لكن الفولانيين كانوا ضعفاء جدا هناك، وكان البكاي مدافعا لا يلين. وفي مساء أحد الأيام، عندما كان التهديد على بارت كبيرا على نحو استثنائي، ذهب المستكشف الألماني إلى منزل البكاي قرب منتصف الليل وهناك «وجدت الرجل التقي بنفسه، متسلحا ببندقية ذات ماسورتين.» أمضى الليل في صحبة البكاي ورجاله، في انتظار هجوم لم يأت أبدا. وبغية تمضية الوقت، أخذ الشيخ، جالسا على مسطبة مرتفعة من الطوب اللبن كانت تشغل ركنا من البهو، «يسلي الجمع الذي كان قد أخذه النعاس بقصص عن الأنبياء، وبخاصة موسى ومحمد، وعن الانتصارات التي أحرزها سالف الذكر، في بداية دعوته، على خصومه الكثر.» •••
على الرغم من أن بارت لم يكن يغادر منزله كثيرا، فقد تمكن من وقت لآخر من التجول في المدينة، وأثناء إقامته الممتدة كان بمقدوره أن يجري أكثر الملاحظات الأوروبية شمولا حتى ذلك الوقت عن الحياة في تمبكتو. لم تتعارض ملاحظاته مع النتائج التي كان قد توصل إليها كاييه، الذي كان قد زار المدينة مدة ثلاثة عشر يوما فقط وكانت هويته المزيفة عائقا أمامه، ولكن مع معرفة البروسي الأكبر بالمنطقة، وبصلاته وموارده الأفضل بكثير، صور تمبكتو من منظور مختلف.
رسم بارت مخططا أرضيا مفصلا، وسجل عليه أحياء المدينة المختلفة ووصف طبيعة كل منها. كانت أهم مباني المدينة هي مساجدها الثلاثة الكبيرة، وترك مسجد جينجربر المهيب على وجه الخصوص انطباعا دائما في نفسه. كانت دفاعات تمبكتو - وفي ذلك جدار «يبدو أنه لم يكن أبدا ذا ضخامة كبيرة» - قد دمرت أثناء الغزو الفولاني في عام 1826، بحسب ما كتب بارت. وأحصى بارت 980 منزلا من الطوب اللبن وبضع مئات من الأكواخ، وهو ما قاده إلى أن يقدر أن المدينة كانت تضم سكانا دائمين بلغ تعدادهم في ذلك الوقت حوالي 13 ألفا، ولكن أثناء موسم التجارة، من نوفمبر إلى يناير، كانت تزيد بمقدار 5000 إلى 10000 شخص، وربما كانت في وقت مضى في ضعف حجمها، ممتدة ألف ياردة أخرى شمالا لتشمل ضريح سيدي محمود، الذي كان الآن في الصحراء.
كانت أضرحة تمبكتو تلعب دورا خاصا في الحياة الروحية للناس. عندما توفيت والدة زوجة البكاي، ذهب الشيخ ليصلي على روحها في ضريح سيدي المختار، في الجانب الشرقي من المدينة. كان هذا مؤشرا على التبجيل الذي كانت تحظى به النساء، كما أورد بارت، مضيفا: «يوجد ... العديد من النساء اللواتي اشتهرن من أجل القداسة التي كانت عليها حياتهن، بل يوجد حتى من كن واضعات لمسالك دينية ذات قبول، وسط قبيلة كونتا.» لاحقا، شهد دورا آخر للرجل التقي؛ وهو دور المصالح. كان البكاي، وإخوته، وأبناء حارس بارت «يسعون إلى التوصل إلى تفاهم ودي فيما بينهم»، واندهش المستكشف عندما قيل له إن هذا سيجري في «المقبرة المعظمة الواقعة على بعد بضع مئات من الياردات شرق المدينة، حيث كان سيدي مختار مدفونا.» عاين بارت ضريح سيدي المختار عن قرب ووجد أنه كان عبارة عن «حجرة فسيحة من الطين اللبن، محاطة بالعديد من المقابر الأصغر لأشخاص كانوا راغبين في أن يضعوا أنفسهم في حماية روح هذا الرجل التقي، حتى في العالم الآخر.»
أما تصوير بارت للحياة الاقتصادية للمدينة التاريخية فلا يمكن أن يكون هناك ما هو أفضل منه. كانت المنطقة الأكثر ثراء هي تلك التي كان مقيما فيها، وهي حي سانيه جونجو، حيث كانت أغلى المنازل مملوكة للتجار. كانت السلع الوحيدة التي تصنع في تمبكتو هي المصنوعات الجلدية ومنتجات الحدادة، حسبما أورد، وكان ثراء المدينة معتمدا على التجارة الأجنبية، التي وجدت أن هذه البقعة هي «الموقع المفضل للتبادل التجاري.» كانت البضائع تتدفق إلى المدينة من ثلاثة طرق تجارية كبرى؛ طريقين كانا يجتازان الصحراء، واحد إلى المغرب والآخر إلى غدامس، في ليبيا؛ والثالث كان يمضي إلى جهة الجنوب الغربي في النهر. في يوم عيد الميلاد المجيد من عام 1853، شهد بارت فيضان مياه نهر النيجر يصل حتى تمبكتو، مجتاحا الجانبين الجنوبي والجنوبي الغربي من المدينة، وذكر أن «القوارب الصغيرة وصلت إلى مسافة قريبة جدا من المدينة.» كان الذهب، الذي كان يستخرج من مناجم بامبوك الشهيرة، في غرب مالي الحالية، هو المادة الخام المتبادلة الرئيسية، على الرغم من أن قيمة ما كان يستخرج منه في هذا الوقت لم تكن تتجاوز 20 ألف جنيه إسترليني في العام. كان يجلب إلى المدينة على هيئة حلقات، لكن لا بد أنه كان يتبادل في شكل تبر أيضا. كان وزن مثقال الذهب في تمبكتو يعادل أربعا وعشرين حبة من شجرة الخروب، وكانت قيمته تعادل ثلاثة أو أربعة آلاف صدفة.
كانت السلعة الرئيسية الأخرى في تمبكتو هي الملح، الذي كان يجلب من المناجم في تودني. كان الملح هنا يتشكل في خمس طبقات، وكان لكل طبقة قيمة مختلفة، وكان يستخرج على هيئة ألواح يصل وزنها إلى خمسة وستين رطلا. كانت قيمة اللوح المتوسط الحجم تعادل من ثلاثة إلى ستة آلاف صدفة، وكان أعلى سعر يدفع قرب فصل الربيع، عندما تصبح القوافل شحيحة بسبب الذباب الماص للدم الذي كان يتفشى في المنطقة. كان الملح يقايض بالأساس مقابل القماش المصنع في كانو، التابعة لخلافة صكتو. كانت كانو منتجا كبيرا للمنسوجات حتى إن بارت أطلق عليها «مانشستر أفريقيا.» كانت ثالث أغلى سلعة هي جوزة الكولا، وهي سلعة كمالية كان يوجد منها العديد من الأصناف المختلفة. بقدر ما استطاع التأكد، لم يكن العبيد يصدرون ب «كمية كبيرة». كانت المنتجات الزراعية الرئيسية في السوق هي الأرز، والذرة البيضاء، والذرة الرفيعة، علاوة على الزبدة النباتية، التي كانت تستخدم للطبخ والإضاءة. كما حدث مع كاييه، وجد بارت هو الآخر بضائع أوروبية، تشمل القماش، والمرايا، وأدوات المائدة، والتبغ، وسيوفا مصنوعة في ألمانيا، كانت تستورد عبر الصحراء. رأى بارت قماشا قطنيا أبيض مطبوعا عليه اسم شركة في مانشستر بحروف عربية، وأورد أن «كل أدوات المائدة في تمبكتو هي صناعة إنجليزية.»
مدركا أن المدينة لم تعد كما كانت فيما مضى، استخلص بارت أنه كان أمام أوروبا فرصة هائلة لإنعاش التجارة التي كانت في السابق تنشط هذه المنطقة من العالم. في نهاية المطاف، كانت تمبكتو لا تزال «ذات أهمية تجارية قصوى»، كونها كانت تقع بين نهر غرب أفريقيا العظيم والشمال.
أثناء إقامته الممتدة، عاد بارت أيضا إلى دراسته لمخطوطة «تاريخ السودان» التي كان قد وجدها في جاندو. في الخامس عشر من ديسمبر، من عام 1853، أرسل ملاحظاته، عبر قافلة، إلى البروفيسور إميل روديجر في الجمعية الشرقية الألمانية في ليبزيج. كتب أن هذا التسجيل للوقائع التاريخية قد أتم، على ما يبدو، على يد العالم أحمد بابا فيما بين عامي 1653 و1654، وكان يلقي «ضوءا غير متوقع على الإطلاق» على تاريخ المنطقة الذي كان مهملا تماما، بينما جعلت روايته فيما يتعلق بإمبراطور سونجاي وصف ليون الأفريقي يبدو «أجوف وفارغا». كان ضيق الوقت يعني أنه قد أجبر على إغفال عدد لا نهائي من التفاصيل - «من الطبيعي أن الرحالة في هذه المناطق لا يملك الطمأنينة التي يتمتع بها الباحث في غرفة مكتبه»، بحسب ما ذكر بارت - لكن لم يكن لديه شك في أن شخصا ما سيجلب نسخة كاملة من الكتاب إلى أوروبا في المستقبل القريب.
كتب إلى روديجر يقول له: «لعلك سمعت بالفعل من مصادر أخرى عن الظروف التي مررت بها في هذه المدينة الغريبة.» ثم أردف: «إنها ليست سارة على الإطلاق، لكن الرب الرحيم سيحفظ حياتي ويقودني إلى الديار، سعيدا ودون أن يمسني أذى، لأبسط من أجل مجده ما بدأته هنا.»
تمكن بارت أخيرا من مغادرة تمبكتو في ربيع عام 1854. رافقه البكاي إلى جاو، المدينة التي كانت يوما ما العاصمة البديعة لإمبراطورية سونجاي، والتي وجدها بارت حينئذ مخيبة للآمال. وهناك، في الثامن من يوليو، افترقا بعضهما عن بعض. كتب بارت: «مع أني شعرت بصدق بالتعلق بنصيري، لم يسعني إلا أن أشعر بالرضا العظيم عن كوني قد تمكنت أخيرا من أن أعود أدراجي إلى الوطن.» •••
عندما علمت الحكومة البريطانية بوفاة ريتشاردسون كانت قد عينت مساعدا جديدا لبارت، وهو شاب ألماني يدعى إدوارد فوجل، والذي كان قد انطلق من طرابلس في صيف عام 1853 ومعه تعليمات بالعثور على المستكشف. وبعد عام، أبلغ فوجل بأن بارت قد مات على مسافة مائة ميل من صكتو، وكتب إلى القنصل في طرابلس لينقل له الأخبار السيئة. أحيلت الرسالة إلى وزارة الخارجية، وأبلغ إخوة بارت ووالداه في هامبورج بذلك. وكتب بارت إنهم «شعروا بأبلغ مشاعر الحزن والأسى»، وأقاموا جنازة دفنوا فيها كل متعلقات المستكشف؛ إذ لم يكن ثمة جثمان ليدفنوه.
في الأول من ديسمبر من عام 1854، كان بارت مسافرا صوب كوكاوا، عاصمة بورنو، عبر غابات ممتدة في ظروف قاسية، عندما التقى بمصدر البلاغ الكاذب. أبصر مجموعة صغيرة تتقدم نحوه، يقودها رجل «ذو ملامح غريبة؛ شاب ذو بشرة فاتحة جدا، ويلبس ثوبا سودانيا [لباس بسيط من القماش] مثل الذي كنت أرتديه، ويضع عمامة بيضاء ملفوفة لفات كثيرة حول رأسه.» تعرف بارت على واحد من المسافرين إذ كان خادمه مادي، الذي كان قد تركه ليحرس منزلا كان قد اتخذه في كوكاوا منذ عامين. قال مادي للشاب ذي البشرة الشاحبة إن هذا هو «عبد الكريم»، وعندئذ هرول الغريب مسرعا نحوه.
بعد ذلك بسبعة عشر عاما، سيحيي هنري مورتون ستانلي مستكشفا أفريقيا مفقودا آخر على ضفاف بحيرة تنجانيقا بعبارة «أظن أنك دكتور ليفينجستون، أليس كذلك؟» ويعقد واحدا من أشهر اللقاءات في التاريخ. إن التقاء الرجلين البروسيين بالصدفة هو بالتأكيد حدث أقل شهرة. فبينما كتب ستانلي كتابا عن هذا الحدث المشار إليه، خصص بارت أقل من صفحتين من يومياته المنشورة للقائه هذا بأول أوروبي في غضون عامين. أصيب كلاهما بالدهشة، حسبما أورد. تبادلا تحية حارة، ثم ترجلا عن ركوبتهما وجلسا أرضا . أعد بارت بعض القهوة المغلية، «بحيث شعر كلانا نوعا ما وكأننا في وطننا»، وعندئذ قال فوجل لبارت إنه كان قد استهلك كل مخزون الحملة الاستكشافية، وفي ذلك المؤن التي كانت قد وضعت بحرص في كوكاوا وزيندر، وهو ما أصاب الرجل الأكبر سنا ب «ذهول عظيم». وإذا لم يكن هذا مؤلما بما يكفي، فقد عجز فوجل أيضا عن تقديم أي مشروبات كحولية له:
لم يسبب لي خبر نقص الإمدادات المالية الكثير من الدهشة بقدر النبأ الذي تلقيته منه بأنه لم يكن معه زجاجة نبيذ واحدة؛ لأنني، إذ كنت لم أشرب قطرة واحدة من أي شراب منبه عدا القهوة لأكثر من ثلاثة أعوام ... كنت أشعر باشتياق لا يوصف لعصير العنب، الذي علمتني تجربتي السابقة فائدته.
كان الأمر قد استغرق من فوجل ثمانية عشر شهرا للعثور على بارت. وبعد ساعتين، قرر الاثنان أن يفترقا بعضهما عن بعض، ليواصل فوجل رحلته إلى زيندر، ويعود بارت إلى كوكاوا.
كتب بارت: «أسرعت لكي ألحق بجماعتي.»
الفصل الحادي عشر
عملاء سريون
يونيو-سبتمبر 2012
تذكر شيخ ديوارا أين كان بالضبط عندما بدأ الجهاديون هدمهم الشامل لقبور تمبكتو. كان ذلك في وقت مبكر من صباح يوم السبت، الموافق الثلاثين من يونيو، وكان المصور الصحفي مسافرا ليحضر اجتماعا للجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو في سان بطرسبرج. كان قد ذهب إلى تمبكتو ليصور قبر سيدي محمود الذي كان قد تعرض للتدنيس، وكانت منظمة اليونسكو قد دعته حتى يعرض على اللجنة اللقطات التي كان قد صورها كدليل على ما قد حدث. ولكن كان قد حدث خطأ فيما يتعلق بنقل حقائبه، ولم يلحق برحلته المنتظرة، ولذا علق في الدار البيضاء. وفي الساعة السابعة صباحا، رن جرس هاتفه المحمول.
كان الصوت في الطرف الآخر من المكالمة هو صوت مقاتل شاب بتنظيم القاعدة كان ديوارا قد تعرف عليه في تمبكتو. كانا قد صارا صديقين بعد أن التقط الصحفي بضع صور له متخذا أوضاعا ببندقيته.
قال له المقاتل: «أظن أنهم سيهدمون الأضرحة.» ثم أضاف: «لقد كانوا يتحدثون عن الأمر حالا.» قال إن مجموعة من الجهاديين كانت قد ذهبت إلى متجر الأدوات المعدنية في سوق تمبكتو لشراء المعاول والمعازق التي كانوا يحتاجون إليها، «ثم سيذهبون ويفعلون ما انتووا فعله.»
أصيب ديوارا بحيرة شديدة. أنبأته غرائزه بأن يسرع عائدا إلى مالي، ولكن الرحلة التالية التي يمكنه أن يطير بها إلى باماكو كانت بعد أربعة أيام. كتب قصة خبرية سريعة لوكالة رويترز، ثم عاد للاتصال بصديقه المقاتل الشاب. لم يكن الهدم قد بدأ بعد.
قال المقاتل: «عندما نصل إلى هناك بالقرب من المقابر، لن أتمكن من التحدث إليك.» سأله عن إمكانية إرسال رسالة نصية. رد بالنفي، إذ لم يكن يعرف الكتابة. ألح ديوارا قائلا إن ذلك ليس مهما؛ إذ يمكن أن يرسل رسالة فارغة، ما داما يعرفان أنها إشارة إلى أن الهجمات على الأضرحة قد بدأت. ووافق الجهادي على ذلك.
بعد ذلك بوقت قصير، تلقى ديوارا رسالة فارغة.
لم يكن محض صدفة أن الهدم بدأ في الأسبوع الذي كانت الجلسة السادسة والثلاثين للجنة التراث العالمي تنعقد فيه في سان بطرسبرج. كان التوتر بين الحركة الوطنية لتحرير أزواد وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي آخذا في التصاعد منذ شهور، وفي يوم الأربعاء، الموافق السابع والعشرين من يونيو، في جاو، تحول أخيرا إلى تبادل مفتوح لإطلاق النار. وانتهى بهروب الأمين العام للحركة الوطنية لتحرير أزواد، بلال آغ الشريف، من مقر القيادة الخاص به، بينما جرت جثة أحد كبار قادة الحركة، وهو منشق عن الجيش المالي، يدعى العقيد بونا آغ طيب، عبر الشوارع خلف شاحنة صغيرة. أتبع تنظيم القاعدة هذا الانتصار بإصدار أوامر إلى المنتمين إلى الحركة الوطنية لتحرير أزواد بترك قاعدتهم في مطار تمبكتو قبل الساعة الخامسة من عصر اليوم التالي. بخضوع امتثل أفراد الحركة للأمر، تاركين الجهاديين ليصبحوا السلطة الوحيدة في شمال مالي. تذكر شيخ المدينة جانسكي: «من تلك اللحظة صارت مملكتهم.»
اجتمع الموفدون في اجتماع اليونسكو في قصر توريد، وهو قصر فخم من القرن الثامن عشر بني من أجل جريجوري بوتيمكين، عشيق إمبراطورة روسيا، كاترين العظيمة، ويطل على نهر نيفا. كان عملهم في الأساس هو إدارة قائمتين. أولاهما هي قائمة التراث العالمي، التي تتألف من ألف من أثمن كنوز العالم؛ وتشمل آثارا، ومواقع أثرية، وظواهر طبيعية اعتبرت ذات «قيمة عالمية بارزة». والثانية، وهي قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، كانت مجموعة فرعية من القائمة الأولى وتضم تلك المواقع المهددة بالتدمير، أو بكوارث طبيعية، أو بحروب. ارتأت الهيئة التابعة للأمم المتحدة أنه كان ثمة ضرورة «لعمليات كبرى» لحماية هذه المواقع، وطلب تقديم المساعدة لإنجاز ذلك.
بعد طلب متأخر من الحكومة المالية ناقشت اللجنة في ذلك الأسبوع مسألة نقل أضرحة تمبكتو إلى قائمة الخطر. أعطت اللجنة ردها الرسمي، المسجل في محضر جلساتها باسم «القرار
36 COM 7B.106 »، وباركت للحكومة المالية تعبيرها عن قلقها، وناشدت الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا من أجل ضمان حماية التراث الثقافي لشمال مالي، واتفقت على إدراج الآثار المشار إليها على قائمة المواقع العالمية المهددة. وكان من شأن المديرة العامة لليونسكو إيرينا بوكوفا في وقت لاحق أن تفسر هذه الخطوة. لم يكن القرار بيدها، وإنما بيد اللجنة. كان أيضا وضعا خاسرا لا محالة. قالت: «أعرف أن البعض يرى أنه يتعين علينا ألا نستثيرهم [الجهاديين]؛ وأنه يتعين أن نسترضيهم، وهو ما أتفهمه في بعض الحالات.» ثم أردفت: «ولكن يوجد آخرون، بخاصة الآن بعد أن أصبح كل شيء عالميا، وكل شيء مرئيا جدا ومتصلا جدا، ممن ينتقدون منظمة اليونسكو بسبب عدم فعلها ما يكفي أكثر من انتقادها بسبب تسببها في الدمار.»
وكان الأمر الأكثر مدعاة للأسف هو توقيت اجتماع اللجنة؛ فقد اتخذ القرار في يوم الخميس، الموافق الثامن والعشرين من يونيو، وهو نفس اليوم الذي أجبر فيه الجهاديون، وهم لا يزالون مزهوين بعد انتصارهم في جاو، الحركة الوطنية لتحرير أزواد على الانسحاب من تمبكتو. في صباح اليوم التالي، في اليوم المقدس عند المسلمين، ذهبوا إلى مساجد المدينة للتنديد بمذهب أولياء تمبكتو. وفي صباح اليوم الذي تلا ذلك، تلقى ديوارا مكالمته الهاتفية في الدار البيضاء.
تلقى أحمد الفقي المهدي، قائد الشرطة الإسلامية الذي ينتمي إلى قرية قريبة، أمرا بالقيام بعملية الهدم. بدأ في الطرف الشمالي للمدينة، في أباراجو، بضريح سيدي محمود. كانوا بالفعل قد هاجموا قبر هذا الولي الشهير، والآن كانوا ينهون ما بدءوه. كان القبر على هيئة بناء شبيه بالصندوق مصنوع من تربة مدكوكة وحجارة، وكان مبنيا على تل بجوار شجرة، ومحاطا بقبور مريدي هذا الولي، الذين قيل إن عددهم 167 مريدا. كانت بقعة هادئة، مكانا كان الناس يأتون إليه يوميا للدعاء، والتبرك، وطلب العون والمدد من الولي. في الساعة الثامنة صباحا، أحاط نحو مائة من الجهاديين بالقبر وبدءوا في الهجوم عليه، وهم يصيحون «الله أكبر!» مستخدمين المعازق والمعاول والعتلات والمطارق التي كانوا قد اشتروها من متجر الأدوات المعدنية. أبعد المتفرجون بواسطة بنادق آلية مصوبة في اتجاههم. تذكر جانسكي قائلا: «لم يسمح لأي أحد بالاقتراب.»
لم يكن القبر مبنيا ليحتمل أي نوع من الاعتداء. وسرعان ما تمكن الرجال من نقب أحد الحوائط بعتلة وأحالوه إلى أنقاض. شرح جهادي ذو عمامة سوداء أمام الكاميرا الأسباب التي دعته إلى هدم الضريح. وقال: «توجد قاعدة شرعية تقول إن القبر يجب ألا يزيد ارتفاعه عن بضعة سنتيمترات فوق سطح الأرض.» ثم أضاف: «كما أنه لا يجوز تعظيم أحد إلا الله. لذلك السبب إننا نهدم هذا القبر.» وعندما انتهوا، كان البناء قد صار كومة من التراب والحجارة والقطع الخشبية. بعد ذلك انتقل فريق الهدم إلى قبر الشيخ محمد محمود الأرواني في نفس المقبرة.
قال المتحدث باسم الجهاديين سندة ولد بوعمامة: «كلنا مسلمون.» ثم أردف: «ما اليونسكو هذه؟» كانت هذه هي مجرد البداية لعملية هدم كل الأضرحة الموجودة بالمدينة؛ «اليوم، سيهدم أنصار الدين كل الأضرحة في المدينة. كلها، دون استثناء.» وصف حماها ذو اللحية الحمراء أولئك الذين كانوا يتعبدون عند الأضرحة بأنهم «يقودهم الشيطان»؛ وقال لأحد المراسلين: «إن الصلاة على القبور والتبرك بها هما من الأمور المحرمة في الإسلام.» وأضاف: «إن جماعة أنصار الدين تظهر لبقية العالم، وبخاصة الدول الغربية، أنه سواء شاءوا أم أبوا، لن نسمح للجيل الجديد بالاعتقاد في الأضرحة ... بغض النظر عما تقوله الأمم المتحدة، أو اليونسكو، أو المحكمة الجنائية الدولية، أو الإيكواس [المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا]. نحن لا نعرف تلك المنظمات. الشيء الوحيد الذي نعترف به هو حكم الله، الشريعة. الشريعة هي التزام إلهي. لا يحق للناس أن يختاروا أن تعجبهم أو لا.»
في حوالي الساعة العاشرة صباحا تحرك الرجال الذين يحملون المعازق والمعاول شرقا، إلى مقبرة سيدي المختار الكونتي، حيث كان بارت قد شهد البكاي يتفاوض مع إخوته منذ 158 عاما مضت. هدموا المزيد من الأضرحة هناك، وفي ذلك ضريح الشيخ نفسه، وصرح المهدي: «سنمحو من فوق ظهر أرضنا كل ما لا ينتمي إليها.» وفي عصر ذلك اليوم، تحركت جماعة المهدي جنوبا إلى مقبرة ألفا موي، حيث ظلوا يعملون حتى الغروب.
صرخ بعض السكان وهم يشاهدون أقدس بقاعهم تتعرض للتحطيم؛ بينما لم ينبس آخرون ببنت شفة، غير مستوعبين لما يحدث. في تلك الليلة، نامت المدينة عند الغسق. تذكر إير مالي قائلا: «كان الجميع منهكين.» ثم أردف: «شعرت وكأن أيام تمبكتو قد ولت.»
استمر الهياج في اليوم التالي، مع هدم ثلاثة أضرحة أخرى في جينجربر. استشعر إير مالي وجود نهج في اعتدائهم؛ إذ كانوا يهاجمون المقابر على أطراف المدينة، التي كانت تمثل أحجار الزاوية لدفاعاتها الروحية. وفي اليوم الثالث، اختار الجهاديون هدفا جديدا. في جدار على الجانب الغربي من مسجد سيدي يحيى، تحت عتبة عليا مثلثة، كان يوجد باب خشبي بهي منقوش على طراز تمبكتي تقليدي بأشغال معدنية زخرفية. بحسب اعتقاد محلي، كان من المفترض أن يظل مغلقا حتى نهاية الزمان. أوضح الإمام الأكبر عبد الرحمن بن السيوطي: «كانت رمزية باب مسجد سيدي يحيى بسيطة جدا وهي أنه يوجد أناس قالوا إنه عندما تفتح الباب، فهذه هي نهاية العالم.» لم يكن للأمر علاقة بالسحر أو بالشرك؛ مجرد أسطورة كانت قد اخترعت لغرض عملي. وأضاف: «حكى القدماء القصة للأطفال الصغار ليمنعوهم من الاقتراب من الباب ؛ لأن الجدار خلفه لم يكن صلبا جدا وكان ثمة خطر أن ينهار على الناس. اعتقد الناس أن عليك تركه وشأنه. كانت هذه طريقة لإبقاء الناس آمنين.»
رأى السلفيون الأمر على أنه بدعة. قال ابن السيوطي: «كانت عقليتهم تقضي بأن يتحدوا ذلك.» ثم أردف: «أرادوا أن يبرهنوا أن الأمر لم يكن صحيحا، مع أن الجميع بالطبع كانوا يعرفون أنه لم يكن صحيحا. كان ببساطة شيئا يقال للأطفال لإخافتهم.»
في صباح يوم الإثنين أقبلت مجموعة من الرجال المسلحين الذين يلبسون العمائم على المسجد. بدءوا أولا بسحب العتبة العليا وإخراجها، والتي خرجت بسهولة. شكلت ضلفتا الباب مشكلة أكبر؛ إذ تعين على الرجال أن يبذلوا مجهودا مضنيا، مقتلعين إياها من التربة التي جففتها الشمس والتي كانت تثبتهما في مكانهما. خرج جهادي ذو عمامة سوداء من المهمة وهو يفرك عنقه، ويعلم أن كاميرا الفيديو تصوره. قال: «الله أكبر»، وأضاف بسخرية: «والآن يحل وقت نهاية العالم.»
بدأ أناس يبكون وسط الحشد الصغير من التمبكتيين الذين تجمعوا ليشاهدوا ما يحدث.
حتى بعد مرور عامين، كانت هذه اللحظة عصيبة على الإمام الأكبر. قال بصوت مرهق: «عندما كانت الأضرحة تهدم، كانت تلك هي اللحظة التي انهارت فيها الروح المعنوية.» ثم أردف: «ربما كانوا يعتبرون أن هذا هو الإسلام. تقول الأحاديث النبوية إن الناس قرب نهاية الزمان سيفترقون على ثلاث وسبعين فرقة، وفرقة واحدة فقط ستكون على الحق. نحن نشهد ذلك. كل يوم تسمع عن فرقة جديدة تظهر، وتعلن عن نفسها. من وجهة نظرهم، وفي أنفسهم، يعتبرون أن هذه الأمور هي الحق. إن الناس الآن في حيرة من أمرهم.»
وجه كثيرون اللوم إلى لجنة التراث العالمي. قال إير مالي: «لو لم تقل منظمة اليونسكو ما قالته، ما كان الجهاديون سيمسون التراث الثقافي بسوء.» ثم أضاف: «نظرا لما قررته منظمة اليونسكو تعين أن يهاجموا ما كانوا قد نسوا أن يهاجموه.»
بعدئذ كتبت لجنة الأزمة إلى الأشخاص الذين كانت على اتصال بهم في باماكو، تطلب منهم أن يتوقفوا عن شجب مسلك الجهاديين ، بينما اعتبر رجال المكتبات في باماكو الأمر دافعا إضافيا لمحاولة جعل الناس يلتزمون الصمت. قال حيدرة: «في كل مرة كانت منظمة اليونسكو تأتي على ذكر المخطوطات، كنت أتصل بهم وأقول لهم، لا، يجب ألا تتحدثوا عن المخطوطات.»
في اليوم التالي لهدم الأضرحة استقبل حيدرة مكالمة من مسئول كبير من مسئولي اليونسكو في باريس. قال المسئول إن مهمة المنظمة هي العمل من أجل التراث العالمي، وعندما يكون في خطر، فإنهم ملزمون بالتحرك. فلماذا يتصل بهم حيدرة في كل مرة يتكلمون ويطلب منهم أن يلتزموا الصمت؟
قال حيدرة: «قلت له إننا في خضم شيء شديد الأهمية، وإن واصلتم التحدث إلى وسائل الإعلام عن المخطوطات، سيصبح الناس هناك على دراية بما نفعله.» ثم أردف: «في اليوم التالي اتصل مجددا وقال لي: «حسنا، سنعقد اتفاقا بيننا. سأتصل بك كل يوم، وستطلعني على ما يحدث.» ووافقت على ذلك.»
من تلك اللحظة، كان من شأن المسئول أن يتصل كل صباح، وكان حيدرة يطلعه على المستجدات. تذكر حيدرة قائلا: «دارت بيننا محادثات كثيرة بعد ذلك.» ثم أضاف: «لقد فهموا.»
فهم ديوارا شيئا أيضا؛ وهو أن هياج الجهاديين كان يعني أنهم قد توقفوا عن استمالة أهل المدينة. كانوا قد تخلوا عن التظاهر وكشفوا الآن حقيقتهم كما كانوا بالفعل. قال: «كانوا قد دخلوا مرحلة جديدة من الاحتلال، مرحلة حاسمة.» ثم أردف: «فهمت عندئذ أنه ستحدث عمليات بتر للأعضاء، وجلد، وكل ما كان سيحدث بعد ذلك.» •••
أتى فيض الغضب الذي انهمر على الجهاديين من كل أنحاء وأرجاء العالم. صرحت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بأن هدم الأضرحة يعد جريمة حرب، وأن لمكتبها سلطة التحقيق فيها. وأصدر قادة ست دول غرب أفريقية بيانا يحثون فيه المحكمة الجنائية الدولية على أن تتخذ إجراءات ودعوا مالي إلى أن تطلب من الأمم المتحدة أن تتدخل عسكريا في مواجهة المجموعات في شمال مالي. كما أن وزارة خارجية الولايات المتحدة «أدانت بشدة» هدم الأضرحة، بينما وصفته روسيا بأنه عمل «بربري» لا يمكن «إلا أن يثير السخط .» أما فرنسا فاعتبرته عملا «غير مقبول» و«تعديا ممنهجا على الأماكن المقدسة»، التي كانت لقرون جزءا من روح المدينة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. وبناء على طلب من باريس، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع القرار رقم 2056، الذي دعا إلى فرض عقوبات على الجهاديين المسئولين عن تلك الأعمال وأدان «تدنيس وتخريب وتدمير مواقع مقدسة وذات أهمية تاريخية وثقافية» في المدينة.
في جنوب مالي كان رد الفعل عدائيا بنفس القدر. في الرابع من يوليو، خرج أئمة المسلمين في باماكو في مسيرة ضد الإسلاميين في الشمال. وكان من الشعارات المكتوبة على اللافتات التي حملوها «لا للإسلام المستورد، نعم لإسلام أجدادنا»، بينما أوضح أحد المتظاهرين أن «تمبكتو قد تأسست على الإسلام النقي، الذي يحترم الناس، جميع الناس.» ودعت وزيرة الثقافة، ديالو فاديما توريه، الأمم المتحدة إلى «اتخاذ خطوات ملموسة لوقف هذه الجرائم التي ترتكب بحق التراث الثقافي لشعبي.» وحتى الحركة الوطنية لتحرير أزواد دعت، جديا، إلى التدخل الدولي، مطالبة «الولايات المتحدة، وفرنسا، وكل البلدان الأخرى التي تريد الوقوف في مواجهة جماعات أنصار الدين، وبوكو حرام، والقاعدة التي تحتل الآن تمبكتو، وجاو وكيدال، أن تساعدنا على قتلهم وأن تساعد الناس في تلك المدن.»
غير أن فورة الغضب غير المتوقعة على الإطلاق أتت من مخبأ زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، عبد المالك دروكدال، الذي ربما كان في جبال القبائل في شرق الجزائر العاصمة.
بمناسبة بداية شهر رمضان المعظم في العشرين من يوليو، وضع الأمير ومستشاروه اللمسات الأخيرة على مذكرة من ثمانين صفحة بعنوان «توجيهات عامة بخصوص المشروع الإسلامي الجهادي بأزواد» وأرسلها إلى القادة التابعين له في مالي. لم يكن من شأن العالم أن يطلع على نطاق واسع على صفحات هذه الوثيقة الداخلية إلا في العام التالي، عندما عثر عليها مراسلون كانوا ينبشون الركام والورقيات التي كان محتلو تمبكتو قد تركوها وراءهم. كانت الوثيقة منظمة بعناية، مع انتقادات تسبقها وتليها ملاحظات إيجابية عن الفرصة العظيمة «للمولود الصغير» المتمثل في مشروع أزواد الإسلامية. اشتملت الوثيقة في أجزاء منها على نوع من كلام الأعمال الذي قد يجده المرء في تقرير لإحدى الشركات؛ إذ ورد مرات عديدة ذكر «الأطراف الخارجية صاحبة المصلحة» وتحذيرات من «الوضوح الشديد على الساحة السياسية والعسكرية الحالية»، علاوة على مخاوف بشأن وصمة القاعدة. كان جوهر المذكرة واضحا: وهو أن فرع الصحراء الكبرى لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كان يمكنه إفساد هذا المشروع الجهادي برمته.
كتب دروكدال أنه ربما لا تكون القوى الكبرى في وضع يسمح لها باستخدام القوة بسبب إنهاك جيوشها والأزمة المالية العالمية الجارية، لكنها مع ذلك ستحاول أن تعيق إقامة دولة أزواد الإسلامية. وأضاف أنه من المحتمل، بل من المؤكد، أن تقوم بنوع ما من التدخل العسكري أو تمارس ضغطا من خلال فرض حظر اقتصادي وسياسي وعسكري شامل، وعند هذه المرحلة سيجبر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على التقهقر إلى قواعده في الصحراء. ومع الأخذ في الاعتبار أن القاعدة كانت تمثل استفزازا للغرب، كان من الأهمية بمكان التخفي. كتب دروكدال ناصحا: «يسعكم في ذلك السكوت والتظاهر بأنكم حركة «داخلية» لها قضاياها واهتماماتها الخاصة.» ثم أضاف: «التدخل الخارجي سيزداد تأكده وسيتم التسريع به كلما تفردنا [تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي] بالحكومة وبرزت هيمنتنا عليها بشكل واضح جدا.»
يجب عليهم أيضا أن يتجنبوا الإقدام على مخاطرات. كانت السرعة التي يتحرك بها القادة المحليون لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في مواجهة إسلام المنطقة تمثل خطأ كبيرا. ذكر دروكدال في فقرة تنطوي على انتقاد لاذع: «ومن السياسات الخاطئة التي نراكم قد وقعتم فيها: التسرع في تطبيق الشريعة وعدم مراعاة التدرج الضروري في بيئة يغلب عليها الجهل بأحكام الدين وعلى شعوب غيبت عنها أحكام هذه الشريعة لقرون متتالية من الزمن.» لقد أثبتت التجارب السابقة أن تطبيق الشريعة بهذه الطريقة «سيؤدي حتما إلى نفرة الناس من الدين وبغضهم للمجاهدين.» وهو ما من شأنه أن يؤدي، بالتالي، إلى فشل «تجربتنا.»
اشتملت الأمثلة المحددة على هذا التسرع، التي أمرهم هو والمجلس الحاكم لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بألا يكرروها، على هدم الأضرحة وتطبيق الحدود. وفيما يتعلق بقرار هدم الأضرحة، كتب: «إن تمكننا الآن غير مكتمل، والتدخل الخارجي قادم، والناس حديثو عهد بالفتح ... فالمفاسد المترتبة على هذا الفعل ليست هينة ولن يغفر لنا إن واصلنا على هذا النحو.» لكن «الخطأ الجسيم» الذي وقعوا فيه كان الخلاف مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد، التي كانت شريكا ضروريا في النضال من أجل تحقيق أهداف تنظيم القاعدة، حتى وإن لم تبد نصيرا طبيعيا. شعر دروكدال بالقنوط لنقض الاتفاقات مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد ومع حركة التمرد العربية. كتب أنه ينبغي استخدام هذه الجماعات لبناء الدولة والدفاع عنها ضد التدخل الأجنبي. ورأى أن الاتفاق الذي كان قد وضع بين الحركة الوطنية لتحرير أزواد والقاعدة كان «فتحا» عظيما تخطى كل ما كان يأمله تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من حركة من المفترض أن لها نزعات علمانية.
إجمالا، بينما كان ينبغي أن تقدم القاعدة مواردها لدولة أزواد، لم يكن من مصلحتها ولا في وسعها أن تحكم الإقليم في حين أن هدفها الأساسي كان الجهاد العالمي. لذلك كان ينبغي عليها أن تبقى في خلفية المشهد، مقدمة الدعم لحكومة من أزواد بقيادة إياد آغ غالي وجماعة أنصار الدين، لكنها تشمل ممثلين لكل الطوائف في الشمال - الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والعرب، والسونجاي، والفولاني - وأن تركز طاقاتها على المشهد الأشمل.
واختتم قائلا: «وفي الختام فإن هذه التوجيهات والتصور العام هي مما نراه الأسلوب الأمثل لتجنب أخطاء الماضي الذي ذقنا مرارته ونتمنى عدم تكراره.»
إلى من كانت مذكرة دروكدال موجهة؟ بالتأكيد ليس إلى أبي زيد، المقرب من دروكدال والذي أدت عمليات الخطف التي قام بها إلى رفع مكانة التنظيم وزيادة احتياطاته النقدية بدرجة كبيرة. الاحتمال الأكبر أنها كانت موجهة إلى مختار بلمختار، القائد الأعور الذي قاد القتال مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد في جاو. كان من شأن بلمختار أن ينفصل بعد قليل عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي انفصالا تاما ويؤسس كتيبة الموقعين بالدم المنافسة ، وأن يكتب إلى الزعيم العالمي للقاعدة، أيمن الظواهري، يخبره أن دروكدال كان منفصلا انفصالا عميقا عن واقع الأمور والأحداث الجارية. وبالنظر إلى أن الجهاديين كانوا بالفعل قد جروا جثة العقيد بونا آغ طيب عبر شوارع جاو وأجبروا الأمين العام للحركة الوطنية لتحرير أزواد على الفرار من مقر عملياته، فقد كانت وجهة نظره مقبولة؛ فبالتأكيد كان وقت رأب الصدع في العلاقات مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد قد ولى منذ زمن بعيد.
أيا كان رأي قادة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي جنوب الصحراء الكبرى في كلمات الأمير، فقد كان تأثيرها ضعيفا. تحرك قادة تمبكتو الجدد بسرعة أكبر حتى من ذي قبل، عالقين في مسارهم، ومتولين إدارة إقليم حيث كان أمر تسيير الأمور يمثل تحديا صعبا. •••
أما رجال المكتبات في باماكو فكانوا يرون أن الحاجة إلى إجلاء المخطوطات تزداد إلحاحا. أمضى حيدرة أيامه في حلقة مفرغة من لقاءات جمع تبرعات غير مثمرة. لقد طاف من جديد على السفارات، واتصل ب «أصدقاء مالي» (قال حيدرة: «إن لمالي أصدقاء كثيرين») ليرى إن كان أي شيء قد تغير، لكن هذه الاتصالات أسفرت عن نفس الرد مرارا وتكرارا: تذكر قائلا: «كان الرد: «لا، لا، لا، لا يمكننا أن نفعل أي شيء مثل ذلك».» وأردف: «ثم كانوا يضيفون: إن ذلك يمثل التراث القومي لمالي، ونحن أصدقاء مالي، وإن شرع بلدنا في أن يساعدك في فعل ذلك، فستبدأ مالي في اتهامنا. لا يمكننا أن نتورط في ذلك.» بدا له أن معارفه الذين كان يتصل بهم لم يعودوا يتحدثون معه بنفس نبرة الاحترام التي كانوا يتحدثون بها في السابق. وأخيرا، أوضح له أحد «الأصدقاء» أن الشركاء الدوليين لم يكن لديهم ثقة فيما كان يجري في البلاد، ولذلك ما كانوا سينفقون أموالا هناك. شعر حيدرة بأنه قد خدع.
قال: «فهمت أمورا كثيرة.» ثم أضاف: «ذكرني هذا بلقاءات كثيرة اجتمعت فيها مع أشخاص آخرين. لم يكونوا صريحين معنا.»
جرب رجال المكتبات مسلكا جديدا، فحددوا مواعيد مع كبار الشخصيات في الحكومة المالية ممن كانوا مسئولين عن التراث. بدءوا بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الإدارة الحكومية المسئولة عن معهد أحمد بابا. قال لهم حيدرة إن مخطوطات تمبكتو معرضة للخطر، لكن رجال المكتبات لم يكن لديهم الوسائل لإنقاذها. سألهم: «ما الذي ستفعلونه لمساعدتنا؟»
قال له الأمين العام للإدارة: «الحال الذي أراك عليه اليوم يجعلني أعرف أنك جاد.» ثم أردف: «ولكنني سأخبرك ببعض الأمور. لا يمكننا أن نساعدكم سياسيا، ولا ماديا، بأي طريقة. الأمر الوحيد الذي يمكنني أن أقوله لك هو أنه يجب عليك أن تفعل كل ما بوسعك أن تفعله في هذا الشأن. نحن نساندك.»
بعد ذلك ذهبوا إلى وزارة الثقافة، التي كانت تشرف على مجموعات المخطوطات الخاصة. قال حيدرة نفس الكلام وتلقى نفس الإجابة. تذكر أنه قيل له إن عليه أن يفعل ما في وسعه، وإنهم يساندونه. قال حيدرة: «قلت لهم إنني سأحاول، ولكنني أردت أن يكونوا على دراية بالأمر؛ لأنه إن حدثت مشكلات فسيتعين عليهم مساعدتي.» ووافقه المسئولون.
بمساندة الوزارتين، اتصل حيدرة بجهات اتصاله في الخارج. كان له صديق في جنيف، وطلب منه هذا الصديق أن يأتي إلى سويسرا، بل إنه دفع له ثمن تذكرة طائرته. أمضى حيدرة عدة أيام هناك، والتقى بأشخاص ممن كانوا يتعاملون مع التراث العالمي، ومن ضمنهم بعض ممن كانوا قد عملوا على إنقاذ المخطوطات في العراق وأفغانستان. قالوا له إنه ينبغي أن يبدأ العملية في القريب العاجل، ولكن أن يأخذ الأمر بروية وحذر. وحتى إن تمكن من تهريب مخطوطة واحدة من المدينة كل يوم، كان من شأن هذا أن يكون أمرا يستحق العناء. أعطته امرأة نصيحة كان من شأنها أن تعلق في ذهنه. تذكر قائلا: «قالت يجب عليك ألا تخسر أي شخص يبدأ في العمل معك.» وأردف: «ثم أضافت: يجب عليك أن تبقيهم دوما سعداء، حتى وإن لم يكن يهمك هذا، حتى إن أقدموا على حسابات خاطئة. قالت لي هذا ثلاث مرات.»
عاد من سويسرا وفي ذهنه أفكار كثيرة، ولكن كان لا يزال ينقصه المال.
في ذلك الوقت أراد إسماعيل هو الآخر أن يسافر. بالنسبة إلى رجل كان يحب أن يمضي ساعة كل صباح ومساء في السير في الصحراء المفتوحة حول تمبكتو، كانت باماكو خانقة. كانت القرية التي كان مونجو بارك قد مر بها في عام 1796 عبارة الآن عن مدينة يزيد تعداد سكانها عن مليوني نسمة، أضف إلى ذلك الآلاف الذين كانوا يصلون من الشمال كل أسبوع. كانت بيوتها المبنية بالقوالب الأسمنتية تمتد لمسافة عشرين ميلا؛ وشوارعها وجسورها مزدحمة بالسيارات التي لا تتوقف عن إطلاق النفير وإخراج عادم بني في الهواء الرطب. كان مما يزيد من إحساس إسماعيل بالاختناق التوتر السياسي الذي كان يمتد في بعض الأحيان متحولا إلى قتال بالأسلحة النارية في الشوارع، واشتمل ذلك على محاولة انقلاب مضاد أقدم عليها حرس الرئيس المخلوع أسفرت عن أربعة عشر قتيلا.
قال: «لم يكن الحال جيدا في باماكو.»
وإذ كان قد أبعد عن تمبكتو، وقد خبئت مخطوطات مكتبته فوندو كاتي، لم يكن لديه الكثير مما يربطه بمالي وبأزمتها. قرر أن يعود إلى وطنه الثاني، الأندلس.
تفهم رجال المكتبات الآخرون الأمر. قال حيدرة: «ما حدث أن صديقنا إسماعيل أصابه التعب.» ثم أضاف: «قال: «حسنا. سأترككم تتابعون الأمر.»»
قال معيجا: «كانت حقيقة الأمر أننا بينما كنا نبحث عن حلول، لم يكن لدى إسماعيل أي مشكلة.» ثم أردف: «كان معنا ليعطينا أفكارا. وبحلول الوقت الذي اتخذنا فيه القرار بالتدخل، كان قد غادر إلى إسبانيا. كان قد كفل التأمين لمخطوطاته قبل الذهاب، ثم غادر.»
ولم يرجع إسماعيل. •••
بحلول شهر يوليو كان القاضي هو الآخر في باماكو. كان باحث معهد أحمد بابا ذو الابتسامة المريحة والعينين الناعستين قد غادر تمبكتو مع أسرته في أواخر شهر أبريل. وبعد رحلة مرعبة بالحافلة دامت قرابة أسبوع، وصلوا إلى سيجو، حيث وجد منزلا رخيصا واستأجره. لكن لم يكن يوجد ما يفعله هناك، ومع عدم وجود مورد للمال، قرر هو وفطومة في يونيو أنه ينبغي أن يذهب إلى باماكو. كل يوم كان القاضي يذهب ليطلب عملا في المكاتب الصغيرة في كالابان كورا التي كان المدير، معيجا، قد استأجرها. وحتى هنا، لم يوجد الكثير من العمل؛ فالمواد الوحيدة التي كان المعهد يملكها كانت بضع وثائق رقمية كانت قد أحضرت جنوبا على محركات أقراص صلبة، بالإضافة إلى عدة مئات من المخطوطات كان معيجا قد حصل عليها في باماكو.
ولكن، في الثالث والعشرين من يوليو، دعا معيجا القاضي إلى الدخول. كان ثمة أمر صعب للغاية احتاج أن يطلبه منه، ولكن تعين عليه أن يكون كتوما جدا.
قال القاضي: «لا مشكلة.» ثم أردف: «إن كان بوسعي القيام به، فلا مشكلة. سأحاول.»
قص عليه المدير بعضا مما كان حيدرة قد علمه في رحلته إلى سويسرا؛ كيف عانت مكتبات المخطوطات من خسائر كارثية أثناء حرب العراق، وكيف دمرت مكتبات أخرى في السودان وليبيا. قال معيجا إن مخطوطات المعهد هي الأخرى كانت عرضة الآن لخطر أن تتلف؛ إن لم يفعلها الإسلاميون، كان ثمة احتمال قوي أن يقدم أفراد الحركة الوطنية لتحرير أزواد على ذلك.
واختتم حديثه قائلا: «ما أريد منك أن تفعله هو أن تخرج المخطوطات من المكتبات في تمبكتو.»
قال القاضي: «لا مشكلة.»
كان معتادا من القاضي أن يجيب بطريقة هادئة، بل حتى باردة، وكان ذلك هو السبب الذي دعا معيجا إلى أن يسأله. كان المدير لا يزال جديدا في وظيفته، لكنه كان قد استطلع آراء قدامى الموظفين في تمبكتو عمن يمكن الوثوق به للاضطلاع بمهمة خاصة وحساسة، وكان اسم القاضي هو الأول في القائمة. كان سيرافقه «عميلان سريان» آخران. كان الأول هو عبد الله سديدي، الذي كان معروفا عنه هو الآخر أنه يتحلى برباطة الجأش. كان الثالث شخصا لم يكن أي منهما يعرفه جيدا، لكنه كان سيكون من الأهمية بمكان لأنه كان مدير مكتبة أحمد بابا؛ بويا حيدرة.
طلب معيجا من القاضي أن يتصل بالاثنين الآخرين؛ ثم وضع الخطة.
كانت الخطة تقضي بأن يشق هؤلاء «العملاء» طريقهم إلى تمبكتو، حيث كانوا سيتصلون بأبا تراوري، حارس المبنى القديم في شارع شيمنيتز، ويطلبون منه أن يسمح لهم بدخول المستودع في الخلف. هناك كانوا سيحزمون بضع مئات من المخطوطات - كان سيتعين عليهم أن يتخذوا القرارات بأنفسهم بشأن أي مخطوطات سينتقون، لكنه كان يفضل أن ينتقوا المخطوطات الأقل قيمة، أو تلك التي كان يوجد منها نسخ متعددة، تحسبا لأن تفقد - ويحضروها إلى باماكو. كان ينبغي أن يتجنبوا السفر عائدين معا؛ لأنه إن قبض على أحدهم، يمكن أن يفقدوا كل شيء. كان ينبغي أيضا على كل عميل أن يختلق رواية ملفقة تحسبا لأن يتعرض للاستيقاف. (كانت رواية القاضي الملفقة أنه كان قد طلب إجازة من المعهد ليزور شقيقه، الذي كان لا يزال يقطن في تمبكتو.) قال معيجا إن الأمر الأخير هو أنه يجب ألا يخبروا أي أحد، ولا حتى أقرب أقربائهم، بالمكان الذي كانوا ذاهبين إليه ولا بما كانوا يخططون لفعله هناك.
قال: «أعرف أن الناس في تمبكتو وجاو لا يكفون عن الثرثرة، ولكن أريد منكم أن تكونوا متحفظين فيما تتلفظون به.»
لم يكن المدير يملك أي مال للمهمة إذ كان تمويله لا يزال مجمدا؛ لذا دفع مقابل رحلتهم من أمواله الخاصة. أخذهم بالسيارة إلى البنك الذي كان في نفس الشارع وسحب مبلغا كبيرا، وأعطى لكل عميل منهم 100 ألف فرنك وسط أفريقي (ما يعادل 170 دولارا أمريكيا). بعد ذلك طلب منهم أن يعودوا إلى البيت ويحزموا حقائبهم.
في الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم التالي، حمل العملاء حقائبهم إلى ملتقى الطرق الدائري الخاص بسوجولون، الذي تنتصب فيه منحوتة لجاموس ماء، وركبوا حافلة متجهة إلى موبتي. •••
كان السفر في مالي صعبا في أهدأ الأوقات. كانت السيارات بطيئة، وزنبركاتها مكسورة، ومقاعدها غير مريحة وإطاراتها منحولة على نحو خطر، ومع أن حرفيي ميكانيكا السيارات كانوا يأتون بالعجائب، كانت الأعطال تحدث في كل رحلة تقريبا. كان يوجد 3400 ميل فقط من الطرق المرصوفة في بلد تعادل مساحته ضعف مساحة فرنسا، وكانت الشاحنات الكبيرة وعربات الفان تتنافس عليها مع السيارات المسرعة، والعربات التي تجرها الحمير المثقلة بحمولة فوق طاقتها، والمارة، وركاب الدراجات الهوائية، متفادية الحافلات المعطلة وجثث الحيوانات. وعلى الرغم من قلة الطرق في البلاد، كان احتمال أن يقضي المالي نحبه في حادث سيارة أعلى بسبع مرات من احتمال وفاة البريطاني، وأكثر قليلا من ضعف احتمال وفاة الأمريكي لنفس السبب.
ازداد التوتر في الرحلة سوءا بسبب مهمة العملاء. كان دخول منطقة الجهاديين وحده مخاطرة كافية؛ وكم كان من الأسوأ أن تسافر بقصد غير مشروع، مهما كان نبيلا، كان يمكن أن يؤدي إلى السجن، أو قطع اليد، أو القتل. في الطريق إلى الشمال، اختبر الرجال نقاط التفتيش التي كان سيتعين عليهم عبورها ومعهم حمولتهم في الطريق إلى الجنوب. عند دوينتزا، حيث انحرف مسارهم عن الطريق المرصوف، رأوا أول جهاديين. تذكر القاضي قائلا: «كانوا في كل مكان.» كانت توجد نقاط تفتيش إضافية على مسافة مائة ميل شمالا، عند بامبارا ماوندي، وجنوب النهر مباشرة. في كل توقف كان عليهم أن يظهروا هوياتهم ويجيبوا على أسئلة الجهاديين. من أنت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ ما سبب مجيئك؟
عندما بلغوا محطة عبارات نهر النيجر قبالة كوريومي، كان قد مضى عليهم في سفرهم ست وثلاثون ساعة. كان وقت الغسق، ولم يكن مسموحا لهم أن يدخلوا تمبكتو بعد حلول الظلام؛ لذا استعدوا لأن يناموا في العراء، على الضفة الجنوبية للنهر الفضي العظيم. لم يكونوا وحدهم؛ إذ كان بويا، الذي كان ذا شخصية عصبية وضحكة عالية، قد تعرف على صديق وعلى الرغم مما كان معيجا قد قاله، لم يستطع أن يمنع نفسه من الإفصاح عن السر الذي كان يثقله. قال لصديقه إنهم كانوا في مهمة، وربما سيحاولون أن يدخلوا أحد مباني معهد أحمد بابا. أصاب الذهول الصديق. كانت محاولة إتيان عمل كهذا بمثابة انتحار. وقبل أن يحاول أي منهم أن يوقفه، كان يجري مكالمة هاتفية ليناقش الأمر مع شقيقه، الذي وافقه على أنهم يجب ألا يحاولوا دخول المعهد تحت أي ظرف من الظروف؛ وحذرهم قائلا: «إن دخلتم المبنى، فسيقتلكم الإسلاميون.»
لم تكن النصيحة هي التي ما أصاب القاضي وسديدي بالقلق بقدر حقيقة أن أمر المهمة قد صار معلنا.
تابع العملاء طريقهم. في الصباح عبروا النهر ومروا عبر نقاط التفتيش النهائية، عند كوريومي وعند محطة توتال للوقود عند مدخل المدينة. بعد ذلك مضى سديدي والقاضي ليخلدا إلى الراحة في منزل القاضي في أباراجو، الذي كان شقيقه لا يزال مقيما فيه، وفي اليوم التالي ذهبا إلى أحد الزملاء، وهو أبو بكرين معيجا، الذي كان يقطن مع أسرته بالقرب من مسجد سيدي يحيى، ليخبراه بأنهما قد أرسلا لإخراج بعض المخطوطات من تمبكتو.
اتفق على أن بويا، بصفته الأكبر سنا، ينبغي أن يذهب الآن لمقابلة الحارس العجوز أبا وحفيده حاسيني ويخبرهما بأمر المهمة. بعد المغادرة بقليل، اتصل بويا ليقول إنه كان قد تحدث معهما وإنه لم تكن ثمة مشكلة؛ لذا سار القاضي وسديدي عبر الأزقة الرملية إلى شارع شيمنيتز. قادهم أبا إلى الساحة الصغيرة ذات الأشجار خلف المبنى وفتح الباب المؤدي إلى المستودع، الذي كان عبارة عن غرفة ذات حوائط بيضاء كانت تضم المخطوطات، التي كانت كل مخطوطة منها موضوعة بعناية في صندوقها غير الحمضي، حيث كانت مخزنة في خزائن خشبية. كان العملاء قد جاءوا مزودين بعدد من أشولة الأرز من فئة عشرة كيلوجرامات، وأخرجوا المخطوطات من الصناديق وعبئوها بحرص في الأشولة.
كانوا جميعا متوترين، وبخاصة بويا؛ الذي يتذكر ذلك قائلا: «في اليوم الأول كنا خائفين للغاية لأنها كانت المرة الأولى التي نفعل فيها ذلك.» ثم أضاف: «كنا مرتعبين حقا، ولكن ما الذي يمكننا فعله؟ لم يكن الأمر يخلو من المخاطرة!» تسبب سديدي في مشكلة إضافية؛ إذ كان لديه حساسية من الغبار، والذي كان في كل مكان، وظلت تنتابه نوبات سعال لا يمكن السيطرة عليها.
سارعوا بملء الأجولة، ثم خرج واحد منهم إلى الطريق لينادي حمالا معه عربة جر يدوية ليحمل المخطوطات إلى منزل أبي بكرين معيجا قبالة مسجد سيدي يحيى. وهناك وضعوا قائمة بما كانوا قد أخذوه من المخطوطات. حسب تقدير القاضي كان معهم حوالي ثمانمائة وثيقة. تمكنوا من العثور على خزانة من الفولاذ، ولكن سرعان ما امتلأت - كانت بعض المجلدات الملفوفة بالجلد ضخمة، وتحتوي على خمسمائة أو حتى ستمائة صفحة - لذا وضعوا بقية المخطوطات في حقيبتي ظهر ضخمتين، ثم قسموا الأغراض بينهم. أخذ كل من بويا وسديدي حقيبة ظهر، بينما أخذ القاضي الخزانة بالإضافة إلى مخطوطتين كبيرتين لم يستطع أن يدخلهما في الخزانة.
كانت الخطة تقضي بأن يسافر كل عميل إلى الجنوب على نحو منفصل، لكن الآن فضل القاضي وسديدي ألا يدعا بويا يذهب بمفرده. تذكر معيجا قائلا: «عندما لاحظا أن بويا بدأ يعطي معلومات عن المهمة، قالا إنهما إن تركاه يذهب بمفرده، قد يفصح عن معلومات أكثر من اللازم وقد تفشل المهمة.» تطوع سديدي أن يغادر أولا. كان من شأنه أن يهاتفهما عندما يكون قد نجح في المرور من نقاط التفتيش؛ ثم يمكن للقاضي وبويا أن يغادرا معا.
مر القاضي بيوم حافل بالتوتر في انتظار مكالمة سديدي. عندما جاءت المكالمة أخيرا، قال سديدي إنه في سيفاري وإنه لم تحدث أية مشكلة. الأشخاص الوحيدون الذين أرادوا أن يفتشوا حقيبة ظهره كانوا رجال الدرك المالي، لكنه قال لهم إنه كان يحمل مخطوطات ملكا للدولة وتركوه يمر. عندئذ انطلق القاضي وبويا في طريقهما. على عكس الحركة الوطنية لتحرير أزواد، لم يكن الجهاديون مهتمين بالحقائب، ومر الاثنان من نقاط التفتيش دون مشاكل. لم يطلب من المسافرين أن يفتحوا كل حقائبهم إلا بعد تخطي سيفاري، في المنطقة الحكومية.
تذكر القاضي: «كانت الشرطة تفتش كل مكان في الحافلة.» ثم أضاف: «أنزلوا كل شيء وفتشوا في كل الأغراض.» راقب جنديا وهو يفتش في متاعه، حتى وصل أخيرا إلى الخزانة المليئة بالمخطوطات. قبل أن يتمكن من فتحها تقدم القاضي ومعه خطاب كان معيجا قد كتبه موضحا أنه كان مسافرا في مهمة تابعة للدولة.
قال الجندي: «أنا لست هنا من أجل أن أنظر في مهمتك.» ثم أضاف: «أنا هنا لأفتش الحقائب.»
لم يكن أمام القاضي من اختيار سوى أن يطلعه على محتويات الخزانة. اتسعت عينا الجندي دهشة. وصاح متعجبا: «آه، إنها مخطوطات!»
كانت تلك لحظة حرجة، لكن القاضي ظل هادئا، وإذ لم يكن يحمل أي شيء غير قانوني، أغلق الجندي الصندوق الفولاذي ببساطة. وقال إن كل شيء على ما يرام، وإن بوسعهما أن يعودا ليركبا الحافلة.
بلغا باماكو في الساعات الأولى من المساء، واتصل القاضي بمعيجا ليعلمه. في اليوم التالي أحضر المخطوطات إلى المكتب الذي كان يعلو متجر السمك والدجاج وأخبر المدير بما حدث.
عندما سمع حيدرة عن الشائعات التي كانت تتناقل في تمبكتو، لم يسره ذلك. تذكر قائلا: «قلت: «حسنا، سنغير الاستراتيجية».» ثم أضاف: «قلت لهم من جديد كيف سيجري الأمر.» •••
ما إن مر أسبوع على عودة القاضي من تمبكتو، حتى كان يتوجه صوب الشمال من جديد، لكن هذه المرة بمفرده. كان سديدي قد استبعد من عملية الإجلاء الثانية هذه بسبب الحساسية التي كان يعاني منها، بينما كان بويا يشكل خطرا أمنيا. كان معيجا قد ذكر القاضي بألا يتحدث مع أي أحد آخر عن مهمته، وبخاصة أفراد أسرته. كل ما استطاع الباحث قوله لزوجته في سيجو هو أنه كان يتعين عليه أن يرحل مجددا لبضعة أيام.
في موبتي وجد سيارة دفع رباعي متجهة إلى تمبكتو، فركب فيها مع أحد مساعدي رئيس البلدية وعدة أشخاص آخرين. بلغوا الضفة الجنوبية للنهر قبل حلول الليل مباشرة، لكن العبارة كانت قد توقفت عن العمل في المساء؛ لذا نادوا زورق صيد، فحملهم إلى الضفة الأخرى، ثم أقنعوا سائق سيارة لاند روفر أن يأخذهم معه الأميال التسعة الأخيرة إلى تمبكتو. عند نقطة التفتيش بجوار محطة وقود توتال، اقترب من السيارة مجاهد شاب معه بندقية، ويرتدي صدرية، ويضع عمامة على الطريقة الأفغانية. اعتقد القاضي أنه كان باكستانيا.
كان مساعد رئيس البلدية قلقا - ما الذي سيحدث إن اكتشفوا هويته؟ - لكن الجهادي الشاب لم يطلب حتى أن يطلع على هوياتهم. كان شاغله الوحيد هو المرأة المسنة التي كانت جالسة مع الرجال في المقاعد الخلفية.
استولت الدهشة على القاضي، الذي كان مسلما متعلما ومتدينا. قال له إنها امرأة مسنة. وكان ابنها يرافقها. ولا يوجد ما يمنع في الإسلام أن يسافر الرجال والنساء معا.
صاح المقاتل الشاب: «أنت تكذب!» ثم أضاف: «لقد تعمدتم وضع المرأة وسطكم! عليكم أن تخرجوا من السيارة. اخرجوا!»
هرع الركاب إلى تنفيذ ما قاله الرجل المسلح، وبسرعة جعل السائق المرأة تتبادل مقعدها مع رجل كان يجلس في المقعد الأمامي. كانت لا تزال جالسة بجوار رجل، وهو السائق، لكن الجهادي كان راضيا لأن الأمور قد عادت لنصابها الصحيح بحسب فكره السلفي، وأشار إلى اللاند روفر بأن تمضي في طريقها.
كان الظلام قد حل عندما وصل القاضي إلى منزله في أباراجو. اتصل هاتفيا بأبي بكرين ليخبره بأنه قد عاد، ثم ذهب ليخلد إلى الراحة، وفي الصباح التالي ذهبا معا إلى المبنى القديم، حيث التقيا بأبا وحاسيني مجددا. اتصلوا بمعيجا من هناك: أراد المدير أن يشرح المهمة الجديدة بنفسه للحارس. في عصر ذلك اليوم، شرعوا في مهمتهم، التي سرعان ما أصبحت أمرا روتينيا.
كان القاضي سيغادر منزله قبل وقت الظهيرة لأداء صلاة الضحى في مسجد في السوق. ثم، مع ارتفاع حرارة الجو وعودة الناس إلى بيوتهم لتناول الطعام وأخذ قسط من الراحة، مضى في طريقه إلى شارع شيمنيتز، وجلب معه دزينة أو نحو ذلك من أشولة الأرز. أدخله حاسيني إلى المستودع. وهناك عملا معا، فكان القاضي يأخذ الصناديق من فوق الأرفف ويمررها واحدا تلو الآخر إلى حاسيني، الذي كان يضعها على الطاولة ويفتحها بينما يسجل القاضي الرقم الفهرسي لكل مخطوطة. في المهمة الأولى كانوا قد سجلوا العناوين أيضا، لكن لأن حاسيني لم يكن يقرأ العربية، كانا الآن يسجلان الأرقام فقط. نقلا المخطوطات من الصناديق ليوفرا مساحة في الخزائن، وفتح حاسيني كل شوال بينما كان القاضي يملؤه بحرص. وفيما عدا بضع وثائق علمية كان القاضي قد تعرف عليها، لم يعرف بالضبط ماهية المخطوطات؛ فقد كان يأخذ ما استطاع أخذه فحسب.
ظلا يعملان حتى الساعة الرابعة بعد الظهر، وتوقفا عن العمل عندما بدأت المدينة تصحو ثانية، ثم بقي القاضي مع حاسيني وأبا في منزلهما في مجمع المكتبة حتى الغسق. عندما كان الليل قد حل، خرج أحدهم إلى الشارع لينادي حمالا معه عربة جر يدوية، فجاء بها الحمال إلى المدخل الخلفي وحملها بالأشولة. عندما أصبحوا مستعدين للتحرك، سار أبا في الشارع الرئيسي ليتحقق من أن الطريق كان آمنا. بإشارة منه، تحرك الرجال؛ إذ سار حاسيني أمام الحمال الذي كان يجر العربة، والقاضي في الخلف، وساروا مسافة نصف ميل إلى منزل أبي بكرين. حرصوا على اختيار حمال مختلف في كل ليلة حتى لا ينتاب أحدا ارتياب زائد، وساروا في الأزقة الخلفية قدر الإمكان لتجنب دوريات الجهاديين.
في اليوم الثاني أضافوا وردية مسائية. كان العمل في الليل أصعب - كان انقطاع الكهرباء متكررا، وتعين على أبا أن يمسك بكشاف ضوئي - لذا لم يتمكنوا من أن يلتزموا بذلك وقتا طويلا، لكن المخطوطات كانت تتكدس سريعا في المنزل المقابل لمسجد سيدي يحيى.
بعد ذلك اتصل أبو بكرين بمعيجا، الذي أعطاهم رقم تاجر كان حيدرة يعرفه، وكان هذا التاجر سيجلب المخطوطات جنوبا. أحضر التاجر عشر خزائن، وطلب منهم أن يملئوها ويأخذوها إلى مبنى معين في حي بيلافاراندي القريب. بعد ذلك نقل القاضي وأبو بكرين الوثائق إلى الخزائن. عندما كانت واحدة تمتلئ، كانا يحكمان غلقها بقفل عند كل طرف من الطرفين واحتفظ القاضي بالمفاتيح في جيبه. جرا الخزائن على عجلاتها، واحدة تلو الأخرى، إلى منزل التاجر، ولم يكونا ينقلان أكثر من اثنتين أو ثلاث في اليوم وفي أوقات مختلفة، ليتجنبا أن يلاحظهما أحد. وشحنت الخزائن من هناك إلى الجنوب في الشاحنات التي كانت لا تزال تطوي الصحراء، منتقلة على طريق التجارة من تمبكتو إلى باماكو. حتى في وقت الحرب، استمرت الناقلات في العمل؛ لأن الجهاديين احتاجوا إلى تجارة المدينة وإلى واردات الغذاء. بحسب معيجا، كان المحتلون يثقون في التاجر؛ إذ قال: «كان الإسلاميون يثقون فيه، وانتهز الفرصة لإخراج أشياء دون أن يزعجه أحد.»
نقلت المخطوطات جنوبا تحت أكوام من منتجات تمبكتو، علاوة على صناديق كوكاكولا وفانتا والبضائع المستوردة الأخرى التي كانت تشحن من الجزائر وموريتانيا. قال حيدرة: «في بعض الأحيان كانت الشاحنات تحمل خزانتين، وأحيانا أربعا.» ثم أردف: «أحيانا كانت توجد شاحنتان وفي كل شاحنة كانت توجد خمس خزائن، أو ثلاث شاحنات وبها ثلاث خزائن. كانت تلك هي الطريقة التي تابعنا بها العمل.» في بعض الأحيان كان أحد الأشخاص التابعين لحيدرة يرافق الشحنات، ولكن في أوقات أخرى كانت تنقل بمفردها، «في حماية الله»، على حد قول القاضي.
عندما كانت المخطوطات تصل إلى بوست دي نيامانا، نقطة التفتيش الجمركية الضخمة عند طرف باماكو، كان السائق أو الناقل يتصل ليخبر رجال المكتبات بأنه قد وصل، وكان معيجا أو حيدرة يذهب لملاقاته، وأيضا، إن دعت الحاجة، لتسهيل مروره وإنهاء الإجراءات الروتينية. تذكر حيدرة: «كنت آخذ سيارتي لألتقي به هناك عند مدخل باماكو.» ثم أردف: «عادة ما كان يوجد تأخير هناك وكنت أدفع الكثير من المال. وكانت هذه مشكلة كبيرة.» بعد ذلك كانت الخزائن تؤخذ إلى مكتب معهد أحمد بابا في كالابان كورا. أحيانا كان معيجا يأخذها بنفسه في سيارته، ولكن إن كان آتيا عدد كبير منها، كان يستأجر واحدة من حافلات سوتراما الأجرة الصغيرة المطلية باللون الأخضر التي تنقل الركاب في جميع أنحاء باماكو.
مع تقدم العملية، بدأ التوتر ينال من القاضي. أصبح يرتاب في الأطفال الذين كانوا يلعبون حول منزله. ماذا لو أخبروا أحدا بتحركاته؟ بدأ يغادر قبل الفجر، قبل أن يخرج الأطفال، وينتظر في منزل التاجر في بيلافاراندي حتى الساعة الثانية بعد الظهر قبل أن يبدأ العمل. كان قلقا أيضا من أن أبا بكرين كان يقطن في منزل قريب جدا من السوق؛ وكان الطريق المار أمام منزله مزدحما دوما بالحركة المرورية والناس والدوريات. كان من المستحيل إخفاء الخزائن عند نقلها إلى منزل التاجر، وكان الناس يحدقون فيها. إن سئل، كان القاضي يخبرهم أنها كانت فحسب تحتوي على سلع سوقية، لكنه خشي من أن القصة الملفقة تفقد مصداقيتها. ماذا إن طلب منه أحد ما أن يفتح خزانة؟ فكر في نفسه: «ربما كانوا يعرفون أننا نخطط لشيء ما.» ثم أضاف: «ربما كان من شأنهم أن يتفقدوا منزل أبي بكرين، وعندئذ ستكون ثمة مشكلة كبيرة.»
قال لمعيجا إنه يعتقد أن الناس بدءوا يرتابون في الأمر. ارتأى المدير أن وجهة نظره مقبولة. تذكر قائلا: «رأى الناس عددا كبيرا جدا من مرات الذهاب والإياب، وتساءلوا عما يحدث.» لذا عندما كانوا قد وضعوا عشر خزائن ممتلئة في منزل التاجر، قال له معيجا إنه قد فعل ما يكفي. سافر القاضي عائدا في منتصف شهر أغسطس، ووصل إلى باماكو في الثالث والعشرين من الشهر، بعد خمسة عشر يوما من مغادرته.
في الرحلة الأولى كان العملاء الثلاثة قد نقلوا نحو ألف مخطوطة. وبعد عمل شاق مدة أسبوع، بمعاونة حاسيني، وأبا، وأبي بكرين، كان القاضي قد نقل حينئذ حوالي ثمانية آلاف مخطوطة أخرى. تقريبا كان ثلثا المجموعة التي كانت مخزنة في المبنى القديم لا يزالان باقيين.
بعد فترة وجيزة من عودة القاضي للاستقرار في باماكو، اتصل به معيجا مجددا. قال له: «الآن عليك أن تذهب لتحضرها كلها.» •••
ذهب حيدرة إلى المكتب لمقابلة معيجا قبل عملية الإجلاء الثالثة. أراد أن يتحدث إلى القاضي، ليطمئنه إلى أن ما كان يفعله الصواب. تذكر القاضي: «قال لي إنني لا ينبغي أن أخاف، وقال إنها كانت مهمة من شأنها أن تكون مفيدة لنا على المدى الطويل، ولكن كان يتعين القيام بها كما لو أنها ليست بالأمر المهم.» ثم أردف: «شجعني وهدأ من روعي.»
كان ارتياب القاضي كبيرا لدرجة أنه لم يخبر أبا بكرين بأمر رحلته الأخيرة. كان يعمل ليلا فقط، مع أبا وحاسيني، وأسرع من ذي قبل. قرر أن أشولة عشرة كيلوجرامات كانت صغيرة للغاية؛ لذا أحضر نحو عشرين شوالا من أشولة مائة كيلوجرام. عبئوا هذه الأشولة بكميات كبيرة، وأغلقوها بأن خاطوها بعد أن كانت قد امتلأت. لم يحاولوا حتى أن يحصوا المخطوطات الآن؛ كانوا في عجلة كبيرة من أمرهم، حتى إن كل ما استطاعوا فعله هو أن حاولوا ألا يجعلوا الصفحات المنفصلة تختلط بعضها ببعض. كانوا يعملون طويلا حتى الليل، إلى أن يصيبهم الإرهاق، ثم كانوا ينقلون الأشولة على عربة اليد والعربة التي يجرها الحمار مباشرة إلى المنزل في بيلافاراندي. وهناك كانوا يغلقون الباب، ويخرجون المخطوطات من الأشولة، ويعودون بالأشولة الفارغة إلى المستودع. في الصباح، كان القاضي يعمل بمفرده في وضع الوثائق في الخزائن. عندما كان أحد الصناديق الفولاذية يمتلئ، كان ينقله إلى غرفة أخرى في المنزل؛ وكان التاجر يأخذه من هناك ويضعه في الشاحنات. في منتصف النهار كان القاضي يذهب إلى البيت ليخلد إلى الراحة، ثم يتوجه عائدا إلى المعهد بعد حلول الظلام ليبدأ وردية جديدة.
بعد عشرة أيام شاقة، صارت غرفة المحفوظات في المعهد فارغة، وشعر القاضي بأن جبلا من المتاعب قد انزاح من فوق كاهليه. وبينما كان يغادر المبنى للمرة الأخيرة، التقى مصادفة بسديدي، زميله الذي كان قد رافقه في الرحلة الأولى. فوجئ صديقه عندما رآه قد عاد، دون أن يخبره، إلى تمبكتو. سأله: «ماذا تفعل هنا؟ لقد ظننت أنك في باماكو!»
حتى في هذه اللحظة، وهو يتحدث إلى صديق وعميل رفيق، لم يتخل القاضي عن حذره. قال لسديدي إنه كان قد أرسل إلى جورما راروس، البلدة الكبيرة المجاورة على النهر، وإنه كان في المعهد من أجل أن يلقي التحية على أبا. ثم قال: «لقد كنت أقوم بزيارة عابرة فحسب.»
غادر القاضي تمبكتو في منتصف شهر سبتمبر، بعد أن نقل المجموعة، التي تبلغ نحو 24 ألف وثيقة، بأكملها من المبنى القديم. •••
كانت العملية قد أجريت في سرية كبيرة، لكن معيجا شعر بأنه يتعين عليه الآن أن يخبر بعضا من زملائه بما قد تم. أحد هؤلاء الأشخاص كان عبد الله سيسيه، أكبر موظفي المعهد الذين بقوا في تمبكتو. عندما كان معيجا قد تولى منصبه الجديد، كان قد عهد بالمخطوطات إلى سيسيه، وطلب منه أن يتأكد من ألا ينقل أي شيء. بعد يومين من اكتمال عملية الإجلاء اتصل به معيجا ليخبره أن المجموعة التي كانت في شارع شيمنيتز قد نقلت بكاملها إلى باماكو. تذكر معيجا: «كنا قد أجلينا كل المخطوطات التي كانت في المبنى القديم تحت ناظريه، ولم يكن حتى على علم بذلك!»
أيضا كان على معيجا أن يبلغ الموظفين العموميين في وزارة التعليم العالي، التي كانت تتولى مسئولية الإشراف على معهد أحمد بابا. في نهاية الأمر، لم يكن قد مر على وجوده في الوظيفة إلا خمسة شهور، وكان الآن هو وحيدرة قد نقلا سرا الجزء الأكبر من المجموعة التابعة للدولة مسافة ستمائة ميل إلى الجنوب الغربي، إلى مكتبه الجديد في كالابان كورا.
قرر أن يقيم حفل استقبال مفاجئ، وصفه حيدرة بأنه «حفل كوكتيل صغير»، ودعا مجموعة منتقاة من الوزارة، تشمل المستشار الفني المسئول مسئولية خاصة عن معهد أحمد بابا، إدريسا دياكيتي، وعددا قليلا من معاونيه. لم يوجه الدعوة إلى الوزير؛ لأنه لم يرغب في أن يكون الحفل حدثا رفيع المستوى؛ إذ كانوا لا يزالون بحاجة إلى إبقاء عملياتهم سرية.
أدخل رجال الوزارة غرفة مملؤة بأنواع الخزائن الفولاذية التي كانت تستخدم لشحن الأغراض في كل أنحاء مالي. تذكر حيدرة: «كان من الواضح أنهم لم يكونوا يعرفون على الإطلاق أننا كنا قد بدأنا شيئا ما.» عندما فتح معيجا الصناديق، تراجع الرجال مذهولين. تذكر معيجا: «قالوا: «ماذا! ما هذا؟»» ثم أضاف: «كان وقع المفاجأة عليهم كبيرا جدا، كبيرا جدا.»
منذ اعتداء الجهاديين على أضرحة أولياء تمبكتو، كان الوزراء يخشون أن يحدث شيء مماثل لتراث المدينة المكتوب. قال دياكيتي: «كنا نشعر بالقلق من أن يقع هجوم على المخطوطات»، لذا عندما فتحت الخزائن ورأى ما قد أنجز، ارتأى أنه أمر «رائع»، وجهد «محمود.» انهمرت الأسئلة. كيف تمكنوا من إمرارها عبر كل نقاط التفتيش؟ كيف حتى واتتهم فكرة تهريبها جنوبا؟ لم يعترض دياكيتي على قرار إبقاء العملية سرية. قال: «كان من الضروري أن يكون هذا الأمر سريا؛ لذا لم يبلغوا السلطات المسئولة.» في نفس الوقت، وجد فكرة وجود المخطوطات مؤقتا في خزائن «مخيفة»، وعرف أنه كان لا يزال ثمة الكثير من العمل الذي يتعين إنجازه. قال: «كان يتعين علينا أن نجد وسيلة لمنعها من أن تكون كلها متركزة في نفس المكان؛ لأن ذلك كان أيضا يمثل خطرا على المخطوطات.» كان جو باماكو الرطب يمثل أيضا تهديدا. وأردف: «كان يتعين علينا أن نحسن الظروف التي كانت مودعة فيها. كان ثمة الكثير من علامات الاستفهام.»
ومع ذلك، إجمالا، كان رجال الوزارة في غاية السعادة. تحدثوا عن تقديم ميداليات إلى معيجا وحيدرة. قال حيدرة: «لا، لا، لا.» إذن، ما الأمر الآخر الذي يمكنهم فعله من أجله؟
قال حيدرة: «إن المخطوطات بحوزتنا، ولكن ما أطلبه منكم هو أنه يجب ألا تتحدثوا بشأن الأمر؛ لأن مخطوطاتنا ما زالت هناك.» كان يشير إلى المجموعات الخاصة، التي كانت تشكل، على حد قوله، 85 بالمائة من العدد الكلي للوثائق في المدينة. وتلك كانت لا تزال في خطر. قال: «سرعان ما سنبدأ إجلاءها.» ثم أردف: «إن الأمر لم ينته بعد. لذا أفضل هدية يمكنكم تقديمها لي ألا تتكلموا عن الأمر.»
ووافقه رجال الحكومة على ذلك. •••
كان ثمة عاقبتان غريبتان فيما يتعلق بعملية تهريب مخطوطات معهد أحمد بابا جنوبا. كانت الأولى أن معيجا دعي إلى مكتب وزير التعليم العالي، الذي وبخه على ما فعله. سأله الوزير: «من الذي أعطاك الأمر بنقل المخطوطات؟» أوضح له معيجا أنه في الأوقات التي كانوا يمرون بها كان قد قرر ألا ينتظر موافقة من أحد، وعندئذ قال له الوزير بفظاظة إنه يجب إطلاعه على أي شيء كان يحدث ثم صرفه.
قال معيجا: «الناس دوما يفترضون الأسوأ.»
كانت العاقبة الثانية أن العلاقات بين رجال المكتبات بدأت في التدهور.
في بداية شهر سبتمبر، كان حيدرة قد سافر إلى دبي ليوضح ما لديه من مشكلات لجمعة الماجد، وهو أحد رجالات العمل الخيري المخضرمين ويدير مركزا للحفاظ على المخطوطات العربية وكان قد مول مشروعات سابقة في تمبكتو. أوضح حيدرة أنهم قد أجبروا على نقل الوثائق إلى منازل الناس، حيث كانت محفوظة الآن في ظروف سيئة في صناديق خشبية أو فولاذية، وأن مسلك الجهاديين كان يمثل تهديدا متزايدا. طلب منه الماجد ألا يؤجل مسألة نقل المخطوطات من تمبكتو بل أن ينقلها بأي طريقة يتسنى له بها ذلك. وقال: «سأساعدك على الفور.» ثم أردف: «يجب أن تبدأ العمل على هذا من اليوم.» وبعد ذلك أرسل إلى حيدرة 30 ألف دولار ليجعله يبدأ.
شعر معيجا بأنه قد استبعد من هذه المعاملة المالية. تذكر مدير معهد أحمد بابا: «قال لي: «ما إن يصبح المال هنا، فسأعطيك جزءا ستستخدمه في إخراج المخطوطات».» ثم أضاف: «ولكن - وهذه أمور ليس من الجيد قولها - كنت أعرف أنه كان قد حصل على المال وصار بحوزته بالفعل. وكان قد اتصل بالفعل بباعة وتجار كانوا بالفعل قد اشتروا خزائن وصناديق للمخطوطات في تمبكتو. كان يعرف أنني كنت قد قدمت حالا [إلى الوظيفة]، ولم أكن أملك المال، واستغل ذلك.»
توقع معيجا أن يتلقى بيانا ماليا تفصيليا للمبالغ التي كان حيدرة قد جمعها ومقدار ما يمكنهما إنفاقه، وأن يحدث نقاش بينهما حول حجم الحصة المخصصة لمخطوطات أحمد بابا. لكن حيدرة لم يقدم أيا من هذه المعلومات. قال معيجا: «كنت مصدوما لسببين.» ثم أردف: «أولا، عندما بدأنا الاجتماعات في مكتبي، قلنا إننا سندير الأمر معا، حتى النهاية. لكن عندما حصل على المال، لم يكن الحال كذلك. ثانيا، لو أنني كنت أعرف أنه حصل على المال، ما كنت سأدفع مقابل الأشياء من مالي الخاص.»
لاحقا، أكد حيدرة أنه لم يعد معيجا مطلقا بأي من الأموال التي جمعها - قال: «لم نتحدث عن هذا الأمر مطلقا» - وأنه على أي حال هو، وليس معيجا، من كانت الحكومة قد خولته في أمر إجلاء المخطوطات.
بحلول شهر سبتمبر، كان تحالف رجال المكتبات الثلاثة الذين كانوا قد بدءوا في الاجتماع في مايو قد انهار. كان من شأن حيدرة أن يتابع عملية إجلائه لمخطوطاته المملوكة ملكية خاصة له دون مساعدة معيجا.
قال معيجا: «لقد أبعدني عن الأمر.»
الجزء
التحرير
في مكان ما ... كان لا بد من قيام شخص ما بالإنقاذ والمحافظة، بطريقة أو بأخرى، بالكتب، بالتسجيلات، في عقول الناس، بأي طريقة ما دامت آمنة، وخالية من العث، وحشرات السمك الفضي ، والصدأ والعفن الجاف، والرجال الممسكين بأعواد ثقاب.
راي برادبري، رواية «فهرنهايت 451»
الفصل الثاني عشر
حياة العلماء
1854-1865
لم تصل المقتطفات من كتاب «تاريخ السودان»، التي كان هاينريش بارت قد نسخها في جاندو، إلى أوروبا حتى أواخر العام التالي بعد رحلة شاقة عبر الصحراء. ألقيت مهمة إعادة إنشاء أجزاء المخطوطة من ملاحظات بارت على عاتق المستعرب الألماني كريستيان رالفس، الذي أمضى معظم فصل شتاء عامي 1854-1855 وهو يحاول فهم الشذرات التي كانت قد أعطيت له. كانت أقسام كاملة مفقودة من النص، وكانت اللغة العربية المكتوب به النص نفسها جامدة وأحيانا غير مراعية للقواعد النحوية. ومع ذلك، بحلول فصل الربيع اعتقد رالفس أنه قد تمكن من إخراج ترجمة ألمانية أمينة لمقتطفات بارت، ونشرت في دورية الجمعية الشرقية الألمانية في ليبزيج في وقت لاحق من ذلك العام. لم يكن المستكشف نفسه قد عاد بعد من أفريقيا.
شغلت هذه «الإسهامات الجديدة إلى تاريخ وجغرافيا السودان» ستا وسبعين صفحة، كانت تسع وثلاثون منها مخصصة للملاحظات الهامشية الغزيرة للثنائي. من وجهة نظر رالفس، إن النص أظهر الافتقار الشديد لدى كل الإسهامات السابقة إلى الدراية بغرب أفريقيا، وفي ذلك إسهامات ابن بطوطة وليون الأفريقي. كان ليون قد أشار إشارة موجزة إلى أحد ملوك سونجاي، لكن التأريخ المكتشف حديثا أماط اللثام عن إمبراطورية قوية حكمتها سلالة تدعى سلالة أسكيا، ومنها «الفاتح العظيم» أسكيا الحاج محمد. لم يكن هذا سوى مثال واحد على ثراء المعلومات التاريخية الجديدة، التي أتاحت حينئذ للأوروبيين فك لغز قصة «عالم مجهول تماما ومدمر حاليا.»
كان قد قيل لبارت أن واضع هذا التأريخ هو أحمد بابا، وبالفعل كان جزء منه كذلك؛ لأنه كان يشتمل على مقتطفات مطولة من معجم التراجم الذي كان قد وضعه عن فقهاء المالكية، «كفاية المحتاج». ومع ذلك كان المستكشف، في العجلة التي كان فيها، قد غفل عن دليل رئيسي يشير إلى هوية مؤلفه الحقيقي، عبد الرحمن عبد الله السعدي. ولد السعدي لأسرة تمبكتية في الثامن والعشرين من مايو من عام 1594، وفي الفترة بين عامي 1626 و1627 عين إماما لمسجد سانكوري في جني. بعد ذلك بعام عاد إلى مسقط رأسه، وأصبح إماما ومسئولا في تمبكتو. كتب تأريخه في القرن السابع عشر باللغة العربية وامتد في ثمانية وثلاثين فصلا، كان بعضها مستندا إلى مصادر تاريخية أسبق، والبعض الآخر إلى ملاحظات المؤلف ومقابلاته. كان بناؤه النحوي غير مكتمل مما جعل المؤرخين اللاحقين يعتقدون أن لغة سونجاي، وليس العربية، كانت لغة المؤلف الأولى، واستحضر أسلوبه في بعض المرات إلى الذهن الحكايات الشعبية للأخوين جريم أو حكايات «ألف ليلة وليلة.»
كان بارت، الذي كان ينقصه الوقت وكان يعمل باستماتة لملء الفراغات في المعرفة الأوروبية، قد استخرج قدر ما استطاع من البيانات، مركزا على أجزاء التأريخ التي كانت مخصصة للملوك، والتواريخ التي يمكن التعرف عليها، والإمبراطوريات. بعبارة أخرى، ركز على التاريخ الواسع الشامل.
استهل كتاب «تاريخ السودان» بقائمة لحكام سونجاي القدامى، من سلالة زا، ومضى ليروي الأسطورة المؤسسة لمملكتهم. أول هؤلاء الأمراء كان «زا الأيمن». قيل إن هذا الشخص كان قد غادر اليمن مع شقيقه ليسافر حول العالم، وإن القدر أتى بهما، وهما يتضوران جوعا ويلبسان خرق جلود الحيوانات، إلى مدينة كوكيا، وهي «مدينة قديمة» على نهر النيجر كانت موجودة، حسب ما ورد في التأريخ، منذ زمن المصريين القدماء؛ وإن كوكيا هي المكان الذي جلب منه الفرعون جماعة السحرة التي استخدمها في جداله مع موسى. عندما سأل أهل المدينة الغريبين عن اسميهما، أساء أحد الأخوين فهم السؤال وقال إنهما أتيا من اليمن - «جاء من اليمن» - لذا دعاه أهل كوكيا، الذين كانوا يجدون صعوبة في نطق الكلمات العربية، زا الأيمن.
وجد زا الأيمن أن أهل هذا البلد كانوا يعبدون شيطانا كان يظهر في النهر على هيئة سمكة لها حلقة في أنفها. في هذه الأوقات كان يتجمع حشد من الناس ليسمعوا أوامر الشيطان، التي كان يتعين على الجميع طاعتها. بعد أن شهد زا الأيمن هذا الطقس وأدرك أن الناس كانوا يتبعون صراطا ضالا، صمم زا الأيمن على أن ينهي حياة هذا المخلوق. فقذف السمكة بحربة وقتلها، وبعد ذلك سرعان ما أقسم الناس بالولاء لقاتل الإله- السمكة وجعلوه ملكا. أصبح «زا» هو لقب كل الأمراء الذين حكموا من بعده. وسجل السعدي: «فتناسلوا وتكاثروا حتى لا يعلم عدتهم إلا الله سبحانه.» ثم أضاف: «وكانوا ذوي قوة ونجدة وشجاعة وعظم جثة وطول قامة.»
في وقت لاحق في تاريخها أخضعت بلاد سونجاي على يد مالي، الإمبراطورية التي حلت محل غانا القديمة في غرب السودان، لكن المملكة ظفرت باستقلالها بفضل أميرين من أمراء سونجاي، وهما الأخوان غير الشقيقين علي كولون وسليمان ناري. حسب العادة كان أمراء الولايات التابعة مثل سونجاي يذهبون لخدمة الإمبراطور المالي وكانوا يختفون من وقت لآخر طلبا للمنفعة. كان لدى علي كولون، الذي كان أميرا «لبيبا عاقلا فطنا كيسا جدا»، مشروع آخر في ذهنه: وهو تحرير مملكته. فأخذ يمهد الطريق ببراعة، مسافرا مبتعدا عن بلاط السلطان ومقتربا من موطنه سونجاي، واستعد بالأسلحة والأزودة وكمنها في مواضع معروفات في طريقه. في أحد الأيام، علف الأخوان حصانيهما علفا صحيحا جيدا، وهربا. أرسل سلطان مالي في إثر الهاربين رجالا كثيرين وحدثت مناوشات كثيرة، لكن الأميرين كانا دوما يدحران خصومهما ووصلا بأمان إلى موطنهما. بعد ذلك، بحسب التأريخ، أصبح علي كولون ملك سونجاي. وتسمى بلقب «سني» وأنقذ شعبه من نير الحكم المالي.
خصص السعدي فصلا كاملا لتأسيس تمبكتو. وكتب أن المستوطنة تأسست في بداية القرن الثاني عشر على يد الطوارق الذين جاءوا إلى المنطقة ليرعوا قطعانهم. في الصيف كانوا يخيمون على ضفاف نهر النيجر، وفي الموسم المطير كانوا يهاجرون إلى آبار الصحراء في أروان، التي تبعد مائة وخمسين ميلا شمالا. في النهاية اختار بعض منهم الاستقرار على هذا الطريق، على مسافة قريبة من النهر:
ثم اختاروا موضع هذه البلدة الطيبة الطاهرة الزكية الفاخرة ذات بركة ونجعة وحركة التي هي مسقط رأسي وبغية نفسي. ما دنستها عبادة الأوثان ولا سجد على أديمها قط لغير الرحمن، مأوى العلماء والعابدين، ومألف الأولياء والزاهدين، وملتقى الفلك والسيار.
سرعان ما بدأ المسافرون الذين كانوا يأتون إلى ملتقى الطرق هذا في استخدامها للتخزين. وائتمن التجار على متاعهم وزروعهم أمة تدعى تنبكت - وهي كلمة، أورد السعدي أنها تشير إلى شخص لديه «نتوء» أو ربما سرة ناتئة - ومنها جاء اسم الموضع المبارك. أخذ المستوطنون يأتون بأعداد كبيرة من المناطق المجاورة - من ولاته، المركز التجاري لغانا القديمة، في موريتانيا الحالية، وأيضا من مصر، وفزان، وغدامس، وتوات وفاس وسوسة وبيط - وشيئا فشيئا أصبحت تمبكتو مركزا تجاريا للمنطقة. امتلأت بالقوافل من كل البلاد، وتوافد عليها العلماء والصالحون من كل جنس. وأدى ازدهار تمبكتو إلى سحب كل القوافل التجارية من ولاته، ونجم عنه خراب تلك المدينة. في أثناء ذلك، في تمبكتو، أخذت الأكواخ المبنية بالقش والمحاطة بالأسوار تحل شيئا فشيئا محل المنازل المبنية بالطمي، التي كانت تحاط بجدار منخفض، بحيث من وقف في خارجها يرى ما في داخلها.
تسارع تطور المدينة بعد أن عاد مانسا موسى من رحلته للحج في عام 1325. وفي طريق عودته من مكة، أمر موسى - الذي كان «رجلا عادلا وتقيا، ولا يضاهيه أحد من سلاطين مالي الآخرين في هاتين الصفتين» - ببناء مسجد في كل مكان كان يذهب إليه في يوم الجمعة. فبنى مسجدا في جاو، ثم انتقل غربا إلى تمبكتو، وأصبح أول حاكم يستولي عليها. وعين ممثلا له هناك وأمر ببناء قصر ملكي. وقيل أيضا إنه بنى مئذنة مسجد جينجربر، حسبما دون السعدي. وحكم موسى وخلفاؤه تمبكتو مائة سنة.
بحسب السعدي، تلاشت قوة مالي في القرن الخامس عشر، وسيطر زعيم الطوارق السلطان عقيل على تمبكتو من عام 1433 / 1434 وحتى ظهور ملك سونجاي سني علي، الذي حكم أربعا وعشرين سنة، بداية من 1468 / 1469. كان سني علي طاغية كبيرا ومضطهدا لعلماء تمبكتو، بحسب ما كتب السعدي، لكنه كان رجلا ذا قوة وطاقة جسدية هائلة وحول مملكته سونجاي إلى إمبراطورية عظيمة. وبعد موته، خلع ابنه على يد واحد من حكام الأقاليم التابعين لسني علي، وهو محمد ابن أبي بكر الطوري، الذي استولى على العرش في 1493 وكان أول من حمل اسم «أسكيا». لا يكيل السعدي إلا الثناء لأسكيا الحاج محمد، أو أسكيا العظيم، كما صار معروفا. لقد أسس سلالة أسكيا واعتمد على فتوحات سلفه ليجعل سونجاي أكبر إمبراطورية شهدتها منطقة غرب أفريقيا على الإطلاق، ممتدة من نهر السنغال غربا إلى أغاديس شرقا، ومن مناجم الملح في مدينة تاغزة (تغاز) شمالا إلى بورجو جنوبا، وهي منطقة بحجم غرب أوروبا. امتد حكم سلالة أسكيا 101 سنة، حتى أرسل سلطان مراكش جيشا عبر الصحراء ليستولي على أراضي سونجاي.
من وجهة نظر بارت، كان كتاب «تاريخ السودان» بالغ الأهمية. وكتب: «ليس لدي أي شك في أن [الكتاب] سوف يكون واحدا من أهم الإضافات التي أضافها العصر الحالي إلى تاريخ البشرية، في فرع كاد في السابق أن يكون مجهولا.» أظهرت المقتطفات أن تمبكتو كانت موطنا لمجتمع ثري ومتطور قادر على تسجيل روايته الخاصة للماضي، وأخيرا منح أوروبا إمكانية الوصول إلى ما هو أكثر من بضع حقائق منفصلة سجلها زوار أجانب للإمبراطورية من أمثال البكري، وابن خلدون، وليون الأفريقي. كذلك أطاح الكتاب بكثير من الأفكار التي كانت لدى الأوروبيين عن هذا الجزء من أفريقيا؛ إذ كانت ممالك المنطقة أقدم بكثير مما اعتقد أي أحد، وحددت مواضعها الجغرافية أخيرا تحديدا دقيقا، وأخيرا بدا التسلسل الزمني لإمبراطوريات غانا القديمة ومالي وسونجاي كاملا.
بالطبع اشتمل التأريخ على روايات كانت مستندة على أساطير وقصص تاريخية شفوية - هل يحتمل أن الإله-السمكة كان معتمدا على حيوان خروف البحر، وهو كائن حقيقي من حيوانات نهر النيجر؟ أم هل كان تمثيلا للنهر المقدس نفسه؟ - ولكنه كان عملا تاريخيا بلا شك، وسيصبح مكتشفه الأب المؤسس لفرع دراسات سونجاي.
أنهى رالفس ترجمته بالدعاء لبارت أن يعود سالما حتى يتمكن من أن ينعم ب «التوقير والإعجاب» اللذين استحقهما عن جدارة.
وصل المستكشف إلى لندن في السادس من سبتمبر من عام 1855، بصحبة عبدين كان أوفرويج قد اشتراهما وأعتقهما، هما دوروجو وأبيجا، اللذان كان بارت قد وعد برعايتهما. أذهلتهما إنجلترا، البلد الذي كان به منازل ضخمة، ولكن دون أن يكون على أرضها حبة رمل واحدة. استقبل البروسي، الذي كان غائبا قرابة خمس سنوات ونصف وسافر أكثر من عشرة آلاف ميل، مسجلا كل قرية، وقبيلة، وتضاريس جغرافية في طريقه، ب «حفاوة بالغة» من بامرستن، الذي كان في ذلك الوقت رئيس الوزراء، واللورد كلاريندون، الذي كان عندئذ وزير الخارجية. هنأه كلاريندون على «ثباته ومثابرته وحسن تقديره للأمور» أثناء الحملة الاستكشافية.
لم تورد صحيفة «ذا تايمز» اللندنية، التي كانت قد أوردت تقريرا كاذبا عن وفاة بارت، أي إشارة إلى عودته سالما. في العقود التالية، ستكيل هذه الصحيفة وصحف أخرى المديح لمستكشفين تالين لأفريقيا، من أمثال ليفينجستون، وبرتون، وجون هاننج سبيك، وجيمس جرانت، وصامويل بيكر. غير أنه لم يكن لدى بارت أي اهتمام بذلك. وكان هذا يمثل إشارة منذرة بسوء إلى الطريقة التي سيعامله بها الرأي العام.
في الأول من أكتوبر غادر إنجلترا ليرى عائلته في هامبورج، وفي صحبته دوروجو وأبيجا. •••
بينما كان بارت في ألمانيا، ظهرت في أوروبا مقتطفات من نص مهم ثان كتبه عالم تمبكتي. كانت هذه المقتطفات مأخوذة من معجم تراجم أحمد بابا الخاص بفقهاء المذهب المالكي السني، «كفاية المحتاج»، وهو نفس العمل الذي كان تضمينه الجزئي في كتاب «تاريخ السودان» قد زاد من الارتباك حول مؤلف الكتاب التاريخي. كان بارت قد قرأ هذا النص، ولكن في عجلته لتسجيل البيانات التاريخية، لم يكن قد نسخه. في ذلك الوقت، كانت نسختان من هذا المعجم قد أرسلتا إلى المستشرق الفرنسي البارز أوجست شربونو، الذي نشر أجزاء مترجمة منه في «حولية الجمعية الأثرية بقسنطينة»، إلى جانب مقالة تمهيدية عن الأدب العربي في السودان.
تحمس شربونو لمعجم تراجم أحمد بابا كما كان بارت بشأن كتاب تأريخ السعدي؛ كتب شربونو يقول إنه «كشف فريد وغير متوقع عن حركة أدبية في قلب أفريقيا، في تمبكتو!» والذي فتح «آفاقا جديدة» لم يكن الأوروبيون قد توقعوا وجودها قط. احتوى الكتاب على تراجم قصيرة عديدة لفقهاء المذهب المالكي البارزين، الذين ولدوا في تمبكتو أو جاءوا إليها لتعليم الناس . كشف الكتاب عن وجود نظام تعليمي في تمبكتو كان يضارع النظم التعليمية في المدن الإسلامية العظيمة مثل قرطبة وتونس والقاهرة، وكان يضم مدارس يديرها رجال مثقفون ويحضرها عدد كبير من الطلاب. أظهر الكتاب أنه كان يوجد في المدينة مكتبات مهمة كانت تحتوي على مئات الكتب وأوضح كم كان أمراء البلد يدعمون بشغف الفقهاء. وكتب شربونو أن كتاب أحمد بابا أظهر بجلاء مشاركة الأعراق السوداء في الحياة الفكرية، وكشف عن العدد الكبير للغاية للصلات التي كانت موجودة بين غرب السودان والعالم العربي.
بعدما قرأ الأوروبيون المقتطفات المأخوذة من معجم تراجم أحمد بابا جنبا إلى جنب مع تلك المأخوذة من كتاب تأريخ السعدي، صارت لديهم صورة واضحة عن الحياة العملية لصفوة علماء تمبكتو.
بحلول منتصف القرن الرابع عشر، كانت المدينة مركزا تجاريا حيويا وشيئا فشيئا ازداد عدد العلماء الذين كانوا يأتون للاستقرار هناك. وفي أوجها، كان يوجد ما يقدر بمائتين إلى ثلاثمائة عالم في قمة المجتمع، ينتمون إلى العائلات التي تتصدر المشهد في المدينة. كان أكثر المواطنين نفوذا في الصفوة هم «القضاة»، الذين كانوا يقيمون العدل استنادا إلى معرفتهم بالشريعة الإسلامية. وبعدهم كان يأتي كل صنوف علماء الدين الآخرين، وفي ذلك الأئمة، والفقهاء، والمرشدون، الذين كانوا يأتون غالبا من طبقة التجار الثرية، إلى جانب معلمي المدارس، وعمال المساجد، والكتبة، بالإضافة إلى عدد كبير ممن كان يطلق عليهم «الألفة»، وهم رجال دين من عائلات دنيا كانوا يكسبون رزقهم من تعليمهم الإسلامي. كان حي سانكوري هو مركز النشاط العلمي في المدينة، وكان هذا هو المكان الذي استقر فيه الأحفاد ذوو النفوذ من نسل محمد آقيت، الجد الأكبر لأحمد بابا. كان علماء تمبكتو على اتصال منتظم بشمال أفريقيا ومصر، وبعضهم سافر إلى هناك، بينما قدم آخرون إلى الجنوب للدراسة في تمبكتو. لذلك كانوا على دراية بطيف واسع من العلوم الدنيوية، وفي ذلك الرياضيات، والفلك، والتاريخ، على الرغم من أن كل تلك المعارف كانت تدرس في سياق إسلامي.
لم يكن علماء تمبكتو البارزون مجرد قادة ومعلمين دينيين؛ إذ كان يعتقد أيضا أنهم يمتلكون نعمة إلهية، أو ما يطلق عليه «البركة»، التي مكنتهم من إتيان أفعال من شأنها أن تكون مستحيلة على البشر العاديين. أحد أقدم رجال الدين الذين ذكرهم أحمد بابا كان يعرف ببساطة باسم الحاج؛ وكان قد أتى إلى تمبكتو من ولاته وشغل منصب «القاضي» في أوائل القرن الخامس عشر، أثناء الأيام الأخيرة للحكم المالي. في أحد الأيام، كانت مجموعة من الناس جالسة لتناول الطعام عندما سمعوا أن جيشا من مملكة موسي المجاورة كان يقترب من تمبكتو. تمتم الحاج بشيء ما في الطبق الذي كانوا يتشاركون في تناول الطعام منه وأمرهم بأن يأكلوا، ثم قال لهم: «اذهبوا إلى القتال. ولن يضركم من سهامهم شيء.» دحر جيش موسي، وعاد الرجال كلهم عدا واحد؛ هو زوج ابنة الحاج الذي لم يكن قد أكل؛ لأن تناوله الطعام مع والد زوجته من شأنه أن يكون علامة على عدم الاحترام.
في منتصف القرن الخامس عشر عندما كان زعيم الطوارق عقيل يحكم المدينة، بلغ تدفق العلماء المسلمين إلى تمبكتو مستويات لم يسبق لها مثيل. استمر عقيل وشعبه في اتباع أسلوب حياتهم شبه البدوي خارج المدينة، تاركين المدينة في رعاية حاكم عمل على تعزيز أنشطتها العلمية. كان أحد الرجال البارزين الذين وصلوا في هذا الوقت هو موديبو محمد الكابري (مودب محمد الكابري). بحسب ما كتب أحمد بابا، إن الكابري «بلغ ذروة العلم والصلاح»، وكان يوجه عددا كبيرا من التلاميذ، وكان أيضا مصدر الكثير من المعجزات. في إحدى المناسبات، بدأ عالم مغربي مؤثر يقدح فيه، قائلا، متلاعبا بالألفاظ، إنه لم يكن الكابري بقدر ما كان «الكافري» أي الكافر. يحكي أحمد بابا أن الله سلط على هذا الرجل الجذام عقابا له على ذلك. وجلب له الأطباء من كل جهة ومكان لعلاجه، وأوصى أحدهم بأن العلاج الوحيد أن يأكل قلب صبي صغير. ذبح صبية كثيرون، لكن الرجل مات «في أسوأ حال» بسبب إهانته للقاضي العظيم.
قيل حتى إن الكابري كان قادرا على السير على الماء . في سنة من السنوات، في يوم عيد تاباسكي (عيد الأضحى كما يصطلح على تسميته باللغة المحلية)، احتاج إلى عبور النهر لأخذ كبش أضحية، لذا سار ببساطة عابرا فوق سطحه. قرر أحد تلاميذه أن يتبعه، لكنه غرق، وعندما بلغ الشيخ الضفة الأخرى ورأى تلميذه يصارع الغرق في النهر، ذهب لينقذه. وصاح فيه: «ما حملك على ما فعلت؟» «لما رأيتك فعلت، فعلت مثلك.»
لم يتعاطف الشيخ معه. وسأله: «أين قدمك من القدم التي ما سارت في معصية قط؟»
لم تكن حياة العلماء الفاضلة مليئة بالبركة الإلهية فحسب؛ كان من الممكن أيضا أن تكون متمتعة بالصحة والعمر المديد. رزق القاضي كاتب موسى بصحة غير عادية في البدن، حسبما قيل، حتى إنه لم يستنب ولو في صلاة واحدة في المسجد. وأرجع هذه الصحة العظيمة إلى أربعة أمور بسيطة؛ أنه لم يبت في العراء ولو ليلة واحدة، ولم يبت ليلة واحدة إلا ودهن جسمه، وكان يستحم بعد الفجر بالماء الساخن، وما كان يخرج لصلاة الصبح قط إلا بعد الفطور.
ربما كان أشهر مهاجر إلى تمبكتو في القرن الخامس عشر هو سيدي يحيى التادلسي. دعي سيدي يحيى إلى تمبكتو من قبل حاكمها، محمد نض، الذي بنى المسجد الذي ما زال يحمل اسمه. في وصف أحمد بابا، إن سيدي يحيى «انتشر ذكره في الآفاق والأقطار، وظهرت بركاته للخاصة والعامة. فكان ذا كرامات ومكاشفات.» وفي اليوم الذي مات فيه الكابري وأسجي جسده في أحد الأضرحة، رثاه سيدي يحيى، رثاء كان واحدا من أول الأمثلة على الشعر التمبكتي. واشتمل على الأبيات التالية:
محمد الأستاذ مودب ذي النهى
رباطا صبارا أمره في التزايد.
فيا عجبا هل بعده من مبين!
ويا عربا هل بعده من مجالد؟!
قيل عن سيدي يحيى أنه «ما طرأت قدم تنبكت قط إلا وسيدي يحيى أفضل من صاحبها.» كان معلما يسعى إليه، وفي أحد الأيام كان يلقي درسا تحت الصومعة، فإذا بسحاب مكفهر تجمع فوق الرءوس وسمع صوت الرعد. سارع تلاميذه إلى جمع أشيائهم والتوجه للداخل، لكن سيدي يحيى أمرهم ألا يبرحوا أماكنهم. وقال: «على رسلكم، فاسكنوا.» ثم أضاف: «[المطر] لن ينزل هنا والملك يأمره بالنزول في أرض كذا.» فتجاوزهم المطر. لم يكن التنبؤ بالطقس موهبة سيدي يحيى الوحيدة؛ ففي مناسبة أخرى، أمضت جواريه اليوم بطوله في محاولة طبخ سمكة، لكن النار لم يكن لها تأثير على لحمها. فقال لهن: «إن رجلي مست شيئا مبلولا في السقيفة، حين خرجت لصلاة الصبح اليوم؛ لعل هو [يقصد السمكة]. والنار لا تحرق ما مسه جسدي.»
من كل الفضائل التي كانت موضع تقدير في تمبكتو في القرن الخامس عشر، لم يكن التواضع على ما يبدو واحدا منها.
وقرب نهاية حياته، كان محمد نض قد رأى حلما رأى فيه أن الشمس تغرب والقمر يختفي بعدها من فوره. فحكى الحلم لصديقه سيدي يحيى، الذي قال له إن وعده ألا يخاف، فسيفسر له الحلم.
فقال محمد نض إنه لن يخاف.
أثنى سيدي يحيى على ذلك. وقال: «إن معناه أنني سأموت وأنك ستموت بعدي بوقت قصير.»
فأصاب محمد نض حزن شديد.
قال سيدي يحيى: «ألم تقل لي إنك لن تخاف؟»
قال الحاكم: «إن حزني ليس بسبب خوفي من الموت، وإنما لقلقي على أولادي الصغار.»
رد سيدي يحيى: «اتركهم في رعاية الله سبحانه وتعالى.»
سرعان ما مات رجل الدين الفقيه، وتبعه محمد نض إلى القبر. ودفن الصديقان بعضهما إلى جوار بعض في المسجد نفسه.
أما العالم الذي يكن له أحمد بابا أعظم حب، والذي يروي قصة حياته بأشد تفصيل، فهو معلمه محمد باغايوغو. كان باغايوغو رجلا ذا روح مهذبة وعطوفة، وكان «مطبوعا على الخير وحسن النية.» وكان يتسم «بسلامة الطوية والانطباع على الخير واعتقاده في الناس حتى كاد يتساوى عنده الناس في حسن ظنه بهم وعدم معرفة الشر.» وكان يمتلك قدرا عظيما من الصبر؛ فكان من الممكن أن يعلم طوال النهار دون أن يمل أو يتعب، وكان يولي اهتماما خاصا بالشخص البليد، لدرجة أن أحمد بابا سمع ذات مرة أحد زملائه يقول إنه ظن أن باغايوغو لا بد أنه «شرب ماء زمزم لئلا يمل في الإقراء.»
يقدم بابا وصفا تفصيليا ليوم باغايوغو المتسم بالعمل الشاق. فكان يبدأ دروسه من بعد صلاة الصبح، ولا يتوقف إلا لأداء صلاة الضحى، التي كان بعدها أحيانا ما يذهب إلى القاضي في أمر الناس الذين طلبوا مساعدته. وفي فترة ما قبل الظهر كان يعود للتدريس ثانية، ثم يؤدي صلاة الظهر، وبعد ذلك كان يتناوب بين التدريس والصلاة حتى المساء، وعندئذ كان يعود إلى بيته. وحتى عندئذ لم يكن يومه قد انقضى؛ فقد كان يمضي الجزء الأخير من الليل في صلاة القيام.
كانت براعة باغايوغو تتجلى بخاصة عندما كان الأمر يتعلق بكتبه، التي كان بعضها نادرا وقيما «من جميع النواحي.» وكان سخيا في إعطائه لهذه الكتب حتى إنه كان يقرضها ولا يطلب حتى إعادتها، وفي هذا الشأن، كتب بابا:
وربما يأتي لباب داره طالب فيرسل له براءة فيها اسم كتاب يطلبه فيخرجه من الخزانة ويرسله له من غير معرفته من هو. فكان في ذلك العجب العجاب إيثارا لوجهه تعالى، مع محبته للكتب وسعيه في تحصيلها شراء ونسخا.
ذكر بابا أن باغايوغو بهذه الطريقة وهب من كتب مكتبته قدرا كبيرا. •••
من الأقوال المأثورة أن المسافر يعقد صداقات مع أشخاص غير متوقعين بالخارج ويجد عداوات غير متوقعة في بلاده، ولكن هذا كان بالتحديد الوضع الذي وجد فيه بارت نفسه. صحيح أنه كان قد جاب الصحراء الكبرى مرتين؛ وكان قد تمكن من الخروج من عشرات من الورطات الفتاكة، بل إنه كان حتى على وشك الموت، ولكن كان من شأنه أن يبرهن أنه لم يكن يجيد التعامل مع المسئولين في الغرف المعبأة بدخان السجائر في المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر. في عالم يتسم بالعدل، كان من شأن رحلته البطولية أن تصادق على الفور على سمعته باعتباره مستكشفا وعالما عظيما، وأن يوضع اسمه في نفس المرتبة مع اسم هومبولت. كان من شأنه في هذا الأمر، كما في نواح كثيرة، أن يخيب أمله. كان الشاب السريع الانفعال ذو الثمانية والعشرين ربيعا الذي كان قد غادر إلى أفريقيا قد عاد بسلوك فخور ويكاد يكون متغطرسا، وكانت صفة انعدام الثقة المتأصلة فيه قد بلغت الآن مستويات مقلقة. كتب زوج أخته شوبرت: «أينما ذهب، كان يشعر بأن محاولات متعمدة ومحسوبة كانت تجري لاستغلاله.»
استقبل في بداية الأمر في ألمانيا استقبالا حسنا. أشاد به هومبولت وتناول الطعام مع ملك بروسيا. ومنح ميدالية ذهبية من مدينة هامبورج، وقدمت له شهادات دكتوراه فخرية وأوسمة، ودعي إلى إلقاء خطبة في الجمعية الجغرافية في برلين. وحتى في إنجلترا، جرى الاعتراف بإنجازاته والاحتفاء بها؛ فمنحته الجمعية الجغرافية الملكية ميدالية الراعي الذهبية المرموقة الخاصة بها، ورشح لنيل لقب رفيق وسام الحمام. لكن بريطانيا كانت تفضل أن يكون أبطالها بريطانيين، وبحسب ما كان هانمر وارينجتون قد بين قبل ذلك بثلاثة عقود، فإن أفعال السادة الأجانب مثل بارت كانت عرضة للتشكك الذي كان يقترب من الارتياب. وحتى عندما كان في رحلته، كان المسئولون في لندن قد راودتهم شكوك حول ولائه. تساءلت وزارة الخارجية لماذا كان يرسل رسائله غير المنتظمة إلى سفير بروسيا في لندن وليس إلى الحكومة التي كانت تدفع مقابل حملته؟ لماذا كانت تقاريره تظهر في الدوريات الألمانية قبل أن تصل إلى الجمعية الجغرافية الملكية؟
في نهاية أكتوبر، تلقى بارت خطابا سيئ الصياغة من سكرتير الجمعية الجغرافية الملكية، نورتون شو، يطلب فيه منه تناول العشاء مع بعض من أعضاء الجمعية قبل الخطاب الذي كان من شأنه أن يلقيه هناك. غضب بارت لافتراض شو أن قبوله كان مسلما به، فرد بخطاب شديد اللهجة يقول فيه إنه لن يشارك في مثل هذا الشيء وإنه لن يخاطب أي مؤسسة علمية حتى يكون مستعدا لنشر روايته لرحلته، متناسيا محاضرته أمام الجمعية الجغرافية في برلين. بعد ذلك أصبح شو عدائيا على نحو صريح، وتبع ذلك عداء محرج استمر حتى العام الجديد، عندما عاد المستكشف إلى لندن. لم تكن هذه هي مشكلة بارت الوحيدة؛ فعلى الرغم من حقيقة أن حملته كانت لأعوام تفتقر إلى المال، فقد نشرت صحف بريطانية عديدة قصصا عن إنفاقه المفرط المزعوم. وازداد الانطباع بوجود مخالفات مالية، سواء على يد القنصل البريطاني في مرزق، بفزان، الذي اتهمه بالسعي إلى تحقيق مصالح تجارية ألمانية قبل المصالح التجارية البريطانية، ووجد نفسه يتعرض للاستجواب من قبل وزارة الخارجية.
بدأ يتمنى لو أنه لم يعد أبدا. قال لشوبرت: «كم أتوق إلى التخييم في الصحراء، في ذلك الاتساع الذي لا يمكن تخيله حيث، بدون طموحات، وبدون آلاف الأشياء الصغيرة التي تعذب الناس هنا، أتذوق حريتي وأنا أتقلب في فراشي في نهاية يوم طويل من السير، بينما ممتلكاتي، وهي جمالي، وحصاني، حولي. أكاد أندم أنني وضعت نفسي في هذه الأغلال.»
على سبيل الإلهاء، شغل بارت نفسه بكتابة سرد رحلاته. ظهرت المجلدات الثلاثة الأولى لكتابه «رحلات واكتشافات في شمال ووسط أفريقيا» في أبريل من عام 1857، ونشرت بنحو أنيق من قبل دار نشر لونجمان، مع رسومات توضيحية ملونة معتمدة على رسومات بارت الأولية. وكان المجمل هو خمسة مجلدات، تضم 3500 صفحة مكتظة بالمعلومات، والتي كانت تمثل عملا عظيما بأبعاد هومبولتية. من وجهة نظر جغرافي لاحق، هو اللورد رينيل رود، إن من شأن هذا العمل أن يرفع بارت إلى مرتبة «ربما أعظم رحالة زار أفريقيا على الإطلاق»، لكن التقييمات النقدية في ذلك الوقت كانت أقل كرما. قال النقاد إنه لا يمكن أن يتوقع أن يبقي أي قارئ عادي على اهتمام بالمنطقة على مثل هذا النطاق الهائل. ودللت هذه الاستجابة على الانفصال بين بارت والرأي العام؛ إذ كان يعتقد أن دوره كان توصيل كميات ضخمة من البيانات الجديدة عن أفريقيا، كما فعل معلمه هومبولت، الذي كان قد وضع ثلاثة وعشرين مجلدا من الملاحظات العلمية من جولته في مناطق أمريكا الإسبانية. لكن الجمهور البريطاني كان معتادا على قصص مغامرات أقصر كتلك التي كان مونجو بارك قد أصدرها. كانوا قد تلقوا بتلهف طبعة تلو طبعة من رواية بارك لرحلته الأولى في أفريقيا، بينما كان من شأن كتاب ديفيد ليفينجستون «رحلات وأبحاث تبشيرية في جنوب أفريقيا» أن يبيع أكثر من خمسين ألف نسخة. على النقيض، باعت المجلدات الأولى من رواية بارت لرحلته أعدادا قليلة، وطبعت دار نشر لونجمان ألف نسخة فقط من كل مجلد من المجلدين الأخيرين.
لا شيء من ذلك كان سيصبح مهما لو حاز بارت على الإشادة الأكاديمية التي كان يتوق إليها، لكن لم تعرض عليه أي جامعة بريطانية منصبا فيها، وحتى كولي كان رافضا لاكتشافاته، فلم يشر على الإطلاق إلى المصادر الجديدة التي كان بارت قد اكتشفها في تقييمه لعمل المستكشف في دورية «أدنبرة ريفيو»:
من شأن إمبراطورية رائعة وقوية في نيجرولاند، يمتد نفوذها شمالا إلى الصحراء، أن تكون جديرة بالملاحظة بالقدر الكافي، لو كان يوجد أي إثبات على وجودها. ولكن لا توجد أي براعة في التخمين، ولا أي تكييف لطيف للتقاليد الجافة والهزيلة، يمكن أن يحول هذه الأمجاد الافتراضية إلى تاريخ.
يمكن أن يتجلى المزيد من الإهانة لبارت في معاملة الحكومة لصديقه الشيخ أحمد البكاي. كان بارت قد حث الشيخ التمبكتي على إقامة علاقات دبلوماسية مع الحكومة البريطانية، معتقدا أن ذلك من شأنه أن يكون في مصلحة الطرفين؛ فمن شأن بريطانيا أن تحصل على شريك تجاري في قلب أفريقيا؛ ومن شأن البكاي أن يحصل على حماية قوة عظمى لتقف بجانب تمبكتو في وجه الفرنسيين الذين كانت ضراوتهم في ازدياد. عمل الشيخ بنصيحة بارت، وأرسل مبعوثين إلى طرابلس في عام 1857 للبدء في مباحثات مع الحكومة البريطانية. لكن بريطانيا وفرنسا كانتا حليفتين في ذلك الوقت، وعندما طلب المبعوثون الإذن بالذهاب إلى لندن، قالت وزارة الخارجية إنه إذ كان الوقت في شهر أكتوبر فمن شأن الطقس أن يكون باردا على الرجال ذوي الدماء الحارة، وسألتهم هل يمكنهم الانتظار إلى الربيع. فهم الوفد هذا الرفض على حقيقته، وعاد جنوبا بينما كتب البكاي خطابا إلى الملكة فيكتوريا يشتكي فيه بشأن المعاملة التي تلقاها وفده.
في العام التالي، عاد بارت إلى برلين، بعد أن ضاق ذرعا بإنجلترا، آملا أن يجد التقدير الذي كانت بريطانيا قد عجزت عن تقديمه له. وبدلا من ذلك اصطدم بصورة طبق الأصل من المشكلة التي كان قد واجهها في لندن؛ إذ استهزأ به البروسيون لعمله لصالح البلد الذي كان في ذلك الوقت يمنع توحيد ألمانيا. ومن جهة أخرى، كان دليله على عمق واتساع نطاق الثقافة والتاريخ في وسط وغرب السودان وموقفه الإيجابي تجاه الإسلام لم يكونا ما أرادت النخبة المثقفة في ألمانيا أن تسمعه في ذلك الوقت. وفي عام 1859، رفض ترشيحه للعضوية الكاملة في الأكاديمية الملكية للعلوم، والتي تعد أحد أعلى درجات التكريم في الأوساط الأكاديمية الأوروبية. كان قد عارضه المؤرخ ليوبولد فون رانكه، الذي حاجج بأنه بينما كان بارت بلا شك مغامرا جريئا، فإنه لم يكن باحثا جادا.
تابع بارت أسفاره، فسافر إلى إسبانيا، وإلى البلقان، وإلى جبال الألب. وفي عام 1865، عاد من إحدى رحلاته ليعرف أن البكاي كان قد لقي حتفه في معركة، وهو يقاتل دفاعا عن تمبكتو. وفي وقت لاحق من ذلك العام، في الثالث والعشرين من نوفمبر، أصيب المستكشف بألم شنيع في بطنه؛ إذ كانت معدته قد انفجرت، على الأرجح نتيجة لاعتلال معوي كان قد أصابه في أسفاره. عاش يومين آخرين وهو يعاني ألما مبرحا قبل أن يموت في الخامس والعشرين من نوفمبر. وكان حينها في الرابعة والأربعين من عمره.
بعد ذلك بقرن تقريبا، في عام 1958، أسندت «الدورية الجغرافية» التابعة للجمعية الجغرافية الملكية لمحاضر شاب من جامعة ليفربول، هو رالف مانسيل بروثيرو، مهمة كتابة تقييم لإسهامات بارت في الاستكشاف الأفريقي. وصف بروثيرو، الذي أصبح لاحقا أستاذ جغرافيا بارزا، كتاب بارت «رحلات واكتشافات» بأنه «من دون شك أعظم إسهام للمعرفة فيما يتعلق بغرب السودان» وعلق بأنه كان من الغريب أنه فيما بعد كان قد تعرض للتجاهل. أذهلت حقيقة واحدة على وجه الخصوص بروثيرو؛ إذ كان قد فتش في فهرس الجمعية الجغرافية الملكية عن كل الدراسات المنشورة في بريطانيا التي كانت قد تناولت عمل بارت. وكان من دواعي دهشته أنه لم يجد إلا دراسة واحدة!
الفصل الثالث عشر
الثنائي الرهيب
سبتمبر 2012-يناير 2013
لم يكن لحيدرة مكتب بعد في باماكو - قال: «أردنا أن نكون مخفيين، ولم نرغب في أن يعرف الناس ما كنا نفعله. لو كنا قد حصلنا على مكتب، لكان الأمر سيصبح رسميا» - لكن ستيفاني دياكيتي فعلت، وفي منطقة أفضل بكثير من المدينة من تلك التي كان يوجد بها مكتب معيجا الذي كان موبوءا بالجرذان. كان إيه سي آي 2000 حيا حديث العهد على الضفة الشمالية للنهر، وكان منزل دياكيتي عبارة عن مبنى حديث في داخله، ويكاد يكون جميلا في مدينة من المباني القبيحة والأحياء الفقيرة المبنية بقوالب أسمنتية. كان المنزل مقاما حول ساحة صغيرة، كانت مزروعة بالأشجار والزهور التي ناضلت للبقاء على الحياة على يد بستاني أخرق، وتألف من عدد قليل من غرف النوم، وغرفة استقبال بها سجادة غير مألوفة الشكل، ومطبخ، ومكتب كبير. كان المكتب مجهزا بأسرع اتصال بالإنترنت استطاعت دياكيتي أن تشتريه وبحفنة من الهواتف، لتضاف إلى الهواتف التي احتفظ بها حيدرة في أرديته الضخمة. أحد حوائط هذه الغرفة كانت ستشغله على نحو متزايد جداول زمنية وجداول إلكترونية ابتكرتها دياكيتي لتنظيم عملية الإجلاء.
كان حيدرة ودياكيتي يشكلان الآن فريقا، وكذلك كانت منظمتاهما؛ ففي الشهور المقبلة كانا سيصفان نفسيهما بأنهما «ائتلاف»، يتكون من منظمة حيدرة غير الحكومية «سافاما» ومنظمة دياكيتي التنموية «دي إنترناشيونال». كانا يلتقيان طوال أيام الأسبوع ويعملان من الصباح وحتى العاشرة أو الحادية عشرة مساء، بحسب أحد المصادر. كان من شأن حيدرة أن يجلس على مقعد مريح على طاولة القهوة، عادة مع كوب شاي ليبتون، بينما تجلس دياكيتي على المكتب تعمل على جداول بيانات إكسيل. كانت تفضل أن تبدأ في الصباح الباكر، بينما كان حيدرة يعيش وفق التوقيت الصحراوي؛ فكان لا يصل إلى المكتب إلا حوالي التاسعة أو العاشرة صباحا ويفكر على أفضل نحو في الليل. وفي وقت الظهر كانا يتناولان الطعام؛ وكانت دياكيتي مولعة بمطبخها؛ فكانت تتأكد من أنهما يتناولان طعاما جيدا - الكسكسي والبرغل - على الأقل مرتين في اليوم، وهو ما كان حيدرة يلتهمه بكمية كبيرة. وإذا جاء إلى المنزل ولم يقدم له شيء، كان يسأل: «أين الطعام؟»
في الأوقات بين ذلك، كان «الثنائي الرهيب» يعمل على خطة إجلاء المكتبات الخاصة. كم من الناس يحتاجان؟ كم عدد شرائح الهاتف المطلوبة؟ كم سيتكلف كل هذا؟ ماذا إن توقفت خدمات الناقلين؟ كان الأمر يستغرق أربعة أيام في المتوسط لوصول الشحنات من تمبكتو إلى باماكو. كان كل ناقل ينبغي أن يكون مسئولا عما لا يزيد عن ثلاث خزائن في الرحلة - وهي كمية لن تكون شديدة الوطأة إن فقدت، ويمكن حملها على عربة يد واحدة. كان عدد الخزائن مقسوما على ثلاثة هو عدد مرات النقل اللازمة؛ وذلك العدد مقسوما على عدد الرحلات التي يمكن لكل ناقل القيام بها هو عدد الناقلين اللازمين.
قال حيدرة: «كان يوجد الكثير من التفاصيل، والكثير من التنظيم.»
أحد الشواغل الأولى كان المكان الذي ستوضع فيه المخطوطات؛ إذ احتاجا إلى منازل آمنة في باماكو. كانت إحدى الفوائد غير المتوقعة من الأزمة أن العاصمة كانت الآن تزخر بالعائلات التي كانت قد هربت من الشمال، واتصل حيدرة بهم شخصيا ليستطلع إن كان بوسعه أن يعتمد عليهم في أخذ خزائنه عندهم. أراد أسرا كانت هادئة وليس لها معارف فضوليون. وبعد شهر من البحث كان قد حدد مجموعة تتكون من سبع وعشرين عائلة في أنحاء العاصمة. قال: «كان معظمهم أشخاصا كنا نعرفهم معرفة جيدة جدا لوقت طويل.»
فيما يتعلق بمخطوطات معهد أحمد بابا، فقد كانت فكرة جيدة إشراك موظفي الدولة في العملية، والذين لم يكن الكثير منهم من تمبكتو، وذلك خشية حدوث خسارة كارثية؛ وقال: «إن حدثت أزمات، أو مشكلات، فالدولة هي الدولة؛ لذا كنا نتأكد من أن موظفي الدولة كانوا معنا.» أما في حالة المكتبات الخاصة، فقد كان حيدرة وسط أهله؛ «كان يثق بعضنا في بعض. كنا نعرف مخطوطاتنا. لم تكن العائلات بحاجة إلى بروتوكولات.»
كان جمع التبرعات أمرا محوريا للعملية. كان لحيدرة علاقات جيدة مع مؤسسة فورد ومركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، ولكن المال الذي منحاه له لم يدم وقتا طويلا. كانت دياكيتي في أثناء ذلك تجري اتصالاتها مع الحكومات والمنظمات الأجنبية التي عرفتها من عملها في مجال التنمية. كانت هذه المنظمات هي التي سينتهي بها الأمر إلى التبرع بالكميات الأكبر من النقود.
إحدى هذه المنظمات كانت مؤسسة مقرها أمستردام، وكان اسمها صندوق الأمير كلاوس، تيمنا باسم زوج الملكة بياتريكس، ملكة هولندا. كان الصندوق يتلقى دعما من الحكومة الهولندية واليانصيب الوطني الهولندي، وهو متخصص في التنمية الثقافية. كان يضم حتى برنامجا ل «الاستجابة لحالات الطوارئ الثقافية» والذي وضع في أعقاب هدم طالبان لتماثيل بوذا في ولاية باميان في أفغانستان في عام 2001. كان الهدف من هذا البرنامج، بحسب منسقته ديبورا ستولك، «تكوين جبهة دولية في مواجهة التدمير المتعمد للتراث»، وسعيا لتحقيق هذا الهدف كانت قد تتبعت الأزمة في مالي من أيامها الأولى، محاولة تحديد الأشخاص الذين يمكنهم تحذيرها بشأن التهديدات المحتملة. وكان الباحثون في برنامج جامعة كيب تاون لمخطوطات تمبكتو قد أوصلوها بمنظمة سافاما، والآن كانت على تواصل يومي بالبريد الإلكتروني بحيدرة ودياكيتي. لم تكن قد التقت بهما من قبل، لكنها شعرت بأن حيدرة «كان يبدو أن لديه سجل إنجاز جيدا»، وبخاصة عمله بالفعل مع مؤسسة فورد. والأكثر من ذلك أن السفارة الهولندية في باماكو أكدت أن صاحب الطلب كان شريكا جديرا بالثقة وواسع الاطلاع في هذا المجال، على الرغم من أنه بعد سنوات عديدة من الأزمة ظهر أنها كانت تعتقد خطأ أنه كان يوما ما مدير معهد أحمد بابا.
في بداية شهر أكتوبر، كانت المعلومات التي كانت ستولك تتلقاها من باماكو عبر البريد الإلكتروني، والهاتف، وبرنامج سكايب، تنذر بالخطر على نحو متزايد. من وجهة نظر حيدرة، كانت ضرورة اتخاذ إجراءات لإنقاذ المخطوطات قد أصبحت ملحة، على حد قول دياكيتي لها، بسبب تطورين جديدين. فمن ناحية، كان «تغيرا جيدا»، كما وصفته دياكيتي، وهو أنه منذ مغادرة الحركة الوطنية لتحرير أزواد لتمبكتو، لم تعد السيارات المتجهة جنوبا تتعرض للتفتيش. كان هذا، بحسب حيدرة، أمرا «مؤاتيا». من الناحية الأخرى، كان «التغير السيئ » هو أن محتلي المدينة كانوا قد طبقوا سياسة «تفتيش واستيلاء» على البيوت الخاصة والمشاريع التجارية، وكان قلق حيدرة يتزايد من أن المخطوطات ستصبح هي الهدف. في الواقع، كانت الحركة الوطنية لتحرير أزواد قد غادرت تمبكتو بعد معركة جاو في نهاية يونيو؛ لذا كان «التغير الجيد» الذي تحدثت عنه دياكيتي قد مر عليه الآن ثلاثة شهور على الأقل. كما بدت سياسة «التفتيش والاستيلاء» غير متسقة مع مسلك الجهاديين منذ بداية الاحتلال. ومع ذلك، لم يكن لدى ستولك وفريقها في أمستردام سبب كاف للتشكك في تلك المعلومات الآتية من مالي، وبعد هدم الأضرحة، كانت المعلومات متناسبة مع الصورة العامة للتخريب الجهادي.
كان ثمة تطور مقلق آخر في تمبكتو في هذا الوقت. كانت فرقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجهادية قد بدأت حملة قمعية على نساء المدينة وفتياتها في منتصف سبتمبر، معلنة عن حظر للتجول من الساعة الحادية عشرة مساء وقواعد لباس جديدة صارمة. لم يعد بوسع النساء ارتداء أغطية الرأس الخفيفة الشفافة التي كانت نساء السونجاي يفضلنها. كان يتعين عليهن تغطية شعورهن وآذانهن ورقابهن ومعاصمهن وكواحلهن بلباس على الطريقة العربية يسمى «تونجو»، وهو عبارة عن قطعة قماش غير شفافة طولها اثنتا عشرة ياردة، وتعين عليهن ارتداء قفازات. وجدت النساء اللواتي كن يعملن في أعمال يدوية أنه يكاد يكون من المستحيل أن يعملن وهن مرتديات ثيابا كهذه، لكن أي واحدة كانت تخالف هذه القواعد كان من الممكن أن تعاقب بأن تحبس في سجن جديد للنساء في بنك «بي إم إس»، الذي كان حينئذ يحمل اسم «مركز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». هذا «السجن» كان في الواقع الكشك الصغير الذي كانت في السابق ماكينة الصراف الآلي الخاصة بالبنك موضوعة فيه. لم يكن كبيرا بما يكفي لشخص واحد حتى أن يستلقي فيه بطريقة مريحة، ولم يكن به ماء ولا مرحاض. ومع ذلك، كان يمكن لأكثر من اثنتي عشرة امرأة أن يحشرن بداخله في نفس الوقت.
كان الرجل الذي يقف وراء هذه المهمة الأخلاقية هو الشخص ذو «الروح المظلمة» الذي كان قد دعا الكثير من السلفيين إلى القدوم إلى تمبكتو، حامد موسى. كان موسى قد عين للتو رئيسا لفرقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان هو ورجاله حينئذ يجوبون تمبكتو يضربون ويتحرشون بأولئك الذين لم يكونوا يمتثلون للقواعد. وفي خلال أيام كان موسى قد أصبح «أشهر وأكثر رجل ملعون في المدينة»، على حد تعبير امرأة من النساء المحليات، وكثرت القصص عن اعتداءاته. وفي إحدى المرات عندما أفلتت منه فتاة مراهقة كان يطاردها بشاحنته الصغيرة، حبس أباها بدلا منها. وفي مرة أخرى أمر رجاله بالإمساك بامرأة وإلقائها في قارعة الطريق «حتى تسحق سيارة رأسها» لأنها «عاهرة!» وكان يرفع ثياب النساء بفوهة بندقيته للتحقق من الأثواب التحتية اللواتي كن يرتدينها. وصارت الاعتقالات التي قام بها متكررة لدرجة أنه عندما كان الأطفال الذين يلعبون في الشارع المحيط ببنك «بي إم إس» يرونه عائدا من دون ضحية جديدة، كانوا يصيحون «حامد موسى لم يتناول إفطاره.»
في يوم السبت، الموافق السادس من أكتوبر، وصلت فورة غضب النساء من هذا الطاغية الجديد إلى ذروتها. ففي صباح ذلك اليوم قررت مجموعة من النسوة اللواتي كن يعملن في السوق الصغير بطريقة عفوية أن يخرجن في مسيرة إلى مقر قيادة موسى. وبينما كن يقتربن من مبنى بنك «بي إم إس»، بدأت الشرطة الإسلامية بإطلاق النار، مطلقة الرصاص فوق رءوسهن، وركضن كلهن ليختبئن عدا سبع من النسوة. اقتيد هؤلاء السبعة للمثول أمام مجموعة من كبار الجهاديين، من ضمنهم موسى، الذي حذرهن قائلا: «إن خرجتن في مسيرة ثانية، فسترون ما سيحدث لكن.»
في الثامن من أكتوبر، تلقت ستولك رسالة بريد إلكتروني من سافاما تصف هذه الواقعة. كان الاحتجاج قد نجم عن دخول الميليشيا إلى البيوت الخاصة لاقتياد الفتيات غير المحجبات إلى الاحتجاز، بحسب ما ورد في رسالة البريد الإلكتروني. وقيل لستولك إنه في ظل هذه الخلفية المثيرة للقلق، كانت العائلات المالكة للمخطوطات قد أعربت لسافاما عن رغبتها في إجلاء مجموعاتها. كان عدم وجود عمليات تفتيش على الطريق إلى الجنوب يعني أن هذه كانت اللحظة المثالية؛ إذ كانت توجد «فرصة سانحة» لإخراج المخطوطات.
قدمت دياكيتي تفاصيل عن الكيفية التي يمكن بها القيام بالأمر. كانت المخطوطات ستؤخذ إلى باماكو في خزائن، تحتوي كل منها على 250 إلى 300 وثيقة، عبر أحد طريقين؛ أحدهما سيسلك المسار الرئيسي جنوبا إلى دوينتزا ثم إلى موبتي؛ والآخر سيمضي غربا، عبر منطقتي ليري ونيونو. كان سيرافق كل شحنة أحد الناقلين الذي ستعينه العائلات المالكة للمخطوطات، وسيوجد «أفراد للمراقبة والأمن» يعسكرون على امتداد كلا الطريقين، والذين سيكونون على استعداد لتقديم «خدمات دعم غير مباشرة» والمساعدة في حالة الطوارئ. وقيل لستولك إنه من أجل المزيد من التأمين، كل ناقل سيسجل الدخول ثماني مرات في اليوم عبر «شبكة اتصالات هاتف محمول آمنة سريعة (باستخدام أجهزة اتصال وبرامج مختلفة)». وما إن تصل المخطوطات إلى باماكو، فستخبأ في المنازل الآمنة التي كان حيدرة قد حددها. كان كل ذلك ينقصه الآن التمويل. وعندما يصبح ذلك متاحا، يمكن للعملية أن تبدأ.
اقتنعت ستولك بالأمر. عرفت أن عملية إجلاء المخطوطات كانت تنطوي على مخاطرة، وأنه لم يكن معروفا يقينا إن كانت ستنجح أم لا، ولكن بما أنه كان واضحا أنه يوجد تهديد وشيك، بدا هذا أفضل خيار.
في السابع عشر من أكتوبر، وقع صندوق الأمير كلاوس عقدا مع حيدرة ودياكيتي من أجل إجلاء مائتي خزانة مخطوطات، كانت سافاما بالفعل قد جمعتها وجهزتها لعملية الإجلاء. قيل لستولك إن هذه كانت بالضبط نصف الأربعمائة خزانة، المحتوية على نحو مائة وستين ألف مخطوطة، التي كان يلزم نقلها إجمالا، وكانت التكلفة على صندوق التمويل الهولندي ستكون مائة ألف يورو، أو خمسمائة يورو تقريبا للخزانة الواحدة. كانت هذه التكلفة مرتفعة، بالنظر إلى أن اللاجئ كان يمكن أن يسافر بحقائبه من تمبكتو إلى باماكو مقابل حوالي أربعين يورو، لكن تنفيذ هذه العملية المعقدة كان مكلفا. (لاحقا قال حيدرة إن أكثر من مائة شخص قد عملوا في عملية الإجلاء، بينما حددت دياكيتي أن عدد الناقلين وحدهم كان ثلاثمائة.) بحسب ستولك، لم يكن المال من أجل وسائل النقل فحسب، وإنما من أجل «التنسيق العام، وتكاليف النقل، والناقلين، والهواتف المحمولة التي كانت ستستخدم أثناء الإجلاء، ورواتب العائلات/المنازل الآمنة»، وما إلى ذلك. قال حيدرة إن الهواتف كانت نفقات جديرة بالملاحظة: «اشترينا عددا كبيرا من الهواتف، للجميع، وكنت أرسل رصيدا كل يوم لكل شخص ... كنا نتعامل مع تاجر هنا كان يعطي رصيدا بقيمة خمسة آلاف فرنك [ثمانية يوروات] لكل شخص. وكل أسبوع كنا ندفع له مقابل ذلك. نظمنا ذلك لأنهم كل صباح كانوا يتصلون بي ... كل زملائي.»
بحسب تقرير إخباري لاحق عن عملية الإجلاء في مجلة «ذا نيو ريببلك» الأمريكية، تحققت دياكيتي من المعلومات الواردة فيه، فإن الشحنات الأولى بدأت في مغادرة تمبكتو في اليوم التالي لتوقيع عقد صندوق الأمير كلاوس:
في الثامن عشر من أكتوبر حمل الفريق الأول من الناقلين 35 خزانة على عربات اليد والعربات التي يجرها الحمير، ونقلوها إلى نقطة تجميع على أطراف تمبكتو حيث اشتروا مساحات في الحافلات والشاحنات التي كانت ستقطع الرحلة الطويلة جنوبا إلى باماكو.
كانت الرحلة ستتكرر يوميا طوال الشهور العديدة التالية، بحسب ما ذكر مراسل مجلة «ذا نيو ريببلك»، وأحيانا مرات كثيرة في اليوم الواحد، إذ كانت الفرق القائمة على الإجلاء تمرر مئات الخزائن على نفس الطريق المتهالك إلى باماكو. •••
عرفت ستولك أن الشحنات الأولى الممولة من صندوق الأمير كلاوس قد وصلت بأمان لأنها تلقت صورة التقطها في ذلك اليوم مسئولو سافاما. أظهرت الصورة عددا كبيرا من الصناديق الفولاذية المكدسة، وذراعي رجل جسده غير ظاهر - على ما يبدو أمين المكتبة البارز نفسه - يحملان نسخة من صحيفة ذلك اليوم، وهي تقنية توثيق مستعارة من الأفلام السينمائية، على حد تعبير أحد معاوني حيدرة. وتلقت المزيد من الصور بمضي الأسابيع.
ومع ذلك كانت رحلة المخطوطات جنوبا مشحونة بالقلق والمشكلات، ولم يكن يمر يوم دون أن يتصل أحد الناقلين بحيدرة ليخبره بما وصفه الأخير لاحقا بأنه «مشكلات صغيرة» تراوحت بين أعطال عادية ومطالبات بفدية وصدامات خطيرة مع الجهاديين.
تعلقت إحدى هذه «المشكلات الصغيرة» بمكتب منظمة سافاما نفسه في تمبكتو، والذي كان على طريق كابارا، على مسافة نصف ميل جنوب وسط المدينة. كانت سافاما قد اجتذبت انتباه الجهاديين منذ الأسابيع الأولى للاحتلال، عندما اتصلت الشرطة الإسلامية بالسكرتير الإداري للمنظمة، سانيه شريفي ألفا، تخبره بأنها كانت على وشك مصادرة أصول المنظمة. اتصل ألفا بديادي، نائب رئيس لجنة الأزمة، الذي تصادف أيضا أنه كان أمين صندوق سافاما، وهرع كلاهما لمقابلة مفوض الشرطة الجهادية. قال المفوض إن الأمر حقيقي؛ إذ كانوا قد قرروا أنه بما أن سافاما كانت تتلقى دعما من اليونسكو وتحصل على تمويل أمريكي عبر مؤسسة فورد، فهي جهة متعاونة مع المصالح الغربية؛ لذا كانوا قد قرروا الاستيلاء عليها.
فكر ديادي بسرعة. تذكر قائلا: «قلت له: «إنك محق في إحضاري إلى هنا».» إن لم يكن المفوض يفهم الغرض من سافاما، فإن ديادي سيكون في غاية السعادة أن يوضح له ذلك. في الحقيقة، كانت المنظمة عبارة عن رابطة من الأشخاص الذين يملكون المخطوطات، وهدفها هو حماية مجموعاتهم وإنشاء إطار عمل من أجل تنميتها والاستفادة منها. وحيث إنه لم يكن لدى العائلات الموارد اللازمة لتحقيق ذلك، فقد طلبت الدعم من اليونسكو ومن منظمات أخرى، ولكن ذلك لم يكن يعني مطلقا أنها مملوكة للدولة أو لليونسكو. كانت سافاما مملوكة للناس.
اختتم ديادي قائلا، وهو يعرض عليه وثائق تأسيس المنظمة: «ها هو النظام الداخلي.»
لان جانب المفوض. كان قد قيل له إن سافاما جزء من اليونسكو، لكن عندما وجد أنها منظمة خاصة، فلم يتخذ ضدها أي إجراء. بل في الواقع، طلب من رجاله حمايتها.
بعد شهرين، واجه العاملون في سافاما صداما أخطر مع الشرطة. كان لدى محمد توريه ابن شقيقة حيدرة شحنة سيرسلها إلى باماكو، وكانت الشاحنات عموما تحمل حمولتها بالقرب من بنك «بي إم إس» في السوق الكبير. وحيث إن المنطقة كانت حينئذ تعج بالجهاديين، رتب للشاحنات أن تأتي بدلا من ذلك إلى مكتب سافاما ليلا. خطط لتحميل العديد من الخزائن هناك قبل أن تتوجه الشاحنات إلى السوق الكبير لتملأ بالبضائع الأخرى. غادر وسط المدينة مع شاحنتين من ذوات حمولة العشرة الأطنان، وتوقف بجوار مبنى سافاما، ودخل إلى المبنى. وبينما كان يعمل على ضوء الكشافات اليدوية، أخذ أربع خزائن ثقيلة وحملها إلى الخارج. لم تكن بالضبط عملية سرية - فقد كانت الشاحنتان الضخمتان تقفان بجوار المبنى بينما كانت أضواء الكشافات اليدوية تومض في الداخل - وسرعان ما اجتذبت الشاحنتان انتباه أحد الجهاديين الذي كان قد انتقل إلى المنزل المجاور للمبنى. كان هذا الجهادي هو الفرنسي جيل لو جوين، الذي كان معروفا أيضا باسم عبد الجليل.
تذكر توريه: «كنت منهمكا في عملية إخراج الخزائن، عندما جاء عبد الجليل مباشرة. ناداني، وأوقفني، وسألني عما أفعله. قلت إنني أخرج كتبي لأنه كان وقت إبعادها من أجل الموسم المطير. كنت أخشى أن تلحق بها المياه أضرارا.»
للحظة لم يقتنع لو جوين بقصة توريه. قال: «لا، ما كنت ستفعل ذلك في هذا الوقت من الليل. إنك لص.» على الفور اتصل بالشرطة الإسلامية، وسرعان ما وصلت مجموعة من الجهاديين المسلحين. وكان مفوض الشرطة نفسه وسطهم.
قال توريه باستماتة للمفوض: «أنا لست لصا.» ثم أردف: «هذه الأشياء تخصني. كل شيء هنا ملكي.» «لماذا لم تطلعنا على أنك كنت تفعل شيئا كهذا؟» «لم أعرف أنه في كل مرة تنقل فيها أغراضك الخاصة يتعين عليك أن تبلغ الشرطة.»
أمر المفوض بأن تؤخذ الشاحنتان بما فيهما من خزائن إلى مركز الشرطة، حيث ركنتا في إحدى الساحات، وطلب من توريه أن يحضر في اليوم التالي شهودا يمكن أن يشهدوا بأن المخطوطات كانت تخصه، وأن يحضر أوراقه. اتصل توريه بسرعة بحيدرة ليشرح له المشكلة، وبدأ الأخير بدوره يجري اتصالاته بمعارفه في تمبكتو.
لم يكن حيدرة هو من اتصل بديادي، وإنما المفوض. سئل ديادي إن كان على علم بأن الشاحنتين كانتا قد حملتا بمخطوطات سافاما وكانتا على وشك مغادرة المدينة. قال ديادي: «شاحنتان؟» ثم أردف: «كيف؟» قال المفوض: تعال وانظر بنفسك. قال ديادي إنه سيفعل، ولكن قبل أن يفعل ذلك مضى ليبحث عن توريه.
أجابه توريه بالإيجاب عندما سأله عن الأمر؛ إذ كجزء من جهود حيدرة لحماية المخطوطات، كانوا قد اتخذوا «عددا معينا من الإجراءات» وكانوا قد بدءوا في إرسالها إلى باماكو. وقال له إنها قد جرى احتجازها.
أصاب الذهول ديادي. تساءل: «عندما كانت تحدث مشكلات قبلئذ، إلى من كنت تلجأ؟» ثم أضاف: «ومع ذلك، عندما قررت أن تخرج هذه المخطوطات، لم تسع حتى إلى أن تخبرنا بأنك كنت تفعل ذلك. إذا أردت أن تفعل هذه الأمور، يتعين عليك أن تخبرنا!»
ومع ذلك، كان من شأنه أن يأتي لمساعدة توريه. ذهب لمقابلة المفوض وأخبره بأنه كان بالفعل يعلم بشأن عملية نقل الخزائن. كانت سافاما تجري عملية لاتخاذ صناديق حفظ في باماكو، وكان شحن المخطوطات جنوبا جزءا من هذا البرنامج. قال: «لم أكن أعرف أنها كانت تغادر أمس، وإلا كنت قد أبلغتك بذلك.»
ذهب توريه إلى الشرطة ومعه أوراقه. خاطب المفوض توريه خطابا شديد اللهجة. قال له: «إن أردت أن تفعل أشياء من هذا القبيل، فيجب عليك أن تأتي إلى الشرطة الإسلامية لتحصل على إذن بذلك. يجب عليك ألا تفعل الأمور بتلك الطريقة، بينما لا علم لأحد بما تفعله، وإلا فسيقول الناس إنك تسرق.» وحذره من أن عقوبة السرقة شديدة.
وافق توريه على أن يطلب الإذن قبل أن ينقل المخطوطات في المستقبل، وأفرج عن الشاحنتين والخزائن. قال حيدرة إنهم أوقفوا العملية في ذلك الوقت حتى حين، وتوجهت الشاحنتان صوب الجنوب من دون الخزائن. عندما بدأ توريه في نقلها مجددا، فعل ذلك في وضح النهار.
أما لو جوين، فكان لا يزال يبدو مقتنعا أنه قد قبض على لص. لم يواجه مهربو المخطوطات مشكلة في الشمال فحسب. لاحقا في شهر أكتوبر، قالت دياكيتي لستولك إن المنطقة التي كانت تسيطر عليها الحكومة كانت قد أصبحت هي الأخرى بنفس القدر من الصعوبة؛ إذ كانت نقاط تفتيش غير رسمية قد ظهرت فجأة، وكان يديرها مبتزون يرتدون ملابس عسكرية.
كانت توجد مجموعة من الانتهاكات القانونية التي كان يمكن أن يقبض على المسافرين الماليين بسببها - عدم حمل رخص المركبات؛ انتهاء صلاحية بطاقات الهوية - بينما كانت انتهاكات أخرى تلفق على الفور. كان يمكن لكل مشكلة من هذه المشكلات أن تعطل حافلة لساعات حتى يتمكن المسافرون من الخروج منها عن طريق الإقناع أو بدفع رشوة. وفيما بين سيفاري وباماكو كانت توجد تسع نقاط تفتيش حكومية، وتعين على حيدرة أن يتيقن من أن بوسع الناقلين أن يدفعوا نقودا للمرور منها كلها. قال: «كان لدينا دوما مشكلات.» ثم أردف: «كانت وسائل المواصلات مكلفة. لكن هذا كان طبيعيا [في حالة الحرب]. وكان الناقلون مكلفين. ولكن ما الذي يمكنك فعله؟ كل الأموال التي أنفقناها على وسائل المواصلات يمكننا أن نجد لها مسوغا، وكل ما أنفقناه على الناقلين يمكننا أن نجد له مسوغا. ولكن المبالغ المالية التي أنفقت على الرشاوى - كيف يمكنك أن تجد مسوغا لها؟»
جعل الفساد الرحلة الشاقة إلى الجنوب أكثر إرهاقا مما كانت عليه بالفعل. دامت أسوأ رحلة قام بها توريه، والتي كان يحمل فيها ست خزائن ثقيلة أو سبعا ولكنها «جميلة جدا، ومهمة جدا»، أكثر من أسبوع وتضمنت خمسة أنواع من وسائل المواصلات. بدأت الرحلة بداية جيدة؛ فبعد أن مر بالاستعانة بالكلام المعسول من تفتيش جهادي عند دوينتزا عن طريق التحدث باللغة العربية والتظاهر بالمرض، وصل إلى منطقة حكومية في الليلة الأولى. بعد ذلك، ازدادت صعوبة الرحلة أكثر فأكثر.
كلما كان يعثر على مخطوطاته في إحدى نقاط التفتيش، كان الضباط النظاميون يحدثون جلبة كبيرة. تذكر توريه: «كانوا يصيحون عندما كانت أعينهم تقع على المخطوطات، قائلين: «ها هي مشكلة!»» وكان عناصر الدرك يستدعون. لم يكن من شأن توريه أن يقول إن كان قد دفع لهم رشوة؛ إذ كان فقط يقول إنه «جعلهم يتفهمون الأمر»، وإنهم منحوه إذنا بمتابعة طريقه.
تعطلت إحدى الحافلات. وسارت أخرى في الطريق الخطأ ومضت به إلى منطقة كانت أقرب إلى كوت ديفوار منها إلى باماكو. بعد أيام، عندما وجد، وهو يشعر بالإنهاك، ما كان يأمل أن يكون آخر حافلة صغيرة وتفاوض على الأجرة إلى باماكو، أوقفته مجموعة أخرى من رجال الدرك وأخذوه إلى ثكنتهم. أبقي هناك مدة يوم بينما كانوا يتحققون من أوراقه، ويوجهون إليه أسئلة، ويفتحون الخزائن. وما إن فعلوا ذلك، حتى عرفوا أنهم توصلوا إلى شيء ما.
استدعي ضابط قيادي. وقيل له: «انظر، يوجد شاب أحضر مخطوطات تمبكتو. إنها في كل مكان!»
اتصل توريه بحيدرة، الذي اتصل بأحد معارفه في سيجو الذي كان من الممكن أن يتفاوض مع رجال الدرك، وأخيرا وافقوا على أنه كان يتعين أخذ توريه إلى باماكو تحت حراسة من أجل المزيد من الاستجواب. في الساعة الواحدة صباحا وصل إلى قاعدة الدرك المعسكر رقم واحد ذي السمعة السيئة في الحي الاستعماري القديم في العاصمة، حيث استمرت الأسئلة. أجاب بأفضل ما كان بوسعه، وفي الصباح وصل حيدرة ليخبرهم أنه كان في مهمة مشروعة.
تذكر حيدرة قائلا: «تفاوضت معهم.»
وما إن أصبح توريه حرا، حتى انطلق مجددا إلى الشمال.
كانت أخطر اللحظات التي وصفها المسئولون على عملية إجلاء المخطوطات كانت عندما احتجز الناقلون وخزائنهم من أجل الحصول على فدية.
كان الطريق الرئيسي من تمبكتو إلى باماكو يمضي على امتداد الضفة اليمنى، أو الجنوبية، للنهر، عبر مراكز تجمع السكان في وسط مالي؛ دوينتزا، وسيفاري، وموبتي، وسيجو. ومع ذلك كان يوجد طريق آخر على امتداد الضفة اليسرى للنهر. بدلا من التوجه جنوبا من تمبكتو إلى كوريومي وعبور النهر بالعبارة، يمكن لسيارات الدفع الرباعي أن تسلك المسار غربا عبر الصحراء ذات الكثافة السكانية المنخفضة إلى نيافونكي وليري قبل عبور النهر إلى سيجو. كانت رحلة طويلة وجامحة لمئات كثيرة من الأميال، عبر رمال عميقة وحول بحيرات كانت تمتلئ وتفرغ تبعا لإيقاع فيضانات نهر النيجر. ومع ذلك لو كان هذا الطريق آمنا، كان الناقلون سيتجنبون نقاط التفتيش ويوفرون على أنفسهم قدرا كبيرا من المتاعب والمال. أخبر الكثير من الناس حيدرة أنه لا توجد مشاكل في طريق ليري؛ لذا قرروا أن يجربوه.
تصادف أن السيارة التي اختيرت لهذه التجربة الأولى كانت سيارة دفع رباعي عتيقة، «خربة»، كما وصفها حيدرة، ظلت تتعطل مرارا وتكرارا: «أتعرف، في ذلك الوقت، كانت كل السيارات التي تستأجرها سيارات خربة. كانت السيارات التي تصل من سيفاري، على سبيل المثال، متهالكة، ولم يكن لها حتى أوراق سليمة. كان يتعين عليك دوما أن تأخذ سيارة أخرى.» كانوا بالكاد قد قطعوا مائة ميل عندما رن هاتف حيدرة ليحمل أنباء مقلقة: كانت مجموعة من الرجال قد أوقفت الناقلين تحت تهديد السلاح وهم الآن محتجزون رهائن. لم يكن لدى حيدرة أدنى فكرة عن هوية الرجال المسلحين أو مدى الخطورة التي يمكن أن يكونوا عليها - كان من الممكن أن يكونوا من الجهاديين أو من الحركة الوطنية لتحرير أزواد، ولكن كان الأرجح أنهم كانوا ينتمون إلى واحدة من مجموعات قطاع الطرق العديدة التي كانت تجوب الصحراء. قال حيدرة: «أخذوا السيارة وهددوا الأشخاص الذين كانوا بداخلها.» ثم أردف: «قالوا إنهم لن يدعوا السيارة تمضي وإنه يتعين علينا أن ندفع شيئا.»
كان من شأن موت ناقل واحد أن يعني لحيدرة إفساد المشروع كله: «إن وقع أمر سيئ لهؤلاء الرجال، فسيصبح كل عملنا بلا قيمة. وستكون هذه مشكلة كبيرة.» لذلك حاول أن يتفاوض مع الخاطفين أن يطلقوا سراح الرجال والخزائن. ولكن كان من المستحيل إجراء مثل هذه المحادثة الدقيقة عبر شبكة الهاتف المحمول المتقطعة: «لم يكن بوسعي أن أتوصل إلى تفاهم معهم. أرادوا أن يقتادوا الناقلين بعيدا. لم أعرف ما الذي يمكن أن يفعلوه بهم. لم أعرف ما كان سيحدث! أصيبوا بخوف شديد. ونحن أيضا أصبنا بخوف شديد.»
ولكنه كان يعرف نيافونكي جيدا، واتصل بأحد أصدقائه، الذي اتصل بدوره بإمام موقر كان يعيش في القرية التي كان الرجال محتجزين فيها. ذهب الإمام ليتحدث مع الخاطفين بالنيابة عن حيدرة. قال حيدرة: «تكلم معهم، وتفاوض على مبلغ من المال، وأعيدت إليهم سيارتهم وسمح لهم بالمرور.» لقد ساعد في الأمر أن السيارة كانت حطاما حتى إن الخاطفين لم يرغبوا فيها.
كانوا قد احتجزوا رهائن مدة أربع وعشرين ساعة، واستغرق الأمر من الناقلين ثمانية أيام لبلوغ باماكو . تذكر حيدرة: «ثمانية أيام لأن السيارة لم تكن جيدة وأمضوا يوما محتجزين كرهائن!»
كانت المرة الوحيدة التي جربوا فيها الطريق عبر ليري. قال حيدرة: «لم نفعل ذلك مجددا.» •••
قرب نهاية عام 2012، أبلغت سافاما السفارة الألمانية في باماكو أن ما بين 80 ألفا و120 ألف مخطوطة قد أجليت بنجاح من تمبكتو. ولكن في هذا الوقت، كانت الأزمة المالية تدخل مرحلة أكثر خطورة بكثير. في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر، دعا إياد آغ غالي إلى عقد مؤتمر لشيوخ القبائل والجماعات الجهادية في إساكان، التي كانت على بعد ساعتين بالسيارة غرب تمبكتو. كان هذا المكان الذي يضم الكثبان الرملية البيضاء المتماوجة رمزيا إلى حد كبير لجماعة أنصار الدين وحلفائها؛ فهنا كان يعقد مهرجان يسمى «مهرجان في الصحراء» كل عام منذ عام 2003، وكان موسيقيون غربيون مثل روبرت بلانت وديمن ألبارن يعزفون جنبا إلى جنب مع نجوم ماليين مثل ساليف كيتا وعلي فاركا توريه. كان النجم الأيرلندي البارز بونو قد غنى هناك مع فرقة الطوارق الموسيقية تيناريوين في يناير من ذلك العام.
لن يعقد هذا المهرجان في عام 2013. كانت الحفلات الموسيقية محظورة في جمهورية أزواد الإسلامية، وبدلا من الموسيقيين كانت الكثبان الرملية في تلك الأيام تعج بالمقاتلين الجهاديين. في نهاية القمة، ذكر شهود عيان أنهم رأوا أكثر من ثلاثمائة شاحنة صغيرة تتجه مسرعة صوب تمبكتو، والجهاديون متشبثون في الخلف، يصيحون «الله أكبر!» لم يكن واضحا ما كان يعنيه كل هذا، ولكن سرت شائعات في أنحاء تمبكتو بأن قرارا استراتيجيا قد اتخذ.
في تلك الأثناء كانت تروس الدبلوماسية الدولية تتجه نحو التدخل. في العشرين من ديسمبر أذن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بنشر قوة بقيادة أفريقية في مالي، وبعد ثلاثة أيام، شرع الجهاديون في هجوم جديد على أضرحة تمبكتو في تحد للمجتمع الدولي. سار المقاتلون بمركباتهم في الشوارع والأسواق وهم يخبرون الناس بأن هذه الأماكن الوثنية لا بد أن تهدم. ثم، بحسب ما تذكر أحد شهود العيان، «نفذت الشرطة الإسلامية، مستخدمة المعاول والمجارف، عملية هدم لخمسة أضرحة.» ومجددا ، تعهدوا بأنهم لن يتركوا ضريحا واحدا قائما.
إذا لم يكن ذلك صادما بدرجة كافية، فإن المفاوضات في تمبكتو بشأن المولد النبوي كانت هي الأخرى قد وصلت إلى حد الأزمة. في عام 2013 كان الاحتفال بمولد النبي سيحل في يوم الخميس، الموافق الرابع والعشرين من يناير. كانت المدينة إلى حد كبير قد أذعنت لأمر إلغاء المناسبة عندما قام أبو زيد بزيارة مفاجئة للإمام الأكبر عبد الرحمن بن السيوطي. انتهز الإمام الفرصة ليسأل أمير القاعدة عن الاحتفال. تذكر سانيه شريفي ألفا، الذي كان قد وردت إليه تفاصيل هذا اللقاء، قائلا: «أخبر الإمام أبا زيد بأنه يريد التحدث بشأن الاحتفال بالمولد.» أجاب أبو زيد بأنه سيرجع في هذه الأمور إلى فقهائه الإسلاميين، «العلماء». وقال: «هم الذين سيتخذون القرار بشأن الأمر.» ثم أردف: «عندما تكون مستعدا، أحضر علماءك وسنحضر علماءنا ويمكنهم أن يتناقشوا في الأمر. إن استطعتم إقناعهم، فلن يكون ثمة مشكلة.»
مع اقتراب حلول المولد النبوي، اجتمع الطرفان وتناظروا بشأن الأمر طيلة الصباح. استحضر الإمام الأكبر الأمر قائلا: «التقينا هنا في منزلي.» ثم أردف: «طلبوا منا أن نعرض حججنا وأدلتنا الداعمة إن كانت لدينا والتي من شأنها أن تجيز إقامة المولد النبوي.» دام اللقاء من الساعة التاسعة صباحا وحتى الثانية من بعد الظهر، حيث طرح «علماء» تمبكتو قضيتهم، استنادا إلى النصوص الإسلامية، بشأن الاحتفال الذي كانوا يحتفلون به منذ قرون. قال فقهاء الجهاديين، بحسب ما ذكر ألفا: «نحن لا ننكر أي شيء مما تقدمتم به في أطروحتكم، ولكن ثمة أمرا واحدا لا يعجبنا يحدث أثناء المولد؛ وهو أنه يحدث الكثير من الانحراف، والكثير من الضلال. ولا يمكننا أن نقبل بذلك.»
أجاب ممثلو المدينة: «إن أولئك الذين يأتون بالضلال والانحراف لا ينتظرون المولد ليفعلوا ذلك.» ثم أضافوا: «فتلك هي حياتهم قبل المولد وأثناءه وبعده. ليس المولد هو الذي يتسبب في هذا، وليس ذلك سببا لمنعنا من الاحتفال به.»
عندما انتهت المناقشة، قيل للتمبكتيين إنهم سيتلقون القرار قريبا، على أساس الجهد الذي كان الطرفان قد بذلاه معا.
بحلول بداية العام الجديد أصبح واضحا السبب الذي من أجله عقد لقاء إساكان. في الأول من يناير، بعث آغ غالي بمطلبين متطرفين للحكومة المالية؛ وهما أنها يجب أن تعترف بالاستقلال الذاتي لأزواد وأن تعلن عن «الطابع الإسلامي لدولة مالي» في الدستور. ورفضت الحكومة. في اليوم التالي، بدأ نحو ألف وخمسمائة جهادي في التجمع في بامبارا ماوندي، وهي القرية التي كانت بمنزلة محطة توقف للشاحنات في منتصف المسافة بين تمبكتو ودوينتزا. في يوم الثلاثاء، الموافق الثامن من يناير، جرى تبادل لإطلاق النار عبر الخط الأمامي، وفي تلك الليلة تقدمت مئات من عربات الجهاديين صوب كونا، الواقعة على مسافة أربعين ميلا داخل المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة. وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح اليوم التالي هاجموا البلدة من ثلاث جهات، وبحلول وقت متأخر من العصر كانت قد سقطت. قال متحدث باسم المتمردين لوكالة فرانس برس عصر يوم الخميس: «نحن في كونا من أجل الجهاد.» ثم أضاف: «لدينا سيطرة شبه كاملة على البلدة. وبعد هذا سنواصل التقدم جنوبا.»
كانت موبتي تبعد أقل من ساعة بالسيارة. إن استولى عليها الجهاديون، فلن يكون ثمة ما يوقفهم عن المضي في طريقهم وصولا إلى باماكو.
في صباح اليوم التالي، الجمعة، الموافق الحادي عشر من يناير، أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن بلاده ماضية إلى الحرب. قال، بينما كان واقفا أمام علم أمته ثلاثي الألوان في قصر الإليزيه: «لقد قررت أن فرنسا سوف تستجيب، إلى جانب شركائنا الأفارقة، إلى طلب السلطات المالية.» كانت عملية سيرفال، وهي العملية العسكرية الفرنسية لاستعادة شمال مالي، على وشك أن تبدأ. •••
كان حيدرة قد تلقى تحذيرا من خبراء الحفاظ على التراث مفاده أن نهاية الاحتلال ستكون الفترة الأخطر على المخطوطات: «قبل بدء كل هذا، قال لي الناس إنهم في اليوم الذي سيرحلون فيه سيحرقون كل شيء. سيخربون كل شيء. كل شيء ذا أهمية. كان ذلك جزءا من النصيحة التي قدموها لي. لكني لم أكن أعرف كيف سيحدث الأمر.» أيضا أقلق احتمال تجدد القتال شاميل جيبي، رئيس مشروع مخطوطات تمبكتو في جامعة كيب تاون. قال: «أينما ترى تدخلا عسكريا، يكون من المحتم أن تتعرض الأشياء للتدمير.» ثم أردف: «كان خوفي في البداية من التجاهل. الخوف الآن من الحرب الصريحة والصدام العسكري.» أرسلت المديرة العامة لليونسكو نداء إلى كل الفرق العسكرية في البلاد ألا تلحق المزيد من الضرر بآثار تمبكتو؛ إذ قالت إيرينا بوكوفا: «إنني أطلب من كل القوات المسلحة أن تبذل كل ما وسعها لحماية التراث الثقافي لهذا البلد.» ثم أردفت: «إن تراث مالي الثقافي هو تحفة رائعة ينبغي للإنسانية جمعاء حمايتها. إن هذا هو تراثنا المشترك، ومن ثم لا يمكن بحال من الأحوال لأي شيء أن يبرر الإضرار به. إنه يحمل هوية وقيم شعب بأكمله.»
على خلفية الصراع الوشيك، استأنف حيدرة ودياكيتي نشاطهم في جمع التبرعات. في الرابع من يناير، ذهبا إلى مجمع السفارة الألمانية شديد التحصين على الضفة الجنوبية للنهر في باماكو. كان السفير غائبا في إجازة مرضية طويلة، ولكن القائم بالأعمال، توماس شترايدر، الذي كان قد وصل منذ وقت قريب، وافق على الالتقاء بهما. تذكر شترايدر أن حيدرة بدا قلقا. قال: «كان يفتش عن حلفاء جدد في المجتمع الدولي ليساعدوه في تمويل هذه الإجراءات [المتعلقة بالإجلاء].» ثم أضاف: «كان بحاجة إلى المال.»
أخبر رجل المكتبات شترايدر بأن سافاما كانت قد حصلت على ترخيص من العائلات المختلفة في تمبكتو بأن ترعى المخطوطات، التي كانت قد خبئت وسط أهل تمبكتو في بيوتهم. ولكن الآن كانت مخاطرة بقائها في المدينة قد أصبحت كبيرة للغاية؛ إذ كانت قوات المتمردين تبحث بهمة عنها وتتلفها:
أخبرني بأنه كان يوجد خطر داهم، وأنها كانت تتعرض للإتلاف، والحرق، وأن هذا قد جرى ... أثناء هذه الأسابيع مرارا وتكرارا. أتذكر أن قوات المتمردين عثرت على بعض الكتب عندئذ وأتلفتها. أحرقتها أو ... أظن أنها أحرقتها، أجل.
قيل لشترايدر إنه كان يتعين إخراج المخطوطات بأي وسيلة. كان مقتنعا بأن التهديد كان حقيقيا - تذكر قائلا: «لم يكن لدي سبب يدفعني إلى الشك في الأمر» - لكنه أراد المزيد من التفصيل بشأن الكيفية التي ستجري بها عملية الإجلاء. هل كان حتى لا يزال من الممكن السفر برا من تمبكتو إلى باماكو؟ أجاب حيدرة بالإيجاب، ولكن كان يوجد الكثير من نقاط التفتيش التي كان يتعين عبورها. كيف كانت المخطوطات ستنقل؟ قيل لشترايدر إنها كانت ستنقل بالشاحنات الصغيرة، ليلا، مخبأة تحت الفاكهة والخضراوات التي كانت تزرع في تمبكتو وتشحن إلى بقية مالي.
لم يكن ثمة شك في أن ألمانيا ستحاول أن تقدم الدعم لعملية الإجلاء، بحسب ما قال الدبلوماسي، ولكنه كان سيحتاج إلى بيان تفصيلي بالتكاليف علاوة على نوع من الاتفاق المكتوب. وعد بأن يتحدث مع وزير الخارجية الألماني، ورتب مع دياكيتي لقاءات لاحقة، من ضمنها لقاء في بار فندق راديسون باماكو، لإضفاء الطابع الرسمي على التفاصيل.
في السابع من يناير، كتب شترايدر مخاطبا برلين، طارحا قضية تقديم المساعدة. قال لهم إنه كان على اتصال بالشخصين اللذين كانا ينفذان عملية إنقاذ لمكتبات مخطوطات باماكو. كانت المخطوطات في خطر شديد، وكان الإسلاميون قد دمروا بالفعل المكاتب التابعة للمكتبات، وفي ذلك أجهزة الكمبيوتر الشخصية والأثاث. والآن، بالنظر إلى احتمال حدوث تدخل عسكري، كان الأمر يستلزم نقل الوثائق «بأسرع ما يمكن وعلى أكمل وجه ممكن»: كان الأمر يتعلق بإنقاذ هذه الوثائق «من الحريق.» كان ينبغي إبقاء كل شيء في غاية السرية؛ وذلك لأنه إن أحيط المحتلون علما بما كان يجري، فسيكون من المستحيل المضي قدما؛ إذ كان حيدرة ودياكيتي قد لجآ إلى السفارة لأنهما «يوليان ثقة خاصة بالألمان.» كانا يسعيان إلى الحصول على 500 ألف يورو على مدى العامين المقبلين لنقل كل المخطوطات وإبقائها بأمان في باماكو، لكن كان من شأن تبرع عاجل بقيمة 10 آلاف يورو فورا أن يكفل إنقاذ حوالي عشرين خزانة كاملة.
أتى المال من برلين «بسرعة مذهلة»، مقارنة بالإجراءات العادية لوزارة الخارجية، بحسب ما قال شترايدر؛ لأنهم «أدركوا أن الحاجة الملحة إلى المشروع كانت في أعلى مستوياتها.» وقع عقد لنقل أربعة آلاف مخطوطة «في ظروف غير مواتية» في مقابل 10 آلاف يورو، وبعد ثمانية أيام فقط من لقائهم الأول بشترايدر، عاد دياكيتي وحيدرة إلى السفارة لتسلم المال. سلمت الرزمة الكبيرة من عملات اليورو الورقية في خفاء في كيس بلاستيكي يحمل اسم أحد مخابز باماكو. ولم يسمح للقائمين على إجلاء المخطوطات بالحصول على إيصال تسلم. •••
عندما صدر أخيرا القرار بشأن المولد النبوي كان في هيئة رسالة قصيرة؛ إذ تذكر سانيه شريفي ألفا قائلا: «كتب أبو زيد رسالة يقول فيها إن الحجج التي قدمتموها صائبة حقا، ولكن ما دمنا هنا، فلن نقيمه.»
تذكر الإمام الأكبر قائلا: «أظهر لنا هذا بجلاء أنهم في الحقيقة لم يكونوا يريدون إقامة احتفال المولد النبوي.» قرر التمبكتيون ألا يضغطوا لفرض القضية، وطلب أئمة المدينة من السكان ألا يحتفلوا بالعيد. بحسب الإمام الأكبر، لم يشر إلى المخطوطات في أي مرحلة من النقاش: «لم نتكلم عن المخطوطات.»
إذا كان الإمام الأكبر وألفا مصيبين في تذكرهما للأحداث، فإنه لم يبد أن الجهاديين كانوا عازمين على إتلاف كل نسخ «القصيدة العشرينية» والمجموعات التي اشتملت عليها. كان أبو زيد قد نظم نقاشا شرعيا فقهيا، ثم انتظر حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يلغي الاحتفال. ولكن لم يكن هذا هو الانطباع الذي تلقته ستولك. أخبرتها سافاما بأن جماعة أنصار الدين كانت قد حذرت المدينة في الثالث عشر من يناير من أن المولد النبوي «حرام» وأن الاحتفال به سيكون له «تداعيات». كان هذا دليلا على أن موقف المخطوطات «كان بالفعل بذلك القدر من الخطورة»، وأن عملية الإجلاء كانت مبررة.
كان القتال في وسط مالي في هذا الوقت يعني أن الطريق البري إلى باماكو كان قد صار خطيرا للغاية على معظم سائقي الشاحنات بحيث لم يكن يمكنهم العمل عليه. وحيث إنه كان لا يزال يوجد أعداد كبيرة من المخطوطات في تمبكتو، قرر حيدرة حينئذ أن ينقلها إلى القرى المحيطة بالمدينة. قال حيدرة: «في ذلك الوقت، أخرجوا كل شيء.» ثم أردف: «أخذوا كل ما كان موجودا إلى القرى الصغيرة القريبة من النهر في كابارا، وإيلوا، وهوندوبونجو ، وتويا.» قدمت دياكيتي سردا لهذه الخطوة بعد شهرين، في محاضرة لجمع التبرعات في جامعة أوريجون. قالت إنه كان وقتا ساعد فيه الماليون من كل الفئات على نقل المخطوطات إلى بر الأمان، بطريقة عفوية وبمخاطرة شخصية كبيرة:
قدمت ربات البيوت وجبات الطعام والمأوى للناقلين العاملين معنا على امتداد الطريق. ونقل التجار الناقلين وخزانات الكتب بالمجان، عندما رأوا الأشخاص العاملين معنا يجرونها على عربات يد أو يحملونها على ظهورهم لأخذها إلى الأمان بجوار النهر ... صنعت قرى بأكملها مناورات عند نقاط التفتيش، حتى يستطيع رجالنا تجاوزها مع الكتب. في كل الحالات، ليس فقط في الشمال وإنما أيضا في الجنوب، تقدم المجتمع للمساعدة من أجل حماية المخطوطات ... كانوا يطلقون [عليها] «تراثنا»، و«مخطوطاتنا».
بحلول منتصف شهر يناير، كانت عشرات الآلاف من المخطوطات في القرى في انتظار شحنها جنوبا، وإذ كان طريق الصحراء مغلقا، لم يكن يوجد إلا طريق واحد لنقلها؛ عبر النهر. ولكن كان هذا ينطوي على مخاطر جديدة كبيرة، وأصبح مصدرا للخلاف بين رجل المكتبات وشريكته. قالت دياكيتي لمستمعيها في جامعة أوريجون: «تجادلنا أنا وعبد القادر [حيدرة] بشأن استخدام المجرى المائي.» ثم أردفت: «كان مؤيدا لذلك - فهو الفرد الشجاع في الثنائي الرهيب الذي نكونه - وكنت معارضة بشدة. فالمخطوطة المبللة هي مجرد كومة من الخرق القديمة. المخطوطات في معظمها مصنوعة من الورق القطني، الذي يغطي الحبر سطحه. لا يحوي أي من الأحبار المستخدمة في كتابة هذه المخطوطات أي نوع من المثبتات. فهي سريعة التطاير تماما.» في النهاية لم يكن أمامهما خيار؛ لأن الطرق كانت ستزداد خطورة مع تقدم القوات الفرنسية والمالية. تذكرت دياكيتي: «أصبح استخدام النهر أمرا حتميا.» ثم أضافت: «توقفت عن النوم تماما في تلك المرحلة. قال لي عبد القادر إنه هو الآخر قد جافاه النوم.»
لم يكن نقل المخطوطات بالقوارب محفوفا بالمخاطر فحسب، وإنما كان أيضا باهظ التكلفة. في يوم الثلاثاء، الموافق الخامس عشر من يناير، شرعت دياكيتي مجددا في محاولة جمع المزيد من التمويل، فوصلت في ذلك اليوم إلى السفارة الهولندية في حي هيبودروم في شرق باماكو من أجل مقابلة مع مسئولة المساعدات الإنمائية في السفارة، تو تجيوكر. كانت دياكيتي قد عرفت اسم تجيوكر، وكذلك اسم مؤسسة خيرية مقرها في هولندا، هي مؤسسة دوين، عن طريق أحد معارفها في قسم تمويل التنمية الهولندي. وكان قد قال لها إن تجيوكر كانت ستستمع إليها على الأقل. إن كان بوسع أي شخص أن ينجز الأمور، فإن بوسعها ذلك.
أخبرت دياكيتي تجيوكر بالمشكلة. تذكرت الدبلوماسية: «قالوا نود أن تساعدينا لأنه لا يزال يوجد 180 ألف مخطوطة باقية في تمبكتو ولا يمكننا إخراجها من دون المزيد من المال.» أبلغت تجيوكر أن ردة فعل الجهاديين تجاه المولد النبوي مثلت تهديدا حقيقيا، وبخاصة لأن القوات الفرنسية كانت حينئذ تجبر الجهاديين على التراجع. ثم أردفت: «بعد معركة كونا صار مقاتلو تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في غاية الغضب وقالوا: «حسنا، سنريكم. سنقيم «أوتو-دا-في» كبيرا في يوم المولد النبوي، يوم ميلاد النبي محمد.»»
كان «أوتو-دا-في» - ويعني بالبرتغالية «فعل الإيمان» - مصطلحا كان يستخدم لوصف حرق الهراطقة وأدبيات الهرطقة على يد محاكم التفتيش في أوروبا في العصور الوسطى. لكن الصدى الحديث له جاء من استخدامه لوصف عمليات إحراق النازيين للكتب. أتلفت الجمعيات الطلابية في ألمانيا النازية، تحت إشراف الجناح العسكري للحزب النازي والشوتزشتافل (وحدات النخبة النازية)، الأدب المدرج في القائمة السوداء في المحارق، وفي ذلك الكتب التي كتبها مؤلفون يهود، وهم يلقون صيغ لعن. وصف جوزيف جوبلز هذه الطقوس بأنها أفعال قوية ورمزية تمثل بزوغ فجر عصر جديد وأفول العصر القديم. اقتنعت تجيوكر بأن هذا ما كان الجهاديون ينوون الآن فعله. تذكرت تجيوكر: «المولد النبوي «حرام» في عقول الجهاديين، كما المخطوطات.» ثم أضافت: «لذلك قالوا إنه في يوم الرابع والعشرين [من يناير] سيقيمون «أوتو-دا-في» كبيرا لكل المخطوطات.»
شرح «ائتلاف» سافاما و«دي إنترناشيونال» الطبيعة العاجلة لتهديد المولد النبوي في رسالة متابعة إلى السفارة، موقعة باسم حيدرة. كان يوجد 454 خزانة كان يلزم إجلاؤها على الفور وفي سرية ، بحسب ما أبلغ الدبلوماسيون الهولنديون؛ لأن الجهاديين كانوا قد قالوا إنهم سيتلفونها. كان الفشل في نقلها سيعني أن تراث تمبكتو الثقافي، «الذي يحمل آمال شعب بأكمله وفخره»، سوف «يفقد نهائيا.» لم يكن يوجد الكثير من الوقت؛ لأن المولد كان بعد أسبوع فقط.
لم يكن لدى تجيوكر ميزانية لإنقاذ الأمور الثقافية، ولكن دياكيتي كانت قد أتت تدق بابها في لحظة مناسبة؛ إذ كانت وزيرة الخارجية الهولندية، ليليان بلومين، قد أرسلت حالا رسالة قصيرة إلى السفارة تسأل عما بوسع الحكومة فعله لمساعدة مالي، وكانت تجيوكر مقتنعة بأن هذا هو ما ينبغي فعله. أخبرت دياكيتي بأنها ستحاول أن تعرض على وزارة الخارجية الأسباب التي ينبغي من أجلها تمويل عملية الإجلاء، وكتبت في ذلك اليوم مخاطبة رئيسها المباشر في لاهاي. كان الرد الذي جاء بين عشية وضحاها غير مفيد. قالت تجيوكر: «كان، كما تعرف، «إن الأمر معقد بعض الشيء».» غضبت جدا لدرجة أنها اتصلت بالسفير، مارتن بروير، الذي طلب منها أن تخاطب بلومين مباشرة.
تذكر بروير: «قلت: «حسنا، أرسلي [الطلب] مباشرة إلى الوزيرة واتصلي بسكرتيرة الوزيرة، وقولي لها إن هذا أمر ينبغي أن يكون على مكتبها أو في حقيبتها لأننا بحاجة حقا إلى رد سريع.»» فعلت تجيوكر كما اقترح بروير، متجاوزة التسلسل الهرمي الوزاري المعتاد. في الصباح التالي، الموافق السابع عشر من يناير، منحتها بلومين موافقتها على العملية. قالت تجيوكر: «قالت: «حسنا، لنفعلها».»
كان يتعين أن يظل المشروع سريا للغاية: «قلت [لبلومين]: «يجب ألا تطلعي أي أحد على الأمر؛ يجب أن يبقى سريا جدا؛ لأنه إن صار علنيا فسيبادر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بردة فعل ويعرقل عملية الإنقاذ التي ستقوم بها سافاما ... إن الأمر في غاية السرية ويمكن أن تعلنيه على الملأ بعد أربعة شهور أو خمسة ولكن ليس الآن؛ عليك أن تلتزمي الصمت.»» أخذت بلومين مناشدة تجيوكر لها بالصمت مأخذ الجد، حتى إنها نقلت الأمر إلى سفيرها. قالت لبروير: «دعنا لا نتحدث عن الأمر حتى يتم.» وصل الأمر إلى درجة أن السفارة سجلت الأموال في سجلاتها على أنها من أجل دفاتر مدرسية حتى تخفي الغرض الحقيقي من التبرع.
منحت وزارة الخارجية الهولندية 323475 يورو لسافاما. عندما أضيف هذا إلى الخمسة والسبعين ألف يورو من مؤسسة دوين والمائة ألف يورو من صندوق الأمير كلاوس، كان مجموع المبلغ الذي تبرع به الشعب الهولندي قد وصل حينئذ إلى ما يقارب نصف مليون يورو. أرسل رئيس تجيوكر المباشر المعارض للأمر في مكتب أفريقيا رسالة بريد إلكتروني يقول فيها إنه قد تلقى أمرا بتقديم المساعدة، وفي عصر ذلك اليوم بدأت الترتيبات تتخذ. توجهت إلى قسم الشئون المالية وقالت لهم: «حسنا، لدي مهمة سرية للغاية. كيف يمكننا أن نفعل الأمر؟» وظلت تعمل حتى وقت متأخر من الليل لتنجز الأعمال الورقية. كانت سافاما قد أخبرتها بأنه إن كان بوسعها أن تجهز عقدا بسرعة، فيمكن استخدامه لاقتراض أموال لتمويل العملية. تذكرت تجيوكر: «في غضون يومين كنا قد جهزنا العقد، وكل الأعمال الورقية، وأمكننا توقيع العقد مع عبد القادر بحيث كان سيحصل على المال في غضون أسبوع.» ثم أردفت: «كان يعمل بحسب موعد نهائي؛ لأنه كان يوجد الكثير جدا من المخطوطات التي كان يتعين نقلها.»
في ذلك السبت، الموافق التاسع عشر من يناير، أخذت تجيوكر العقد إلى رجل المكتبات من أجل أن يوقعه. التقت به في مخزن باماكو حيث كانت المخطوطات تستلم وترسل إلى المنازل الآمنة. تذكرت أنه بدا وكأنه لم يغتسل، و«متعبا جدا»، ومن أجل أن ترفع من معنوياته أخبرته بأن العمل الذي كان يقوم به «مهم جدا للإنسانية كلها.» نص العقد على أنه سيخرج 454 خزانة، تحتوي على نحو 136200 مخطوطة، وهو ما جعل تكلفة نقل كل خزانة تبلغ مبلغا ضخما يعادل 660 يورو، على الرغم من هذا كان يتضمن التخزين في باماكو لمدة عام، ووضع قائمة موجودات، بقيمة 212 يورو لكل خزانة، و10 بالمائة «رسوما إدارية» لسافاما ودي إنترناشيونال. كانت ال 454 خزانة جزءا من مجمل 709 خزائن قيل للهولنديين إنه كان يتعين إخراجها.
قالت تجيوكر: «في نهاية ذلك الأسبوع كان عدد كبير من القوارب، حوالي عشرين، قد بدأ بالفعل في مغادرة تمبكتو.» كان من الممكن أن يحملوا كل المخطوطات دفعة واحدة في أحد قوارب نهر النيجر الأكبر حجما، ولكن بدلا من ذلك وضعوا عشرين خزانة أو نحو ذلك فقط على كل قارب، لتقليل مخاطرة حدوث خسارة كارثية. بعد ذلك انطلقت القوارب في رحلة بطول 250 ميلا في عكس مجرى النهر، عبر الدلتا الداخلية وبحيرة ديبو، إلى موبتي، حيث اتجهوا جنوبا في نهر باني مسافة سبعين ميلا أخرى إلى جني. وهناك انتقلت المخطوطات إلى عربات أجرة أدغال والتي أخذتها الثلاثمائة والخمسين ميلا الأخيرة إلى باماكو برا. قالت تجيوكر: «في جني كان يوجد أكثر من خمسين شاحنة صغيرة، بل حتى مائة، كانت ستأخذ صناديق المخطوطات.» كانت هذه الشاحنات عادة من ماركة تويوتا، وحملت في الخلف في كل مرة صندوقين أو ثلاثة من الصناديق الثقيلة، مغطاة ببضائع أخرى، كالتبن، والبطاطس، والحبوب، لإخفائها.
قالت تجيوكر: «كان يوجد الكثير من الشاحنات الصغيرة.» ثم أردفت: «لذلك كانت العملية باهظة التكلفة جدا.» •••
كانت هذه المرحلة النهرية من العملية هي المرحلة التي، بحسب ما ذكر حيدرة ودياكيتي، حدثت أثناءها الواقعة المتعلقة بطائرة الهليكوبتر.
في هذا الوقت كان عمال وقادة مراكب نهر النيجر الناقلة للمخطوطات مذعورين من الطائرات الفرنسية. تذكر قادة المراكب من أمثال حاسيم تراوري من شركة نمبر وان للنقل رؤيتهم لطائرات الهليكوبتر وهي تحلق فوق النهر ليلا حتى إنها كانت تقترب منهم. تذكر تراوري أن أنوارها كانت تبدو «مثل نجم، لكنه كان يومض وينطفئ.» ثم أردف: «شعرنا بخوف شديد جدا. وأصاب الهلع كثيرين؛ لأن الناس كانوا يقولون إنه إذا لم يعرف الفرنسيون من نحن، فقد يقذفوننا بالقنابل؛ لذا شعرنا بفزع شديد.» بحسب ما ذكرت تجيوكر، ذهبت دياكيتي وحيدرة لمقابلة قائد عملية سيرفال ليطلبا عدم استهداف القوارب التي كانت تحمل المخطوطات؛ وإن كان هذا صحيحا، فيبدو أن الرسالة لم تصل إلى الطيارين. لم يكن الكولونيل فريدريك جوت، قائد فوج طائرات الهليكوبتر الفرنسي الذي نشر في عملية سيرفال، على دراية بأي استثناءات خاصة لقوارب نهر النيجر، وقال إنه، مع ذلك، لا داعي لأن يقلقوا؛ فبدون التأكد من وجود أسلحة على متن القوارب، لم يكن مسموحا لرجاله بالاشتباك. بالطبع، لم يكن الأشخاص المبحرون في القوارب الهشة يعرفون ذلك.
في إحدى الليالي، بحسب ما ذكر حيدرة، كانت عشرة قوارب تحمل المخطوطات مبحرة معا «في قافلة كبيرة» وكانت قد بلغت وسط بحيرة ديبو عندما أقبلت طائرة هليكوبتر للتحري، مصوبة ضوء كشاف نحوها. قال حيدرة: «شعر الأشخاص الذين كانوا على متن القوارب بالخوف من أن يتحولوا إلى لحم مفروم.» حامت الآلة الطنانة فوقهم لمدة ثلاثين ثانية، وهي تمسح القوارب بحثا عن أسلحة، قبل أن يميل بها الطيار مبتعدا. اتصل أحد الناقلين مذعورا بحيدرة في الساعة الواحدة صباحا ليخبره بأنهم كادوا يتعرضوا للقتل. قال له الرجل: «لقد مرت بنا طائرة هليكوبتر وكانت ستقذفنا بالقنابل.» أصدر حيدرة أمرا بأنه من تلك اللحظة يجب أن يتوقفوا في الساعة الخامسة مساء أينما كانوا، وألا يسافروا ليلا مرة أخرى.
تذكر حيدرة: «عرفت أنه كانت توجد أجهزة رصد في طائرات الهليكوبتر، وإن لم ترصد شيئا خطيرا فلا يمكن أن تلحق ضررا.» ثم أردف: «ولكن إن رصدت أسلحة أو شيئا من هذا القبيل، فيمكن أن تهاجم. وجدوا أنه لم تكن توجد أسلحة، لذا غادروا. ولكن لو كانت القوارب تحمل أسلحة، كانوا سيضربونها، ذلك أكيد.»
روت دياكيتي نسخة من هذه القصة لمستمعيها في أوريجون. في روايتها، قالت إن طيار طائرة الهليكوبتر الفرنسية «طلب أن يفتح الناقلون صناديقهم وإلا فسيغرقهم للاشتباه في وجود أسلحة»، لكن الطيار غير رأيه عندما «رأى أن القارب لم يكن يحمل إلا أكواما قديمة من الورق»:
كانت القوارب المليئة بالمخطوطات والناقلون عرضة لخطر أن تغرقها طائرات الهليكوبتر المقاتلة الفرنسية [التي] انسحبت وحيت رجالنا عندما خاطروا بحياتهم وبقوا في الماء، وفتحوا خزانة وأظهروا للطيارين أننا كنا نحمل مخطوطات، وليس أسلحة.
أخبرت دياكيتي مجلة «ذا نيو ريببلك» بحادثة أخرى في النهر في وقت مقارب لهذا الوقت، جرت بعد تصريح الجهاديين بأنه «كان يتعين على كبراء المدينة أن يسلموا كل المخطوطات حتى يمكن إحراقها قبل أن تبدأ الإجازة [الخاصة بالمولد النبوي].» أدى التهديد إلى إصابة القائمين على عملية الإجلاء بحالة من الذعر، وبدءوا يتصلون بكل الناقلين ويأمرونهم بأن يأخذوا الخزائن في النهر بأسرع ما يمكن. وسرعان ما كانوا قد حملوا قافلة من سبعة وأربعين قاربا، والتي بدأت بعد ذلك تبحر في طريقها إلى الجنوب. وعندما شارفوا على الطرف الجنوبي لبحيرة ديبو، بحسب ما أوردت مجلة «ذا نيو ريببلك»، وقعت كارثة:
دخل عشرون قاربا مضيقا مائيا ضيقا. وفجأة، ظهرت مجموعات من الرجال، الذين كانت رءوسهم مغطاة بالعمائم، على جانبي النهر، وهم يلوحون بأسلحة آلية ويأمرون القوارب بالتوقف. لم يكن أمام الناقلين خيار سوى الاتجاه إلى الضفة وإيقاف قواربهم، حيث قال الرجال المسلحون إنهم سيحرقون شحنتهم إلا إذا استطاعوا أن يقدموا لهم مبلغا فلكيا من المال. جمع الناقلون المرهقون نقودهم، وساعاتهم، ونفائسهم، وأعطوها لهم، لكن هذا لم يكن كافيا.
سمح أخيرا للشباب بأن يتصلوا بحيدرة، الذي شرع في مفاوضات مع المسلحين. قالت دياكيتي لمجلة «ذا نيو ريببلك»: «أعطاهم بالأساس إقرارا بالدين.» ثم أضافت: «كان الأمر كما لو كان عبد القادر يستخدم بطاقة ائتمانه.» أطلق سراح المخطوطات والناقلين. وبعد ذلك بأيام قليلة، أرسل حيدرة إليهم المال.
تلقت تجيوكر إحاطات موجزة بهذه النوعيات من الوقائع عبر رسائل نصية. قالت: «كان من شأنهم أن يرسلوا رسالة نصية يقولون فيها «إنهم في بحيرة ديبو»؛ «لقد واجهنا مشكلة»؛ «المشكلة حلت»؛ «نحن نتابع الطريق إلى جني.»» ثم أردفت: «كانت قصيرة جدا: «القوارب في هذا المكان»؛ «مشكلة الليلة الماضية حلت»؛ «ما زلنا في طريقنا.»» تذكرت أيضا أنها سمعت قصة عن أشخاص أوقفوا الناقلين، وقالت إنهم اضطروا إلى إعطائهم مالا ليمضوا في طريقهم: «كان نوعا من السطو المسلح بالقرب من بحيرة ديبو ... كان يوجد الكثير من القوارب.»
مرة أو مرتين أثناء العملية سأل السفير بروير عن سير الأمور، وتذكر أنه أبلغ بوجود صعوبات في الطريق؛ إذ قال: «بلغتنا بعض القصص عن [خزائن] مليئة بالمخطوطات كانت تنقل بالقوارب وأن الأمر كان ينفذ أثناء الليل وأنهم واجهوا مشكلات كثيرة في الطريق بسبب وجود الشرطة، والمتمردين، وما إلى ذلك.» وسمع أن القوارب قد اختطفت أو أن الناس قد هددوا بإضرام النار في المخطوطات. قال: «إن الأفراد الذين كانوا في أرض المعركة هم الذين حلوا هذه الأمور.»
عندما وصلت الخزائن إلى باماكو، اصطحب حيدرة تجيوكر لرؤيتها. قالت: «جعلني حقا جزءا من فريق استقبال كل تلك الصناديق. أراني طريقتهم في المحاسبة؛ أي الأجزاء كانت تمول من قبل مؤسسة فورد، وأيها التي كان تمول من قبل صندوق الأمير كلاوس، ومن قبل مؤسسة دوين. كان مكتوبا على كل صندوق رقم واسم الممول بحيث كانوا يعرفون من الذي دفع مقابل ماذا.» التقت ببعض الناقلين الشباب الذين رافقوا الخزائن. وأردفت: «أظن أنهم فعلوا أشياء رائعة حقا لتشتيت انتباه رجال تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، خاصة في تمبكتو، لإخراج المخطوطات منها.»
رافق السفير بروير تجيوكر في واحدة من هذه الزيارات. أحصى من خمسمائة إلى ستمائة حاوية تقريبا في الغرفة، كانت تثبت بسهولة كافية أن سافاما قد أوفت بالعقد المبرم بينها وبين الحكومة الهولندية، وقيل له إنه كان يوجد المزيد في مكان آخر.
قال: «نظرت إلى تو [تجيوكر] وقلت: «هذا كثير. هل هذه كلها ممتلئة؟» قالوا: «نعم، كلها ممتلئة.»»
ولزيادة التأكد، انتقى حتى صندوقا كان في داخل كومة في مؤخرة المخزن وقال: «حسنا، أروني ذلك الصندوق.»
تذكر قائلا: «كانت حماقة، ولكننا فعلنا ذلك بالفعل.»
عندما فتحت الخزانة، رأى أنها كانت مكدسة حتى حافتها بالمخطوطات.
الفصل الرابع عشر
ثقالة أوراق الملك ليوبولد
1865-1905
على الرغم من أن بارت وشربونو كانا قد توصلا إلى أدلة واضحة على أن الناس عبر الصحراء كانوا قد أفرزوا حضارات ملمة بالقراءة والكتابة، فقد كانا يسبحان عكس تيار الفكر السائد في أواخر القرن التاسع عشر. وكانا سيغرقان قريبا.
في نهاية تقريره الخاص بالتوصيات المكون من سبع عشرة صفحة والموجه إلى الجمعية الدولية لقمع العادات المتوحشة، يكشف السيد كورتز، تاجر العاج والبطل المحوري المضاد في رواية جوزيف كونراد القصيرة «قلب الظلام»، عن عدائه الكامن، مشخبطا بيد مرتعشة محمومة: «يجب القضاء على جميع المتوحشين!» كان منطق كورتز الذي يبرر قتل أهل أفريقيا وسرقة مواردهم هو أننا نحن البيض، الذين كنا متقدمين للغاية،
يتحتم علينا الظهور أمامهم [المتوحشين] وكأننا كائنات خارقة للطبيعة؛ يجب أن نبدو لهم كآلهة ... ببعض الإرادة من جانبنا، نستطيع صنع خير لا حد له.
استندت رواية «قلب الظلام» على ما كان كونراد قد رآه بصفته القائد بالوكالة للسفينة البخارية «روا دي بيلج» (ملك البلجيك) في عام 1890 في دولة الكونغو الحرة، الإقليم الذي حقق به ليوبولد الثاني ملك بلجيكا رغبته الطويلة الأمد في حكم مستعمرة. في الكونغو تحت سيطرة ليوبولد، كان من شأن جيش خاص، عرف باسم «القوة العامة»، أن يجعل الناس يجردون أرضهم من ثروتها الطبيعية، بالأساس المطاط والعاج، من أجل إثراء بروكسل. وإذا لم يفوا بالحصص المطلوبة منهم، كان الرجال يقتلون، وتغتصب النساء، وتقطع أطراف الأطفال، وتحرق القرى. قدر عدد من قتلوا في الإقليم نتيجة لحكم ليوبولد بعشرة ملايين، أو تقريبا نصف عدد السكان.
مما لا شك فيه أن جوزيف بانكس كان سيصاب بالذعر عندما يعلم بحجم وحشية الملك البلجيكي في وسط أفريقيا، لكنها كانت من نواح كثيرة امتدادا حتميا للنهج الذي كانت الرابطة الأفريقية قد بدأته؛ مثال متطرف لنمط كان يتكرر في الأراضي المكتشفة في كل مكان من الأمريكتين إلى أسترالاسيا والمنطقة القطبية الشمالية. كانت حقبة الاستكشاف قد انتهت؛ وحلت الآن حقبة الاستغلال. ولكن أولا كان يتعين على القوى العظمى أن تستولي على الأقاليم الأفريقية، وفي أواخر القرن التاسع عشر كان ذلك هو ما فعلته بالضبط. في عام 1870 كانت نسبة 10 بالمائة تقريبا من القارة تحت سيطرة قوة استعمارية. بحلول عام 1914، لم تكن نسبة 10 بالمائة فقط كذلك.
كانت القوة الدافعة للإمبريالية الجديدة جزئيا مالية. في سبعينيات القرن التاسع عشر توقف نمو العديد من الدول الغربية؛ وكان من شأن أوضاعها الاقتصادية أن تظل راكدة لأكثر من عقدين. كانت ثمة حاجة إلى أسواق جديدة ومواد خام، وكانت أفريقيا تمتلك كليهما. تزامنت هذه الحتمية مع ذروة للعنصرية الأوروبية، عززتها أعظم فجوة تكنولوجية شهدها التاريخ على الإطلاق بين العالم الصناعي وأفريقيا، وشجعت عليها نخبة مثقفة قام فكرها على تسلسلات هرمية للعرق تطورت أثناء عصر التنوير. أما القلة الذين كانوا قد زاروا بالفعل أجزاء من القارة أو درسوها، فكانت محاولتهم مقاومة هذا التحول الفكري مستحيلة. كان بارت قد رفض بسطحية من قبل الأكاديمية الملكية للعلوم في برلين لكونه «مغامرا» وليس عالما؛ ولكن إلى أي حد يكمن قرار الأكاديمية في رفضها لروايته لمشاهداته في غرب السودان؟ كانت نظرة المؤسسة الألمانية إلى أفريقيا لا يزال يهيمن عليها تفكير جورج هيجل، الذي كان قد أعلن في أوائل القرن أنها «ليست جزءا تاريخيا من العالم؛ فهي ليس فيها حركة أو تطور يمكن عرضهما.» رفضت الأدلة الواضحة على وجود حضارة هناك، كتلك الموجودة في قرطاج أو مصر، باعتبارها ليست أفريقية على النحو السليم؛ فهي لم تكن «تنتمي إلى الروح الأفريقية.» كانت النتيجة أن «ما نفهمه على نحو سليم من كلمة أفريقيا هو الروح التي لا تاريخ لها ولا تطور، التي لا تزال منغلقة في حالة الطبيعة المحضة ... على عتبة تاريخ العالم.»
لم يكن هيجل أول ولا آخر مفكر أوروبي يسقط القارة وسكانها. في خمسينيات القرن التاسع عشر، كتب عالم الأجناس البشرية جوزيف آرثر جوبينو عمله المهم في علم العنصرية المزعوم، «التنوع الأخلاقي والفكري للأجناس»، الذي اشتمل على تسلسل هرمي عنصري كامل فيه البيض من ذوي الأصل الأوروبي في القمة وذوو البشرة الداكنة في القاع. كتب جوبينو أنه ربما يكون مستكشفون مثل بارك قد «منحوا بعض الزنوج شهادة بامتلاكهم لذكاء شديد»، ولكن كان من غير اللائق استخلاص استنتاجات علمية من لقاءات عرضية مع قلة من الأفراد ذوي الذكاء. كانت الهيئة العامة لجسم الأجناس السوداء دليلا على دونية عرقهم؛ إذ كان لعظام الحوض لديهم «طابع حيواني» بدا وكأنه «ينبئ بمصيرهم»، بينما كانت جباههم «ضيقة ومنحسرة»، وهذه علامة على أنها كانت «أقل في القدرة على التفكير.»
بدأت النظرية العنصرية في التغلغل في كل جانب تقريبا من جوانب التفكير الأوروبي بشأن أفريقيا، وفي ذلك الاستكشاف. في عام 1874، ذكر المستكشف البريطاني صامويل بيكر:
في هذا الإقليم الهمجي [في وسط أفريقيا] ... لا نجد أي آثار من الماضي؛ فلا توجد أي عمارة قديمة، ولا نحت، ولا حتى حجر محفور يثبت أن الهمجي الزنجي في يومنا هذا أدنى في المرتبة من سلف بعيد ... لذلك يجب أن نستنتج أن أجناس الإنسان التي تسكن الآن [هذا الإقليم] لم تتغير عن قبائل ما قبل التاريخ التي كانت تمثل السكان الأصليين.
كان من شأن هذه العقلية أن تستمر وصولا إلى عمق القرن العشرين. في عام 1923، سيكتب المؤرخ البريطاني الرائد إيه بي نيوتن أن «لم يكن لأفريقيا عمليا أي تاريخ قبل مجيء الأوروبيين ... لأن التاريخ يبدأ فقط من الوقت الذي يعتاد فيه البشر الكتابة»، متجاهلا تجاهلا تاما مجموعة الأدلة المتزايدة التي تثبت العكس. بعد ذلك بخمس سنوات، سيصادق ريجينالد كوبلاند، أستاذ كرسي بيت للتاريخ الاستعماري بجامعة أكسفورد، على ما ذكره نيوتن، مؤكدا أنه حتى القرن التاسع عشر، كان القوام الرئيسي للأفارقة «قد ظل، لقرون لا تحصى، غارقا في البربرية ... لقد ظلوا في حالة جمود، فلا تقدموا إلى الأمام ولا تراجعوا للوراء. لا يوجد مكان في العالم، عدا ربما في بعض المستنقعات المنتنة في أمريكا الجنوبية أو في بعض جزر المحيط الهادئ المنعزلة، كانت فيه الحياة البشرية بهذا الجمود. كان قلب أفريقيا بالكاد ينبض.»
كانت أفريقيا، المسلوبة من ماضيها وثقافتها، صفحة بيضاء، فراغ يمكن أن تفرض عليه المسيحية والحضارة. ومع اكتمال الأساس الفكري، كان يمكن أن يبدأ «التصارع على أفريقيا»، كما أسماه أحد كتاب الأعمدة في صحيفة «ذا تايمز» اللندنية. كان ليوبولد أحد المحرضين على عملية الاستيلاء على الأراضي هذه. يبدو الآن ليوبولد، الذي لم يكن سوى الملك الثاني لبلد كان قد تأسس في عام 1830، نوعا ما على هيئة متطرف استعماري. كان قد ظل لعقود يبحث عن إقليم فيما وراء البحار ليستولي عليه. في عام 1871، قبل أربع سنوات من اعتلائه العرش، كان قد منح وزير مالية بلجيكا المناهض للإمبريالية ثقالة أوراق مصنوعة من قطعة من رخام الأكروبول منقوشا عليها كلمات معناها «لا بد أن يكون لبلجيكا مستعمرة.» كان لديه ميل شديد للاستيلاء على جزيرة بورنيو وغينيا الجديدة. واستثمر في شركة قناة السويس ودرس خطوط السكك الحديدية البرازيلية. وأخيرا عين هنري مورتون ستانلي، المستكشف الذي قال عنه ريتشارد فرانسيس برتون ذات مرة: «إنه يطلق النار على الزنوج وكأنهم قرود»، ليجري سرا فحصا أوليا لحوض نهر الكونغو، وهو رقعة هائلة من الأرض تزيد مساحتها عن ثلاثين ضعف مساحة بلده. بنى ستانلي طرقا وعقد تحالفات، بينما حاول ليوبولد أن يقنع القوى العظمى بأن تساند اقتراح أن تستحوذ الرابطة الدولية الأفريقية التي كان قد أسسها على الإقليم. وفي نوفمبر من عام 1884، عقد أوتو فون بسمارك مؤتمرا دبلوماسيا في برلين، لحل مسألة ليوبولد من ناحية، ولوضع القواعد الأساسية لعمليات ضم الأراضي التي كانت جارية بالفعل من ناحية أخرى.
تفاوض مندوبو الوفود لمدة ثلاثة شهور، بدون وجود أفريقي واحد على الطاولة. عندما افترقوا في السادس والعشرين من فبراير من عام 1885، كان قد اعترف بالرابطة الدولية الأفريقية التابعة لليوبولد باعتبارها الجهة الحاكمة لدولة الكونغو الحرة الجديدة، مما شكل الإطار القانوني لاستيلائه على الإقليم، ووضعت الخطوط العريضة لتقسيم أفريقيا. ونص المؤتمر على أنه من أجل أن تمتلك القوى الأوروبية أقاليمها بالكامل، كان يتعين عليها أن تبدي «احتلالا فعالا»؛ بعبارة أخرى، كان يتعين أن يكون لها قوات على الأرض.
كانت تمبكتو لعقود على دراية بالتعديات الأوروبية. في عام 1830، كان جيش من أربعة وثلاثين ألف جندي فرنسي قد استولوا على الجزائر من العثمانيين، وبحلول خمسينيات القرن التاسع عشر، بعد سلسلة من الحملات على حركات المقاومة المحلية، كانوا قد غزوا معظم الإقليم المحيط. كان مئات الآلاف من «المستوطنين» قد عبروا البحر المتوسط للاستقرار في شمال أفريقيا، وكان ينتشر في الساحل حينئذ بساتين الكروم، والمزارع، والعمارة الفرنسية. في تلك الأثناء، في غرب أفريقيا كانوا قد توغلوا في المناطق الداخلية انطلاقا من قواعدهم الشديدة القدم في السنغال وخليج غينيا. كان التقدم الفرنسي هنا على هيئة مسألة ترقيع بقدر أكبر، يقودها غالبا تجار مستقلون أو ضباط جيش كان من شأنهم أن يستغلوا أي شجار لاستدعاء زوارق حربية أو كتائب عسكرية، وعندئذ كان القادة المحليون يجبرون على توقيع معاهدات التنازل عن الأراضي. شيئا فشيئا، كانت باريس قد بسطت سيطرتها على غينيا، وداهومي، وكوت ديفوار، وفولتا العليا، وأجزاء من وادي نهر النيجر.
وعلى الرغم من علم قادة تمبكتو بكل هذا، كانوا سيشعرون بالمفاجأة عندما يعرفون أنهم على وشك أن يصبحوا جزءا من فرنسا. •••
طيلة مائة عام، كانت القوة الدافعة للاستكشاف الأوروبي في تمبكتو ونهر النيجر هي جمعيات الاستكشاف، والجغرافيين، وحفنة من المستشرقين. لم تعد دراسة أفريقيا حينئذ تخصصا جديرا بالفكر الأكاديمي. لم تنشئ أي جامعة أوروبية كراسي أستاذية في تاريخ القارة أو لغاتها؛ فإذا لم يكن لأفريقيا حضارة، فما المغزى من إنشائها؟ كانت دراسة الماضي تعتمد على المواد المرجعية المكتوبة، وبما أن أفريقيا لم تكن تمتلك أيا من ذلك، فلم يكن يوجد ما يمكن البحث فيه. في العقود التالية، كان دور استكشاف ثقافة أفريقيا سيقع في المقام الأول على عاتق الجنود، والضباط الاستعماريين، والصحفيين.
أثارت أماكن قليلة في القارة حماس الجيل الجديد من الإمبرياليين الفرنسيين أكثر من تمبكتو. ولم تكن خيبة أمل كاييه سببا في تثبيط الفضول الأوروبي بشأن المدينة، أو الاعتقاد بالثراء الجوهري للمنطقة. وجرت عدة محاولات فاشلة للوصول إليها في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر. في عام 1884، شيدت سفينة خصيصى من أجل أن تشق طريقها في نهر النيجر؛ وغرقت في جني في عام 1885، وانتشلت، وانطلقت مجددا في طريقها إلى تمبكتو في عام 1886، عندما أجبرت أخيرا على التراجع بعد تعرضها لهجوم من مجموعة من الطوارق.
حتى عندما حاول رؤساؤهم في وزارة المستعمرات في باريس منعهم، كان من شأن كبار الضباط التوسعيين الساعين إلى ترقية أن يأخذوا على عاتقهم مهمة التوغل في عمق غرب أفريقيا. كان أكثر هؤلاء العسكريين عدوانية هو الكولونيل لوي أرشينار، قائد القوات الفرنسية في السودان من 1888 إلى 1893. في هذا الوقت كانت منطقة النيجر الوسطى تحت سيطرة إمبراطورية التكرور الإسلامية. لخص سلف أرشينار، جوزيف جالياني، المواقف الفرنسية تجاه سلطان التكرور، أحمدو سيكو، حيث ذكر أنه «يجب علينا أن ننظر إلى كل هؤلاء الزعماء باعتبارهم أشخاصا يجب تدميرهم وجعلهم يختفون في القريب العاجل.» في أبريل من عام 1890، شن أرشينار هجوما غير مبرر على عاصمة التكرور في سيجو، التي سقطت دون مقاومة. وبينما كان رجاله ينقبون في ممتلكات أحمدو بحثا عن ثروته الشهيرة (التي لم تكن بقدر ما أشيع عنها)، وجدوا عددا كبيرا من المخطوطات. تكشف رواية أرشينار عن ذلك اليوم عن عدم وجود اهتمام بهذه الوثائق، ومع ذلك استولي عليها وشحنت في أربعة صناديق. وظلت في مستودع إمدادات استعماري حتى نهاية عام 1892، ثم أعطيت لمكتبة فرنسا الوطنية في باريس. وبقيت هناك، دون أن تمسها يد، لأعوام عديدة.
بعد سحق التكرور، استمر أرشينار في التوغل صوب تمبكتو، مخالفا الأوامر المباشرة من رؤسائه في باريس. في أبريل من عام 1893 استولى على جني بعد قتال عنيف، وسقطت موبتي في وقت لاحق من ذلك الشهر دون مقاومة، لكن تحولا سياسيا رافضا للتوسع العسكري كلف أرشينار أخيرا منصبه. تولى الآن ضابطان فرنسيان متنافسان - المقدم أوجين بونييه والنقيب البحري هنري بواتو - الراية في هذا السباق الجديد إلى تمبكتو، في عصيان لأوامر صريحة من بديل أرشينار، الذي كان في طريقه قادما من فرنسا. كان بواتو هو المتقدم من البداية؛ فبعد أن أخذ زورقين حربيين وفرقة من الجنود مبحرا مع مجرى النهر، دخل تمبكتو في السادس عشر من ديسمبر من عام 1893. أما بونييه الغاضب، الذي كان طوال حياته يطمح إلى غزو المدينة، فوصل بعد ذلك بشهر إلى المنطقة مع رتل من القوات الاستعمارية. وبالقرب من جوندام، تعرض الرتل لهجوم ليلا من الطوارق، وذبح بونييه، وعشرة من ضباطه، ومترجم، وضابطا صف أوروبيان، وثمانية وستون جنديا سنغاليا. كان يتعين حينئذ إعادة الاستيلاء على المدينة ومعاقبة الطوارق، وهما مهمتان أنجزهما بكفاءة الميجور جوزيف جوفر، الذي تقدم على امتداد الضفة اليسرى لنهر النيجر من سيجو، وقتل مائة من الطوارق، واستولى على ألف وخمسمائة رأس من ماشيتهم. نال جوفر ترقية عن عمله، ولم تكن تلك هي المرة الأخيرة؛ ففي عام 1914 أصبح القائد العام للقوات الفرنسية في الجبهة الغربية.
أثار الاستيلاء على تمبكتو وإحجام الضباط الفرنسيين في غرب السودان عن إطاعة الأوامر غضبا شديدا في باريس، حيث كانت الحكومة منقسمة بين فصائل موالية للجيش وأخرى موالية للمدنيين. ومع ذلك كان الاحتلال أمرا واقعا. ووافقت عليه وزارة المستعمرات بشرطين: الأول، أن يمكن الحفاظ عليه من دون مخاطرة؛ والثاني، ألا يكبد الحكومة أي تكلفة إضافية. •••
كان فيليكس دوبوا ابن طاه معروف أمضى عشرين عاما يطهو للقيصر. أثبتت صلات أبيه بين ذوي المراتب العليا في المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر نفعها لفيليكس عندما بدأ مسيرته المهنية صحفيا، لكن مغامراته في عالم الأدب كانت أكثر قيمة؛ كتب والد دوبوا سلسلة موسوعية من كتب الطهي الأكثر مبيعا، وأبقت عائدات حقوق التأليف، من وصفات لأطباق مثل أمخاخ الأغنام في صوص الريمولاد ولحم قدم العجل «بالطريقة الجنيفية»، فيليكس واقفا على قدميه ماديا كلما كان دخله الآخر يوشك أن ينضب. بحلول عام 1894، في الثانية والثلاثين من عمره، أصبح فيليكس مراسلا أجنبيا معترفا به، بعد أن كتب تقارير صحفية غنية بالتنوع لصحف باريس من فيينا وبرلين، ومن حملة هنري بروسلار فيدرب الاستكشافية إلى فوتاجلون. كان من الطبيعي جدا، عندما وصلت أخبار غزو تمبكتو إلى أوروبا، أن يلجأ إليه رئيس تحرير صحيفة «لو فيجارو» الباريسية ليعطيه تقريرا إخباريا من هذه الجوهرة الجديدة الغريبة في تاج فرنسا.
رسا المراسل في داكار في أغسطس من عام 1894 وبعد استكشاف الساحل، بدأ يشق طريقه شرقا. لم يعد الطريق إلى تمبكتو يحمل الأخطار التي كان قد واجهها بارك وكاييه؛ ارتحل دوبوا مخترقا الداخل الأفريقي تحت حماية السلطة الفرنسية، على طرق إمدادات أنشئت من أجل القوات المسلحة وحتى على السكة الحديدية الجديدة التي كانت قد بنيت بين داكار وسان لوي. توقف في جني، حيث أثار حماسه أن يعثر على مخطوطات، من بينها نسخة كاملة من كتاب «تاريخ السودان»، والتي نسخها، وعمارة سودانية مذهلة. أقنعه هذان الاكتشافان بأن حضارة سونجاي، التي أظهرت هذا «الذكاء والعلم»، لا بد أنها أتت من مصر القديمة. من جني شق طريقه شمالا في النهر، عازما، كما كتب لاحقا، على أن «يميط تماما اللثام الذي أخفى السودان عنا لزمن طويل جدا.» ارتحل الأميال القليلة الأخيرة من كابارا في حراسة مسلحة، وعندما ارتفع المسار الرملي إلى قمة كثيب رملي، وقعت عيناه لأول مرة على هدفه، الذي بدا له على صورة «سماء شاسعة وبراقة، وامتداد شاسع وبراق من الأرض، والمعالم الكبيرة للمدينة توحد الاثنين. إنها صورة ظلية قاتمة، ضخمة، وطويلة، صورة تنم عن العظمة والضخامة - هكذا ظهرت «ملكة السودان.»»
عند دخوله إلى المدينة، عاد بسرعة إلى الواقع. كانت تمبكتو في يناير من عام 1895 «مأساوية»، تكاد أن تكون خرابا. حتى منزل الشيخ البكاي، الذي كان رجلا «معروفا في سائر أنحاء أوروبا، وفي سائر أنحاء العالم، وتبادلت ملكة إنجلترا معه المراسلات»، كان حطاما، مع وجود بقايا ضئيلة للعقل المتوقد بالذكاء الذي كان يسكن فيه يوما ما. كانت أبنية المدينة في حالة سيئة لدرجة أن دوبوا فكر في التخييم خارجها، قبل أن يجد مرشده منزلا يرضيه. في اليوم التالي بعث برسائل تقديمية كان قد حصل عليها في جني، داعيا علماء المدينة لزيارته. بينما كان يتبادل الحديث مع هؤلاء الرجال، موجها إليهم أسئلة عميقة بحثا عن معلومات تاريخية، وإذ أطلعوه على المزيد من المخطوطات، أخذ رأيه يتغير من جديد تغيرا كاملا. لم تكن أمجاد تمبكتو في نهاية الأمر وهما؛ كانت فقط تكمن في أفق الماضي البعيد. تبدد المشهد البائس الذي استقبله شيئا فشيئا، ومن دون أن يطأ بقدمه الشارع بعد، تشكلت تمبكتو جديدة أمامه:
كان من الواضح أن سرا كان يحوم حول تمبكتو الغامضة. كانت لدي العينان اللتان أبصرتا ذلك؛ وأخيرا استعدت صورة المدينة العظيمة، تمبكتو الغنية التي تحاكت عنها الأساطير .
كان الصحفي قد عثر على سبقه الصحفي.
لم يكن كاييه مخطئا؛ كانت ملكة السودان كئيبة وباهتة ظاهريا. ولكن بالتنقيب عميقا في مخطوطاتها، التي كانت فقط ما بقي من المكتبات البديعة التي كانت قد نهبت بالفعل على يد إمبراطوريتي الفولاني والتكرور من منحنى نهر النيجر، أماط دوبوا اللثام عن «تمبكتو المقدسة، المثقفة، حاملة مشعل المعرفة في منطقة نهر النيجر.» هكذا كان بهاء المدينة أثناء ماضيها الذهبي لدرجة أن «تخيلاتنا لا تزال منبهرة بانعكاساته، بعد ثلاثة قرون من أفول نجمها.» وسارع بعقد مقارنات بينها وبين أوروبا؛ كان سانكوري، مركز نشاط مثقفي المدينة، تشبه كثيرا الحي اللاتيني في باريس، وشكلت مدارسها «جامعة سانكوري» - وهو مصطلح صاغه دوبوا - التي كان أساتذتها «يذهلون أعظم علماء الإسلام بسعة اطلاعهم.»
لم تكن تمبكتو نواة السودان الفكرية الكبرى فحسب ... كانت أيضا واحدة من أعظم المراكز العلمية للإسلام نفسه؛ إذ كانت جامعتها الشقيقة الصغرى لجامعات القاهرة، وقرطبة، وفاس، ودمشق. لا تدع لنا مجموعتها من المخطوطات القديمة مجالا للشك في هذه النقطة، وهي تسمح لنا بأن نعيد بناء هذا الجانب من ماضيها بأدق تفاصيله.
وكتب أنه على النقيض من جامعي الكتب الأوروبيين البخلاء في العصر الحالي، كان علماء تمبكتو الواسعو المعرفة يجدون متعة حقيقية في مشاركة أثمن مخطوطاتهم مع الآخرين؛ كانوا ديدان كتب «بأفضل ما تعنيه الكلمة.» تخيل دوبوا هؤلاء العلماء وهم يفتشون بشغف عن مجلدات لم تكن بحوزتهم ويصنعون نسخا عندما يكونون أفقر من أن يشتروا ما أرادوا. بهذه الطريقة زادوا مجموعاتهم من الكتب إلى ما بين سبعمائة وألفي مجلد. كان من بينها أعمال في الشعر والخيال، ومؤلفات «من نوع غريب على الأدب العربي»، من بينها أعمال العالمين الشهيرين الحريري والحمداني. وجد نسخة من «كتاب تحفة الألباب ونخبة الإعجاب»، وهو عبارة عن مجموعة من الأسفار والأساطير ألفه أبو حامد الغرناطي في الموصل في القرن الثاني عشر. كتب دوبوا: «كانت الأعمال التاريخية والجغرافية من المغرب، وتونس، ومصر معروفة في تمبكتو، وكانت العلوم الخالصة متمثلة في كتب عن الفلك والطب.» باختصار ، يمكن القول إن مكتبات تمبكتو كانت تشتمل تقريبا على مجمل الأعمال المكتوبة بالعربية.
وذكر أن الجانب الأعظم من مجموعات تمبكتو كان «غير مثير لاهتمامنا تماما»؛ لأنه كان يتألف من دراسات فقهية وشرعية ونصوص إسلامية جادة، لكن جزءا ضئيلا من مجموعات تمبكتو الأدبية كان «في غاية الأهمية»؛ إذ كان يحتوي على «تلك الأعمال التاريخية التي ألقت قدرا كبيرا من الضوء على الماضي المجهول لهذه المناطق الشاسعة.» كان من أهم هذه الأعمال كتاب «تاريخ السودان»، لكنه وجد أيضا كتب تاريخ أخرى: «ديوان الملوك في سلاطين السودان» مجهول المؤلف، الذي وصف تاريخ المدينة من عام 1591 وما بعده، و«تذكرة النسيان في أخبار ملوك السودان»، وهو عبارة عن إعادة ترتيب لكتاب «ديوان الملوك» على هيئة قاموس تراجم. ولكن كانت كتب المدينة كلها ذات قيمة كبيرة جدا حتى إن دوبوا لم يتمكن من شراء كتاب واحد.
لم يكن أعظم اكتشاف أدبي لدوبوا عبارة عن مخطوطة على الإطلاق، وإنما مجرد شائعة. أخبره أحدهم عن كتاب دعاه «تاريخ الفتاش»، وهو «تأريخ لممالك جاناطا [غانا]، وسونجوي [سونجاي]، وتمبكتو، منذ نشأتها وحتى عام 1554»، الذي كتبه العالم محمود كعت. كان من شأن العثور على هذه الوثيقة أن يكون ذا قيمة لا تقدر بثمن، ولكن مع أنه سأل الكثير من الناس في تمبكتو، لم يطلع إلا على شذرات من هذا الكتاب. كان جميع الناس في المدينة يعرفونه، ولكن لم يقر أي واحد بأنه يمتلكه. كان، كما استنتج، «كتاب السودان الشبح.»
أخبر قاضي تمبكتو أحمدو سنسريف، الذي زعم أنه من نسل كعت، دوبوا بأنه كان يوجد سبب لعدم وجود نسخ يمكن العثور عليها:
لم يكن كتاب «الفتاش» مشتهرا على الإطلاق ككتب تاريخ السودان الأخرى لأنه تناول أحوال الكثير من الشعوب والكثير من الناس. أظهر الكتاب أن العائلات، التي ازدادت ثراء ونفوذا منذئذ، وزعماء البلدان المختلفة، كانوا من أصول متواضعة، وأنهم أحيانا كانوا نسل عبيد. لهذا السبب تسبب الكتاب في قدر عظيم من الإزعاج للكثير من الناس، واشترى أصحاب الشأن أولئك كل النسخ التي استطاعوا الحصول عليها وأتلفوها.
كان من بين أولئك الذين قيل إن الكتاب أزعجهم الشيخ أحمد لوبو، مؤسس إمبراطورية ماسينا الفولانية، الذي كان قد أمر بقتل لينج في عام 1828. كان لوبو قد نصب نفسه الخليفة الثاني عشر، آخر خلفاء النبي محمد، والذي كان قد تنبأ بمجيئه. لكن كتاب «الفتاش»، الذي كتب قبل تأسيس إمبراطورية لوبو بقرون، أغفل ذكره في قائمة النبوءات التي وردت فيه. تفكر دوبوا متسائلا: هل من المحتمل أن يكون الفولاني قد أتلف نسخ كتاب «الفتاش» لمنع الكتاب من فضح كذبة لوبو؟
أخبر سنسريف دوبوا بأن المخطوطة الأصلية من كتاب «الفتاش» قد فقدت في ملابسات غير معتادة. كانت قد ورثته إحدى عماته الكبريات، التي عاشت في قرية تيندرما مسقط رأس كعت، على بعد ستين ميلا جنوب غرب تمبكتو. ولكي تحافظ على الكتاب المثير للجدل، وضعته في صندوق خشبي ودفنته تحت ربوة صغيرة بالقرب من منزلها. كانت امرأة مشهورة وذكية ولديها موهبة في الحديث، وكثيرا ما كان الناس يأتون لزيارتها، وأحيانا يسألونها عما كان تحت الربوة. كانت تجيب دوما بنفس الطريقة. كانت تقول: «إن [محمود كعت]، أخي الجليل، هو المدفون هناك»، وعندئذ كان أصدقاؤها لا يغفلون أبدا أن يتمتموا بدعاء قصير له على الربوة؛ لأن كعت كان يشتهر بالتقوى والحكمة.
في نهاية المطاف أصبحت على علاقة طيبة برجل من الفولاني وأخبرته بسر ما كان مدفونا تحت الأرض. هرع الرجل على الفور إلى لوبو ليخبره بشأن النسخة الكاملة من كتاب «الفتاش»، وبعد ذلك بفترة وجيزة أرسل السلطان رجاله ليستخرجوا الوثيقة الثمينة. وبينما كانوا عائدين في النهر إلى العاصمة، «انقلب زورق حامل الكتاب الذي لا يقدر بثمن.» واختفت المخطوطة في مياه نهر النيجر وضاعت من العالم إلى الأبد. •••
سرعان ما أضفت توصيفات دوبوا للعصر الذهبي لتمبكتو الحيوية على صفحات صحيفتي «لو فيجارو» و«لاليستراسيون»، مصحوبة بصور للبلد الذي كان قد ارتحل عبره. نشر السرد الكامل لرحلته على هيئة كتاب في فرنسا في عام 1897. صيغ كتاب «تمبكتو الغامضة» بحرفية لتلبية شهية العامة للأدب الاستعماري، مستحضرا رؤية رائعة عن أرض أوروبية حديثة العهد. على يد دوبوا، تحررت المدينة من طريقة كاييه الفاضحة للزيف ومن ملاحظات بارت القاسية واستعادت مكانتها الشعرية المرتفعة. معيدا صياغة الاستعارة التي استخدمت ذات يوم على يد منافس وارينجتون في طرابلس، البارون روسو، حول دوبوا تمبكتو إلى أنثى مثيرة تنتظر أن «يماط عنها النقاب.» كان من شأن المؤلف أن يعري بجرأة «ملكة السودان» داكنة البشرة أمام أعين جمهوره، وكان من شأن لمحات العجائب الكامنة أن تسلب لب القارئ. وحقق الكتاب نجاحا ساحقا.
وهب دوبوا كتاب «تاريخ السودان» الذي كان قد جلبه من جني للمكتبة الوطنية الفرنسية، حيث انضم إلى المجلدات البالغ عددها 518 مجلدا التي كان أرشينار قد نهبها من سيجو، وفي ذلك نسخة أخرى من كتاب «تاريخ السودان». أرسلت كلتا النسختين في ذلك الوقت إلى المستشرق البارز أوكتاف هودا في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس. مستعينين بالمخطوطتين، بدأ هودا ومعاونه إدمون بينوا في تجميع نسخة عربية من الكتاب التاريخي، ونشراها في عام 1898. وفي عام 1900 أصدرت ترجمة فرنسية، مدعومة بوصول مخطوطة ثالثة اكتشفها المستكشف لوي توتين. كان من شأن هذا العمل، جنبا إلى جنب مع كتاب دوبوا، أن يبعثا حياة جديدة في أسطورة تمبكتو الذهبية.
ومما يبعث على السخرية أن مروج أسطورة تمبكتو الجديدة اعتقد بلا خجل بتفوق جنسه. كان دوبوا قد كتب عن حملة جوفر التأديبية ضد الطوارق، على سبيل المثال، أنه «يظل ضروريا من آن لآخر أن نظهر لهم أن هيمنتهم الشريرة إلى زوال، وأنهم قد وجدوا سيدهم.» ومع ذلك، فمن وجهة نظر المؤرخين الاستعماريين، كان من الممكن في نفس الوقت الإشادة بالإمبراطورية والتعجب من منجزات شعبها الذي أخضع مؤخرا. ولإضفاء الشرعية على احتلال القارة، كانت الثقافة الأفريقية قد قلصت إلى العدم؛ والآن بعد أن صارت في قبضة الأوروبيين، بدا من الممكن الإفصاح عن عجائبها على نحو آمن. وبالفعل، من وجهة نظر دوبوا، لم يكن بوسع تمبكتو أن تزدهر مجددا إلا تحت الاحتلال الفرنسي. فكتب في واحدة من فقراته الطنانة الكثيرة: «أتصور المدينة وقد صارت مركزا للحضارة والعلوم الأوروبية، كما كانت في السابق مركزا للثقافة الإسلامية.» ثم أضاف: «سوف تمتد مجددا سمعة علمائها من بحيرة تشاد إلى جبال كونج وضفاف الأطلنطي، وسوف تعود تمبكتو مرة أخرى ملكة السودان الغنية والمثقفة التي يبشر الآن منظرها من بعيد على نحو خادع بأنها كذلك.»
كان من شأن كتاب استعماريين آخرين، حريصين على إظهار إنجازات البلدان المحتلة حديثا، أن يسيروا على خطى دوبوا. من بين هؤلاء كانت فلورا شو المثيرة للفضول، المعروفة أيضا باسم الليدي لوجارد. ولدت شو في عائلة عسكرية في وولويتش، جنوب شرق لندن، ولم تتلق تعليما رسميا، مع أنها أمضت جانبا كبيرا من طفولتها في القراءة في مكتبة الأكاديمية العسكرية الملكية. وعندما كانت في السابعة عشرة من عمرها أصبح الناقد جون راسكن راعيا لها، وشجعها على الكتابة، وأصبحت مؤلفة ناجحة إلى حد ما. ومع ذلك، كان المجال الذي كان من شأنها أن تتفوق فيه هو الصحافة: أصبحت أول امرأة تنضم إلى الطاقم الدائم لصحيفة «ذا تايمز» وفي عام 1893 عينت محررة استعمارية بها. كانت صديقة وداعمة لسيسل رودس، بل إنها حتى صاغت مصطلح «نيجيريا» في مقالة في صحيفة «ذا تايمز» في عام 1897. وبحسب ما ذكر أحد معاصريها، كانت «شابة جميلة، مهندمة، نابغة، مستقيمة، على أعلى قدر من البراعة، لديها القدرة على بذل جهد هائل في العمل، صلبة للغاية، وتتكلم وكأنها أحد قادة صحيفة «ذا تايمز».» في عام 1902 تزوجت من المفوض السامي البريطاني في شمال نيجيريا، فريدريك لوجارد، وبعد ثلاثة أعوام نشرت كتابا عن تاريخ غرب أفريقيا، هو كتاب «تابعة استوائية»، الذي جمعت فيه مجموعة هائلة من المواد المرجعية، من ضمنها كتاب «تاريخ السودان» الذي وصفته بأنه «كنز».
كانت مهمة شو التي اختارت لنفسها القيام بها في كتابها هي توضيح طبيعة المنطقة للقارئ الغربي وشرح مباهجه. وللقيام بذلك، أجرت كثيرا مقارنات جدلية بين تاريخ سونجاي والخبرات التي قد يفهمها قراؤها. وهكذا كان سجن إقليم أسكيا يؤدي «غرضا مشابها لذلك الذي كان يؤديه برج لندن»، بينما في ظل حكم خلفاء أسكيا الأكبر، «كانت حفلات الموسيقى، التي تقدم مغنين من كلا الجنسين، محل ارتياد من الكثيرين.» في كثير من النواحي، كانت إمبراطورية سونجاي متقدمة إلى حد بعيد عن أوروبا المعاصرة: فكتبت أنه كان يوجد جراحو عيون مشهورون ممن كان بمقدورهم إجراء عمليات مياه بيضاء، وكان يوجد معرفة كافية بعلم الفلك حتى إن «ظهور المذنبات، الذي كان أمرا مدهشا لأوروبا في العصور الوسطى، كان يلاحظ أيضا بهدوء، باعتباره مسألة محل اهتمام علمي، في تمبكتو.» لكن أعظم إنجاز لشعب سونجاي كان «جامعة تمبكتو»، المؤسسة التي كان دوبوا قد استحضرها من أبحاثه فيما يتعلق بالمدارس الإسلامية حول مسجد سانكوري. بحسب ما ذكرت شو، كانت الجامعة قد جعلت تمبكتو «مركزا حضاريا نشطا جدا»، أثناء العصور الوسطى السودانية.
سينظر لاحقا إلى العديد من هذه المزاعم باعتبارها مبالغات، ولكنها كانت معتدلة مقارنة بنظرية كانت قد أشيعت لأول مرة عام 1880، وهي النظرية التي أعطتها شو حينئذ مصداقية؛ القائلة بأن الماليين قد أبحروا إلى الأمريكتين قبل كولومبوس بوقت طويل، وبأن نسلهم قد ساعد في تأسيس إمبراطورية الأزتيك. يقال إن مصدر هذه القصة هو حكاية حكاها مانسا موسى أثناء رحلة حجه. عندما سئل موسى كيف صار ملكا لمالي، أجاب بأن سلفه كان قد أطلق حملة استكشافية استثنائية، مجهزا مائتي سفينة بالرجال ومائتي سفينة أخرى بما يكفي من الذهب، والماء، والزاد لأن يدوم معهم لأعوام، وأمر قائدهم ألا يعود حتى يصل إلى الجهة الأخرى من المحيط الأطلنطي. وقال موسى إنه لم يعد من هذه السفن إلا سفينة واحدة، ومعها قصة مفادها أن السفن الأخرى قد وصلت إلى مصب نهر قوي التيار. وعندئذ، بحسب حكاية موسى المزعومة، جهز السلطان حملة استكشافية جديدة:
جهز ألفي سفينة، منها ألف لنفسه وللرجال الذين أخذهم معه، وألف للمياه والزاد. تركني لأنوب عنه وأبحر في المحيط الأطلنطي مع رجاله. كانت تلك هي آخر مرة نراه فيها هو وكل أولئك الذين كانوا معه ، وهكذا صرت أنا ملكا.
هل من المحتمل أن المصب العظيم الذي وصل إليه الأسطول المالي كان نهر الأمازون؟ أو أن الماليين كانوا قد تابعوا طريقهم من هناك إلى المكسيك، حيث ساعدوا هم وأحفادهم في إقامة إمبراطورية الأزتيك؟ استشهدت شو بالعديد من الأدلة الداعمة لهذه الفرضية غير المحتملة. كان من هذه الأدلة حقيقة أن ابن بطوطة في روايته لزيارته إلى بلاط الحكم المالي، سجل أن «شعراء يرتدون الأقنعة ويلبسون مثل الطيور سمح لهم بالإفصاح عن رأيهم للملك»:
يصعب على المرء ألا يستحضر في الوصف [الذي قدمه ابن بطوطة]، ببعض التفصيل، ممارسات مشابهة ورثها التيزكوكان إلى الأزتيك، الذين كانوا، في نفس خط العرض تقريبا في القارة الأمريكية في نفس هذا الوقت، في منتصف القرن الرابع عشر، ينجحون في اتخاذ موقعهم على الهضبة المكسيكية.
اشتملت المصادفات الأخرى على عادات في كلا البلدين كان يتوقع فيها من الأشخاص الذين يستدعون إلى البلاط أن يغيروا ما يلبسونه ويرتدون ثيابا رثة، بينما تتماثل العادة السودانية المتمثلة في أن يحثو المرء التراب على رأسه قبل أن يخاطب الإمبراطور مع ركوع الأزتيك للمس الأرض باليد اليمنى. ومع ذلك كان من أهم الأدلة التي ساقتها شو أمر لون بشرة الجنسين: «يجدر أن نتذكر أن الأزتيك، رغم أنهم ليسوا زنوجا، كانوا جنسا ذا بشرة داكنة أو نحاسية اللون، على ما يبدو من قبيل اللون الذي يصفه بارت بأنه لون «الأجناس الحمراء» التي في السودان.» بحسب شو، إن لون البشرة هذا كان قد نتج عن اختلاط «فحولة العربي» مع «الطبيعة اللطيفة للسوداني الأسود»، الذي أنتح جنسا متفوقا جينيا. وأضافت: «نتيجة لتصادم واندماج هاتين القوتين، بلغت الحضارة السوداء أعظم درجة وصلت إليها على الإطلاق في أفريقيا الحديثة.»
على الرغم من غياب أي دليل ملموس، فستظل حكاية الحملة البحرية المالية في القرن الرابع عشر إلى أمريكا تذكر على أنها حقيقة في بعض الدوائر بعد ذلك بقرن.
بحلول أوائل القرن العشرين، كانت أسطورة تمبكتو الثرية ذات الأسقف الذهبية قد نبذت منذ وقت طويل، ولكن كان قد حل محلها فكرة كون تمبكتو مدينة جامعية مستنيرة ترفه فيها فرق الموسيقى عن الأباطرة ويرسم فيها علماء الفلك مسارات المذنبات في نفس الوقت الذي كانت فيه أوروبا تجاهد للخروج من عصور الظلام. كان لهذه الأسطورة أساس أكثر مما كان للأسطورة القديمة، ولكنها كانت لا تزال مبالغة صارخة، قصة كتبت لتناسب الحاجة الجديدة إلى الغرابة المثيرة. يبدو أن تمبكتو كانت تعكس لكل واحد من الرحالة الذين وصلوا إليها شيئا مما أرادوا أن يجدوه فيها. اكتشف لينج الرومانسي نهايته المتسمة بالعظمة. ووجد كاييه، المغامر متواضع الحال، مدينة بسيطة. وكشف بارت، العالم، عالما من المعلومات الجديدة. وتوصل دوبوا، الصحفي، إلى انفراده الحصري، بعدما أماط اللثام عن الماضي الخفي للمنطقة.
فالأمر الغامض لا يمثل شيئا إذا لم يكن ملزما.
الفصل الخامس عشر
محرقة الكتب
يناير 2013
في يوم الأحد، الموافق العشرين من يناير، انسل المصور الصحفي شيخ ديوارا عبر نقطة تفتيش الجيش المالي جنوب دوينتزا ودفع مالا لشاب معه دراجة بخارية ليأخذه عبر الخطوط الأمامية. كان قد أمضى يومه كله في السفر وتصوير لقطات الفيديو. كان الآن وقت الغسق واحتاج إلى تناول الطعام؛ لذا عندما وصل إلى المدينة دخل مقهى وطلب بعض الطعام. حذره مالك المقهى قائلا إن عليه أن يلتزم الحذر؛ فالجهاديون الذين كانوا لا يزالون يحتلون المدينة كانوا مرتبكين وغاضبين وكانوا قد أطلقوا النار مؤخرا على أحد المدنيين.
بعد ذلك بثوان، بحسب ما تذكر ديوارا، انقلب الحي رأسا على عقب بفعل انفجار هائل. قال: «سبق لي أن رأيت زلازل وانهيارات أرضية، ولكن ذلك لا يفوق هذا.» كل من كان واقفا سقط أرضا بفعل قوة موجة الصدمة، ولمدة خمس دقائق لم يكن ديوارا يسمع أي شيء سوى ضجيج أبيض. بدت دوينتزا نفسها وكأن «كل شيء فيها مشوش.» بينما كان الناس يجاهدون ليعودوا للوقوف على أقدامهم، استطاع أن يرى مركبات جهاديين تتسابق خارجة من المدينة بسرعات بدت مستحيلة، وأنوارها مطفأة. وعندما لم يدر محرك إحدى مركباتهم الثمينة، تخلوا ببساطة عنها.
بينما كان ديوارا لا يزال في حالة دوار، شاهد رجلا يلتقط عبوة لبن مجفف كانت قد سقطت من إحدى الشاحنات وهي تغادر مسرعة. خطر لمجموعة من المدنيين أنها ستكون فكرة جيدة أن يذهبوا إلى المدرسة التي كان الجهاديون يستخدمونها قاعدة لهم ليروا ما تركوه. فركبوا دراجاتهم البخارية واتجهوا بها صوب المبنى، ولكن بينما كانوا يقتربون منه سقطت قنبلة ثانية. قال ديوارا: «بووم! أقسم إنه كان أعلى صوتا من الأول.» لاذ الناس بالفرار، تاركين دراجاتهم البخارية. رفضوا أن يعودوا من أجل إحضارها، حتى في اليوم التالي.
تذكر أهل تمبكتو أيام الحملة الفرنسية الجوية هذه باعتبارها الأيام الأكثر رعبا في سائر أيام الاحتلال. تذكر إير مالي قائلا: «كان الأمر مريعا.» حتى عندما سقطت القنابل بعيدا، كان بوسع الناس أن يشعروا بأن الأرض تهتز، وأحيانا كانت تنهار أجزاء من بيوت المدينة الهشة المبنية بالتربة المدكوكة. كان الأمر أفضل قليلا عندما لم تكن الطائرات تقصف؛ إذ كان يمكن سماعها تصرخ في السماء كل ليلة. تضمنت الأهداف مقر قوة الدرك، وقصر القذافي، الذي كان يضم عشر غرف نوم، وأربعة عشر حماما، الذي كان يوجد خارج المدينة والذي كان أبو زيد قد استخدمه مقرا له. تحول المبنى إلى أنقاض، وتناثرت المتعلقات الشخصية وأوراق المراسلات فوق العشب، وفي ذلك فاتورة كهرباء موجهة إلى «السيد القذافي.»
بينما كانت الطائرات ترعب أهل المدينة، كان لها تأثير مماثل على المحتلين. في النهار كان الجهاديون يركنون مركباتهم تحت الأشجار القليلة المتناثرة ليحاولوا إخفاءها عن السماء، وعندما كانوا يسمعون صوت طائرة نفاثة كانوا يفتحون مصاحفهم ويبدءون في القراءة منها. بدءوا أيضا يأخذون أسرهم خارج المدينة، حيث كانوا يجلونهم ليلا في قوافل. أخبروا السكان العرب بأن يغادروا أيضا، وتذكر إير مالي قائلا: «قالوا: «إن لم تغادروا سيقتلونكم جميعا. في خلال ثلاثة أيام أو أربعة ستكونون كلكم صرعى في تمبكتو.»»
في هذه الأيام، صارت العلاقات بين الجهاديين والسكان أكثر توترا من أي وقت مضى. حاول المحتلون تنظيم مسيرات ضد الضربات الجوية ليستخدموها في مقاطع فيديو دعائية، ولكن لم يأت أحد عدا مقاتليهم وقلة من الجالية العربية. ومع ذلك كان الأمر الأكثر إثارة للسخط أن بعض المدنيين لم يستطيعوا احتواء فرحتهم بتقدم القوات الفرنسية وكانوا قد بدءوا يسخرون علانية من الجهاديين. في الفجر، كان من شأنهم أن يستيقظوا ليجدوا أن علم مالي قد رفع فوق مبان مدنية ليلا، وبعد استعادة كونا في الثامن عشر من يناير، كان يمكن سماع أطفال الشوارع وهم يجرون بصوت عال مكالمات هاتفية تخيلية مع جنود حكوميين.
كان من شأنهم أن يقولوا: «مرحبا، كونا؟» ثم يضيفون: «كونا! ما الأخبار؟ هل كل شيء يجري على ما يرام هناك؟ حسنا، جيد جدا، جيد جدا!»
وصل الأمر إلى حد أن بعض منتهزي الفرص الشجعان أصبحوا ينهبون منازل المحتلين. وجد أحد قادة الجهاديين، والذي كان قد صادر بيت مدير محطات المياه والغابات، أنه بينما كان غائبا كان شخص ما قد سرق العديد من البنادق التي كان قد تركها في المنزل. أصابه سخط شديد. قال عبد الله سيسيه: «بحث الجهاديون في كل مكان عن الجاني.» ثم أردف: «وأخيرا قبضوا على شاب، قائلين إنه كان أحد أولئك الذين كانوا متورطين في الأمر. في تلك اللحظة كانوا غاضبين حقا من أهل المدينة؛ لأنهم عرفوا أن الناس ظنوا أنهم كانوا سيطردون خارجها وكانوا يستغلون الفرصة.» عذب الجهاديون المشتبه فيه لأيام، بحسب ما قال سيسيه، لكنهم لم يعثروا أبدا على الأسلحة.
في يوم الثلاثاء، الموافق الثاني والعشرين من يناير، اتصل مفوض الشرطة الإسلامية، الذي كان في هذا الوقت رجلا يدعى حسن، بديادي وطلب منه أن يحضر لجنة الأزمة إلى مبنى المحافظة بعد الغسق مباشرة من أجل اجتماع عاجل. تشكك أعضاء اللجنة الآخرون في الأمر. ماذا لو كان فخا؟ ماذا لو أن حسن كان ينوي أن يحتجزهم رهائن؟ شعر ديادي وستة آخرون بأنهم ملزمون بداعي الشرف بأن يذهبوا: «قلت إننا كنا نفعل هذا طيلة عشرة شهور؛ إننا تعهدنا بالتزامات وأن الطرفين احترما تلك الالتزامات حتى يومنا هذا.»
أرسلوا من مبنى المحافظة إلى مبنى البلدية ، حيث فوجئ ديادي عندما وجد أن مجموعة من العرب كانت حاضرة أيضا. كان الجو متوترا من البداية. بدأ حسن بتوجيه تحذير. كان الناس قد اقتحموا بيوت الجهاديين وسرقوا متعلقاتهم. وكانوا يسخرون منهم في الشوارع. يجب على لجنة الأزمة أن تحذر الناس من أن الشرطة الإسلامية لم يعد لديها وقت لإجراء اعتقالات، وأنهم إن خالفوا القانون من الآن فصاعدا، وإن اقتربوا من منازل الجهاديين أو سرقوها، فسيقتلون رميا بالرصاص. كانت مهمة اللجنة أن تجعل الناس على علم بهذا. ما كاد ينتهي من كلامه حتى تولى تاجر عربي دفة الحديث وقال إنه كان قد سمع أن شباب المدينة كانوا يحضرون لنهب متاجرهم، وإنه ينبغي على اللجنة أن تحذر الناس من أن أصحاب المتاجر العرب كانوا مسلحين، وإن اقترب أي أحد منهم فسيردى قتيلا بالرصاص. أضاف أن أهل تمبكتو كانوا عنصريين تجاههم. لم يكونوا قد وقفوا جنبا إلى جنب معهم، وكانوا حتى قد رفضوا أن يخرجوا في مسيرة ضد الضربات الجوية.
اشتاط ديادي غضبا. وقال لحسن إنه لم يأت ليوجه تهديدات، ولم يكن يتوقع أن توجه إليه تهديدات. وأضاف: «إذا أردت أن يكون الناس هادئين، فلا تسمح لهؤلاء الأشخاص أن يلقوا علينا محاضرات، أو أن يقولوا إننا لا نستطيع أن نمر بمتاجرهم. من هم ليطلبوا منا أن نخرج في مسيرة؟ هل ينبغي علينا أن نتبعهم فحسب كالخراف؟ نحن لسنا إسلاميين ولا نخرج في مسيرات مع الإسلاميين. وإن كان ذلك هو السبب في دعوتك لنا إلى هنا، فسوف نغادر.»
حاول حسن أن يهدئه، لكن ديادي وأعضاء اللجنة الآخرين غادروا بعد ذلك بقليل. كان هذا لقاءهم الأخير بالمحتلين. في اليوم التالي، أطلق الجهاديون النار على شاب فأردوه قتيلا. كان يدعى مصطفى، وبحسب إحدى الروايات، كانت جريمته أنه هتف «تحيا فرنسا!»
تذكر ديادي: «لقد قتلوا طفلا.» ثم أردف: «كان الطفل قد قفز فرحا. أطلقوا عليه النار وأردوه قتيلا.»
حاول قادة الجهاديين أن يكفروا عن ذلك. فقدموا أعذارهم إلى أسرته، قائلين إن الأمر كان غلطة، وأعطوا والد مصطفى مبلغا من المال. لكن العلاقات استمرت في التدهور.
قال المرشد السياحي باستوس: «كانت تلك هي الأيام التي رأينا فيها وجههم الإرهابي.» ثم أضاف: «كنا كلنا كفارا لأنهم طلبوا منا أن نخرج في مسيرة ضد الضربات الجوية وكان الجميع خائفين من الخروج. قالوا لنا: «إنكم تستحقون أن تذهبوا إلى الجحيم.»»
كما كان معارف حيدرة قد توقعوا، بدأ الجهاديون في تدمير الأشياء بعد ذلك. أحرقوا الشاحنات والآلات الزراعية. وأحرقوا محطة كهرباء المدينة. تذكر عبد الله سيسيه: «كل ما يمكنهم فعله لإلحاق الأذى بالمدينة، فعلوه قبل أن يغادروا.» دخلت تمبكتو حينئذ أشد مراحل التخريب أثناء الاحتلال. تذكر الإمام الأكبر: «كانت الأيام الأخيرة هي الأصعب.» ثم أردف: «كان الواقع شديد الوطأة جدا. كان الناس مصدومين بسبب إطلاق النار، وكان اللصوص في كل بقاع المدينة من وقت حلول الليل إلى شروق الشمس. لم يكن الناس يستطيعون الخروج. لزم الجميع بيوتهم. كانوا خائفين جدا لدرجة أنهم لم يتمكنوا من تناول الطعام.»
لم تكن توجد إنارة ولم تعد مضخات الماء الكهربائية، التي كانت تمبكتو تعتمد عليها، تعمل؛ لذا، كان على الناس أن يسحبوا المياه من الآبار القديمة يدويا. لكن تدمير شبكة الهاتف المحمول كان أكثر ما آلمهم. رأى باستوس الأمر يحدث؛ قال: «كنت هناك عند السنترال المركزي في مساء أحد الأيام.» ثم أضاف: «وكان ثمة رجل جاء ومعه بندقية كلاشينكوف. توقف أمام مجموعة منا وبدأ يطلق النار: بوب، بوب، بوب، بوب، بوب! فانفجر مقسم الهاتف.» وزع الجهاديون بينهم أجهزة ووكي توكي، لكن الاتصالات كانت قد انقطعت بين بقية الناس.
قال الإمام الأكبر: «لم تكن توجد هواتف، ولا اتصالات.» ثم أضاف: «لم نسمع أي أحد يتكلم عن تمبكتو. كان ذلك ما أصابنا بصدمة أكبر؛ لأن العالم قد تخلى عنا. لم يعرف أحد كيف كنا نعيش.»
كان الخبر الإيجابي الوحيد أنه تحت وطأة الضربات الجوية، كان آخر الجهاديين يغادرون. في يوم الأربعاء، الموافق الثالث والعشرين من يناير، رأى باستوس أبا زيد يسدد ما عليه لمجموعة من مقاتليه في الشارع. أخذوا معهم ما استطاعوا أخذه، وفي ذلك الدراجات البخارية، التي ربطوها في مؤخرة عرباتهم ذات الدفع الرباعي.
قال ديادي: «بدءوا ينسحبون لأنهم فهموا أن القضية كانت خاسرة.» •••
عند فجر يوم الخميس، الموافق الرابع والعشرين من يناير - يوم الاحتفال المحظور بالمولد النبوي - هرع حارس مبنى معهد أحمد بابا الجديد في سانكوري إلى عبد الله سيسيه ليخبره بأن الجهاديين قد غادروا. تلى هذا الخبر نبأ ثان: كان يبدو أن ثمة نارا تضطرم بالداخل. هرع سيسيه لينظر ورأى خيوطا رفيعة من الدخان الأبيض تنبعث من السقف المفتوح. كان يمكن أن يكون أي شيء يحترق؛ أسلاك كهربائية، أو أثاث، أو نار حطب معدة لتحضير الشاي. أو ربما كان آتيا من مخطوطات تحترق.
كان سيسيه على علم بتحذير الجهاديين من أن أي أحد سيدخل مبانيهم سيردى قتيلا بالرصاص، لكن الحارس كان على يقين من أن المقاتلين كانوا قد ذهبوا، وباعتباره الرجل الكبير المسئول عن معهد أحمد بابا في تمبكتو، شعر بأن من واجبه أن يتحرى الأمر. دخل الرجلان من الباب الصغير على الجهة الغربية وسارا بحذر في واحد من الممرات الداخلية المبنية على طراز العمارة الساحلية السودانية على يد مهندس معماري جنوب أفريقي. كان المبنى هادئا وباردا، محميا من شمس الصحراء التي كانت تتسرب عبر حواجز من الحجارة المنحوتة باليد. قادهم الدخان إلى بقعة خارج قاعة المؤتمرات. وبينما كان سيسيه والحارس يقتربان، شاهدا كومة من الرماد كانت قد دفعت إلى الأعلى نحو عمود مربع. كانت كومات من صناديق المخطوطات المهملة، المصنفة بعناية بملصقات تحمل أرقامها المفهرسة، موضوعة في أحد الجوانب. كان الحطب المحترق لا يزال مشتعلا. قال سيسيه إنه يبدو أن الجهاديين كانوا قد أفرغوا الصناديق، ثم أشعلوا النار في المحتويات.
بعد ذلك بأعوام، كان سيسيه لا يزال يجد صعوبة في استيعاب هذا الفعل. قال: «أن يصدق المرء أن هؤلاء الناس الذين قالوا إنهم مسلمون يمكن أن يأخذوا شيئا كان إسلاميا ويشعلوا فيه النار؛ لم نظن أبدا أن ذلك يمكن أن يحدث. كان أسوأ شيء يمكن أن يفعلوه بنا. أي شيء إلا ذلك.» تساءل، لماذا فعلوا هذا؟ وأضاف: «لم يكن لديهم أي دافع آخر سوى أن يتسببوا في أذى لنا.» إن كانت المخطوطات بطريقة ما مخالفة لأيديولوجيتهم، كانوا سيتلفونها عندما وصلوا. ولكنهم كانوا قد احتلوا المبنى مدة عشرة شهور وانتظروا حتى عشية مغادرتهم ليحرقوها. قال سيسيه: «لأنهم كانوا مهزومين، اضطروا لأن يغادروا.» ثم أردف: «كانوا يعرفون القيمة الدولية والعلمية للمخطوطات، وما تساويه؛ لذا تعين عليهم أن يحرقوها.»
لم يبق هو ولا الحارس طويلا، وهو ما كان من حسن حظهم لأن الجهاديين عادوا بعد ذلك بقليل. قال سيسيه: «لو كانوا قد وجدونا هناك، كانوا سيقضون علينا.»
عندما علم معيجا بما قد حدث، اعتبر ذلك بمنزلة فشل شخصي له. «جعل الله الأمر مسئوليتي، والآن المخطوطات قد أحرقت. المخطوطات التي يرجع تاريخها إلى قرون وقرون. لذا كان الأمر يمثل لي فشلا. في الليلة التي علمت فيها بذلك، لم أستطع النوم.»
شعر حيدرة هو الآخر بحزن شديد. قال: «في اليوم الذي أحرقوها فيه شعرت بإعياء شديد جدا.» ثم أردف: «كان الأمر كما لو أننا لم ننقذ أي شيء. كان ذلك هو مدى ما شعرت به من سوء.»
الفصل السادس عشر
كتاب «تاريخ الفتاش»
1911-1913
طيلة ما يقرب من عقدين بعد عودة دوبوا، تلاعب كتاب «الفتاش»، «كتاب السودان الشبح»، بعقول مستشرقي باريس. كان دوبوا قد وصف هذا العمل بمبالغة تقليدية بأنه «الأساس الرئيسي لكل التوثيق التاريخي لمنطقة النيجر»، لكن لم يتمكن أي أحد من العثور إلا على عدد قليل من القصاصات المتشابهة على نحو ملحوظ. عندما كان أهل تمبكتو يسألون عنه، كانوا يهزون أكتافهم ويقولون إنه على قدر علمهم، كانت كل نسخ المخطوط قد أتلفت.
في عام 1911، بعث الحاكم الفرنسي للسنغال العليا والنيجر بالمستكشف ألبرت بونيل دي ميزيير إلى تمبكتو. هناك، عقد بونيل دي ميزيير صداقة مع العالم سيدي محمد الإمام بن السيوطي، واكتسب من ثقة التمبكتي ما كان كافيا لأن يطلعه على وثيقة ثمينة من مكتبته الشخصية. لم تكن كاملة، وكان ورقها متفتتا وحبرها باهتا، ولكن كان يعتقد أنها النسخة الوحيدة الباقية من كتاب قديم عن تاريخ السودان. سأله بونيل دي ميزيير إن كان من الممكن أن يحصل على نسخة طبق الأصل منها، فأشرف ابن الأسيوطي على عمل مخطوطة جديدة، والتي أرسلت إلى أوكتاف هودا وبرفقتها رسالة قصيرة توضح أن هذه كانت «تجميعا لسير ملوك سونجاي وجزء من تاريخ ملوك السودان قبل مملكة سونجاي»، وأنه كان يعتقد أنها كتبت في القرن الخامس عشر.
كان بمقدور هودا أن يخمن من أول نظرة أنها كانت «وثيقة في غاية الأهمية عن تاريخ السودان الفرنسي»، وأنها تمثل معلومات إضافية لتلك التي كانت متضمنة في كتاب «تاريخ السودان». وحيث إن صفحاتها الافتتاحية كانت قد فقدت، كانت المخطوطة تفتقر إلى العنوان واسم مؤلفها، ولكن سرعان ما اتضح لهودا أنها كانت عبارة عن العمل الذي كان دوبوا قد سمع به، وهو «الفتاش».
من أجل ملء الفراغات التي في النص، ألح هودا ومساعده موريس ديلافوس على بونيل دي ميزيير أن يعثر على نسخة أخرى. كتب المستكشف إلى ابن السيوطي يطلب مجددا مساعدته، وأجاب التمبكتي بحسن نية أنه على الرغم من أنه لم يكن لديه أي علم بوجود المزيد من النسخ، فإنه سيرسل إليه نسخته الأصلية. تلقى المترجمان هذه الوثيقة في مايو من عام 1912، وأسمياها المخطوطة «أ»، بينما أسميت النسخة باسم المخطوطة «ب». في وقت لاحق من ذلك العام، عثر على وثيقة أخرى ونسخت بأمر من المسئول الاستعماري الفرنسي في مدينة كايس. تضمنت المخطوطة «ج»، وهو الاسم الذي أصبحت معروفة به، تمهيدا وفصلا مفقودا من نسخة ابن السيوطي، وحمل العمل بوضوح اسم «تاريخ الفتاش»، أو لإعطائه عنوانه الكامل، «تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس». كان اسم مؤلفه محمود كعت. وبحسب ما أورد كتاب «تاريخ السودان»، كان كعت قد ولد في عام 1468 وكان صديقا مقربا من أسكيا الحاج محمد.
كان لدى هودا وديلافوس الآن ثلاث نسخ مما ظنا أنه نفس كتاب التأريخ، «تاريخ الفتاش»، وكانت كل نسخة منها لها مشاكلها: فالمخطوطة «أ» كانت الأقدم ولذلك كانت الأكثر أصالة، ولكن أقساما كاملة منها كانت مجتزأة أو مفقودة. أما النسخة «ب» فكانت مجرد صورة طبق الأصل من المخطوطة «أ». أما المخطوطة «ج» فكانت كاملة واحتوت على فقرات كثيرة كانت غير واردة في المخطوطتين الأخريين، لكنها كان مليئة بأخطاء جسيمة، كانت ترجع من ناحية إلى أن الناسخ المعاصر لم يكن يتقن اللغة العربية إتقانا تاما، ومن ناحية أخرى إلى أن المخطوطة التي كانت مستمدة منها كانت تالفة جدا حتى إن أقساما منها كانت قد أصبحت غير مقروءة.
عند القراءة الدقيقة للوثائق، واجه المستشرقان لغزين محيرين. بدا أن الأول كان دليلا على ما كان قد قيل لدوبوا في تمبكتو، وهو قمع أحمد لوبو، سلطان ماسينا، لكتاب التأريخ. إذ بينما كانت الصفحات الافتتاحية المتضررة للمخطوطة «أ» تسجل نبوءات متنوعة بشرت بمجيء الخليفة الثاني عشر للسودان، نصت بداية المخطوطة «ج» على أن الخليفة أحمد سوف يأتي إلى ماسينا في بداية القرن التاسع عشر. كان هذا مريبا للغاية؛ فما مدى احتمالية أن تأريخا بدئ في القرن السادس عشر سيحدد بوضوح شديد أن الخليفة هو نفسه سلطان القرن التاسع عشر الذي زعم أنه قد قمعه؟ اعتبر هودا وديلافوس أن هذا دليل قاطع على أن هذه الفقرة من المخطوطة «ج» كانت قد زورت، وأن أحمد لوبو كان بالفعل قد أمر بأن يتلاعب في كل نسخ «تاريخ الفتاش» أو أن تدمر لخدمة مصالحه السياسية.
كان اللغز الثاني لغزا متعلقا بالمؤلف. ذكرت المخطوطة «ج» أن المؤرخ هو كعت، ولكن سرد «تاريخ الفتاش» ينتهي في عام 1599، عندما كان سيبلغ من العمر أكثر من 130 عاما. كيف يمكن أن يكون قد كتب عن أحداث جرت بعد وفاته؟ خمن المستشرقان أنه لا بد أن يكون أحد أحفاده هو الذي أنهى التأريخ، الذي جمع من أوراق كان قد خلفها وراءه هو وأبناؤه. ومن ثم كان «تاريخ الفتاش» نتاج تعاون بين ثلاثة أجيال: «كان المحرر الفعلي للعمل هو حفيد محمود كعت، بينما كان الجد هو الذي ألهم به.» كان هذا الحفيد المجهول، الذي تحدد لاحقا أنه «ابن المختار»، هو الذي كان من شأنه أن يكمل العمل في حوالي عام 1665.
كانت ألغاز كتاب «تاريخ الفتاش» على أحسن الفروض قد حلت جزئيا، لكن المؤلفين شعرا بأن بمقدورهما مع ذلك توليف نسخة كاملة. نشرا نسختهما المجمعة من الكتاب - باللغة العربية ومترجمة إلى الفرنسية - في عام 1913. وسرعان ما اعتبر كتاب «تاريخ الفتاش» أهم اكتشاف فيما يتعلق بتاريخ المنطقة منذ كتاب «تاريخ السودان»، ونظر إليه باعتباره قطعة رئيسية في أحجية فهم الحياة أثناء العصر الذهبي لتمبكتو.
بعد حمدلة استهلالية، تبسط نسخة هودا وديلافوس من كتاب «تاريخ الفتاش» آيات إجلالها لأسكيا الحاج محمد. أما كراهية كتاب الكتاب لسلفه، سني علي، فلا تكاد تعرف حدا؛ فكان «الملعون» مسلما ضعيف الإسلام اقترف «بدعا فاضحة» و«أفعالا وحشية دموية» مع الناس واضطهد علماء تمبكتو. لا يمكن للتناقض بينه وبين أسكيا الحاج محمد أن يكون أوضح من هذا. تتدفق كلمات كتاب «تاريخ الفتاش» كما يلي: «من الصعب أن نحصي الفضائل والصفات الكثيرة [لأسكيا الأول]، والتي منها مهاراته السياسية الممتازة، وكرمه تجاه رعاياه وانشغاله بالفقراء. لا يمكننا أن نجد نظيره في أي حاكم جاء قبله أو بعده.»
يبدو أنه يوجد سبب جلي في أن كلا كتابي التأريخ انهالا بالمديح على هذا المغتصب لعرش سونجاي؛ ففي حكمه ازدهرت تمبكتو كما لم يحدث من قبل. بحسب كتاب «تاريخ الفتاش»، كان هذا نتيجة انسجام حدث بين الإمبراطور وتمبكتو. في عامي 1498-1499، عين محمود حفيد محمد آقيت في منصب قاضي المدينة. كان في الخامسة والثلاثين من عمره فحسب، وكان أول شخص من نسل آقيت يصل إلى هذا المنصب الأكثر نفوذا في التسلسل الهرمي الوظيفي في المدينة، وظل في هذا المنصب مدة خمسة وخمسين عاما.
يحكي كتاب «تاريخ الفتاش» أنه في أحد الأيام، أتى أسكيا الحاج محمد إلى تمبكتو ليحتج لدى محمود على عدم إطاعته لأوامره. فتوقف خارج المدينة، وركب القاضي بشجاعة خارجا إلى معسكر الإمبراطور. بدأ أسكيا اللقاء بسلسلة من الأسئلة الموجهة: هل كان القاضي محمود بطريقة ما أفضل أو أجل من كل أسلافه العظماء، الذين بدأ يعددهم وكانوا قد أطاعوا ملوك سونجاي السابقين؟ فأجاب القاضي محمود بالنفي في كل مرة. فسأله أسكيا: فلماذا إذن طرد مرارا وتكرارا رسل الإمبراطور دون أن يفعل ما قيل له؟ أجاب الشيخ بانتهار:
هل نسيت أم تناسيت يوم جئتني في داري وأخذت برجلي وثيابي فقلت: «جئت أدخل في حرمتك وأستودعك نفسي أن تحول بيني وبين جهنم. فانصرني وأمسك بيدي حتى لا أقع في جهنم. وأنا وديعتك.» فهذا سبب طردي رسلك ورد أمرك.
كان سني علي دون شك سيقتل القاضي في التو واللحظة عقابا له على صفاقته، لكن أسكيا الحاج محمد كان رجلا متدينا وبدلا من ذلك قال: «نسيت ذلك والله!» وحيث إن القاضي محمود كان قد ذكره بواجبه الديني، فقد استحق مكافأة سخية:
أطال الله إقامتك بيني وبين النار وغضب الجبار. فأنا أستغفر الله وأتوب إليه. وحتى الآن أنا وديعتك آخذ بذيلك. فاثبت في هذا المكان، ثبتك الله وادفعن عن نفسي!
بعد ذلك ركب الإمبراطور حصانه ورجع «فرحا مسرورا»، بحسب ما أورد كتاب «تاريخ الفتاش».
طيلة المائة السنة التالية سيعيش حكام سونجاي في كنف الحماية الروحية لعلماء تمبكتو، بينما وفرت للمدينة بدورها الحماية الدنيوية من جانب أباطرة جاو. كان هذا زمن الازدهار، الفترة التي ستحظى فيها تمبكتو باشتهارها كمدينة عظيمة للعلماء. في عهد القاضي محمود، أعيد تنظيم أبنية المدينة الرئيسية ووسعت، وفي ذلك مسجد جينجربر. كانت مكانا مسالما - كانت مكانا هادئا جدا، بحسب كتاب «تاريخ الفتاش»، حتى إن المرء يمكن أن يمر بمائة رجل من أهلها، فلا يجد مع أحد منهم حريشا ولا سيفا ولا مدية - وكبيرا؛ إذ كان يوجد ما يكفي من السكان لإعالة ستة وعشرين بيتا من بيوت الخياطة، التي كان يشرف على كل منها شيخ رئيس معلم عنده من المتعلمين نحو خمسين. انتقلت أعداد كبيرة من العلماء وطلبة العلم إلى تمبكتو، فتضخم المجتمع الأكاديمي ليصل إلى حجم غير مسبوق ويملأ ما بين 150 و180 مدرسة لتحفيظ القرآن، التي كان بكل منها عشرات وحتى مئات من التلاميذ. إحدى هذه المدارس، التي كانت تابعة لشخص يدعى علي تكريا، كان بها ما بين 173 و345 تلميذا، بحسب كتاب «تاريخ الفتاش»، الذي ذكر أنه كان يوجد من ألواح الصبيان 123 لوحا يتدرب عليها التلاميذ على الكتابة في عرصة داره، تكفي لأن تكون جملة القرآن محصلة فيها. من شأن هذه الأعداد أن تستخدم لوضع تقديرات بأنه كان يوجد 25 ألف تلميذ في تمبكتو في هذا الوقت، ولكن بحساب أكثر اتزانا يمكن أن نقدر أن عدد تلاميذ المرحلة الابتدائية كان أربعة إلى خمسة آلاف، وأن تعداد المدينة لم يكن يزيد عن خمسين ألفا. ومع ذلك، كان من شأن هذا أن يجعلها مدينة عالمية كبيرة في بداية القرن السادس عشر.
كان للأدب سيطرة غير عادية على هذا المجتمع، الذي عانى من «ولع شديد باقتناء الكتب»، على حد تعبير أحد الأكاديميين. في ثقافة متقشفة كان فيها متاع الدنيا مستهجنا، صار استيراد المخطوطات ونسخها إحدى صور الهوس المستحوذة على النخبة؛ فكان من شأنهم أن يتوددوا إلى الزوار على أمل أنهم قد يكون بحوزتهم عمل جديد يمكن شراؤه أو استعارته، بينما أدت زيادة الطلب إلى رفع أثمان الكتب إلى مستويات مبالغ فيها. يروي كتاب «تاريخ الفتاش» أن أسكيا داود، خلف أسكيا محمد، ساعد محمود كعت في شراء قاموس نادر بقيمة ثمانين مثقالا، أو ما يعادل تقريبا 340 جراما من الذهب، وهو ما سيساوي 16 ألف دولار أمريكي بأسعار وقتنا الحالي. كان يوجد كتب أرخص تباع في تمبكتو - بيع مجلد واحد مستعمل من كتاب عنوانه «شرح الأحكام» مقابل ما يزيد قليلا عن أربعة مثاقيل - وربما كان القاموس الذي ثمنه ثمانون مثقالا مزخرفا زخرفة جيدة خاصة ويتألف من مجلدات متعددة. يحكي كتاب «تاريخ الفتاش» عن قاموس آخر كان مملوكا لأحد التمبكتيين وكان يضم ثمانية وعشرين مجلدا. أدى الطلب على الكتب إلى قيام صناعة نسخ احترافية كبيرة في المدينة وفي الإمبراطورية عموما. عين أسكيا داود نساخا لديه لنسخ المخطوطات وكثيرا ما كان يقدم هذه المخطوطات إلى العلماء كوسيلة لكسب الحظوة والنفوذ في تمبكتو.
يمكن العثور على معلومات مفصلة عن الكيفية التي كانت تنتج بها الكتب في حرد المتن، وهو التوصيف القصير لأصل المخطوطة الذي كان يدرج عادة في نهاية الكتاب. يصف حرد المتن لستة مجلدات من نسخة من القرن السادس عشر لقاموس «المحكم» لابن سيده قائمة بالمدفوعات والمواعيد النهائية، مما يبين أن النساخ الذي كان يعمل بدوام كامل كان يحتاج إلى ثلاثة وعشرين يوما لنسخ مجلدين من الكتاب، بمجموع 179 مطوية (ورقة). كان يوجد تسعة عشر سطرا من النصوص في الصفحة؛ لذا كان النساخ يكتب في المتوسط 285 سطرا من النصوص في اليوم. استغرق نساخ آخر تسعة عشر يوما إضافية ليضيف التشكيل من أجل النطق السليم لهذه المجلدات، بمعدل 300 سطر من النصوص تقريبا في اليوم. عادة ما كان يدفع للنساخ مثقال واحد في الشهر، بالإضافة إلى ذلك كان نصف مثقال يدفع لمصحح ملم بالموضوع، والذي كان يصحح الأخطاء. كانت تكلفة العمالة وحدها لعمل كبير مثل «المحكم» تصل إلى حوالي واحد وعشرين مثقالا، أو تسعين جراما من الذهب، وتضاف أيضا إلى ذلك تكلفة الورق التي كان يجب أخذها في الاعتبار؛ إذ كان غالي الثمن، لأن معظمه كان يستورد من شمال أفريقيا ومصر. كان من المرجح أن يكلف الورق المستخدم في أي مجلد كبير خمسة مثاقيل أو أكثر.
نتج عن ولع تمبكتو باقتناء الكتب أن أعدادا كبيرة من المخطوطات تكدست في المدينة. لم تكن هذه المخطوطات تجمع في مكتبات عامة من قبيل تلك التي كانت موجودة في مراكز التعليم الإسلامي الأخرى مثل بغداد أو القاهرة؛ إذ كان مسجد الأزهر يتباهى بأنه يضم عشرات الآلاف من المخطوطات بالإضافة إلى نطاق مذهل من الخدمات للقراء. في تمبكتو، كانت المجموعات مملوكة لعائلات علمية، كان من شأنها أن تعيرها بسخاء إلى الزملاء والطلاب. ربما كان غياب المجموعات العامة يعكس حقيقة أن العلماء في تمبكتو أتوا من النخبة الثرية - مع وجود استثناء ملحوظ هو فئة «الألفة» - لذا لم يكن القراء العاديون بحاجة إلى الوصول بانتظام إلى الأعمال الأصعب التي لن يفهموها. ومع ذلك، تنامت المجموعات الخاصة حتى وصلت لأحجام هائلة. تألفت مكتبة أحمد بابا الشخصية، التي ذكر أنها كانت «الأصغر بين مكتبات أي من أقربائي»، مما لا يقل على 1600 مجلد، بينما وصلت مكتبة أحمد عمر إلى ما يقرب من 700 مجلد وقت وفاته. يتضح اتساع نطاق القراءة المتاحة في تمبكتو أيضا من استشهادات في أعمال أخرى كتبت في المدينة. كتب العالم التمبكتي أحمد ابن أند آغ محمد رسالة في النحو استقيت من أربعين عملا آخر، بينما استشهد قاموس تراجم بابا بثلاثة وعشرين مصدرا مالكيا.
بحلول النصف الثاني من القرن السادس عشر، كانت عجائب وروائع تمبكتو قد وصلت إلى آفاق كان يستحيل حصرها، بحسب «تاريخ الفتاش». لم يكن لها نظير في بلاد السودان:
فتنبكت يومئذ لا نظير لها في البلدان من بلاد السودان إلى أقصى بلاد المغرب من بلاد مل [مالي]، مروءة وحرية، وتعففا وصيانة وحفظ العرض، ورأفة ورحمة بالمساكين والغرباء وتلطفا بطلبة العلم وإعانتهم.
لذا عندما حلت النهاية كانت صدمة هائلة. •••
حكم أسكيا الحاج محمد ستا وثلاثين سنة قبل أن يعزله ابنه موسى في الخامس عشر من أغسطس من عام 1529. بعده جاء تعاقب من أناس حملوا لقب أسكيا: محمد بنكن، وإسماعيل، وإسحاق الأول، وداود، والحاج، ومحمد بان، وإسحاق الثاني، ومحمد كاع، ونوح. ومع أن تمبكتو استمرت في الازدهار في ظل حكمهم، لم يقترب إلا داود من نيل الثناء الذي انهال به مؤرخو المدينة على أسكيا الأول، وبمرور الزمن دخلت الإمبراطورية في طور الانحطاط. يسجل كتاب «تاريخ السودان» أن الناس «بدلوا نعم الله كفرا وما تركوا شيئا من معاصي الله تعالى إلا وارتكبوها جهرا من شرب الخمور ونكحة الذكور والزنى.» واستسلموا للغاية لهذه الرذيلة الأخيرة حتى إن المرء كان سيحسب أن هذا الأمر لم يكن محظورا، بحسب ما يسجل كتاب «تاريخ السودان»، وحتى أبناء السلاطين ارتكبوا زنا المحارم مع أخواتهم.
ومع ذلك كان الأمر الأخطر أن الإمبراطورية كانت آخذة في التخلف عن جارتها الشمالية، المغرب. كانت سلالة السعديين التي حكمت ذلك البلد تقاتل الغزاة البرتغاليين، والإسبان، والعثمانيين لقرون، وكانت حتى قد عقدت تحالفا مع إنجلترا ضد إسبانيا. كانت النتيجة هي مجتمع عسكري كانت قواته مدربة جيدا ومسلحة بمدافع إنجليزية، والذي كان قد اتبع استخدام بنادق المسكيت والقربينة (الهركوبة)، مستعينا في استخدامها بالمرتزقة و«المرتدين»؛ وهم عصابات من المساجين والهاربين المسيحيين الذين تحولوا إلى الإسلام.
كان سلطان السعديين هو أحمد المنصور، الذي كان رجلا هادئا ذا طموح هائل وميل إلى الانفجار في نوبات من الغضب الشديد. زعم هو الآخر أنه الخليفة الثاني عشر، وحيث إن دور الخليفة كان استعادة وحدة العالم الإسلامي، كان يتعين على الحكام المسلمين للممالك السودانية أن يخضعوا له ويسلموه ثروتهم. كان بالفعل قد أنفق مبالغ طائلة على «القصر الذي لا مثيل له» المترف في مراكش، ذي الأسقف المذهبة والأرضيات الرخامية، وتعين عليه أن ينفق المال على أعداد كبيرة من الجنود، والجواسيس، والعملاء. بدأ بمطالبة الأسكيين بدفع خراج على كل حمولة من الملح كانت سونجاي تستخرجها من المناجم في الصحراء بالقرب من مدينة تاغزة، التي تقع في منتصف المسافة تقريبا بين تمبكتو ومراكش؛ ففي نهاية المطاف، كانت جيوشه هي التي أبقت منطقة جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية آمنة من المسيحيين. فقبح أسكيا إسحاق الثاني للمنصور في الجواب، مرسلا له رمحا ونعلين من حديد. كان المقصود ضمنيا من الهدية أنه حتى يبلى نعل السلطان من الجري، لن يكون في مأمن أبدا من رماح سونجاي. حينئذ أصبح لدى السلطان ذريعته للحرب، واختار مخصيا قصيرا أزرق العينين يدعى جودار لينفذ خطته.
منح جودار أعتى قوة أرسلت على الإطلاق عبر الصحراء الكبرى: كانت تتألف من جيش نخبة ومتطور من أكثر من أربعة آلاف جندي، من بينهم ألفان من المرتدين المسلحين ببنادق القربينة، وخمسمائة من الرجال المسلحين على صهوة الخيل، وسبعون من المرتزقة المسيحيين المسلحين بالبنادق القصيرة، وألف وخمسمائة من الخيالة المغاربة. كان معهم أيضا هاونات ومدافع وحملوا معهم مائة وخمسين طنا من البارود في قافلة متاع كانت بطول عشرة آلاف جمل. تفاخر السلطان قائلا إن غزوة السودان ستكون «سهلة»؛ لأن السودانيين لم يكن لديهم ما يقاتلون به إلا الرماح والسيوف.
بلغ المغاربة منحنى نهر النيجر في منتصف الطريق بين جاو وتمبكتو في الثامن والعشرين من فبراير من عام 1591، وأخذوا إسحاق الثاني على حين غرة. سارع الأسكيون إلى جمع قوة كبيرة تلاقت مع المغاربة عند تونديبي، التي تقع على بعد ثلاثين ميلا شمال جاو، بعد أسبوعين. ساق السونجاي ألف رأس من الماشية إلى العدو، ولكن عندما سمعت البهائم أصوات إطلاق النار، ارتدت متشتتة في فرار جماعي مخترقة صفوف السونجاي، وبعد ذلك انكسر الأسكيون «في طرفة عين»، بحسب ما أورد كتاب «تاريخ السودان». فر إسحاق، وسار جودار بجيشه نحو جاو. عرض أسكيا بنود السلم: وهي أن يتعهد بالولاء للمنصور، ويسلمه حقوق تجارة الملح، ويعطيه مائة ألف مثقال من الذهب وألف عبد. أجاب جودار بأنه سيرسل البنود إلى السلطان ليأخذ منه الموافقة.
بعد ذلك تقدم جودار إلى تمبكتو، ودخل المدينة في الثلاثين من مايو. مضى مباشرة إلى القاضي، الذي كان في هذا الوقت عمر الطاعن في السن، ابن القاضي محمود، وأخبره بأنه يحتاج إلى «رحبة واسعة فنبني بها قصبتنا [حصننا] وندخل فيها، إلى أن يأتيني أمر السلطان بالرجوع إليه»، بحسب ما أورد كتاب «تاريخ الفتاش». بعد ذلك أخرج رجال جودار السكان من حي التجار الأثرياء، «وهجموا عليهم بالكلام القبيح والانتهار والضرب»، قبل أن يشرعوا في العمل ويضموا المنازل لتشكيل قصبة. أرغم الجنود جميع من وجدوهم في الشوارع على العمل في البناء، بينما أمر تجار المدينة بإخراج كمية كبيرة من الحبوب.
جاء العمل القسري ومصادرة الطعام بمثابة صدمة للمدينة المقدسة، التي كانت محل تبجيل لقرن من الزمان. كتب مؤلفو كتاب «تاريخ الفتاش» يقولون: «لا فتنة أعظم ولا أكبر على أهل تنبكت ولا أمر منها»:
ولا يحاط باطراد ما نزلت بتنبكت من المصائب والإتلاف عند نزولهم [المغاربة] بها. ولا يحصروا مما أحدثوه فيها من الزور والكبيرة.
ومع ذلك، لم تكن هذه إلا البداية.
عندما تلقى السلطان رسالة جودار التي تحدد الخطوط العريضة لاتفاق السلام، غضب غضبا شديدا واستبدل به رجلا من شأنه أن يقضي على السونجاي للأبد. كان هذا الرجل قائدا سابقا للمرتدين، ذا مزاج متقلب، واسمه محمود بن زرقون. وصل الباشا محمود إلى تمبكتو في السابع عشر من أغسطس من عام 1591، وتولى قيادة قوة السلطان، وعلى الفور انطلق شرقا وجودار في عقبه، مطاردا بقية السونجاي. وأثناء غيابه الذي دام سنتين، ثارت تمبكتو على الحكم المغربي، وفي خريف عام 1593، عاد محمود ومعه خطة موضوعة بعناية لمعاقبة الرجال الذين اعتقد أنهم كانوا يساندون التمرد سرا طول الوقت؛ العلماء ورجال الدين بالمدينة. أمر بالقبض على اثنين من كبار أشراف المدينة وإعدامهما، وأعلن أنه يجب على الناس أن يأتوا إلى مسجد سانكوري في مجموعات لتجديد البيعة للسلطان. في اليوم الأول كان دور التجار من بلدات الواحات في الصحراء الكبرى، وفي اليوم الثاني كان دور الناس من بلدات القوافل في الغرب. في اليوم الثالث، الموافق العشرين من أكتوبر، وهو تاريخ وصفه أحمد بابا بأنه يوم الخراب، كان دور العلماء.
عندما جاءت اللحظة، أحضروا المصحف وكتب الحديث إلى مسجد سانكوري واصطف صفوة رجال الحياة الفكرية في تمبكتو في الداخل. وضع رجال مسلحون على المخارج وعلى سطح المبنى، وغلقت الأبواب، وكبل الفقهاء وبعد ذلك سحبوا إلى الخارج، واحدا تلو الآخر. أمر محمود بأن يؤخذ الأسرى مشاة عبر المدينة إلى قصبته في فريقين. أركب القاضي عمر، الذي كان شيخا كبيرا للغاية ولا يقدر على السير، على حمار صغير اقتيد عبر وسط المدينة، بينما سلك فريق ثان طريقا شرقيا حول المدينة. بالقرب من مسجد سيدي يحيى، استل أحد الأسرى سيف أحد الرماة وهاجمه به، وعندئذ بدأ رجال السلطان موجة من التقتيل، فقطعوا رءوس السجناء المحيطين بهم. قتل أربعة عشر من التمبكتيين على الفور، وفي ذلك تسعة علماء من سانكوري.
يروي كتاب «تاريخ الفتاش» أن القاضي عمر كان مع خادم يمسك مقاليد داره عندما أبلغ بخبر المذبحة. انخرط الخادم في البكاء، فضربه جندي مغربي بالسيف فقتله على الفور. عندئذ بدأ القاضي يضحك. عندما سئل عن سبب ذلك، أجاب: «كنت أحسب أنا خير من هذا الغلام فظهر فضله علي الآن، وقد سبقني إلى الجنة.» وضع بقية العلماء تحت الحراسة في القصبة، بينما مضى جنود الباشا محمود يفتشون في منازلهم، ويأخذون كل ما له قيمة. سجل السعدي في كتاب «تاريخ السودان»: «ونهب أتباعه ما اتصلوا بها [أي كل ما وقعت عليه أيديهم من ممتلكاتهم] وكشفوا عوراتهم وجردوا حرائرهم، وفعلوا بهن الفواحش.» وكان من ضمن ما نهب مكتبة أحمد بابا الكبيرة.
وبعد أن بقي العلماء محبوسين في القصبة مدة خمسة شهور، أمر بأن يؤخذ العلماء الذين اعتبروا خطرين - الذين كان معظمهم من أفراد عائلة آقيت - عبر الصحراء إلى مراكش مع أسرهم. أرسل ما كان جملته سبعين أسيرا مكبلين بالسلاسل. كانت الرحلة شاقة على العلماء الذين لم يكونوا يهتمون بمتاع الدنيا؛ وفي إحدى مراحلها، سقط أحمد بابا، مثقلا بأغلاله، من على جمله، وكسرت رجله. بلغوا مراكش في الحادي والعشرين من مايو، من عام 1594، وأودعوا السجن. ومات القاضي عمر الطاعن في السن هناك.
بعد عامين، أطلق سراح الأسرى الباقين على قيد الحياة وأودعوا في شكل من أشكال الإقامة الجبرية، وسمح لأحمد بابا بمقابلة السلطان. وجد الحاكم العظيم محتجبا عن أنظار البشر العاديين بستار، ورفض أن يتكلم معه حتى أزيح الستار؛ إذ قال بابا إنه بالكلام من وراء حجاب، كان المنصور يتشبه بالله. عندما أذعن السلطان لطلبه، سأله بابا السؤال الذي لا بد أنه كان يعتمل بداخله لسنوات: «أي حاجة لك في نهب متاعي وتضييع كتبي وتصفيدي من تنبكت إلى هنا؟» أجاب المنصور بأن هذا جزء من سعيه لتوحيد العالم الإسلامي وأنه بما أن بابا كان واحدا من أعيان المسلمين في بلده، فإن إذعان بقية مملكة سونجاي من المؤكد أنه سيتبع إذعانه.
كان العقد الذي أمضاه بابا في العاصمة المغربية هو أغزر المراحل إنتاجا في حياته العملية. أصبح مشهورا بصفته فقيها ومدافعا عن حقوق الإنسان، وذاع صيته في سائر أنحاء المغرب. فكان يعلم النحو، والبلاغة، والتوحيد، والفقه المالكي، وكتب بغزارة: إذ كتب ستة وخمسون كتابا من أعماله المعروفة في هذه الفترة. لكنه كان يشتاق إلى وطنه، كما تحكي قصيدة كتبها في المغرب:
أيا قاصدا كاغو [جاو]، فعج نحو بلدتي
وزمزم لهم باسمي وبلغ أحبتي
سلاما عطيرا من غريب وشائق
إلى وطن الأحباب رهطي وجيرتي.
في عام 1607، عندما كان السلطان قد مات، سمح لأحمد بابا بأن يغادر مراكش. وصل إلى تمبكتو في العام التالي وكان الوحيد من الفقهاء المبعدين الذي رأى مدينته الأم مجددا. عاش هناك تسعة عشر عاما أخرى، يعلم ويكتب، وتوفي في الثاني والعشرين من أبريل من عام 1627.
خلده علم تمبكتو؛ فقد كتبت كتب التراجم والتاريخ، في نهاية المطاف، بعد وفاته. ولكن الدمار الذي خلفه الباشا محمود كان قد خرب المدينة، بنص كلمات كتاب «تاريخ الفتاش»:
صارت تنبكت جسما بلا روح. وانعكس أمورها وتغير حالها وتبدل عوائدها. ورجع أسفلها أعلاها وأعلاها أسفلها. وساد أرذالها على عظمائها. وباعوا الدين بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى. وعطل أحكام الشريعة، وأميتت السنة وأحييت البدع، ولا بقي فيها من يتمسك بالسنة، ولا من يسير على منهج التقوى في ذلك الوقت، سوى محمد بغيغ بن أحمد وحده.
قبل مائتي سنة تقريبا من إرسال الرابطة الأفريقية أول مستكشف لها إلى الجنوب، كانت تمبكتو قد بدأت في انحطاطها الطويل.
الفصل السابع عشر
لحظة من الواقع تحاكي أفلام إنديانا جونز!
يناير-فبراير 2013
أنذرت قطرات المطر الصحراوي الكبيرة بتحويل التربة الرسوبية إلى طين أحمر زلق في صباح يوم السابع والعشرين من يناير من عام 2013، عندما التقت مجموعة من الضباط الفرنسيين في المطار المهجور في جوندام، على بعد خمسين ميلا جنوب غرب تمبكتو. كان المبنى الوحيد الموجود في المطار هو كوخ متهدم بدون باب، وشبابيك مدلاة من مفصلاتها، لكنه كان لا بد أن يؤدي الغرض. كانت هذه هي القاعدة التي سيخططون منها لتقدمهم النهائي. رحب الكولونيل بول جيز، قائد مجموعة «جي تي آي إيه 1» القتالية المدرعة، التي كانت قد جاهدت طيلة الأيام الأربعة الماضية في السير على الطريق الصحراوي الممتد على الضفة اليسرى للنهر من باماكو، بالجنرال برنار باريرا، قائد عملية سيرفال، والكولونيل فريدريك جوت، قائد فوج طائرات الهليكوبتر. حيا جيز، وهو ضابط بحرية مفتول العضلات، رئيسه بابتسامة كبيرة وخيارين. قال: «جعة أم ويسكي؟»
كانت عملية سيرفال تجري في إطار زمني ضيق. عندما تلقى جوت الأوامر من المسئولين في باريس بالاستيلاء على تمبكتو بعد أقل من شهر من بداية التدخل، قال لهم إنهم «مجانين». منذ ذلك الحين لم يزدد الجدول الزمني إلا تسارعا؛ إذ كان هو ورجاله الآن يجهزون للهجوم على المدينة في الصباح التالي، بعد سبعة عشر يوما فقط من إطلاق أول طلقة فرنسية. بعدما هزموا في كونا، كان الجهاديون مستمرين في الانسحاب، لكن تقارير المخابرات الفرنسية اقترحت أنهم الآن سيصمدون. قال جوت، وهو رجل طويل القامة، ذو أسنان بيضاء متساوية: «في الشرح الأخير للمهمات أخبرونا بأننا سنلتقي ببعض الجهاديين؛ لذا كان الأمر مؤكدا لنا.»
كان الفرنسيون يعتبرون الجهاديين مقاتلين شديدي العناد: كانوا يقاتلون حتى آخر رجل منهم وربما كانوا يتعاطون جرعات من المخدرات. تذكر جوت: «عندما قاتلونا لم يبد عليهم أنهم يعانون.» ثم أضاف: «في أيامنا الأولى في الشمال، لم يتخلوا مطلقا عن مواقعهم. حتى عندما كانوا يواجهون الدبابات وطائرات الهليكوبتر بالكلاشينكوف فحسب، بقوا في أماكنهم.» قيل لجوت إنه قد ركبت مدافع رشاشة على أسطح منازل تمبكتو لتشكل وابلا مضادا للطائرات، وهو ما جعله مقتنعا بأنهم «سيخسرون بالتأكيد» بعض الطائرات والأفراد. قال: «كانوا منظمين، وكان لديهم القدرة على استخدام أسلحتهم، ولم يكن لديهم مشكلة في المعنويات، وكانوا مقتنعين اقتناعا تاما بمهمتهم.»
في الساعة الخامسة من عصر يوم الأحد، أعطى الجنرال باريرا الأمر بالتقدم. كان سيرتحل بصحبة رتل الجنود الفرنسيين والماليين المدرع بقيادة جيز، الذي كانت مهمته أن يستولي على مطار تمبكتو. في الوقت نفسه، صدرت الأوامر لطائرات الهليكوبتر بقيادة جوت بأن تستطلع الطرق وأن تهاجم أي شيء يمكن أن يعترض المجموعة القتالية. تحرك الرتل المدرع بسرعة أبطأ كثيرا مما كانوا يأملون؛ لأن الظلام كان سيحل بعد قليل وكان ثمة تهديد مستمر من حدوث هجوم بالعبوات الناسفة اليدوية الصنع: كانت الساعة الحادية عشرة مساء عندما وصلوا إلى مشارف المطار.
لم تستغرق طائرات الهليكوبتر وقتا في تغطية المنطقة، وعندما حل الغسق، رأى جوت المدينة لأول مرة. تذكر أنها بدت واهنة، وتكاد بحار الرمال المحيطة بها أن تبتلعها. كان من المستحيل ألا تلفت أكثر من عشر طائرات الأنظار هنا، وكان رجاله متوترين ومستعدين لإطلاق النار عليهم. كانت التقارير الأولى من الطيارين «مفصلة جدا ومجنونة»؛ إذ أخبره أحدهم بأنه يستطيع أن يرى دراجتين بخاريتين، وربما خمسة أو ستة أشخاص، وهو ما اعتبر أنه يمثل «تهديدا حقيقيا.» أخبره الكولونيل بأن يمتنع عن إطلاق نيرانه.
بعد بعض الوقت بات واضحا أنه لم يكن يوجد جهاديون في المدينة. بعث جوت بالخبر إلى لواء الفيلق الأجنبي الفرنسي، «جي تي آي إيه، 4» المحمول جوا الذي كان في انتظار إشارته. ومع اقتراب منتصف الليل، وبينما كان رجال جيز يشقون طريقهم عبر السياج السلكي الذي كان يحيط بمهبط الطائرات جنوب تمبكتو، أنزلت طائرات النقل مائتين من أشهر القوات الصحراوية في العالم إلى الرمال شمالا. كان هذا هو أكبر هبوط مظلي كانت العسكرية الفرنسية قد قامت به منذ أكثر من ثلاثين عاما.
عند الفجر نقل جوت قائد وحدة الفيلق الأجنبي إلى مطار تمبكتو ليعطي شرحا بالمهمات بشأن الهجوم النهائي. على الرغم من أنهم كانوا يعتقدون الآن أن تمبكتو خالية من مقاتلي العدو، فإن هذه لن تكون مهمة مباشرة: عرف الجنرال باريرا أن جنود الفيلق قد يبدءون في إطلاق النار إن رأوا جنودا ماليين مسلحين. قرر تقسيم المدينة إلى مناطق، وقال إن الوحدة التابعة للجيش المالي ستدخل مدينتها أولا.
كشأن الجميع في تمبكتو، عرف إير مالي ما كان يحدث. منذ تدمير محطة توليد الكهرباء، كانت المدينة في حالة من الإظلام شبه الكامل، وكان قد أمضى الأمسيات الماضية يشاهد الأضواء تتحرك بالخارج في الصحراء بينما كان الفرنسيون يجرون مناوراتهم. كان قد رأى قوات المظلات تهبط شمالا ، والرتل يصل إلى مؤخرة المطار حيث كان يوجد السياج السلكي. فكر في نفسه قائلا إنه في أي لحظة سيكون بمقدوره أن يرى العربات المدرعة الفرنسية تمضي في الطريق. ظل منتظرا، لكن لم يأت أحد بعد.
قبل الفجر بقليل، تخلى الناس عن حذرهم ومضوا إلى المساجد للصلاة. فقط عندما خرجوا من المساجد، وكانت الشمس تنشر ضوءا شاحبا، تمكنوا من تمييز أجساد أشخاص بعيدين يسيرون نحو المدينة. عندما اقترب الأشخاص أكثر، استطاع الناس أن يروا أنهم كانوا جنودا ماليين. كانت هذه هي أول قوات حكومية كانوا قد رأوها منذ عشرة أشهر طويلة.
ركب شباب المدينة دراجاتهم البخارية وسلكوا طريق كابارا للترحيب بالجنود ومرافقتهم إلى داخل المدينة. في الساعة العاشرة صباحا، وصل الفرنسيون وتجمهر الناس حولهم. كانت نساء المدينة يصنعن الأعلام سرا لأيام، وفي صباح ذلك اليوم بينما كانت القوات تدخل، اصطف مئات من الناس المبتهجين في الطرقات، يصيحون قائلين: «مالي! مالي! مالي!» و«شكرا فرانسوا هولاند!» ويلوحون بأعلام البلدين ثلاثية الألوان.
قال إير مالي إنه في تلك اللحظة، نسي الناس كل شيء. وأضاف: «كان كل شيء قد انتهى في يوم واحد. حقيقة كوننا أحرارا ... كانت كافية لنا. كان الناس في غاية السعادة.»
قال ديادي: «إن تمبكتو الحرة تمثل لنا شيئا يعجز المرء عن وصفه.» ثم أردف: «لا أحد يستطيع أن يعرف تكلفة عشرة شهور من الحرمان، عشرة شهور من التعصب، عشرة شهور من الإذلال.»
ذهب كبير ضباط الجيش المالي، الكولونيل كيبا سانجارى، مع جنوده إلى مبنى البلدية، ومن هناك مضوا ليقوموا بزيارة مجاملة للجنة الأزمة في منزل ديادي. تذكر ديادي: «جاء الكولونيل كيبا وطاقمه إلى منزلنا، جاءوا إلى غرفتنا.» ثم أردف: «استقبلناهم، ومنحناهم ثقتنا، وقدمنا لهم المشروبات المرطبة. وعندما جمعنا الناس وأخبرناهم بما كان يحدث، أحضروا أطنانا من الأرز واللحم البقري، التي قدموها ليعربوا لهم عن الترحيب بهم.» ثم نظم الجيش المالي نفسه لتأمين المدينة.
كان جوت ينوي أن يتقهقر إلى سيفاري في عصر ذلك اليوم: لم تكن تمبكتو سوى ثانية ثلاث مدن رئيسية في الشمال كان يتعين تحريرها، وكان يحتاج إلى تخطيط المرحلة التالية من العملية، ولكن باريرا أوقفه واقترح أن يدخلا المدينة معا. كان يتعين على الجنرال أن يتأكد من أنها كانت آمنة، ولكن كان لديه أيضا دافع آخر. كان قد صار مفتونا بأسطورة تمبكتو وكان قد أخذ يطالع كتاب كاييه. أراد أن يرى بنفسه المنزل الذي كان المستكشف الفرنسي قد أقام فيه.
مضوا بمركباتهم من المطار في قافلة صغيرة إلى داخل المدينة. تذكر جوت: «كان سكان المدينة كرماء جدا.» ثم أردف: «كانوا يصفقون. كان ثمة الكثير من السعادة، وكان بوسعنا أن نلاحظها.» أقبل الناس ليشكروهم، وبخاصة النساء والأطفال. قادوا مركباتهم بأسرع ما في مقدورهم، لكن سرعان ما أصبحت الأزقة ضيقة للغاية بحيث لم تكن تسمح بمرور المركبات، ونزل منها الضباط وتابعوا سيرا على الأقدام. كان وقت الغسق، وكان الضوء من المنازل يكاد أن يكون غير ملحوظ. وعندما اقتربوا من المبنى الذي كان كاييه قد أقام فيه مدة أسبوعين قصيرين في عام 1828، خرج رجل مسن لتحيتهم. قال للجنرال: «آه، أنت محررنا!» قبل أن يعرض عليه أن يأخذه في جولة. فتح بابا خشبيا، مرصعا بمعدن مصقول على الطراز القديم، وقاد الرجال العسكريين إلى الداخل.
شعر الجنرال بفخر شديد. •••
كان العالم الذي كان يراقب ما يحدث يعتبر أن تحرير تمبكتو كان علامة فارقة في الصراع في مالي، لكن سرعان ما طغت عليه أنباء حدث آخر.
في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، بدأ رئيس البلدية سيسيه، الذي كان في باماكو، يقدم إحاطة إعلامية للصحفيين بشأن إحراق المخطوطات في معهد أحمد بابا. قبل الساعة التاسعة صباحا، قال رئيس البلدية لتوماس فيسي مراسل بي بي سي إنه كان لديه «روايات موثوق بها جدا بشأن إحراق مقاتلين إسلاميين لمخطوطات قديمة في الأيام القليلة الماضية»، بحسب ما ذكر فيسي. بعد ذلك بدقائق، نشرت الصحفية التليفزيونية العربية جنان موسى تغريدة قالت فيها إنها قد أحيطت علما بالأمر نفسه . وبحلول منتصف الصباح كانت وكالات قد تلقفت الخبر وكان يجري إرساله في صورة أخبار قصيرة إلى وكالات الأنباء وتكرر ظهوره في حسابات وسائل التواصل الاجتماعي.
تلا ذلك المزيد من المقابلات مع رئيس البلدية. قال لوكالة أسوشيتد برس: «إنه من المقلق حقا أن هذا قد حدث.» ثم أردف: «لقد أضرموا النار في كل المخطوطات القديمة المهمة، وكتب الجغرافيا والعلوم القديمة. إنه تاريخ تمبكتو، تاريخ أهلها.» وقال لصحيفة «ذا جارديان»: «الخبر صحيح، لقد أحرقوا المخطوطات ... أحرقوا أيضا العديد من المباني. كان أحد الأشخاص يحتفل في الشارع فقتلوه.» بحسب ما ذكر رئيس البلدية، لم تكن المخطوطات «جزءا من تراث مالي فحسب وإنما أيضا من التراث العالمي. إنهم بتدميرها يهددون العالم. علينا أن نقتل كل المتمردين في الشمال.» بدا أن كلمات رئيس البلدية سيسيه مؤكدة عندما زار مراسل سكاي نيوز ألكس كروفورد، الذي كان يرافق القوات الفرنسية الآخذة في التقدم، مبنى معهد أحمد بابا وعرض صورا لصناديق محترقة.
كانت السرية المحيطة بعملية حيدرة فعالة للغاية حتى إنه لم يعرف أي أحد في وسائل الإعلام العالمية تقريبا أي معلومة مختلفة، وكان التصريح الصادر من سيسيه بأن «كل المخطوطات المهمة القديمة» قد أحرقت قد أدى إلى تقديرات كارثية للأعداد التي أتلفت. تذكر معيجا: «كان الجميع يتحدثون عن الأمر، حتى الإذاعة.» ثم أردف: «لكنهم وضعوا أرقاما تخيلية. البعض قال إن مائتي ألف مخطوطة أحرقت، أو شيئا من ذلك القبيل.»
عند منتصف النهار، بعد سويعات فقط من إعلان سيسيه، بعث حيدرة برسالة بريد إلكتروني إلى صديقه في مؤسسة فورد وكانت بلغة إنجليزية مضطربة. بدأها بقوله إن الأمور قد صارت «مقلقة أكثر.» كان الجهاديون قد بدءوا في إحراق المخطوطات. كان يشعر بالخوف من أن تراث المدينة يمكن أن يصيبه الضرر أثناء القتال. واختتم بقوله: «لقد حان الوقت، فمن الضروري توفير الموارد لنقل المخطوطات إلى جنوب البلاد.» سواء كانت رسالة البريد الإلكتروني هذه بدافع من خوف حقيقي أو انتهازية - ففي نهاية الأمر، كانت لحظة كان فيها التهديد الجهادي قد حيد بالتأكيد - فإن مؤسسة فورد تحركت بسرعة، تدفعها دون شك التقارير الكارثية الواردة في وسائل الإعلام. عجل بإرسال طلب تمويل لمنظمة سافاما من خلال المكتب الرئيسي للمؤسسة في نيويورك بمساعدة من المدير التنفيذي الذي سيقود المؤسسة فيما بعد، دارين ووكر. وافقت المؤسسة على منحة قدرها 326 ألف دولار أمريكي، والتي كانت ستغطي تكلفة نقل 922 خزانة إضافية. كان إجمالي المبلغ الذي كانت سافاما قد جمعته لإجلاء مخطوطاتها يقترب الآن من مليون دولار.
في تلك الأثناء، في تمبكتو، كان عبد الله سيسيه لا يزال يفكر بشأن كومة الرماد التي كان قد رآها صباح يوم الخميس. كان الجهاديون قد غادروا للأبد يوم الجمعة، لكنه لم يكن قد عاد إلى داخل المبنى لأنه كان يظن أنه ربما كان ملغما. ومع ذلك كان يعرف أن شيئا ما لم يكن منطقيا تماما. كان يوجد نحو خمسة عشر ألف مخطوطة في المبنى، ولكن لم يكن يوجد خارج قاعة المؤتمرات ما يكفي من الرماد الذي يدل على إحراقها كلها. قال: «لم تكن تلك الكومة من الرماد هي كل الخمسة عشر ألف مخطوطة التي أحرقوها.» فكر في أنه لا بد أن الجهاديين قد سرقوا بقيتها. ثم أردف: «فكرت في أنهم قد أخذوا بعضا منها. كانت تلك هي أول فكرة خطرت لي.»
عندما وصل الجنود الفرنسيون إلى سانكوري، طلبوا أن يتحدثوا إلى الشخص المسئول عن معهد أحمد بابا، واستدعي سيسيه. استجوبوه مطولا بشأن الجهاديين - من كانوا؟ من كان زعيمهم؟ من أي الجنسيات كانوا؟ - وفتشوا المبنى. مثل أي مكان آخر في المدينة، وجدوا ذخيرة وقنابل يدوية في مهاجع الجهاديين. تذكر سيسيه أن الجنود الفرنسيين «أخذوا معهم الكثير من الذخيرة، وأخذوا الكثير من الوثائق حتى يتمكنوا من فهم المتمردين.»
بينما كان الجنود يشقون طريقهم عبر المبنى بحثا عن فخاخ متفجرة، كانوا يضعون علامات برذاذ طلاء أحمر على الغرف التي كانوا قد أخلوها. وعندما وصلوا إلى القبو، ساروا عبر مكان عرض المخطوطات وبدءوا يشقون طريقهم عبر الممر الطويل الذي كانت توجد فيه غرف التخزين. كان يوجد في المجمل سبع من هذه الغرف. كانت ست غرف منها خالية، وأبوابها مفتوحة، بينما كانت الغرفة السابعة موصدة. سمحت نافذة فحص زجاجية للأشخاص أن ينظروا إلى داخل الغرفة، لكن الأنوار لم تكن تعمل، وكان الظلام هو كل ما يستطيع أي أحد أن يراه. وبعدما فتحوا الباب، وجدوا غرفة عادية مملوءة بوحدات أرفف، كانت كل منها مملوءة بصناديق حفظ، في صفوف متراصة بعضها فوق بعض. هنا كان الجزء الأكبر من مخطوطات المبنى، نحو عشرة آلاف مخطوطة، قابعا دون أن يمس.
عندما جرد موظفو الدولة المجموعة لاحقا، وجدوا أن 4203 مخطوطات كانت مفقودة. قالوا إن الوثائق المفقودة كانت مقتنيات جديدة، كانت قد تركت في غرفة الترميم في الطابق العلوي من مبنى سانكوري وكانت هدفا ملحوظا للصوص الانتهازيين. وفيما يتعلق بسبب ترك العشرة الآلاف مخطوطة المتبقية الأخرى، قال سيسيه إنه يظن أنه لا بد أن اللصوص قد افترضوا أن غرفة التخزين الموصدة كانت خالية كبقية الغرف الست الأخرى، ولم يكلفوا أنفسهم عناء فتح الباب عنوة. كان هذا الأمر دليلا واضحا على القوة الروحية للمدينة.
قال: «إنه حقا لغز تمبكتو.» •••
في تلك الأمسية، اصطحب حيدرة تو تجيوكر لتشاهد المزيد من الخزائن الآتية إلى باماكو. مجددا صدمت من مظهره. قالت: «كان متسخا ومجهدا تماما.» ثم أردفت: «أظن أنه لم يكن لديه ما يكفي من الوقت للاغتسال.» كان مجهدا للغاية، لكنه كان «فخورا جدا بإخراجها.» اعتقدت أنه كان في حقيقته رجلا خجولا أجبر على مضض على تولي دور قيادي. تذكرت قائلة: «أظن أنه في العادة رجل صموت ... وليس من النوع القيادي.» ثم أضافت: «ولكن بسبب الظروف اضطر إلى أن يحول نفسه إلى زعيم رابطة العائلات.»
اصطحب حيدرة تجيوكر إلى منزل زوجته الثانية، وهو عبارة عن مبنى كبير وفخم بحديقة على الضفة الجنوبية للنهر، حيث أخذها إلى غرفة مليئة بالخزائن من أرضيتها إلى سقفها؛ وبداخل كل خزانة كانت توجد مجموعات من المخطوطات. سلبت الوثائق نفسها - القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن التي كانت صميم عملية الإجلاء - لب الدبلوماسية الهولندية. قالت: «كانت المحتويات جميلة جدا. كانت مذهلة . كانت المخطوطات كلها عبارة عن صنوف من الجودة، أتعرف ما أقصد؟ بعضها كان ملونا، والبعض الآخر كان بسيطا فحسب - مجرد رسالة حب ... كان ذلك جميلا جدا.»
بالمثل أعجب شترايدر، القائم بالأعمال في السفارة الألمانية، بما عرض عليه من الشحنات التي وصلت إلى باماكو. شعر بأنه كان «عملا جيدا حقا.» وقال: «رأيت الكثير من الكتب - كان لدي فرصة أن أطلع عليها في باماكو - وكان هذا مذهلا، الشعور بأن لديك بعض المخطوطات التي ترجع إلى القرن الثالث عشر أو حتى الثاني عشر، والكثير جدا من المخطوطات المختلفة ... التي كتبت كلها منذ قرون بعيدة. كان شعورا عظيما أننا ساهمنا في الأمر.»
ومع ذلك، لم تكن عملية الإجلاء قد اكتملت بعد. ففي الثلاثين من يناير، بعد يومين من التحرير، أبلغ حيدرة الشخص الذي كان على اتصال به في مؤسسة فورد، جوزيف جيتاري، بأن عشرين قاربا كانت تغادر الآن منطقة تمبكتو حاملة ثلاثمائة صندوق من المخطوطات. وكتب يخبره أنهم كانوا سيمضون أربعة أيام في النهر إلى أن يصلوا إلى جني، قبل أن يختتم بعبارته المعتادة: «تحياتي!» أحال جيتاري هذه الرسائل الإلكترونية إلى دارين ووكر، مضيفا ملاحظة من عنده: «العملية مستمرة. لحظة من الواقع تحاكي أفلام إنديانا جونز!»
في يوم الجمعة، الموافق الأول من فبراير، وصلت إلى جني عشرة قوارب أخرى تحمل 150 صندوقا إضافيا؛ أنزل 157 صندوقا آخر في اليوم التالي.
في يوم الخميس، الموافق السابع من فبراير، في الساعة الثامنة وثلاث عشرة دقيقة صباحا، أرسل حيدرة إلى جيتاري رسالة بريد إلكتروني تحمل خبر وصول الشحنة الأخيرة. «أود فقط أن أبلغك بأن القوارب الأخيرة وصلت للتو إلى جني. هذه الرحلة هي تتمة نقل 922 صندوقا إلى جني عبر النهر. ستصلك قريبا صور عمليات الوصول الأولى لصناديق المخطوطات إلى باماكو. تحياتي!»
كان يبدو أن مهمة حيدرة الجبارة لإنقاذ مخطوطات تمبكتو قد اكتملت أخيرا.
الفصل الثامن عشر
حمى المخطوطات
1967-2003
بعد اكتشاف كتب تأريخ تمبكتو وترجمتها، بدأت قصة المدينة الأسطورية تختفي في النصف الأخير من القرن العشرين. ومع أنه كان لا يزال من السهل أن تجد أكاديميين يكتبون عن الحملات الاستكشافية المالية إلى أمريكا، أو عن الخمسة والعشرين ألف طالب الذين كانوا يدرسون بجامعة تمبكتو أثناء العصور الوسطى السودانية، فإن مجموعة قليلة، ولكنها كانت آخذة في التزايد، من المتخصصين في الدراسات الأفريقية كانت تفتت شيئا فشيئا الأساطير أملا في إخراج حقيقة موضوعية. ففي نهاية الأمر كان التاريخ رائعا بما يكفي، ولا يتطلب المزيد من التنميق. ما كان متبقيا - «القصة الشائعة»، الرواية المألوفة لقصة تمبكتو والسونجاي - كان يستند على كتب سرد الوقائع التاريخية وعلى قوائم ملوك سونجاي التي أوردتها، من سلالة زا إلى الأسكيين عبر سني علي كولون وخلفائه. هذه التفاصيل كانت حقائق، وهو ما كان من الممكن للمؤرخين أن يتفقوا عليه إلى حد بعيد.
قرب نهاية عام 1967، نظمت منظمة اليونسكو ملتقى للخبراء حول مخطوطات غرب أفريقيا في تمبكتو، في دولة مالي المستقلة حديثا. من بين الضيوف كان الرجل الذي سيعرف بعميد خبراء مخطوطات تمبكتو، وهو جون هنويك. أوصى الملتقى - وهو ما كان من وجهة نظر هنويك «أكثر قليلا من مجرد أمل خادع» - بإقامة معهد أبحاث في تمبكتو لجمع وحفظ التراث الإسلامي للمنطقة. بل إنه اقترح اسم له: مركز أحمد بابا. في غضون عشر سنوات، كان هذا المعهد قد تأسس، وهو ما كان بمنزلة مفاجأة لهنويك. كانت مالي الآن تمتلك برنامجها المعترف به دوليا والمكرس للبحث في ماضي المنطقة من خلال وثائقها.
بحلول عام 1992، عندما عاد هنويك للتفتيش عن نسخ من كتاب «تاريخ السودان» من أجل ترجمة إنجليزية جديدة كان بصدد إعدادها، كان المعهد قد أحرز المزيد من التقدم: كان الآن يفتخر بأنه يضم إدارة لترميم المخطوطات وقسما يمكن فيه تحويل الأعمال إلى ميكروفيش. وكان يمتلك أيضا عددا متزايدا من الوثائق - أكثر من 6300 وثيقة - بالإضافة إلى مكتبة صغيرة للأعمال المطبوعة. كتب هنويك أنه يجد أن «من الصعب إعطاء صورة منصفة عن ثراء المجموعة.» كان معظم العناصر لمؤلفين محليين ويندرج تحت تصنيفين واسعين: عناصر ذات طابع «أدبي»، وتشمل الدراسات الدينية، وكتب تسجيل الوقائع التاريخية، والقصائد؛ وعناصر ذات طابع «وثائقي» وتشمل خطابات، ووثائق قانونية، ومخطوطات متعلقة باستئجار منازل، وجداول ميراث، وملكية أراض، وما إلى ذلك.
من ضمن الأعمال الأدبية، قال هنويك إنه توجد نسختان لكل من كتابي «تاريخ السودان» و«تاريخ الفتاش». كان يوجد أيضا كتب لتاريخ أزواد وشعب البربر، ولتاريخ بلدة تادمكة التجارية القديمة. كان يوجد قواميس تراجم، بالإضافة إلى تأريخ للحروب بين الطوارق والفرنسيين؛ ونسخة من كتاب التأريخ «ديوان الملوك» مجهول المؤلف الذي كان دوبوا قد عثر عليه. اشتملت الدراسات الدينية البارزة على أعمال لعائلة فقهاء كونتا الذين كانوا قد فعلوا الكثير لمساعدة لينج وبارت، ومن ضمنهم سيدي المختار، وسيدي محمد، وسيدي أحمد البكاي. كان يوجد أعمال لأحمد بابا نفسه ولأعضاء آخرين من عائلة آقيت ذائعة الصيت. ثم كانت توجد مجموعة كاملة من المخطوطات في تصنيف هنويك الثاني، وهو العناصر ذات الطابع «الوثائقي».
في هذا الوقت، كان طاقم عمل مركز أحمد بابا يضم الشاب عبد القادر حيدرة، الذي ذكر هنويك أنه كان لديه «صلات جيدة بالكثير من العائلات في المدينة.» ومع ذلك كان العنصر الأهم في تطور المركز الذي كان في مهده هو مديره، محمود زوبر. كان زوبر شخصية نادرة المثال، حتى في أواخر القرن العشرين: كان عالما ماليا معترفا به من قبل الأوساط الأكاديمية الدولية. كان يتقن لغات الفولاني، والسونجاي، والتماشق، والعربية، والفرنسية، وكان لديه معرفة عميقة بتاريخ وثقافة منطقة النيجر الوسطى، وكان قد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون عن بحثه في حياة أحمد بابا.
تحت قيادة زوبر، تزايدت شهرة مركز أحمد بابا خلال تسعينيات القرن العشرين، كما تزايدت أيضا مجموعته. في تلك الأثناء، قام حيدرة بمحاولاته الأولى للنهوض بالمكتبات الخاصة. وقرب نهاية العقد، تلقت حظوظ تمبكتو دفعة كبيرة بزيارة ضيف مميز للغاية: هنري لويس جيتس الابن. كان جيتس، الرئيس البارز لقسم الدراسات الأفريقية والأفريقية الأمريكية بجامعة هارفرد، قد أتى إلى مالي لعمل فيلم لسلسلة وثائقية من إنتاج شبكة «بي بي إس» التليفزيونية بعنوان «عجائب العالم الأفريقي». وعلى العكس من الرجال البيض الذين كانوا قد استكشفوا تمبكتو في الماضي، تناول جيتس الموضوع من المنظور المختلف اختلافا كبيرا لشخص من نسل العبيد. كانت زيارته بالتأكيد مشحونة سياسيا؛ ففي الفيلم، الذي عرض لأول مرة عام 1999، صرح بأنه «بصفتي أمريكيا من أصول أفريقية، أعرف شعور أن يسرق تاريخك منك.»
رافق سيدي علي ولد، المرشد الذي يتحدث اللغة الإنجليزية، جيتس في جولة إلى مسجد سانكوري، واصطحب جيتس لمقابلة حيدرة ورؤية كتبه. في هذه الأيام التي سبقت بناء مكتبة مما حيدرة التذكارية، كانت المجموعة محفوظة في غرفة تخزين مزدحمة بصناديق معدنية قديمة، وكانت المجلدات مغطاة بطبقة رقيقة من التراب والرمل. أصيب جيتس بذهول؛ فهنا كان يوجد آلاف المخطوطات، قليل منها مغلف بالجلد، والبعض الآخر كان مجرد أكوام من المطويات السائبة الملفوفة معا بحرص، وبعضها يحتوي على نقوش ذهبية ورسوم توضيحية قدر أنها تساوي آلاف الدولارات في دور المزادات الرئيسية في العالم. واعتقد أنها إن ترجمت فقد تعيد كتابة تاريخ أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى برمته.
وصف هذه اللحظة في يوميات نشرت على الإنترنت:
بينما كنت واقفا في «مكتبة» حيدرة ... تخيلت الشعور الذي شعر به راعي الغنم وهو ممسك في يده بمخطوطات البحر الميت، شاعرا ربما بعظمة اكتشافه، ولكنه عاجز عن كشف أسراره. هنا، في «بوابة الصحراء»، على حافة طريق الصحراء الكبرى الرملي العظيم الذي تسلكه الجمال، حيث يلتقي عالمان مختلفان طيلة ألف عام، أمسكت في يدي بما قد يكون آخر بقايا الإنجاز الفكري لعالم أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
لاحقا، وهو يتحدث أمام الكاميرا في ساحة مسجد سانكوري والدموع في عينيه، تخيل جيتس نفسه «محاطا برجال سود يلبسون الأردية الطويلة والعمائم، التي حصلوا عليها علامة لهم على درجتهم العلمية عند تخرجهم، وكل واحد منهم يحمل كتبا، وهذا المكان كله محاط بالكتب»:
في نفس الوقت بالضبط الذي قال فيه الأوروبيون إن أفارقة جنوب الصحراء الكبرى يفتقرون إلى القدرة الفكرية على القراءة أو الكتابة، كان هذا المكان، الذي تأسس تقريبا في نفس وقت تأسيس جامعة باريس وجامعة بولونيا ... وقبل تأسيس جامعتي المحبوبة هارفرد بثلاثمائة وإحدى عشرة سنة كاملة ... يزخر بخمسة وعشرين ألف طالب وعالم اجتمعوا من كل أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وشمال أفريقيا وأتوا إلى هنا لأن هذا المكان كان مركز التعلم العظيم في أفريقيا.
قال جيتس إن هذا كان «كافيا لجعلي أبكي.»
على الرغم من أن سرد جيتس عن تمبكتو كرر العديد من الأخطاء التي ارتكبها المؤرخون الاستعماريون، فقد كان من شأنه أن يغير ديناميكيات تجارة المخطوطات تغييرا جذريا. فها هو رجل أسود، «أمريكي» أسود، أستاذ بارز له كرسي في جامعة هارفرد، يذرف الدمع بسبب اكتشافه الشخصي لدليل مكتوب على الماضي الفكري لأفريقيا، الدليل على مهزلة قرون من العنصرية الأوروبية. لماذا لم يكن يعرف بالأمر؟ ولماذا لم يكن العالم يعرف؟ لدى عودته إلى الولايات المتحدة، بدأ جيتس في حشد الدعم المالي لحيدرة، والذي أتى في صورة منحة من مؤسسة أندرو دبليو ميلون. وبعد سنوات من محاولة التمبكتي لتجميع القليل من التمويل من أجل مشروعه المتمثل في المكتبات الخاصة، بدأت الأموال أخيرا تتدفق إليه. وسرعان ما أصبحت المدينة الفقيرة بؤرة ازدهار في مجال المخطوطات: حفزت مبالغ التمويل المتزايدة - التي تبرعت بها منظمة اليونسكو، ومؤسسة فورد، والنرويج، ولوكسمبورج، والولايات المتحدة - الناس على جلب المزيد من الوثائق من القرى المحيطة بتمبكتو، بينما بدأت مدن مالية أخرى، مثل جني وسيجو، في مشاريع المخطوطات الخاصة بها. رحب مالكو المخطوطات بالأموال، ولكن كان للازدهار جانب أكثر قتامة: أصبحت المكتبات تقيم، ليس بجودة كتبها فحسب، وإنما أيضا بأعدادها؛ أخذت الأرقام المزعومة تتصاعد أعلى فأعلى، وتضخمت المجموعات عن طريق الشراء العشوائي. ووجدت المكتبات الخاصة والعامة نفسها يتبارى بعضها مع بعض في إطار تدافعها من أجل الحصول على التمويل. أفصح طلب منحة منظمة سافاما، المكتوب في العقد الأول من القرن الحالي، عن ذلك: كان مركز أحمد بابا قد تمكن من جمع عشرين ألف مخطوطة أو نحو ذلك، لكن هذا كان «صغيرا للغاية مقارنة بمئات الآلاف (ربما حتى الملايين) من المخطوطات المملوكة لأفراد.»
لم يكن جيتس هو الرجل الوحيد الذي كان لديه طموحات سياسية فيما يتعلق بالمخطوطات. في نوفمبر من عام 2001، جاء الرئيس الجنوب أفريقي تابو إيمبيكي إلى تمبكتو بصحبة نظيره المالي، الرئيس ألفا عمر كوناري، وهو في الأصل مؤرخ. أطلع إيمبيكي على مساحة العرض الضيقة في مبنى أحمد بابا في شارع شيمنيتز، والتي كانت تحتوي فقط على خزانتين زجاجيتين صغيرتين، قبل أن يصطحب إلى ورشة ترميم مليئة بمعدات صدئة عفا عليها الزمن. وبينما كان الرئيس الجنوب أفريقي يستمع إلى شرح عن تاريخ محتويات المخطوطات، أدرك الفرصة التي أمامه.
لم يكن قد مر سوى أحد عشر عاما فقط على قيام نيلسون مانديلا ب «مسيرته نحو الحرية»، وسبعة أعوام فقط على انتخابه رئيسا وأعلن أن الفصل العنصري البغيض قد صار شيئا من الماضي. كان إيمبيكي، باعتباره خلفا لمانديلا، يضغط بشدة لتحرير القارة من التفكير العنصري الذي ينتمي إلى الماضي. أدرك أن الأدلة الموجودة في مركز أحمد بابا يمكن استخدامها لإعادة توجيه الحياة الفكرية للقارة بعيدا عن تفضيلها المتحيز للندن وباريس، العاصمتين الاستعماريتين القديمتين، ويمكن أن تساعد في صياغة هوية محلية للقارة.
عند عودته إلى جنوب أفريقيا، بادر إيمبيكي إلى بدء مشروع عملاق كانت مهمته استغلال المخطوطات. على مدى العقد التالي، كانت ملايين الدولارات من الأموال الجنوب أفريقية ستضخ من أجل البناء، وصيانة المخطوطات، والبرامج البحثية في مالي وجنوب أفريقيا لتطوير ما وصفه شاميل جيبي، رئيس مشروع مخطوطات تمبكتو في جامعة كيب تاون، بأنه «تراث أدبي تعرض للتقليل من شأنه إلى حد كبير ومن المحتمل أن يكون رمزا لتراث قاري أوسع نطاقا من الإبداع والتقليد المكتوب على وجه التحديد.» في عام 2009، افتتح مبنى مركز أحمد بابا الجديد، المصمم على يد معماريين جنوب أفريقيين، والذي تكلف 8,36 مليون دولار، بجوار مسجد سانكوري، متضمنا خدمات ترميم المخطوطات وتصنيفها ورقمنتها.
مع تدفق الأموال إلى تمبكتو، ووصول أرقامها إلى مستويات مذهلة، كان من المؤكد أنه لن يمضي وقت طويل قبل أن تقدم الوثائق اكتشافات ذات أهمية تاريخية. ولكن التقدم كان بطيئا على هذه الجبهة. في عام 1999، بدا أن هنويك كان على وشك أن يتوصل لكشف مهم عندما أطلع على كنز دفين من الوثائق في مكتبة فوندو كاتي كان يبدو أنه يحتوي على مواد مرجعية أصلية لكتاب «تاريخ الفتاش»، مكتوبة على هوامش نصوص أخرى. كانت هذه الوثائق تمثل، بحسب ما قيل لمراسل صحيفة «شيكاجو تريبيون» في عام 2001، المعادل الأفريقي للوثائق الأنجلو ساكسونية، وهو ما كان من شأنه أن يغير الآراء التي كانت تحظى بالقبول منذ وقت طويل عن التاريخ الأفريقي. إلا أن هنويك كان قد أصيب بسكتة دماغية في عام 2000، وتوقف البحث في الوثائق. في الواقع، عندما قلبت الأمور رأسا على عقب فيما يتعلق بالتاريخ السوداني، لم يكن ذلك على الإطلاق بسبب اكتشافات جديدة في المخطوطات. في العقد الأول من القرن الحالي، أتت أهم الاكتشافات المتعلقة بحقبة سونجاي من مصدر مختلف تماما؛ ألا وهو، النقوش العربية من العصور الوسطى المكتوبة على شواهد القبور في المنطقة.
كان الرجل الذي فك رموز هذا الدليل المتعلق بالكتابات المنقوشة هو طبيب بشري برازيلي تحول إلى منقب في التاريخ يدعى باولو فرناندو دي مورايس فارياس. كان فارياس قد عاش وعمل سنوات عديدة في غرب أفريقيا وتنامى لديه شغف بهذه الكتابات التي يرجع تاريخها إلى قرون عديدة. ماذا كانت تعني؟ أي ثقافات أنتجتها؟ أمضى فارياس ثلاثين عاما في اكتشاف ذلك. ظهر عمله الأعظم «نقوش العصور الوسطى العربية من جمهورية مالي»، في عام 2003، بعد أربعة أعوام من نشر هنويك لترجمته الإنجليزية الجديدة البارزة لكتاب «تاريخ السودان». كان من شأن النتائج أن تشكل تحديا لأسس التأريخ الشائع القبول عن تمبكتو وإمبراطورية السونجاي الذي كان قد بدأ باكتشاف بارت لكتاب «تاريخ السودان» في عام 1853.
بما أن الكتابات المنقوشة، التي كان قد أعيد اكتشافها في القرن العشرين، كانت ترجع إلى ذلك العصر، لذا كانت أقدم مصادر الكتابة في المنطقة وأكثرها موثوقية، إذ كانت تسبق كتب التأريخ بمئات السنين. ومع ذلك فقد تعرضت للتجاهل إلى حد ما لأنها لم تكن تتوافق مع التأريخ المذكور في كتابي «تاريخ السودان» و«تاريخ الفتاش». كان الأكاديميون قد تفاعلوا معها بنوع من «فورات الحماس» التي استتبعها «عدم يقين معطل»، بحسب ما كتب فارياس؛ إذ لم يكن لديهم أي فكرة عن كيفية ربطها بالمصادر الوثائقية المعروفة: لم تتطابق التواريخ، ولا أسماء السلالات الحاكمة، ولا الحكام. كان يمكن فقط لشخص بمعرفة وتفاني فارياس أن يفهمها ويكتشف الكيفية التي يمكن أن تتوافق بها مع الكتب التاريخية.
ما بدأ البرازيلي يدركه هو أن كتب التاريخ على الرغم مع كونها مصدرا قيما، فإن أجزاء كبيرة منها لم تكن دقيقة تاريخيا على الإطلاق: في الواقع، كان مؤلفوها قد صاغوا سردا لتاريخ سونجاي من أجل المهمة السياسية المتمثلة في إعادة توحيد الناس الذين عاشوا في منحنى نهر النيجر بعد الغزو. كان الغزو المغربي قد حول الأسكيين إلى ملوك أشبه بالدمى وأدى إلى تقليص الامتياز الذي كان يتمتع به سكان المدن المتعلمون في ظل حكمهم، بينما كان سماسرة السلطة الجدد في منطقة سونجاي لا يزالون يصارعون من أجل الحصول على الشرعية. وبحسب ما برهن فارياس، فإن كتب التاريخ كانت لذلك مصممة على هيئة شكل من أشكال «إدارة الكوارث»، وهو شكل جديد من الأدب يهدف إلى التوفيق بين النخب وتمكينهم من المضي قدما معا. لقد كانت مؤلفة بطريقة جعلت قصة السونجاي تظهر على صورة «سرد فريد ومحكم»، لكن هذا كان مصطنعا؛ إذ اختصرت فترات نفوذ القوى الأجنبية مثل مالي وبسطت فترة حكم ملوك سونجاي إلى الوراء وكذلك إلى الأمام عبر الزمن. هذه النسخة المعدلة من الأحداث ذات الطابع القومي المنتمي إلى السونجاي استبعدت من قوائم الملوك سلالات حاكمة كاملة، مثل سلالة تحمل لقب «ملك»، كان بعضها يسبق سلالة زا، وعلى الأقل ست حاكمات نساء حملن لقب «ملكة» وشكلن سلسلة ملكية مستقلة.
للمساعدة في ملء الفجوات في تاريخ سونجاي، اقتبس مؤلفو كتابي «تاريخ السودان» و«تاريخ الفتاش» من أساطير سابقة لثقافات أخرى. أخذت قصة علي كولون، على سبيل المثال، من تراث الطوارق، ومن المحتمل أنه لم يكن شخصية حقيقية ، شأنه في ذلك شأن زا الأيمن، الملك الأسطوري الذي قتل الإله-السمكة.
بحسب ما كتب فارياس، كان يوجد سببان وراء أن المؤرخين الأقدم لم يلاحظوا هذه الأخطاء. كان السبب الأول هو المصادفة القدرية التي جعلت بارت يعثر على كتاب «تاريخ السودان» وليس على دليل الكتابات المنقوشة. وبعد أن اطلع المؤرخون على كتب التاريخ بكل تفاصيلها النابضة بالحياة، كانوا مترددين في قبول الأدلة التي تعارضت معها. كان السبب الثاني، بحسب فارياس، نتاجا للثقافة العنصرية في أواخر القرن التاسع عشر. كان المستشرقون الفرنسيون قد اعتبروا أحمد بابا مثالا لفقهاء تمبكتو بسبب كتابته العربية النثرية الجميلة، بينما نسب إلى مؤلفي كتابي «تاريخ السودان» و«تاريخ الفتاش» فحسب، الذين كتبوا أعمالهم في فترة لاحقة وبلغة عربية ركيكة، فضل قدرتهم على النقل الأمين لاكتشافات أسلافهم الألمع.
من وجهة نظر فارياس، لم تجعل هذه الاكتشافات كتب التأريخ عن تمبكتو غير ذات صلة. ليس الأمر كذلك على الإطلاق. لقد كانت أكثر تطورا وتعقيدا مما اعتقد أي أحد. فبتجميلها للتاريخ بهذه الطريقة، كانت قد شكلت أكثر كتابة مبدعة خرجت في أي وقت من المدينة. وخلص إلى ما يلي: «يجب علينا أن نعتمد اعتمادا أقل على عمليات إعادة البناء التي قدمتها كتب التأريخ للماضي القديم، وأن نتعلم في الوقت نفسه احترام مهارات المؤرخين بصفتهم حرفيين في كتابة النصوص وعملاء أيديولوجيين.»
لذا حتى في بداية القرن الحادي والعشرين، في الوقت الذي يمكن فيه القول إن الكثير من اللبنات الأساسية لتاريخ العالم قد ترسخت، كان ماضي غرب أفريقيا محل مراجعة وتنقيح جاد. أظهر فارياس، مرة أخرى، أن ما كان يعتقد لزمن طويل عن تمبكتو كان خطأ.
الفصل التاسع عشر
مصنع الأساطير
2013-2015
في الأيام التي تلت التصريح المثير لرئيس البلدية سيسيه، تباطأت أنباء الإجلاء في الظهور للعلن. بدا أن لا أحد يريد أن يكشف قبل الأوان الحقيقة المتمثلة في أن كل المخطوطات تقريبا كانت في مأمن. في جامعة كيب تاون، استقبل فريق مشروع مخطوطات تمبكتو مكالمات من صحفيين يبحثون عن تحليل خبير لما قد حدث. دعاهم الأكاديميون إلى توخي الحيطة. فبمجرد أن شاهدوا الصور التلفزيونية الآتية من مبنى أحمد بابا، عرفوا أن جميع الوثائق لم تحرق: فببساطة لم يكن ثمة ما يكفي من الأضرار، ولا ما يكفي من الرماد. وعندما اتصلوا بزملائهم في مالي فوجئوا بأن لا أحد منهم كان من شأنه أن يفسر بالضبط ما قد حدث. تذكرت سوزانا مولينز ليتيراس، التي كانت وقتئذ طالبة دكتوراه تعمل مع المشروع، قائلة: «امتنعوا عن أن يطلعونا على الأمر.» ثم أضافت: «أخبرونا بأن هذا كان لأسباب أمنية، وأن الأمر كان غير آمن على الإطلاق.» بدا لها أنه في ذلك الوقت كان هذا القدر من الحيطة غير ضروري.
ومع ذلك، بدأت معلومات منتقاة تتسرب إلى أولئك الذين كانوا يعرفون حيدرة معرفة جيدة. قال جان-ميشيل دجيان، وهو كاتب فرنسي تخصص في ثقافة غرب أفريقيا، لصحيفة «ذا نيويوركر» في يوم التحرير إن معظم مخطوطات تمبكتو - «نحو خمسين ألفا» - كانت آمنة وإن حيدرة قد نقل أكثر من خمسة عشر ألفا إلى العاصمة قبل شهرين لحمايتها. في وقت لاحق من ذلك الأسبوع، كتب المراسل المخضرم في أفريقيا تريستان ماكونيل مقالا لكل من صحيفة «جلوبال بوست» الرقمية ومجلة «هاربرز» كشف فيهما حيدرة تفاصيل عملية الإجلاء. كتب أن رجل المكتبات كان قد شرع، متعاونا مع «حفنة من المتطوعين»، في إخفاء مخطوطات تمبكتو. كان قد عمل، بمعاونة «خمسة عشر زميلا»، كل ليلة لمدة شهر في وضعها في خزائن، بادئا بمجموعة مما حيدرة ثم منتقلا إلى مجموعات أخرى. كان «أكثر من ألف» صندوق من المخطوطات قد دفنت تحت أرضيات طينية، أو خبئت في خزانات وغرف في منازل خاصة، أو أرسلت عبر النهر. قال حيدرة لماكونيل إنه رفض عروضا بمساعدة إضافية، لأنه لم يرغب في أن يعرف أحد آخر الموضع الذي كانت المخطوطات مخبأة فيه.
عندما أدركت وسائل الإعلام العالمية أن ما كان يعتقد أنه قد دمر كان في الواقع قد حفظ، بدأت جولة جديدة من التغطية الصحفية، وبدأت أعداد المخطوطات التي أجليت في التزايد. بحلول الخامس والعشرين من فبراير، كان الخمسة عشر ألف مخطوطة التي ذكرها دجيان قد صارت، بحسب مجلة «دير شبيجل»، «أكثر من مائتي ألف وثيقة، أو نحو ثمانين بالمائة من [مخطوطات تمبكتو]»، وذلك نقلا عن وزير الخارجية الألمانية كمصدر لها. لاحقا ذكرت وثيقة إحاطة ألمانية أن الرقم هو مائتان وخمسة وثمانون ألفا، بينما في أبريل، في مجلة «ذا نيو ريببلك» الأمريكية، ذكر نقلا عن حيدرة أنه زعم أن «خمسة وتسعين بالمائة تقريبا من مخطوطات المدينة البالغ عددها ثلاثمائة ألف مخطوطة قد وصلت بأمان إلى باماكو.» بحلول عام 2015 كان من شأن نسبة الخمسة والتسعين بالمائة هذه أن تصبح 377491 مخطوطة، شحنت فيما يقرب من 2500 خزانة. لم يكن هذا العدد يشمل الأربعة والعشرين ألفا أو نحو ذلك التي أجليت من مبنى أحمد بابا القديم، وهو ما كان من شأنه أن يصل بالمجموع إلى أكثر من أربعمائة ألف مخطوطة.
في الثالث عشر من مارس، من عام 2013، بعد ستة أسابيع من التحرير، أطلقت دياكيتي حملة جديدة لجمع التبرعات، تحت اسم «تي 160 كيه»: «مكتبات تمبكتو في المنفى»، إلى جانب محاضرة في جامعة أوريجون. (قالت إن تسمية «تي 160 كيه» تشير إلى «المائة والستين ألف مخطوطة الأولى» التي كانت قد أجليت من تمبكتو.) في محاضرتها، تذكرت دياكيتي كيف هب أهل تمبكتو والقرى المحيطة بها لتقديم المساعدة لإنقاذ التراث، في الوقت الذي كانوا يشعرون فيه بالخوف على حياتهم ومستقبلهم، ولا يتلقون أي نوع من الدخل لأن أعمالهم التجارية أو وظائفهم كانت قد انحسرت مع الأزمة. دمعت عيناها تأثرا بقوة القصة. وقالت: «سأبدأ في البكاء في أي لحظة هنا مجددا.» ثم أضافت: «ها قد بدأت.»
تكلمت لمدة خمسين دقيقة - «وهي مدة قصيرة من الوقت لمغامرة بهذه الضخامة»، على حد وصفها - لكنها كانت كافية لها لتكشف النتائج الجديدة المثيرة للاهتمام بشأن المخطوطات. قالت إنه أثناء عملية الإجلاء، كان العاملون قد قاموا بعمل قائمة جرد تقريبية، واكتشفوا للمرة الأولى أن عدد الكتب الدينية في المجموعات كان أدنى بكثير من عدد الأعمال العلمانية، التي كانت تشمل أشعارا، وأقاصيص، ومقالات، وكتبا للطهي، وأعمالا عن علوم العصور الوسطى، والطب، والموسيقى، و«غير ذلك الكثير.» ومع ذلك فإن ما كانت لا تزال تجده مثيرا هو مبحث كانت قد نقبت عنه قبل ذلك بعقد تحت رعاية «المجموعة البحثية الخاصة بحل النزاعات الخاصة» في مالي، وهو: المخطوطات التي احتوت على نصوص كانت تستخدمها جماعة من الدبلوماسيين الإسلاميين تسمى «سفراء السلام»، وفي رأيها أنه ينبغي الآن استخدام هذه النصوص لتتصدر جهود عملية المصالحة في مالي. بل إن هذه النصوص يمكن أن تحتوي على نموذج لحل المنازعات في جميع أنحاء القارة.
إن الطريقة التي جمعت بها المخطوطات الناس أثناء عملية الإجلاء تقودنا إلى الاعتقاد بأنها، وهذه المادة المرجعية، يمكن أن تقود عملية إحلال السلام الدائم في مالي، وربما يكون هذا هو قدر المخطوطات، على الأقل في هذه الصيغة لوجودها.
ولكن قبل أن يمكن للمخطوطات أن تحقق هذا القدر، كان ثمة حاجة إلى المزيد من التمويل. فبعيدا عن كونها آمنة، كانت المخطوطات في باماكو واقعة تحت تهديد طقس المدينة الرطب، واستلزمت هذه الأزمة الجديدة مبالغ مالية أكبر من تلك التي استلزمتها عملية الإجلاء. كان المستهدف من حملة «تي 160 كيه» - التي روج لها في وسائل الإعلام القديمة والجديدة على حد سواء - هو سبعة ملايين دولار أمريكي. بعد مرور شهرين، في الخامس عشر من مايو، نشر حيدرة «خطة عمل لإنقاذ مخطوطات تمبكتو التي أجليت إلى باماكو، والحفاظ عليها، وزيادة قيمتها»، والتي فصلت تكاليف الحفاظ على وثائق منظمة سافاما ورقمنتها وفهرستها والبحث فيها. حددت تكلفة هذا البرنامج الذي كانت مدته ثلاث سنوات بمبلغ أعلى بكثير، بما يزيد قليلا عن 22 مليون دولار أمريكي: وهو مبلغ هائل في بلد كان متوسط الدخل السنوي فيه 1500 دولار أمريكي فقط.
استجاب العديد من المانحين للنداءات الجديدة. ساهمت وزارة الخارجية الألمانية ومؤسسة جيردا هنكل بحوالي مليون دولار سنويا، بينما قاد فريق من جامعة هامبورج الجهود للحفاظ على المخطوطات وفحص محتوياتها . اشترت منظمة سافاما أجهزة لإزالة الرطوبة، ورممت بناية كبيرة في جنوب باماكو لتكون مقرا لها. وهناك، بدأت جديا العملية البطيئة لصنع صناديق جديدة خالية من الأحماض من أجل المخطوطات وتصويرها، حيث وظف حيدرة جيشا كبيرا من الموظفين. كانت سافاما الآن في طريقها للتفوق على الأرشيف الذي تديره الدولة باعتبارها المرجع الرئيسي للمخطوطات المالية.
في تلك الأثناء بدأت تتدفق على المدينة الصغيرة الشهيرة عروض المساعدات من سائر أنحاء العالم. تعهدت منظمة اليونسكو بإعادة بناء جميع الأضرحة المهدمة؛ وكانت ستنهي المهمة في صيف عام 2015. وأسست مبادرة بقيادة أمريكية، تحت اسم «مجموعة عمل نهضة تمبكتو»، بهدف إحياء مالي عن طريق إحياء تراثها الثقافي. تضمن مشروع «نهضة تمبكتو» اتفاقا مع شركة جوجل لجعل الشركة تصور المدينة من أجل نسخة منظور الشارع، التي يمكن فيها، بمقابل مادي، للمستخدمين البعيدين أن يأخذوا جولة افتراضية ويشاهدوا لقطات مصورة لسكان محليين يحكون قصصا عن المدينة. قالت وزيرة الثقافة المالية، ندياي راماتولاي ديالو: «ستكون أداة سياحية لنا.» ثم أردفت: «أرادوا عمل ذلك بطريقة يمكنك من خلالها زيارة تمبكتو بكاملها، فيمكنك رؤية المخطوطات، ويمكنك زيارة المساجد والآثار وكل ما هو موجود في تمبكتو.» كانت توجد أيضا خطط تجري على قدم وساق لإنشاء أول جامعة حقيقية في المدينة، بتكلفة تقديرية بلغت 80 مليون دولار، والتي تقدم دورات في كل شيء من الأدب إلى الزراعة وحتى الطاقة المتجددة.
في خريف عام 2014، سافر حيدرة إلى أوروبا لتسلم جائزة مؤسسة أفريقيا الألمانية المرموقة، تقديرا لجهوده في إنقاذ المخطوطات وتجنب «خسارة لا يمكن تصورها» للتراث العالمي، ولالتزامه الدءوب بتطوير وحفظ التاريخ الأفريقي. قال وزير الخارجية الألمانية، وهو يقدم الجائزة: «كان من الممكن أن يكون للأمر نتيجة مختلفة تماما، لكننا اليوم سعداء بأن 95 بالمائة من المخطوطات قد أنقذت.» •••
لم يصب الجميع بالتفشي الجديد لحمى تمبكتو. في خريف عام 2015، اجتمعت مجموعة متعددة الجنسيات من المتخصصين في الدراسات الأفريقية في الحرم الجامعي المورق لجامعة برمنجهام لحضور ندوة تكريما لكبير الباحثين الفخريين في الجامعة باولو فرناندو دي مورايس فارياس. اجتمع أكاديميون من جميع أنحاء العالم في قاعات مؤتمرات ذات جدران بيضاء لتقديم عروض إيضاحية حول مواضيع متنوعة مثل التعليم التبشيري الكاثوليكي في مملكة الكونغو ودور الرواة القبليين في غرب أفريقيا. وكان من بين المبعوثين خبراء بارزون في التراث الإسلامي لغرب أفريقيا، من بينهم فارياس، وشاميل جيبي، وتشارلز ستيوارت، وماورو نوبيلي من جامعة إلينوي، وبروس هول.
كان هول، وهو أستاذ مساعد طويل معسول اللسان من جامعة ديوك، يعرف دياكيتي، وحيدرة، وهنويك منذ عام 1999، عندما أمضى سنوات عديدة في تمبكتو، وهو طالب دكتوراه شاب، يعمل في المخطوطات. كان واحدا من غربيين قلائل بمقدورهم قراءة وفهم النصوص التي امتلأت بها المكتبات الإسلامية في غرب أفريقيا. ومنذ عام 2013 كان قد صار أبرز المنتقدين علنيا لمنظمة سافاما. بعدما شاهد مقطع فيديو لمحاضرة دياكيتي في أوريجون وقرأ دعوتها للتمويل، شعر بإحساس متزايد بالإحباط. لقد اختبر بنفسه إضفاء الطابع التجاري على المجموعات الخاصة والقيود المفروضة على وصول الباحثين إليها التي غالبا ما كانت تستتبع ذلك. كانت المبالغ التي كانت منظمة سافاما تحاول جمعها، ونطاق السرية المفروض، والمصطلحات الروحانية التي وصفت بها المخطوطات بمثابة علامات إنذار لهول، الذي أرسل ردا متشككا للغاية إلى دياكيتي في القائمة البريدية «مانسا 1»، والذي أرسل إلى أقسام الدراسات الأفريقية حول العالم.
بحسب هول، كانت دياكيتي قد أخطأت في توصيف طبيعة الوثائق. فعلى النقيض من ادعاءاتها بأنها كانت متعددة اللغات، وموسوعية، وعلمانية بطبيعتها، كان 98 بالمائة منها مكتوبا بلغة عربية أدبية، وباستثناء العديد من العقود والرسائل المكونة من صفحة واحدة، كانت الغالبية العظمى منها نصوصا دينية إسلامية. لم يكن هذا بغرض التقليل من شأنها؛ إذ كتب هول: «إنها توفر مصدرا رائعا ومهما للعلماء، الماليين منهم وغير الماليين، ولكن أفضل طريقة لفهمها هي باعتبارها نتاج تقليد أوسع من المعرفة الإسلامية في أنحاء غرب أفريقيا والعالم الإسلامي الأوسع.» ولم تكن بحاجة إلى تحويلها إلى رموز محل توقير.
استمر هول في اتخاذ هذا الموقف في برمنجهام. كان الآن يستخدم كلمة «احتيال» علنا. منذ تأسيس مركز أحمد بابا، قدمت ملايين الدولارات للعاملين في مجال المخطوطات، وتضخم عدد المخطوطات لجذب المزيد من التمويل. لكن أي مجموعة حاولت التعامل مع الوثائق في تمبكتو أصيبت بالإحباط، وقال: «تعتمد عمليات جمع التبرعات [المقدمة إلى تمبكتو] على بعض الاحتيال؛ إذ تقوم على تقديم عرض مناف للحقيقة عن المخطوطات وعددها.» من وجهة نظر هول، إن ثلاثمائة ألف هو أفضل تقدير «للعدد الكلي للمخطوطات العربية الموجودة في منطقة شمال مالي كلها.» قال هول إنه حتى حيدرة نفسه كان في عام 2011 قد قدر العدد في منطقة تمبكتو كلها بما يعادل 101820 مخطوطة. وما لم تكن تستورد على نطاق واسع، فمن ثم يجب أن يكون العدد في المدينة نفسها أقل بكثير. كانت المجموعة الموجودة في معهد أحمد بابا المملوك للدولة هي إلى حد بعيد أهم مجموعة: إذا احتسبت جميع الرسائل، والعقود، والقصائد، والمواد الأخرى المكونة من ورقة واحدة، فقد تصل إلى ثلاثين ألف قطعة. كانت مجموعة حيدرة هي أكبر مجموعة خاصة. وقال هول إن معظم المجموعات الأخرى كانت صغيرة، وأغلبها كان عدده لا يتجاوز العدة الآلاف.
في صميم مسألة الأعداد كانت تكمن مشكلة متعلقة بالتعريف. في عام 2000، كانت مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن قد فهرست مجموعة مما حيدرة ووجدت أربعة آلاف وثيقة فقط، لكن هذا لم يشمل الأعداد الكبيرة من الأحكام القانونية وسندات البيع المكونة من ورقة واحدة، وما إلى ذلك، التي كان كل منها كان يعرف حينئذ على نحو شائع في تمبكتو على أنه مخطوطة في حد ذاتها. في أول لقاء لي مع حيدرة في عام 2013، كان قد اختار بتأن تعريفا أوسع حتى من ذلك حيث أخذ يشخبط على قصاصة لاصقة وأفصح عن أنه، من وجهة نظر والده، حتى هذه كان يمكن أن تسمى مخطوطة. من وجهة نظر هول، كان هذا التعريف بلا معنى.
لم يشك هول في أن عمليات إخلاء مبنى أحمد بابا القديم، أو فوندو كاتي، أو مكتبة مما حيدرة قد حدثت. وكتب في أحد هوامش ورقته البحثية المقدمة: «أصر مسئولون رفيعو المستوى في الحكومة المالية في وقت مبكر على أن المخطوطات من [مبنى أحمد بابا القديم] كانت في أغلبها آمنة، وأنها قد خبئت أو هربت من تمبكتو أثناء الاحتلال السلفي.» لكن معارفه في تمبكتو أخبروه أن مجموعات مخطوطات كثيرة أخرى بقيت في البلدة أثناء الاحتلال، وأن بعضها نقل إلى باماكو، ولكن «بعد» التحرير، من أجل دعم المزاعم بأن هذه الأعداد الهائلة قد أجليت. ضخمت القصة المنقولة لوسائل الإعلام الدولية بعد ذلك بقدر كبير، وكانت النتيجة ضخ أموال غربية ضخمة إلى منظمة سافاما.
وذكر: «إن قصة المخطوطات التي أنقذت هي في أحسن الأحوال قصة مضللة، وهي، في أسوئها، غير شريفة واحتيالية تماما.»
لم يختلف أي من الخبراء في المجموعة المتعددة الجنسيات مع النقاط الجوهرية في تقييمه النقدي للغاية. تساءل توم مكاسكي، الأستاذ في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، كيف حدث أن مخطوطات تمبكتو قد ضخمت إلى شيء لم تكن عليه؟ قال: «هل نحن نتحدث عن كيان كامل مبني على ... كنت سأقول «على أكاذيب»، ولكني الآن أقول «على لا شيء»؟»
إن كان هول مصيبا، فإن بطل تمبكتو قد بالغ مبالغة مفرطة بشأن حجم عملية الإنقاذ، كما أن منظمة سافاما قد تلقت أموالا لإجلاء مخطوطات كانت إما لم تنقل مطلقا أو حتى لم يكن لها وجود.
أثارت إعادة فحص رواية إجلاء المكتبات الخاصة بعيون هول المتشككة العديد من الأسئلة التي لم يجب عنها. إذا نحينا جانبا القضية المهمة المتعلقة بالأعداد في الوقت الحالي، فلماذا لم يقدم حيدرة أي شهود عيان لتأكيد الأجزاء الأكثر دراماتيكية من العملية، على الرغم من أنه طلب منه مرارا وتكرارا أن يقدمهم؟ في البداية قال إن الأمر يتعلق بالأمن؛ ولاحقا، قال إن الأشخاص غاضبون منه لإعطائه أسماءهم للصحفيين. لماذا وافق بعض رفاقه في البداية على الحديث، ثم أصبحوا غير متاحين في ظروف غامضة؟ وحتى أكثر الأشخاص من مركز أحمد بابا الذين أجريت معهم مقابلات والذين كانوا الأكثر استعدادا للحديث كانوا يتوقفون عن الحديث عندما يسألون عن إجلاء المخطوطات ذات الملكية الخاصة: «آه، لا ، لا، لا!» قال أحد الموظفين في مركز أحمد بابا ، ضاحكا: «لا يمكنني أن أتحدث عن المكتبات الخاصة!»
عندما حصلنا أخيرا على روايات أخرى، كانت غالبا لا تتوافق مع رواية حيدرة أو دياكيتي للأحداث، بل إن روايتي الثنائي الرهيب تناقضتا بعضهما مع بعض. لماذا، على سبيل المثال، كانت دياكيتي ستخبر ديبورا ستولك بأن طريق ليري استخدم بقدر طريق دوينتزا - وأن «أفراد الإشراف والأمن» كانوا «معسكرين بطوله» - في حين أن حيدرة قال إنهم حاولوا استخدامه مرة واحدة فقط، وأن ذلك قد أسفر عن عملية اختطاف؟ لماذا أنكر حيدرة في البداية عملية الاختطاف الكبيرة لعشرين قاربا في نهر النيجر، في حين أنه من المفترض أنه قد دفع فدية مقابل إخلاء سبيل تلك القوارب «كما لو كان يستخدم بطاقة ائتمانه»، بحسب ما ذكرت دياكيتي؟ ولماذا لم يسمع أصحاب المراكب الآخرون الذين كانوا يبحرون جيئة وذهابا في النهر عن هذه الحادثة الكبيرة، التي كانت ستؤثر تأثيرا مباشرا على عملهم؟ لماذا قالت دياكيتي إن طائرات الهليكوبتر الفرنسية حيت الناقلين بينما كانوا يرفعون المخطوطات، بينما قال حيدرة: «ذلك غير صحيح. ذلك مجرد تعليق تفسيري»؟
وبينما بدت بعض التفاصيل غير موثوق فيها، أثار الأكاديميون المزيد من الأسئلة الجوهرية حول قصة سافاما. ما المدى الذي كانت عليه خطورة التهديد الجهادي، في الوقت الذي كانت فيه كل المجموعات الخاصة مخبأة؟ خرج توماس شترايدر، القائم بالأعمال في السفارة الألمانية، من اجتماعه مع سافاما معتقدا أن الوثائق كانت تتعرض للإتلاف «مرة بعد مرة»، لكن حيدرة نفسه تذكر فقط على نحو ملتبس أنه سمع عن حادثتي إتلاف للمخطوطات، وقعتا في وقت مبكر، واللتين وصفهما بأنهما «أمور بسيطة جدا.» في ذلك الوقت، حملت تو تجيوكر على الاعتقاد بأن الجهاديين كانوا قد توعدوا بإحراق الكتب في طقوس احتفالية، «أوتو-دا-في»، في يوم المولد النبوي، وجعل حيدرة هذا سببا لطلبه منحة من السفارة الهولندية. لقد كتب في رسالة الطلب التي بعث بها أنهم كانوا بحاجة إلى المال على نحو عاجل، لأنه كان يتعين عليهم إجلاء المخطوطات «قبل ... الرابع والعشرين من يناير القادم، التاريخ الذي هدد الجهاديون بأنهم سيتخذون إجراء فيه وسيمضون قدما في تدمير هذا التراث الثقافي.» بل إن مراسل مجلة «ذا نيو ريببليك» قيل له إن أصحاب المكتبات كانوا قد تلقوا توجيهات بجمع مخطوطاتهم معا من أجل هذا الأمر فحسب. ومع ذلك لم يتذكر أي من التمبكتيين الذين أجريت معهم مقابلات أي تهديد من هذا القبيل. وعندما سئل رئيس البعثة الثقافية في تمبكتو، البخاري بن السيوطي، تحديدا عما إذا كان الجهاديون قد تكلموا عن إحراق المخطوطات في المولد النبوي، أجاب: «لا، لم أسمع بذلك.» أنكر الإمام الأكبر، الرجل الذي قاد المفاوضات حول المولد النبوي مع الجهاديين، والمصدر الذي لا يرقى إليه الشك، الأمر إنكارا تاما، قال لي: «لم يهددوا بإحراق مخطوطات تمبكتو.»
في حين أن هدم الأضرحة كان يمثل دليلا على الصدام بين معتقدات السلفيين ومعتقدات معظم التمبكتيين، فإن موقف الجهاديين من المخطوطات كان مختلفا. مما لا شك فيه أنه كان ينظر إلى وثائق معينة باعتبارها أشياء «محرمة»، ولكن إذا أخذنا في الاعتبار أنه يمكن لخبير أن يستغرق ساعات لفك طلاسم صفحة واحدة، فما مدى احتمال أن هؤلاء المقاتلين الذين كانوا غالبا أميين كانوا سيجدون الوقت لاستبعاد الأعمال التي كانوا لا يوافقون عليها، وإلا كانوا سيحرقون المخطوطات برمتها، وفي ذلك نسخ كثيرة من أقدس نصوصهم؟ كان الجهاديون، في العديد من المناسبات، قد وعدوا بحمايتها، وإن كان ما قاله ديادي وسانيه شريفي ألفا صحيحا، فإن الشرطة الإسلامية لم تكن قد اعترضت حتى على شحنها جنوبا من أجل المحافظة عليها.
وماذا عن واقعة الإتلاف في يوم التحرير نفسه التي تداولتها التقارير الإخبارية على نطاق واسع؟ إن كان رئيس البلدية سيسيه قد اعتقد حقا أنهم قد «أضرموا النار في كل المخطوطات القديمة المهمة»، كما أدلى لوسائل الإعلام العالمية، فلماذا استغرق الأمر وقتا طويلا جدا لتصحيح هذا الخطأ؟ لاحقا، قدر معهد أحمد بابا أن 4203 وثائق قد فقدت، ولكن كان يبدو أن قلة هم من صدقوا أن هذا العدد الكبير قد أحرق. قال الغالبية إنها من المحتمل أن تكون قد سرقت، وإن الحريق كان مدبرا للتغطية على السرقة. كان هذا يبدو معقولا، وربما يفسر السبب وراء أن عشرة آلاف مخطوطة كانت قد تركت في القبو. ومع ذلك، كان من الغريب أنه لم يبد أن أي أحد كان مهتما بأن يعرف أي مخطوطات كانت قد فقدت، أو أن يعرف أي العائلات كانت قد أعطتها للمعهد. (لاحقا، عندما سألت حيدرة عما إذا كان قد بالغ بشأن التهديد، أجاب: «إن كنت تعتقد أنه لم يكن ثمة تهديد، فذلك رأيك وهو لا يهمنا. كان التهديد قائما قبل المولد النبوي، وأثناءه، وبعده. لكي تفهم هذا ... يكفي أن تنظر في مسألة عمليات إحراق المخطوطات التي تداولتها وسائل الإعلام العالمية.»)
امتد تشكك الأكاديميين حتى إلى أكبر التساؤلات على الإطلاق؛ وهو مسألة محتويات المخطوطات والتي هي محل تفاخر. ارتأى كثير من هؤلاء الخبراء أن القيمة التاريخية للوثائق كان مبالغا فيها شأنها في ذلك شأن الأعداد: زعمت ادعاءات كبيرة بشأن المجموعات الخاصة، غير أن إمكانية الوصول إليها كانت تخضع لسيطرة محكمة بحيث لم يكن ممكنا التحقق إلا من عدد قليل من هذه الادعاءات. كان أكثر الآراء إدانة في هذا الشأن دراسة جديدة أجراها أكاديمي من جنوب أفريقيا عن الوثائق التي كانت قد أثارت حماس هنويك عندما اطلع عليها في مكتبة فوندو كاتي، والتي قيل إنها كانت تحتوي على الملاحظات الأصلية لكتاب «تاريخ الفتاش». وفقا للدراسة، كان بعض هذه المخطوطات على الأقل قد زور.
بعد أن أصبح الآن كل شيء تقريبا فيما يتعلق بعملية إجلاء المجموعات الخاصة محل شك، لجأت إلى الدبلوماسيين الهولنديين، الذين كان ثلاثة منهم على الأقل - تو تجيوكر، والسفير مارتن بروير، وملحقته الصحفية، ميريام تاسينج - قد شهدوا وصول خزائن المخطوطات إلى باماكو في أوائل عام 2013. أذهلتهم الاتهامات. أخرجت تجيوكر، التي كانت قد فعلت الكثير من أجل إيجاد أموال لمنظمة سافاما، صورا فوتوغرافية لأكوام من الخزائن في باماكو، التي كان بعضها مفتوحا ومليئا بالمخطوطات. تذكرت قائلة: «كان يوجد المئات من صناديق الخزائن المعدنية من النوع الذي من شأنك أن تنقله عندما تكون ذاهبا في رحلة طويلة. كان الأمر حقا مثيرا للإعجاب للغاية.» ثم أردفت: «استمرت في القدوم وأجرينا عملية عد سريعة جدا - لا يمكنني أن أتذكر كيفيتها - وكان يوجد ما يقرب من مائة وخمسين ألف مخطوطة هناك.» كانت كل خزانة مرقمة، لكي يتمكنوا من معرفة من دفع تكلفتها ومن أي عائلة أتت المخطوطات؛ لذا كان لديهم «تسجيل لكل تلك الخزائن الكبيرة.»
بالمثل كان بروير هو الآخر غير مصدق للاتهامات. قال: «مهما كان ما يقوله الناس، فإن بوسعي أن أخبرك بأن القصة حقيقية.» ومع ذلك أقلقته اتهامات هول بالقدر الذي كان كافيا لأن يجري تحريات من تلقاء نفسه. تقابل مع حيدرة الذي أطلعه على محتويات منازله الآمنة في باماكو، حيث كان كثير من المخطوطات لا يزال مخزنا. كانت النتيجة حاسمة، كما كتب في رسالة بريد إلكتروني:
اطلعنا على كمية كبيرة من المخطوطات التي كانت بالفعل قد جردت و/أو سجلت، وكان مجموعها 110 آلاف مخطوطة. هذا العدد سيعادل ما يقدر بثمانمائة إلى ألف حاوية. رأينا بأنفسنا نحو 1300 حاوية مليئة بالمخطوطات ولم تكن قد أفرغت بعد، وهو ما يجعل المجموع من 2100 إلى 2300 حاوية. بالطبع هذه حسابات تقريبية، ولكننا مطمئنون للقول بأن المجموع 2400 المذكور على لسان حيدرة صحيح بالتأكيد. قمنا بزيارة جميع المواقع السبعة خلال فترة من الوقت مدتها ثلاث ساعات ولم ينقل أي من الحاويات في ذلك الوقت ... في جميع المواقع فتحنا بعض الحاويات والصناديق، وكانت المخطوطات بداخلها. رفعنا الحاويات لنتأكد مما إذا كانت ممتلئة أم لا وكانت كلها ممتلئة عن آخرها.
بناء على الأدلة التي كان بروير قد اطلع عليها، كانت اعتراضات هول في غير محلها. وتساءل لماذا وجهت هذه الاتهامات؟ كتب يقول: «في ظاهر الأمر يوجد قدر كبير من المنافسة والحسد حول هذه المخطوطات.» ثم أضاف: «ولقد تجاهلت منظمة سافاما كل الأكاديميين في عملية الإنقاذ هذه.»
إذن من وجهة نظر بروير لم يكن ثمة شك. •••
كانت باماكو في أواخر عام 2015 لا تزال تعاني جراء هجوم إرهابي جديد . في يوم الجمعة، الموافق العشرين من نوفمبر، دخل جهاديان فندق راديسون، وأخذا 170 شخصا رهائن، وأطلقا النار على عشرين فأردوهم قتلى. في السنوات التي أعقبت التدخل الفرنسي، كانت المجموعات المسلحة في الشمال قد أعادت تأكيد وجودها: كان عشرات من أفراد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة قد قتلوا، وتسللت أعمال العنف الإرهابية إلى جنوب ووسط مالي، وغادر صحفيون أجانب البلاد بعد تلقيهم تهديدات شخصية بالقتل. وفي أعقاب الهجوم الأخير، أخذت المنظمات الدولية تسحب عامليها، وكانت البلاد في حالة طوارئ رسمية. أغلقت أكياس شركة هيسكو الرملية العملاقة مدخل القرية الحكومية، وأخذ جنود يرتدون سترات واقية يفتشون الجوانب السفلية للمركبات بحثا عن قنابل. كانت الشرطة توقف السيارات في الشارع، وكان الحراس يمسحون أجساد ضيوف الفندق بالأجهزة اليدوية للكشف عن المعادن قبل أن يسمحوا لهم بالدخول. عندما طلب من أحد الدبلوماسيين أن يلخص الموقف الأمني، قال ببساطة: «ليس جيدا جدا.»
كان حيدرة مصابا بوعكة في ذلك الأسبوع، لكنه وافق مع ذلك على مقابلتي عدة مرات. كانت أولى هذه المقابلات في أول المساء، الذي كان أكثر وقت يفضل أن يتبادل الحديث فيه، في شقته في حي باكو دجيكوروني. جلسنا، كما فعلنا من قبل مرات كثيرة، على الأرض بين الأرائك، وخاض بثقة في الحديث عن الأيام الأولى للاحتلال، وهو الحديث الذي كان قد صار الآن معتادا عليه، منحيا جانبا كالعادة الخلافات حول التفاصيل. مضينا ببطء في تفحص الرواية، مرورا بعملية إجلاء معهد أحمد بابا، ووصولا إلى مسألة المكتبات الخاصة العسيرة. عند تلك النقطة، التي واجه فيها أكبر التناقضات في القصة، بدا أن حديثه الجازم كان يشوبه زلات.
الأسطول المكون من سبعة وأربعين قاربا والعدد الهائل من سيارات الأجرة، والاتصال الهاتفي بكل واحد من الناقلين الثلاثمائة عدة مرات في اليوم، والجدول المعلق على الحائط بأسماء الأشخاص الذين كان يتعين الاتصال بهم كل بضع دقائق، سألته: «هل كان كل ذلك صحيحا؟»
لم يرد بكلمة «نعم» بالضبط هذه المرة. كان الرد أقرب إلى الغمغمة قائلا: «همممم».
سألته: وماذا عن «الفرصة السانحة» في شهر أكتوبر، التي توجت بالعقد الذي أبرم في السابع عشر من أكتوبر مع صندوق الأمير كلاوس وبداية عملية إجلاء المخطوطات الخاصة في اليوم التالي؟ هل بوسعك أن تؤكد أن ذلك قد حدث؟
أجاب: «لا أعرف. لقد بدأنا في أغسطس.» «هل كنت قد بدأت بالمكتبات الخاصة في أغسطس؟»
قال مغمغما: «همممم.» ثم أضاف: «لقد قمنا بالكثير من العمليات.» «وماذا عن الفكرة - التي كانت دياكيتي قد أفصحت عنها في رسالة بريد إلكتروني إلى صندوق الأمير كلاوس - التي مفادها أنكم قد استخدمتم الطريق المسار الذي يتبع الضفة اليسرى للنهر ويمر عبر ليري بنفس القدر الذي استخدمتم به الطريق الرئيسي عبر موبتي؟ ما رأيك في ذلك؟» «همممم.» «ماذا عن الواقعة عند طرف بحيرة ديبو، حيث نصبت عصابات كمينا للقوارب واحتجزت المخطوطات طلبا لفدية، واضطررت لدفع مبلغ من المال مقابل تحريرها. هل حدث ذلك حقا؟»
سعل بقوة شديدة. وقال بالفرنسية: «ينبغي أن نترك الأمر هكذا.» ثم أردف: «دع ذلك الأمر هكذا.» «ماذا تعني بقولك «دع الأمر هكذا»؟» «كفى حديثا في هذا الأمر.»
تحول مسار المحادثة إلى الأعداد. لم يكون هول وزملاؤه من الأكاديميين وحدهم من تشككوا فيها. لم يعتقد إلا قلة من زملاء حيدرة في المجال - لم يكن من بينهم إسماعيل ومعيجا - أن هذه الكميات الهائلة من المخطوطات كانت موجودة. كان إسماعيل قد قال: «إن جمعت مخطوطات المكتبات المختلفة، كيف ستحصل على مجموع مائتي ألف مخطوطة؟ هل هذا ممكن؟» أما معيجا، الذي كان قد عمل مع مشروع «إم إل آي/015» الممول من لوكسمبورج، فقال إنهم كانوا قد صنعوا فهرسا لكل المخطوطات في تمبكتو ولم يصلوا حتى إلى مائة ألف مخطوطة. فكيف يمكن لحيدرة أن يزعم أنه أجلى 377491 مخطوطة؟
قال حيدرة إن هؤلاء الأشخاص لم يكونوا متخصصين. أما بروس هول فقد عمل بالأساس مع معهد أحمد بابا ولم يكن قد زار مالي منذ سنوات. حتى معيجا، من وجهة نظره، لم يكن متخصصا. كانت التقديرات السابقة الأقل قد أجريت قبل أن يتمكنوا من إجراء إحصاء صحيح.
سألته: لو كان رقم 377491 مخطوطة خاصة صحيحا، كيف يمكنك أن تفسر أنها استلزمت نحو 2500 خزانة لنقلها، بينما شحنت مخطوطات معهد أحمد بابا البالغ عددها أربعة وعشرين ألف مخطوطة في ست وثلاثين خزانة فقط؟
قال: «هذا سؤال تسهل الإجابة عليه»، واعتدل في جلسته ورشف رشفة طويلة من زجاجة مياه. كانت المخطوطات مختلفة الأحجام. بعضها كان يتألف من ورقة واحدة. يمكنك أن تضع الكثير من هذه المطويات المكونة من ورقة واحدة في خزانة، ولكن لا يمكنك إلا أن تضع فيها القليل جدا من المخطوطات الضخمة.
قلت له إن ذلك لم يفسر لماذا شحنت سافاما ما متوسطه 157 مخطوطة في كل خزانة، بينما وضعت ستمائة مخطوطة في كل صندوق من صناديق أحمد بابا. بذلك السمك، كان بمقدوره أن ينقل مليوني مخطوطة تقريبا في 2500 خزانة.
قال: «لا أعرف.» ثم أضاف: «ربما كانت المخطوطات [الخاصة بسافاما] أكبر.»
في اليوم التالي التقينا في مبنى سافاما. هناك، طلبت منه أن نستعرض قائمة المكتبات الخاصة على موقع الويب الخاص بالمنظمة لنتحقق من أيها كان قد نقله وأيها لم ينقله. كانت النتائج مفاجئة. من بين مكتبات المدينة البالغ عددها خمسا وثلاثين والمدرجة على موقع
savamadci.net ، زعم أنه أجلى سبع عشرة منها فقط. كانت هذه تشمل مكتبتين خاصتين كان مالكاها قد أخبراني بأن مخطوطاتهما لم تنقل بواسطة سافاما: مكتبة فوندو كاتي المملوكة لإسماعيل ومكتبة الإمام ألفا سالوم المملوكة لسانيه شريفي ألفا. كان يوجد المزيد من التناقضات: أخبرني عبد الحميد كونتا، صاحب مكتبة زاوية الكونتي، في مقابلتين منفصلتين أن سافاما نقلت كتبه في يونيو؛ قبل أربعة أشهر من «الفرصة السانحة». والأسوأ من ذلك، أن مالك مخطوطات آخر في تمبكتو، هو عبد الواحد حيدرة، قال إن ثلاث مكتبات خاصة رئيسية كانت قد نقلت قبل التحرير بوقت طويل، فيما اعتقد أنه كان محاولة لدعم مزاعم سافاما المبالغ فيها.
تساءلت: كيف يمكن لهذا العدد المنخفض جدا من المكتبات، والذي لم يتضمن مستودعات بارزة مثل مكتبة الإمام الأكبر وعائلة الونجري، أن يصل إلى نسبة الإجلاء التي زعم أنها كانت بنسبة 95 بالمائة؟
كان رد حيدرة أن المكتبات الأشهر ليست دوما الأكبر.
كان قد قال لي في شقته: «لا توجد رواية واحدة فقط لعملية الإجلاء.» ثم أردف: «سيكون لدى كل شخص تأويله الخاص للأمر. بروس [هول] سيكون له رواية للأمر، ولإسماعيل رواية أخرى، ومعيجا كذلك، بينما لي أنا روايتي الخاصة. كل هذه الروايات ستكون مختلفة، ولكنها ستكون كلها صحيحة. إن اتفق الجميع على القصة، عندئذ بالتأكيد لن تكون صحيحة.» •••
في أمسيتي الأخيرة في باماكو ألقى حيدرة بورقته الرابحة؛ حيث دعاني إلى جولة في المنازل الآمنة. ومجددا كان وقت الغسق، وبينما كنا نعبر بالسيارة جسر الشهداء بباماكو كانت الشمس تغرب، ملقية بظلال وردية وثقيلة، في نهر النيجر. كان هذا هو وقت رياح الهرمتان، وكان التراب المضطرب بفعل هذه الرياح القوية الدافئة عالقا فوق المدينة. قاد حيدرة السيارة بطريقة جامحة حول جنوب باماكو، مرتديا ثوبا برونزيا من القطن المشمع اللامع وطاقية كوفي متوافقة مع الثوب، ماضيا عبر الظلام المتجمع والازدحام المروري الممتد عبر المدينة. كانت ملاحقته على الطرق الخلفية لهذه المدينة المجهولة، في مطاردة معقدة، نهاية مفاجئة لقصة كانت تبدو يوما ما واضحة.
أوقف السيارة فجأة، وترجل منها، متجها بمرح إلى حركة المرور البطيئة ومسرعا الخطى في زقاق مظلم كئيب. صاح ملقيا التحية على حراس يتبادلون الحديث أو يصلون على سجادة بالخارج دون أن يتوقف عن السير، وفتح هاتفه ليضيء به بئر سلم ويبعد جرذا. صاعدا درجة تلو الأخرى، تبعت الرجل الضخم، وكل منا يتنفس بصعوبة. سرنا عبر ممر مصمت الجدران، ووصلنا إلى بوابة أمان فولاذية، كان مفتاحها مع شخص مؤتمن، ثم دخلنا غرفة مليئة بعشرات أو مئات الخزائن، التي كان بعضها بألوان عادية، والبعض الآخر فولاذه مطلي، وبعضها مزين بصور صواريخ وأشكال تجريدية مصنوعة بقوالب رسم. كانت مكدسة في كومات، وبعضها مغلق بقفل واحد، والبعض مغلق بقفلين، والبعض لم يكن له قفل على الإطلاق. وأخذ جهاز مزيل للرطوبة يصدر طنينا.
كان من الممكن فتح أغطية الخزائن غير المقفلة ، وبداخلها كانت توجد دوما مخطوطات، كان بعضها لا يزال في الصناديق الخالية من الأحماض التي جلبت فيها إلى الجنوب، وبعضها في حافظات ملونة، والبعض الآخر ملفوف في جلود حيوانات. هنا كانت توجد مائة مخطوطة في حزمة واحدة؛ وهناك يوجد مجلد منفرد سمكه ثماني بوصات. منقبا على غير هدى في الخلف، وصولا إلى منتصف كومة من الخزائن، وجدت وثائق هناك أيضا. رفعت بصعوبة غطاء خزانة مقفلة بقفل واحد، ونظرت إلى الداخل؛ فوجدت المزيد من الوثائق.
في بعض الأحيان كان انتقالنا بالسيارة بين مواقع التخزين يستغرق خمس دقائق؛ وأحيانا كان يستغرق نصف ساعة عبر ضواحي العاصمة المالية، وكنت أميز أمام الأنوار الأمامية الشاحنات، ورجال الشرطة، وسيارات الجيش رباعية الدفع، وسحب العادم الصادرة من دراجات نارية صغيرة مارة. ها قد وصلنا لوجهة أخرى. المزيد من الخزائن، والمزيد من أرفف المخطوطات. ها هي بطاقة مطبوعة تحمل اسم مكتبة أبي بكرين بن سعيد، التي كانت تضم 7610 مخطوطات؛ وهناك كانت توجد مخطوطات مكتبة ألفا محمد ديري، التي كانت تضم 6450 مخطوطة. غرفة أخرى، وحصيلة أخرى تضاف إلى المجموع الآخذ في التزايد.
الكثير جدا من الصناديق. والكثير جدا من المخطوطات. هل يمكن أن تصل كلها حقا إلى هذا العدد؟ كان من الصعب على نحو غريب التمسك بالتشكك في مواجهة هذا الرجل الواثق الجذاب. ربما كان قد بالغ قليلا؛ ولكن هل كان ذلك بالغ السوء؟ لم يبد أن المانحين كانوا مهتمين بالأمر. كان قد مر الآن أكثر من ثلاث سنوات على عملية الإجلاء، وحتى الفريق الذي أتى من جامعة هامبورج لدراسة المخطوطات، والذي كانت حكومته قد خصصت تمويلا بملايين اليوروات، لم يكن قد أجرى إحصاء كاملا، ولا حتى تقريبيا. هل كان الأمر مهما حقا؟
كانت الصناديق الثنائية الأقفال ثقيلة بلا شك. هل بوسع حيدرة أن يفتح واحدا من تلك الصناديق؟ قال إنه كان قد ترك المفاتيح في الشقة. وكانت بعيدة للغاية ولم يكن بوسعه أن يعود إليها. على أية حال ، كان يوجد واحد على قمة كومة هناك، ويوجد مفتاح بالفعل في قفله. لا بد أن الحراس قد تركوه بالخطأ. قال لي: انظر في الداخل هناك. ماذا ترى؟ قلت: مخطوطات!
كان الموقع الأخير منزلا كبيرا له حديقة مبهجة في مجمع سكني مسور. كانت توجد بوابة دخول عريضة، وممر للسيارات مغطى بحجارة الرصف. في إحدى الغرف هنا كان يوجد 140 خزانة أخرى؛ فكان المجموع التراكمي الآن يزيد عن ألف خزانة، وسيضاف المزيد في اليوم التالي. قال إن هذه الخزائن كانت لا تزال ممتلئة. وكانت كلها أيضا لا تزال مقفلة بقفل مزدوج.
بينما كنا نغادر غرفة التخزين قلت له إنني أريد منه طلبا أخيرا. هل يمكننا أن نعود إلى الشقة معا، ونأخذ المفاتيح، ونعود لنفتح بضعة صناديق مزدوجة القفل؟ سيكون هذا هو الإثبات النهائي الحاسم؛ وعندئذ نكون قد انتهينا.
أجاب قائلا: «لا.»
كان هذا هو أول رفض صريح خلال يومين من الأسئلة الصعبة.
قال، وصوته يتعالى: «لا بد أن تثق بي.» ثم أردف: «أنت تتهمني بأنني لص! إن لدي كرامة. لقد كنت مريضا، والليلة قدت السيارة في جميع أنحاء باماكو وفتحت كل شيء. لقد أريتك كل شيء. إن لدي كرامة. أنا لست طفلا.»
قلت له لا أحد يتهمك بأنك لص، ولكن ثمة أشخاصا لا يصدقون أن هذا حقيقي تماما. يريدون دليلا على أنه كذلك.
قال، وكان في نبرته الآن صرامة: «أولئك الأشخاص لن يصدقوا الأمر أبدا، ولو أتيتهم بكل إثباتات العالم.» ثم أضاف: «إن الناس ينسبون إلى الآخرين كلاما لم يصدر عنهم - بل إنهم ينسبون إلى النبي كلاما لم يتفوه به! هذه مخطوطاتنا نحن، وليس أنتم. هذه مخطوطات مالي. إنها ملكنا! ليست ملككم أنتم!»
قلت له: «إذن أنت لن تفتح الصناديق المغلقة؟» «لا، لن أفعل.»
لم يكن لدي المزيد من الأسئلة. ولم يكن يوجد أي شيء آخر يمكن رؤيته. بعد ذلك أقدم حيدرة على تصرف مفاجئ. اقترب مني فجأة وجذبني إلى الداخل، آخذا ذراعي تحت عضلات ذراعه الضخمة، وممسكا يدي بيده في عناق غير متوقع، وابتسم. هل كان يطلب غفرانا؟ أو رأفة؟
مشينا وهو قابض علي بهذه الطريقة في الممر المضاء بإضاءة خافتة، نحو الباب الأمامي، وخرجنا إلى الحديقة، بأزهارها الاستوائية وأصوات صراصير الليل، إلى حيث كان مساعدوه وسائقه ينتظرون.
خاتمة
هذا الكتاب هو كتاب تحليل للتاريخ بقدر ما هو كتاب تاريخ. وأعني بهذا القول أنه سرد للتأويلات عن ماضي تمبكتو بقدر ما هو قصة ما حدث بالفعل هناك. لقد اتضح السبب في هذا، أو ذلك ما آمله: إن قصة تمبكتو في حالة حراك دائم، تتأرجح إلى الخلف وإلى الأمام بين قطبين متنافسين هما الأسطورة والواقع. تقدم حجج مذهلة ثم تدحض ثم ينشأ ادعاء آخر، في دورة متصلة، على ما يبدو، من الافتراض والتصويب.
منذ أيامها الأولى، كان يغذي أسطورة «أورشليم الجديدة عبر الصحراء» - التي أسميت تمبكتو أو تومبوكتو، أو تنبكت، أو تمبكت - مزيج من المعلومات المضللة والسذاجة والطمع الأوروبي في الذهب. السؤال المهم هو: لماذا هذا المكان بالتحديد؟ لماذا كانت هذه المدينة هي التي صارت بؤرة مفاهيم العالم الخاطئة حول أفريقيا، وليس، مثلا، جني أو جاو أو كانو؟ كان السبب في هذا يرجع جزئيا إلى الجغرافيا؛ فبسبب أن تمبكتو تقع عند الطرف الجنوبي لطرق القوافل إلى المغرب وليبيا، انتقلت بسهولة الأخبار المبالغ فيها عن ثرائها، التي كانت تنقل عبر الصحراء، إلى أوروبا. ساعد في هذا أن المكان كان له اسم رنان، شعار لا ينسى «تلتقطه الأذن وينقل صورا لعجائب»، بحسب تعبير المؤرخة يوجينيا هربرت. وكان من الأسباب البالغة الأهمية أيضا استعصاء الوصول إلى المدينة؛ إذ كان يمكنك أن تقول ما شئت عن تمبكتو وما كان أحد سيصحح لك قولك. أخبر روبرت آدامز، وهو بحار أمريكي زعم زعما غير محتمل مفاده أنه وصل إلى المدينة في عام 1812، العالم أن المدينة كان يحكمها الملك وولو والملكة فاطمة، اللذان لم يغتسلا أبدا وإنما كانا يدهنان جسديهما يوميا بزبدة حليب الماعز. في حقبة لاحقة، سمع بروس تشاتوين أن التمبكتيين كانوا يأكلون حساء الفئران، التي كانت تقدم كاملة بأرجلها الوردية الصغيرة. وحتى عندما كانت الاكتشافات الجغرافية البالغة الأهمية تحدث في القطب الشمالي وأمريكا الجنوبية، فشل المستكشفون مرة تلو أخرى في اختراق المدينة الغامضة. وعندما وصل أخيرا ألكسندر لينج، بعناء شديد وهو على وشك الموت، إلى المناطق المحيطة بها في عام 1826، كان الأوروبيون قد أمضوا خمسة قرون على الأقل ينسجون خيالات حولها.
طغت «تمبكتو التي في الأذهان» على حقيقة المكان، التي لم يكن يعرف عنها إلا القليل، ولم يكن تبديد هذه الأسطورة مهمة مستحبة. فبعد أن وصل لينج لما أراد، يبدو أن المغامر المشهور عنه الإطناب في الكلام عجز أن يجد ما يقوله. أقام هناك خمسة أسابيع دون أن يرسل كلمة واحدة إلى الوطن، وعندما كان مجبرا أخيرا على أن يخط بالقلم كلمات، لم يفصح عن شيء تقريبا. يمكننا أن نتخيل السبب؛ إذ كان اكتشافه هو أن المدينة العظيمة التي راودت لزمن طويل الخيال الأوروبي كانت بلدة صغيرة ذات أبنية متواضعة مبنية من الطوب اللبن. في تلك الظروف، من الذي لم يكن سيكتب، كما فعل، أن «عاصمة وسط أفريقيا العظيمة» قد «لبت توقعاتي تماما» - وفي الواقع، كان عليه أن يلوذ بالفرار منها؟
بذل رينيه كاييه في وصفه لتمبكتو بأنها «ليست سوى كتلة من المنازل القبيحة المنظر» جهدا أكبر لتصحيح التصور الخاطئ، لكنه قوبل إلى حد كبير بعدم التصديق، ولم يفعل أولئك الذين جاءوا في أعقابه سوى أنهم نقبوا أكثر عن الأسطورة. بعد ذلك بسبعين عاما، كان ملحوظا حماس الصحفي فيليكس دوبوا عند اكتشافه الخلفية التاريخية الوهمية لثقافة أسسها قدماء المصريين والتي «لا تزال مبهرة ... بعد ثلاثة قرون من أفول نجمها». لم يكتف بتراث المدينة الحقيقي من العلم، فضخمه، معيدا تقديم تمبكتو في صورة قرطاج والإسكندرية مجتمعتين، وظلت أجزاء من خرافة «جامعة تمبكتو» التي صاغها تعاود الظهور بعد ذلك بقرن. أما هاينريش بارت، الذي كان أحد عباقرة الاستكشاف الأفريقي، فأدخل هو الآخر، عن طريق الخطأ، تقليد قراءة كتاب «تاريخ السودان» على أنه تاريخ، في حين أنه ثبت في الواقع أن روايته مصطنعة؛ إعادة صياغة تخيلية للأحداث الماضية لتلائم سياسات ذلك الوقت. تفاقم هذا الالتباس على يد المستشرقين هودا، وبينوا، وديلافوس، الذين فهموا أن اللغة العربية الضحلة لكتاب الوقائع التاريخية تعني أنه لم يكن بوسع مؤلفيها سوى أن ينقلوا المعلومات التي وضعها أسلافهم بدقة، وليس اختراع التاريخ من جديد. وطيلة قرن، طغت الحقائق المفترضة في كتب الوقائع التاريخية على الأدلة المستقاة من النقوش المكتوبة التي كانت مناقضة ولكنها أكثر موثوقية.
لم تكن أوروبا هي المبتدع الوحيد لأساطير تمبكتو؛ فقد لعب مواطنو المدينة دورا مدهشا في تعظيمها. فلم يفوت كتاب «تاريخ السودان» ولا كتاب «تاريخ الفتاش» فرصة الإطناب بشأن المدينة التي وصفها السعدي بأنها «الطيبة الطاهرة الزكية ذات بركة ونجعة»، والتي قال عنها كتاب «تاريخ الفتاش» إنها «لا نظير لها في البلدان من بلاد السودان.» وأفرط أحمد بابا، الذي كتب في عصر أسبق، في امتداح مآثر فقهاء تمبكتو الإعجازية؛ فقد كان بمقدور هؤلاء الأولياء أن يسيروا على الماء ويحموا الناس من سهام العدو والنار. وربما تكون المبالغة بشأن روحانية المدينة قد نشأت كوسيلة لحمايتها، نوع من الدفاع الروحي، مثلما كان القديسون في أوروبا في العصور الوسطى يستحضرون لتخويف الغزاة المحتملين.
تندرج قصة تمبكتو العظيمة في القرن الحادي والعشرين، رواية وقائع إجلاء المخطوطات، تماما ضمن هذا التقليد. كما أوضح جوزيف جيتاري، تبدو هذه القصة وكأنها قصة من قصص إنديانا جونز، ولكنها في عالم الواقع، قصة أنقذ فيها أهل مدينة الأولياء، بقيادة رجال المكتبات، تراثهم شبه السحري من أيدي الجهاديين الذين يحرقون الكتب. بهذا التأثير، السمة العالمية للخير في مواجهة الشر، والكتب في مواجهة البنادق، والمتطرفون في مواجهة المعتدلين، أثبتت هذه الحكاية الشعبية المعاصرة أنها لا تقاوم. لقد كانت أعظم بكثير من أن تكون مبنية على نواة حقيقية، تماما مثلما كانت أساطير ماضي المدينة الأروع: فلن ينكر إلا أكثر الأكاديميين تشككا أن تمبكتو كانت يوما ما مركزا مهما للفقه الإسلامي في غرب السودان. عمل مالكو المخطوطات، بحسب ما أعتقد، على حماية تراثهم الأدبي من خطر النهب، غالبا عن طريق إخفاء الوثائق، وأحيانا عن طريق إجلائها في عمليات أشرفت عليها منظمة سافاما. أنقذت مخطوطات أحمد بابا تحديدا بالطريقة التي شرحت لي. ومما لا شك فيه أن هذه العمليات استلزمت جرأة وشجاعة، من رجال المكتبات وأيضا من الزملاء الأصغر الذين تحدوا العقوبات التي فرضتها شريعة الجهاديين. من هذه الأسس، نسج حول هذه العملية شيء أكبر وأخطر مما كانت عليه حقا.
إن الخرافة، بطبيعتها، تبسيط مفرط. يصف إي بي تومبسون النزعة إلى تبسيط حياة السابقين باعتباره نوعا من «التعالي الهائل من جانب الأجيال التالية» يمكننا أن نضيف تعالي التباعد، نزوع ثقافة ما إلى تخيل أن الأفراد المنتمين إلى ثقافة أخرى أقل تطورا وأدنى عمقا مما هم عليه في الواقع. كان هذا ما أدى بالغرب إلى الوقوع في خطأ اعتبار كتب وقائع تاريخ تمبكتو تاريخا من الدرجة الأولى، ولكن أدب من الدرجة الثانية، في حين أن العكس كان صحيحا؛ فقد بالغ المؤرخون في تزيين الماضي بشدة، مما أدى إلى إنتاج أبدع كتابات خرجت من المدينة على الإطلاق. وكما أشار فارياس في هذا السياق، فإننا نحن الغرباء نقلل من شأن الأصالة الفكرية للتمبكتيين متحملين العواقب. لا تزال الروايات عن المكان وتاريخه مشوهة بسبب هذا الفشل؛ المتمثل في عدم قدرتنا على تخيل التعقيد الكامل للمدينة. ومع ذلك، فإن الأخطاء في قراءتها كانت من صنع تمبكتو. فما الذي عساه يمكن أن يجذب العالم أيضا إلى هذه المدينة النائية غير الأساطير، والشائعات، و«شهرتها النائية» بحسب وصف لينج؟ وكم كانت ستغدو المدينة أدنى من دونها؟
أتخيل قصة تمبكتو كسلسلة من الأساطير والتصحيحات وضعت واحدة فوق الأخرى. ربما في المستقبل سيخترق أحد خبراء الجغرافيا النفسية كل هذه الطبقات المدمجة التي تصل إلى عمق الماضي السوداني. سيجد في القاع قصة زا الأيمن الذي يقتل الإله-السمكة في كوكيا. سوف يشاهد علي كولون وهو يركب حصانه مارا به في طريقه لتحرير السونجاي، وقد علف حصانه بعلف خاص مقو. سوف يراقب الأمة القوية تنبكت، بسرتها البارزة ، وهي تقيم مخيمها الصحراوي، ويرى الأسطول المالي وهو يستعد للمغادرة إلى الأمريكتين، والحرفيين وهم يغلفون قصر موسى بالذهب. وعلى قمة تلك الطبقات، الأقرب إلى الوقت الحاضر، سوف يشاهد مروحيات قتالية تحوم حول قافلة كبيرة من قوارب نهر النيجر التي تشق طريقها في اتجاه منبع النهر، حاملة حمولتها من الكتب القيمة. عدة مئات آلاف من الكتب.
الملاحظات
إن روايتي لما جرى في تمبكتو في عامي 2012 و2013 مستقاة من مئات الساعات من المقابلات التي أجريتها في مالي، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وبلجيكا، وهولندا، وفرنسا، وإسبانيا، وجنوب أفريقيا ما بين عامي 2013 و2016. قدمت لي مواد داعمة، تشمل مراسلات، وتقارير، وطلبات منح، من وزارات أجنبية ومنظمات مانحة، غالبا طوعا، وأحيانا بموجب قانون حرية تداول المعلومات. أما السرد المتعلق بالاستكشاف فمستقى من طائفة ثرية من الأعمال التي كتبها المستكشفون ورعاتهم. كانت الرابطة الأفريقية حريصة على توثيق أهدافها وأنشطتها، فأصدرت «محاضر الرابطة المتعلقة بتشجيع اكتشاف الأجزاء الداخلية من أفريقيا» بصفة دورية للأعضاء. أتيحت هذه الوثائق للجمهور في طبعة من مجلدين في عام 1810، ثم في عام 1964 جمعها روبن هاليت، إلى جانب أوراق أخرى من الرابطة، ونشرت تحت اسم «سجلات الرابطة الأفريقية فيما بين عامي 1788 و1831»، مصحوبة بتمهيد تاريخي دقيق عن المنظمة. جمع المؤرخ الهاوي إي دبليو بوفيل الأوراق المتعلقة بمستكشفين آخرين لغرب أفريقيا، على وجه الخصوص ألكسندر جوردون لينج، بصورة نهائية في سلسلته «بعثات إلى نهر النيجر». وبالإضافة إلى هذه الأعمال، رجعت مرارا وتكرارا إلى مجموعة من المصادر الأكثر حداثة. كان من أهم تلك المصادر ترجمات لأعمال علماء تمبكتو، وفي ذلك كتاب جون هنويك «تمبكتو وإمبراطورية السونجاي»، الذي يقدم الترجمة الأكثر موثوقية لكتاب «تاريخ السودان»، وترجمتي أوكتاف هودا وموريس ديلافوس إلى الفرنسية لكتابي «تاريخ السودان» «ترجمة هودا» وكتاب «تاريخ الفتاش» (ترجمة هودا وديلافوس). يقدم كتاب بيكا ماسونين، «إعادة نظر في نيجرولاند»، واحدة من الروايات السردية التفصيلية القليلة عن العلاقة بين أوروبا والإقليم، بينما يعد كتاب باولو فرناندو دي مورايس فارياس «نقوش العصور الوسطى العربية من جمهورية مالي» تحذيرا نافع الأثر بأن تاريخ تمبكتو في حالة من التغير المتواصل الدائم. (1) ملاحظات على اللغة والأسماء
كما أشار قراء المسودات المبكرة لهذا الكتاب، يوجد عدد قليل من العقبات التي تعترض التفاهم المتبادل بين الثقافات أكبر من وجود عدد من الأسماء غير المألوفة أو الكلمات الأجنبية التي بعلامات تشكيل صوتية غير معترف بها. لذلك، على الرغم من أنني اخترت اتباع الأسلوب الذي تستخدمه دورية «سودانيك أفريكا» للنقل الحرفي للكلمات العربية، فقد أزلت بعض هذه العلامات، وفي ذلك ما كان منها في الفقرات المقتبسة، في محاولة لتبسيط تجربة القارئ العادي.
شكلت أسماء الأشخاص والأماكن تحديا خاصا؛ نظرا لأنها غالبا ما تكتب بطرق مختلفة في اللغات المختلفة. تسبب هذا في بعض التناقضات؛ فقد استخدمت التهجية الإنجليزية
Timbuktu ، على سبيل المثال، على عكس التهجية الفرانكفونية
Tombouctou ، ولكني تهجيت اسم الماليين المعاصرين الذين يحملون اسم النبي محمد على أنه
Mohamed ، بالطريقة التي يتهجونه بها، وليس بالطريقة الإنجليزية التقليدية
Muhammad ، المستخدم هجاؤها للشخصيات التاريخية. من ناحية أخرى، فإن المجموعة الصغيرة نسبيا من الألقاب في مالي قد جعلت من الأسلوب الغربي لاستخدام الاسم الأخير في الإشارة الثانية مدعاة للسخرية. (ففي هذه القصة، يوجد على الأقل خمسة يحملون اسم حيدرة، وأربعة يحملون اسم معيجا، وخمسة يحملون اسم توريه.) يتغلب الماليون على هذا باستخدام تنويعة من الأسماء أو تركيبات الأسماء. على سبيل المثال، قائد هذه الدولة، الرئيس كيتا، معروف عموما باسم إبراهيم بوبكر كيتا، أو إي بي كيه، ويعرف سلفه أحمد توماني توريه بالاختصار إيه تي تي. أما الكنى - مثل «جانسكي»، و«إير مالي»، بل حتى «جون ترافولتا» - فهي الأخرى مستخدمة على نطاق واسع، وأحيانا ما تطبع على بطاقات العمل الخاصة بالأشخاص.
كان مبدئي الإرشادي هو أن أحاول أن أجعل كل شيء مباشرا قدر الإمكان للقارئ، دون أن أقصد أي ازدراء. (2) تمهيد: رجل ذو إقدام وعبقرية
يرى إي دبليو بوفيل أن ألكسندر جوردون لينج كان «أكثر مستكشفي أفريقيا تعرضا للتجاهل»، ومرد هذا من ناحية إلى أنه لم يعش حتى يروي حكايته، ومن ناحية أخرى إلى أنه لم يعثر على دفتر يومياته. استقيت جانبا كبيرا من روايتي عن حملته إلى تمبكتو من أوراقه، التي عثرت عليها في دار المحفوظات الوطنية البريطانية («بعثة الميجور لينج إلى تمبكتو: الأوراق المتعلقة بوفاته») وفي كتاب «بعثات إلى نهر النيجر»، المجلد الأول، من تحرير بوفيل. استقيت التفاصيل عن المرحلة الأولى من حياة لينج من كتاب روبرت تشامبرز، «قاموس سير الاسكتلنديين البارزين»، المجلد الثالث، ومن إدخال كريستوفر فايف عنه في «قاموس أكسفورد للسير الوطنية». ويمكن للقارئ أن يجد إعادة سرد حديثة لقصته في كتاب فرانك تي كريزا «السباق إلى تمبكتو».
نشرت خواطر بروس تشاتوين حول اسم تمبكتو؛ «تمبكتو، أم تمبوتو، أم تومبوكتو، أم تومبيكتو، أم تومبكتو، أم تمبكت؟» على هيئة مقال بعنوان «ذهب إلى تمبكتو» في مجلة «فوج» في عام 1970، ولاحقا في كتاب «تشريح القلق» الذي جمع فيه أعماله. (2-1) الاحتلال
الفقرة المقتطفة من كتاب «ألف ليلة وليلة» مأخوذة من ترجمة إدوارد وليام لين التي صدرت عام 1841. (أ) باحث عن المخطوطات
جانب كبير من الروايات المتعلقة بطفولة عبد القادر حيدرة والمراحل الأولى من حياته، وما قام به من أفعال في يوم الثلاثين من مارس، عام 2012، مستمد من مقابلات كثيرة معه. لقد أدرج صورة موجزة عن مسيرة والده وتاريخ مكتبة مما حيدرة في مقالته «نظرة عامة على مكتبات المخطوطات الرئيسية في تمبكتو». اختار صديق طفولته سانيه شريفي ألفا زيارة أمادو همباطي با باعتبارها اللحظة التي حدد فيها حيدرة هدفه في الحياة. لا يمكن لأي شخص يسعى لاستكشاف مفصل لثقافة البلاد وإسلام غرب أفريقيا أن يجد أفضل من كتاب همباطي با «روح التسامح: الحياة الملهمة لتيرنو بوكار».
المجموعة التي يشغل فيها حيدرة منصب الرئيس التنفيذي هي «المنظمة غير الحكومية لصون وتحسين المخطوطات والدفاع عن الثقافة الإسلامية»، التي يشار إليها عموما باسم سافاما. وأطلق على معهد أبحاث المخطوطات الذي تأسس في تمبكتو اسم «مركز أحمد بابا للتوثيق والأبحاث»، أو سيدراب، ولكن أعيدت تسميته فصار يحمل اسم «معهد أحمد بابا للدراسات العليا والبحوث الإسلامية ». ولدواعي التبسيط، لم أستخدم أيا من الاسمين الرسميين وإنما أشرت إليه باسم مركز أحمد بابا أو معهد أحمد بابا. نشر محضر الاجتماع التأسيسي لهذا المركز في «تقرير اجتماع خبراء اليونسكو حول استخدام المصادر المكتوبة لدراسة تاريخ أفريقيا، المنعقد في تمبكتو» في عام 1968، وقصة بداياته سردها جون هنويك في عمله «سيدراب: مركز أحمد بابا للتوثيق والأبحاث في تمبكتو»، ولويس برينر وديفيد روبنسون، في عملهما «مشروع للحفاظ على المخطوطات العربية المالية». وأشار هنويك إلى وجود «شريف شاب»، قاصدا حيدرة، ضمن طاقم العمل في المركز، والذي ورث مكتبة كبيرة عن والده ونفذ «حملات تنقيبية» في المدينة لإنشاء قوائم بالمخطوطات التي كانت متاحة للشراء. تأتي تفاصيل عمل حيدرة كمنقب عن المخطوطات، وفي ذلك رقم 16000 مخطوطة التي جمعت في اثني عشر عاما، من مقابلات معه ومن مشروع مخطوطات تمبكتو في جامعة كيب تاون (
tombouctoumanuscripts.org ).
تعليقات هيو تريفور-روبير الصادرة عام 1963 عن التاريخ الأفريقي مذكورة في كتاب إم إي تشامبرلين «التصارع على أفريقيا»، وفي مصادر أخرى. وثقت زيارة هنري لويس جيتس الابن إلى تمبكتو في الفيلم الذي أنتجته شبكة «بي بي إس» التليفزيونية «عجائب العالم الأفريقي». يضم موقع الويب المصغر
www.pbs.org/wonders
التابع لشبكة «بي بي إس» المزيد من المعلومات عن رحلات جيتس، وفي ذلك مقتطفات من يومياته. صدر تصريح تابو إيمبيكي، الذي مفاده أن المخطوطات فتحت آفاقا للتفكير بشأن العالم بطرق جديدة، في السابع من أغسطس، عام 2008، في مبنى قلعة الرجاء الصالح، في كيب تاون. وجدت النص الكامل على موقع رئاسة جنوب أفريقيا، على الرابط
http://www.thepresidency.gov.za/pebble.asp?relid=3336 . اقتبس رون جروسمان من كتابات جون هنويك، وشون أوفاهي، وديفيد روبنسون، في مقاله «المخطوطات الأفريقية تعيد كتابة التاريخ: أستاذ بجامعة نورث ويسترن يميط اللثام عن كتابات لأفريقي أسود تعود للقرن السادس عشر تتعارض مع الكثير من التصورات الغربية المسبقة».
الزعم المذكور عام 2011 بوجود أكثر من مائة ألف مخطوطة في مجموعات تمبكتو مأخوذ من مقالة حيدرة «نظرة عامة على مكتبات المخطوطات الرئيسية في تمبكتو». كتب فيها أن «أحدث عمليات المسح تشير إلى وجود حوالي مليون مخطوطة محفوظة في العديد من المكتبات الخاصة والعامة [في تمبكتو والمناطق المحيطة بها]. تضم أهمها في تمبكتو ما لا يقل مجموعه عن 101820 مخطوطة.» لاحقا قال لي حيدرة إن ذلك كان يمثل فقط العدد الذي كان قد أحصي حتى ذلك الوقت.
يمكن العثور على رأي موثوق فيه بشأن أسباب الصراع في مالي في عام 2012 في تقرير مجموعة الأزمات الدولية، «مالي، تجنب التصعيد». تصف جوديث شيله حجم اقتصاد الصحراء الكبرى في كتاب «مهربو وقديسو الصحراء الكبرى»، بتفصيل يستحق إعادة سرده: «يأتي الدقيق، والمكرونة، والبنزين من الجزائر إلى الجنوب في سيارات جيب صغيرة أو في شاحنات عتيقة أو حتى على ظهور الجمال والحمير. وتذهب رءوس الماشية الحية والسجائر من مالي إلى الشمال ... وتصل الأقمشة، والعطور، والمجوهرات، والبخور والأثاث من جنوب المغرب وموريتانيا، وهما من الأماكن التي توجد في صدارة الموضة الأنثوية والتي بها موانئ مفتوحة على مصراعيها للواردات الصينية؛ وغالبا يكون من يتاجر في هذه السلع هن النساء ... تصل المخدرات من موريتانيا، عبر الصحراء الكبرى الغربية، أو من خليج غينيا، وتمرر حول الطرف الجنوبي للجزائر عبر النيجر وتشاد إلى مصر، ومن هناك إلى إسرائيل وأوروبا. تأتي الأسلحة من مناطق الأزمات الطويلة الأمد، مثل تشاد، أو تفرغ في موانئ خليج غينيا الضخمة وتباع في جميع أنحاء المنطقة.» (ب) فراغ واسع وممتد
استخلصت تفاصيل إنشاء الرابطة الأفريقية وإنجازاتها الأولى من «محاضر الرابطة المتعلقة بتشجيع اكتشاف الأجزاء الداخلية من أفريقيا»، ومن كتاب روبن هاليت، «سجلات الرابطة الأفريقية فيما بين عامي 1788 و1831»، والذي يقدم صورة واضحة عما كان معروفا في أوروبا عن القارة والدوافع وراء رغبة جوزيف بانكس ورفاقه في استكشافها. يمكن للقارئ أن يعثر على إعادة سرد ممتعة لأنشطة الرابطة في كتاب أنتوني ساتين «بوابات أفريقيا».
كانت سيرة بانكس موضوعا للعديد من كتب السير الذاتية، ومن بينها كتاب هارولد بي كارتر «السير جوزيف بانكس 1743-1820»، وكتاب «قصة حياة جوزيف بانكس» لباتريك أوبراين، وهو كاتب اشتهر بسلسلة روايات «أوبري-ماتورين» عن حياة البحر. يقال إن حوالي عشرين ألف مراسلة من مراسلات بانكس لا تزال موجودة؛ وجمع نيل تشامبرز العديد من هذه المراسلات في كتابه «رسائل السير جوزيف بانكس: مجموعة مختارة 1768-1820».
يمكن قراءة الملاحظات التي كتبها العالم بانكس بنفسه حول زيارته للقارة الأفريقية عام 1771 في كتاب «يوميات السير جوزيف بانكس على متن سفينة إنديفور». تشكل خواطر جوناثان سويفت حول الخرائط الأفريقية جزءا من قصيدته التي صدرت عام 1733 بعنوان «في الشعر: رابسودية». يمكن للقارئ أن يجد ملاحظات هوراس والبول حول مآثر جيمس بروس في إثيوبيا في كتاب «رسائل هوراس والبول، إيرل أورفورد، إلى السير هوراس مان: مقام صاحب الجلالة البريطانية في بلاط فلورنسا، من عام 1760 إلى عام 1785»، المجلد الثاني. تعليقات التاجر الإنجليزي على أهمية التجارة الأفريقية مستمدة من عمل جون بيتر ديمارين، المنشور دون الإشارة إلى اسم المؤلف، بعنوان «أطروحة حول التجارة من بريطانيا العظمى إلى أفريقيا، الموصى بها بتواضع إلى عناية الحكومة من قبل تاجر أفريقي».
استطلع ريكاردو بيليزو النظريات المختلفة عن أصول اسم تمبكتو في مقاله «تمبكتو: درس في التأخر»، وكذلك فعل سيكيني مودي سيسوكو في كتاب «تمبكتو وإمبراطورية السونجاي». تشمل المصادر المتعلقة بجغرافيا منحنى النيجر، كتاب جون هنويك، «تمبكتو وإمبراطورية السونجاي»، وكتاب سانش دي جرامون «الإله القوي ذو البشرة البنية». استطلعت كل من سوزان كيتش ماكنتوش ورودريك ماكنتوش التاريخ المناخي للصحراء الكبرى في كتاب «غرب أفريقيا في عصر ما قبل التاريخ»، والذي يقدم أدلة على أن الصحراء الكبرى كانت، ما بين عامي 8000 و5500 قبل الميلاد، عبارة عن مجموعة متلاصقة من البحيرات الضحلة والمستنقعات، التي يجوبها الفيلة، والزراف، وحيوانات وحيد القرن، والتماسيح. اكتشفت هاينريش بارت أدلة على هذه «الحقبة الخضراء» في الصحراء الكبرى في يونيو من عام 1850، على هيئة منحوتات صخرية من عصور ما قبل التاريخ لصيادين وثيران في الصحراء الوسطى القاحلة.
إن تلخيصي لمعرفة الجغرافيين الكلاسيكيين بأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مستمد من كتاب هاليت «سجلات الرابطة الأفريقية» ومن عمل سي كيه ميك «النيجر والكلاسيكيات: تاريخ اسم». ويمكن للقارئ أن يجد معلومات إضافية عن تجارة الذهب عبر الصحراء الكبرى في عمل وارد باريت، «تدفقات السبائك العالمية، 1450-1800»، وكتاب إيان بلانشارد «التنقيب عن المعادن والتعدين وسك النقود في العصور الوسطى»، المجلد الثالث. الرائع في الأمر أن خريطة أبراهام كريسكيس المرسومة عام 1375، الأطلس الكتالوني، التي تحتوي على أول تمثيل لتمبكتو في أوروبا، موجودة في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس، ويمكن مشاهدتها على الإنترنت على
gallica.bnf.fr .
الاقتباسات من كتاب ليون الأفريقي «وصف أفريقيا» مأخوذة من ترجمة جون هنويك، الموجودة في كتاب «تمبكتو وإمبراطورية السونجاي». يقال عادة إن «المعماري الذي من بيتيس» الذي بنى مسجد جينجربر كان الأديب الأندلسي أبا إسحاق الساحلي، وهو أحد العديد من المسلمين المثقفين الذين جاءوا مع مانسا موسى من مكة (للاستزادة عن الساحلي، ارجع للفصل الثامن). لم يكن يوجد «ملك لتمبكتو» بالمعنى المعروف للكلمة، والأرجح أن ليون كان يشير إلى أسكيا الحاج محمد، الذي حكم من جاو.
سجلت مآثر ريتشارد جوبسون في كتابه «التجارة الذهبية؛ أو، اكتشاف نهر جامبرا، والتجارة الذهبية للإثيوبيين»، الذي نشر لأول مرة في عام 1623. ومسألة ازدياد جاذبية تمبكتو في المخيلة الأوروبية مستمدة جزئيا من كتاب بيكا ماسونين، «إعادة نظر في نيجرولاند»، وأيضا كتاب يوجينيا هربرت «تمبكتو: دراسة حالة عن دور الأسطورة في التاريخ». صيغت الاستعارة التي تشبه فيها تمبكتو بالمغناطيس الذي يجذب الأوروبيين إلى غرب أفريقيا على يد إيه إس كانيا-فورستنر في كتابه «غزو غرب السودان». نسب الانتقاد للاستكشاف الأفريقي المصوغ ببلاغة رائعة - «لم يكن يوجد ما يكتشف، فقد كنا موجودين هنا طوال الوقت» - إلى رئيس سابق لملاوي، وهو هاستينجز باندا.
وصف عدة المستكشف الساذج - مسدس ومظلة وأشياء قليلة أخرى - مستمد من كتاب مونجو بارك «أسفار في المناطق الداخلية لأفريقيا»، مع أن بارك حمل معه أيضا «تشكيلة صغيرة من الخرز، والعنبر، والتبغ ... وغيارات قليلة من الكتان، وغيرها من الملابس الضرورية ... وآلة سدس تحمل في الجيب، وبوصلة مغناطيسية، وميزان حرارة؛ إلى جانب بندقيتين خفيفتين للصيد، ومسدسين، وبعض الأغراض الصغيرة الأخرى.» كان من شأن المستكشفين اللاحقين أن ينطلقوا في رحلتهم ومعهم المزيد من الموارد الإضافية ، على الرغم من أن قلة عادوا بها.
للاطلاع على البيانات حول معدل وفيات الأوروبيين في غرب أفريقيا، انظر كتاب فيليب دي كورتن «المرض والإمبراطورية» وبحثه «نهاية «قبر الرجل الأبيض»؟ معدل وفيات القرن التاسع عشر في غرب أفريقيا». وفي محاضرة «أنهار الموت في أفريقيا»، ذكر مايكل جيلفاند أنه «على قدر علمي، لا يوجد داء يقهر الأطباء بقدر [الملاريا]»، وقدر أن 80 بالمائة من الأوروبيين في حملة مونجو بارك الاستكشافية الثانية لقوا نحبهم جراءه.
جمع جاريد سباركس قصة حياة جون ليديارد في عام 1828، في كتاب «مذكرات حياة ورحلات جون ليديارد من يومياته ومراسلاته.» ألهمت رحلة ليديارد على متن زورق كانو في نهر كونيتيكت إنشاء نادي ليديارد للكانو في كلية دارتموث في عام 1920؛ لا يزال النادي يجري رحلات التجديف في نيو إنجلاند. مهمة ليديارد الأخيرة موثقة في «محاضر الرابطة المتعلقة بتشجيع اكتشاف الأجزاء الداخلية من أفريقيا»، وكتاب هاليت، «سجلات الرابطة الأفريقية». يمكن العثور على خواطر توماس جيفرسون حول مقابلته مع جون ليديارد في كتاب الرئيس الثالث للولايات المتحدة «السيرة الذاتية». (ج) الجحيم ليس ببعيد
قصة التفاوض الذي جرى على قمة الكثيب الرملي، في يوم الجمعة، الموافق الثلاثين من مارس، عام 2012، حكاها لي قادر خليل وبوبكر «جانسكي» ماهامان، الذي كان حاضرا هو الآخر، وحكاها لي أيضا رئيس البلدية هلي عثمان سيسيه، وديادي حمدون معيجا، والمحافظ مامادو مانجارا، الذين حكي لهم ما حدث. وفقا لخليل، كان من طرح فكرة الاجتماع هم قادة الميليشيا العربية؛ وكان كل من أجريت معهم مقابلات في تمبكتو دون استثناء قد اعتبروا ذلك خدعة لضمان مغادرة الجنوبيين والجيش دون قتال. اعتقد جانسكي أن الملابسات الغريبة للاجتماع كانت تكتيكا مدبرا لإرباك المندوبين؛ وقال إن الأمر كان «مزحة، وعرضا عظيما.» ووفقا لجندي في رتل التعزيزات من نيافونكي، يبدو أن المجلس العسكري كان بالفعل قد أمر بالانسحاب على أي حال، فبمجرد وصول القوات إلى تمبكتو، طلب منهم الانسحاب باتجاه سيفاري. وقال المحافظ مانجارا عن قرار التخلي عن المدينة: «بعد الانقلاب لم تكن توجد قوة فورية يمكنها الدفاع عنها على النحو المناسب، على الرغم من الرغبة التي كانت موجودة». رفض جاستون دامانجو إجراء مقابلة معه.
بالإضافة إلى الأشخاص الذين قابلتهم والمذكورين في النص، استخدمت عددا قليلا من المصادر المنشورة عن أحداث الأول من أبريل، وفي ذلك كتاب حوداي آغ محمد «تمبكتو 2012: المدينة المقدسة في ظلام الفكر الجهادي». كان المقيم الذي تذكر سقوط القنابل اليدوية من شاحنة صغيرة مثل ثمرات المانجو من شجرة يتحدث إلى باحثين من منظمة هيومن رايتس ووتش، والذين أدرجوا الكلام في تقرير المنظمة لعام 2012 المسمى «مالي: جرائم حرب ارتكبها متمردو الشمال». ويمكن قراءة جزء كبير من بيانات الحركة الوطنية لتحرير أزواد في تلك الفترة في أرشيف موقع «توماست للأنباء». ثمة جانبان جديران بالذكر لأحداث تلك الفترة هنا؛ أولا، توجد عدة نظريات حول سبب انفجار مخزن الذخيرة في معسكر الجيش؛ وإذ لم أتمكن من العثور على شاهد عيان، تبنيت نظريات جانسكي وآغ محمد، اللذين يتفقان على أن شخصا ما كان يحاول إطلاق النار على القفل. ثانيا، تباينت الروايات عن مقتل الشاب؛ فيقول البعض إنه أصيب بشظية قذيفة. ومع ذلك، تبدو رواية فطومة هاربر موثوقا فيها، حيث كانت معه قبل دقائق من وفاته.
ساعدت جيني بلينكو ومجلس برنامج «نيتشر بلس» في متحف التاريخ الطبيعي في لندن في التعرف على زهور ونكة مدغشقر الوردية، في حديقة فندق بوكتو، من الصور الفوتوغرافية. (د) المستكشف الرابع
يمكن للقارئ أن يجد المزيد من الروايات التفصيلية عن حياة سايمون لوكاس ودانيل هوتون وأسفارهما المدهشة في «محاضر الرابطة المتعلقة بتشجيع اكتشاف الأجزاء الداخلية من أفريقيا» وفي كتاب روبن هاليت، «سجلات الرابطة الأفريقية فيما بين عامي 1788-1831». تظل رواية رحلة مونجو بارك الأولى المستمدة من مقابلات مع براين إدواردز من الرابطة الأفريقية والمنشورة في كتاب بارك «أسفار في المناطق الداخلية الأفريقية»، مادة سهلة وبسيطة للقراءة. يشير إدخال كريستوفر فايف عن بارك في «قاموس أكسفورد للسير الوطنية» إلى أن بعض قراء كتابه «أسفار في المناطق الداخلية الأفريقية» انزعجوا من أنه لم يشجب العبودية صراحة ، وبالفعل لقد عاش لبعض الوقت مع تاجري عبيد، هما الدكتور جون ليدلي وكارفا تورا . ومع ذلك، كما أوضحت بيكا ماسونين، في رحلته الأولى يبدو أنه التقى بالأفارقة وتعامل معهم من دون صور الإجحاف والتحيز الكثيرة التي اتصفت بها الأجيال السابقة واللاحقة. يمكن للقارئ أن يجد إعادة صياغة دوقة ديفونشاير لأغنية فتيات البامبارا المضيافات في كتاب ليندلي موراي «مقدمة إلى القارئ الإنجليزي؛ أو مجموعة مختارة من القطع الأدبية، في النثر والشعر ... مع قواعد وملاحظات لمساعدة الأطفال على القراءة الصحيحة» (الذي نشر لأول مرة في عام 1816). توجد صورتان لبارك في مجموعة المعرض الوطني للوحات في لندن. يظهر بارك في الصورة الأولى، التي رسمت في وقت مقارب لرحلته الأولى، على هيئة مغامر شاب جريء أزرق العينين؛ وفي الثانية، المرسومة حوالي عام 1805 على يد رسام الكاريكاتير الساخر توماس رولندسون، يظهر على هيئة شخص كهل أصلع مكسور الأنف، على ما يبدو. إن تعليقات جوزيف بانكس في حانة «ستار آند جارتر» مسجلة في «محاضر الرابطة المتعلقة بتشجيع اكتشاف الأجزاء الداخلية من أفريقيا». ورواية رحلة بارك الثانية ووفاته مأخوذة من «يوميات إيزاكو لرحلة في إثر السيد مونجو بارك، للتثبت من حياته ووفاته»، ومن كتاب بارك «حياة وأسفار مونجو بارك.»
لعبت رحلات بارك دورا رئيسيا في بناء أسطورة تمبكتو، بحسب إي دبليو بوفيل، وفي توجيه مستكشفين آخرين نحوها. انساق بانكس على وجه التحديد وراء رواية بارك عن «ذهب وفير في كل المجاري المائية التي تصب في نهر جوليبا.» (ه) القاعدة تهب للإنقاذ
يصعب الحصول على معلومات موثوق فيها عن الجماعات الجهادية في الصحراء الكبرى، لكنني وجدت المقابلات والمصادر التالية مفيدة: ولفرام لاتشر، «الجريمة المنظمة والصراع في منطقة الساحل والصحراء الكبرى»؛ وأندرو ليبوفيتش، «الوجه المحلي للفكر الجهادي في شمال مالي»؛ وستيفن هارمون، «الإرهاب والتمرد في منطقة الصحراء والساحل»؛ وتقرير محمد محمود أبو المعالي «القاعدة وحلفاؤها في الساحل والصحراء الكبرى». ويمكن للقارئ أن يجد السير الذاتية للعديد من الجهاديين المطلوبين في «الدليل العالمي للحركات الإسلامية» الصادر عن مجلس السياسة الخارجية الأمريكية. ويمكن العثور على برقية الدبلوماسي الأمريكي التي تصف إياد آغ غالي بأنه «قرش رديء» على موقع ويكيليكس الإلكتروني. وللحصول على رؤية رهينة مستقاة من مصدرها عن العيش مع الألوية الجهادية في الصحراء، انظر «موسم في الجحيم» لروبرت فاولر، الدبلوماسي الكندي الذي اختطف في عام 2008.
نشرت وكالة الأخبار الموريتانية شكاوى سندة ولد بوعمامة حول الأوضاع في المدينة المنهوبة: «تعلمون أننا أتينا إلى هنا في وقت متأخر، ووجدنا المدينة مدمرة جزئيا ... لقد نهبت مؤسسات عديدة وتحطمت مقراتها وسرقت سياراتها». نشرت وكالة نواكشوط للأنباء باللغة العربية إعلان إياد آغ غالي تطبيق الشريعة؛ وقد استخدمت ترجمة إنجليزية قام بها آرون واي زيلين، وهو زميل في معهد واشنطن. أوردت صحيفة «لا نوفيل ريببليك»، التي تصدر في باماكو، مقابلة خليل مع آغ غالي في الرابع من أبريل ولخصتها بأنها تلقي بلائمة «كل ما فيه الناس من ابتلاء [على] قلة إيمانهم بالله و[على حقيقة أنهم قد] نبذوا تطبيق الشريعة، التي تبدلت بتوجيه من الغربيين البيض ... ولأجل ذلك يوجد بؤس، وفسق، وغير ذلك من الابتلاءات في مجتمعنا». تحدث كل من خليل ورئيس البلدية سيسيه إلى وكالة أسوشيتد برس في خبر بعنوان «الإسلاميون يفرضون الشريعة في تمبكتو بمالي.» قال خليل إنه في ظل الشريعة أجبرت النساء على ارتداء الحجاب السلفي، وسيعاقب السارقون بقطع أيديهم، وسيرجم الزناة حتى الموت. قال رئيس البلدية سيسيه: «ستتصاعد حدة الأمور هنا.» ثم أردف: «نساؤنا لن يلبسن الحجاب بهذه الطريقة.» (و) سوف تكون من نصيبي
كان من ضمن أعضاء الحملة الاستكشافية البريطانية في عام 1823 إلى أفريقيا، التي حفزت الجمعية الجغرافية الفرنسية على أن ترد، ديكسون دينهام، وهيو كلابرتون، ووالتر أودني. في «مهمة بورنو»، المجلد الثاني من كتاب «بعثات إلى نهر النيجر» لاحظ إي دبليو بوفيل أنه «لا يزال صعبا أن يتذكر المرء في كل تاريخ الاستكشاف الجغرافي المتقلب ... رجلا بغيضا أكثر من ديكسون دينهام.» على النقيض، كان كلابرتون مستكشفا ناجحا ومحل احترام وكان من شأن ألكسندر جوردون لينج أن يعتبره أقرب منافسيه في السباق إلى تمبكتو.
التفاصيل عن جائزة الجمعية الجغرافية الفرنسية المتضاعفة للوصول إلى تمبكتو موجودة في الأعداد ذات الصلة من «نشرة» الجمعية.
للاطلاع على المصادر الرئيسية لرحلة ألكسندر جوردون لينج، انظر الملاحظات على التمهيد. يجدر أن أوضح هنا هوية شيوخ قبيلة عرب كونتا، الذين أحيانا ما اختلط الأمر عليهم بشأن لينج. من المحتمل أن «الزعيم مارابوط مقتة» الذي كان من المفترض أن يوصل باباني المستكشف إليه كان الشيخ الفقيه سيدي المختار، الذي توفي في عام 1811، تاركا وراءه أكثر من ثمانية أطفال. توفي ابنه الشيخ سيدي محمد، الذي استقبل لينج المصاب في عام 1826، جراء حمى أصابته، لاحقا في تلك السنة. كان يليه المختار الصغير، الذي مكن لينج من أن يواصل طريقه إلى تمبكتو وكتب في نهاية الأمر إلى الباشا يخبره بوفاة المستكشف. توفي المختار الصغير في سنة 1846 أو 1847 وخلفه شقيقه الأصغر أحمد البكاي، الذي عاش حتى عام 1865. مثلت هذه العائلة إلى حد ما نهضة مصغرة فيما يتعلق بالأنشطة الفقهية للمنطقة. يمكن للقارئ أن يجد مزيدا من التفاصيل عن حياتهم وأعمالهم في كتاب شاميل جيبي وسليمان بشير ديان «معاني تمبكتو».
يستهل خطاب البارون روسو، الذي أعلن وفاة لينج، والذي نشر لأول مرة في صحيفة «ليتوال» في الثاني من مايو، عام 1827، وذكر في ترويسته أنه كتب في «سوقارة في طرابلس»، بالعبارة التالية: «لقي الميجور لينج، الذي أعلنت نهايته المأساوية، حتفه نتيجة لمثابرته الشجاعة بعد أن تمكن مع ذلك من زيارة مدينة تمبكتو الشهيرة.» يمكن للقارئ أن يجده في كتاب إي دبليو بوفيل «بعثات إلى نهر النيجر»، المجلد الأول. ذكر البارون لما وصفه بأنه «تاريخ تفصيلي للمدينة»، والذي من المحتمل أنه إشارة إلى كتاب «تاريخ السودان»، موجود في رسالة نشرت في «نشرة الجمعية الجغرافية الفرنسية»، المجلد السابع، بينما يمكن العثور على مقتطفات رسائل عن تاريخ «سيدي علي بابا من أروان» مؤرخة في الثالث من مارس والثاني عشر من يونيو، عام 1828، في المجلد التاسع. وصف البارون روسو تمبكتو بأنها أصبحت تمثل للأوروبيين ما كانت تمثله مدينة المتعة الساحرة إرم ذات العماد للعرب القدماء، أو ما يمثله ينبوع الشباب للميثولوجيا الشرقية . يبدو أن روسو هو أول من استخدم صفة «غامضة» لوصف المدينة.
رواية رينيه كاييه عن زيارته الناجحة لتمبكتو - ونقده المتمثل في قوله «لم تكن المدينة، لأول وهلة، سوى كتلة من المنازل القبيحة المنظر، المبنية من الطين» - مذكورة باللغة الإنجليزية في كتاب «أسفار عبر وسط أفريقيا إلى تمبكتو». إن طبعة عام 1830 مستهلة باستعراض للخسائر الفادحة من مستكشفي أفريقيا: «ومع ذلك هباء انطلق هوتون، وبراون، وهورنمان، وبارك - هباء انطلق من خلفوهم، بنو وطننا، توكي، وبيدي، وكامبل، وجراي، وريتشي، وبوديتش، وأودني، وكلابرتون، ودينهام ولينج - هباء انطلق رحالون أوروبيون آخرون، بوركهارت، وبوفورت، ومولين، وبيلزوني، انطلقوا جميعا من نقاط مختلفة على ساحل أفريقيا، مفعمين بالأمل في إماطة النقاب الذي غلف المدينة الغامضة؛ وكلهم إما هلكوا أو تخبطوا في سعيهم».
نشر الاستقبال الناقد للطبعة الفرنسية من كتاب كاييه في دورية «كوارترلي ريفيو» في عام 1830. في كتاب «تمبكتو: دراسة حالة عن دور الأسطورة في التاريخ» تلخص يوجينيا هربرت رد الفعل البريطاني تجاه كاييه: «لا حاجة إلى تكرار التشكيك المتغطرس الذي استقبل به الخبر في بريطانيا، أو التهم المريرة التي وجهت إلى [آدم فرانسوا] جومار، رئيسه ورئيس الجمعية الجغرافية، أو التلميحات في بعض الدوائر بأن القصة بأكملها كانت افتراء مأخوذا من أوراق القتيل لينج. كانت الحقيقة المحزنة هي أن لينج قد وضع في قالب بطولي يليق بفاتح تمبكتو، ووضع كاييه في قالب رجل غير متعلم، وضيق الأفق، ومهووس، ويتصرف من تلقاء نفسه تماما. لم يوف كاييه حقه على مضض في إنجلترا إلا بعد عشرين عاما، بعد أن تحقق [هاينريش] بارت من المعلومات الأساسية التي قدمها».
وفقا لتقديرات موقع
measringworth.com ، كانت قيمة جائزة كاييه البالغة عشرة آلاف فرنك ستصل إلى حوالي ستين ألف دولار اليوم، في حين أن ميزانية حملة بيدي الاستكشافية في عام 1816 البالغة سبعمائة وخمسين ألف جنيه إسترليني تعادل حوالي اثنين وسبعين مليون دولار حاليا.
استمر الغموض يحيط بمصير أوراق لينج لمدة قرن آخر . في عام 1910، تلقى المستكشف الفرنسي ألبرت بونيل دي ميزيير رواية أخرى حول وفاة لينج . وجد رجلا من عرب البرابيش يبلغ من العمر اثنين وثمانين عاما كان قد رباه عمه أحمدو لعبيدة. أخبر الرجل العجوز ألبرت بونيل دي ميزيير أن لعبيدة أخبره كثيرا عن كيفية ومكان مقتل لينج. في هذه الرواية، حاصر لعبيدة وثلاثة رجال آخرين على ظهور الخيل لينج بينما كان يستريح في ظل شجرة وطلبوا منه التخلي عن إيمانه وأن يصبح مسلما. رفض لينج، وأمر لعبيدة الرجال الآخرين بقتله. وعندما ترددوا، طعنه لعبيدة بينما أمسك الثلاثة الآخرون لينج من ذراعيه. وقتلوا أيضا صبيا عربيا كان يرافق لينج، وقطعوا رأس المستكشف ثم أحرقوا كل أوراقه خوفا من أن تحوي سحرا.
وجد بونيل دي ميزيير هيكلين عظميين مدفونين في الموضع الذي أرشده إليه العربي. فحص مسئولون طبيون الرفات وأكدوا أنها تخص رجلا أوروبيا بالغا وصبيا عربيا. ودفنا في المقبرة المسيحية المحلية.
يتضمن كتاب جوشوا هامر الأخير «رجال مكتبات تمبكتو الشجعان وسباقهم لإنقاذ أثمن مخطوطات العالم» ادعاء بأن يوميات لينج موجودة في مجموعة مما حيدرة. كتب يقول: «كان أحد أكثر الأعمال التي امتلكها والده قيمة يوميات السفر الأصلية للميجور ألكسندر جوردون لينج ... بعد سنوات قليلة من مقتل لينج، كتب نساخ دليلا تمهيديا لقواعد النحو العربي على أوراق المستكشف؛ وهو مثال قديم على إعادة التدوير». سيكون هذا أمرا رائعا إن كان صحيحا؛ فقد أخبرني ديمتري بونداريف من جامعة هامبورج، والذي يعمل على نحو وثيق مع حيدرة، أن هذا «ادعاء لا أساس له». (ز) قائمة إسماعيل
تعليق إسماعيل ديادي حيدرة «لا نعرف حقا ما يحدث» قاله لفاليري مارين لا ميسلي ونشر في تقرير إخباري بعنوان «تمبكتو، هل هي تراث عالمي في أيدي الإسلاميين؟» جمعت التحذيرات بشأن مستقبل المخطوطات من مصادر إخبارية متنوعة؛ إذ أطلقت المديرة العامة لمنظمة اليونسكو إيرينا بوكوفا تحذيرها في الثاني من أبريل، عام 2012؛ ويمكن للقارئ أن يجد عريضة تطالب بالحفاظ على المخطوطات والتي نشرتها جمعية أبحاث غرب أفريقيا على العنوان التالي :
http://www.bu.edu/wara/timbuktu/ ؛ ونقل عن شاميل جيبي قوله: «ليس لدي ثقة في المتمردين»، في مقال باسكال فليتشر «رجال مكتبات تمبكتو يحمون المكتبات من المتمردين»؛ ونشرت كلمات حمادي بوكوم عن النظام العلماني في مقال سيرج دانيال «تاريخ تمبكتو في خطر مع تقدم التمرد».
يمكن للقارئ أن يجد الأدلة على وجود تهديد طويل الأمد يواجه التعليم العلماني في مالي في تقرير منظمة العفو الدولية «مالي: خمسة أشهر من الأزمة: التمرد المسلح والانقلاب العسكري». قال أحد سكان تمبكتو لباحثي منظمة العفو الدولية إن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كان قد أرسل عدة تحذيرات إلى المعلمين يحظر عليهم فيها تعليم التلاميذ باللغة الفرنسية، ابتداء من عام 2008. أخبرني معلمون آخرون في مقابلات معهم أنه كان يتعين فصل الفتيات والفتيان، وأنه في وقت سابق، حذفت بعض المواد من المناهج الدراسية.
رقم النصف مليون لاجئ أو نازح داخليا تقريبا من شمال مالي في عام 2012 مأخوذ من تقرير منظمة الهجرة الدولية «لمحة عن أزمة الهجرة في مالي». وفقا لمنظمة الهجرة الدولية، بحلول مارس 2013، كان ما مجموعه 175412 شخصا قد أجبروا على الفرار إلى بلدان أخرى، ونزح 260665 شخصا داخليا. قدر إجمالي عدد سكان الشمال في فترة ما قبل الأزمة بنحو 1,3 مليون نسمة.
رواية مغادرة إسماعيل ديادي حيدرة من تمبكتو هي على لسانه. وتتوافق مع ما قاله لسوزانا مولينز ليتيراس من جامعة كيب تاون، والتي عملت عن كثب على مجموعة فوندو كاتي والتي تحققت من إجلائه لأربع مخطوطات جنوبا. ووفقا لمقالها «تكوين أرشيف فوندو كاتي: مجموعة عائلية في تمبكتو»، تضمنت هذه المخطوطات مصحفا يعود تاريخه إلى عام 1482 وثلاث مخطوطات بها ملاحظات هامشية كتبها أسلاف مشهورون، على حد قول إسماعيل.
ثمة بعض التناقض في توقيت إخفاء المكتبات الأخرى. قال محمد توريه من مكتبة مما حيدرة إنه بدأ في إخراج المخطوطات من الأرفف ليلة السبت، الموافق الثلاثين من مارس، عام 2012، بعد مناقشة الأمر عبر الهاتف مع عبد القادر حيدرة، الذي كان قد وصل إلى باماكو صباح ذلك اليوم. نفى حيدرة ذلك، وقال إنه لم تنقل أي مخطوطات إلا بعد أسبوع على الأقل. كما اعترض حيدرة على توقيت محمد سيسيه فيما يتعلق بنقل مكتبة الونجري، قائلا إنها نقلت عشية الاحتلال وليس بعد ذلك. وحيث إن سيسيه كان هو من أجلى مخطوطات الونجري، فقد انحزت إلى روايته للأحداث.
صورت صحيفة «لا ديبيش» الجهادي أداما تصويرا نابضا بالحيوية في مقالتها بعنوان «الكشف عن الرجال الذين يبثون الرعب في شمال مالي»: «عرف باسم المفوض أداما؛ لأنه وفر في وقت ما الحماية لسكان المدينة من لصوص الحركة الوطنية لتحرير أزواد ... إنه تشادي الجنسية، وكان دائما ملحوظا في المدينة لأسلوبه الخاص في اللبس؛ إذ كان يضع حزام خراطيش، ويلبس سترة ناسفة، ويحمل بندقية كلاشينكوف على كتفه».
أكدت مؤسسة فورد أنها كانت بالفعل قد قدمت منحة لحيدرة لتعلم اللغة الإنجليزية في جامعة أكسفورد.
كانت لقطات الفيديو التي صورها طاقم قناة الجزيرة في يوم السبت، الموافق الرابع عشر من أبريل، والتي تظهر مكتبة مما حيدرة خاوية متاحة على الإنترنت. أشار الحساب الذي يحمل اسم
Manuscrits de Tombouctou
على الفيسبوك، والذي يديره مساعد حيدرة، بانزومانا تراوري، إلى زيارة قناة الجزيرة في منشور في الثامن عشر من أبريل، وقال إن المخطوطات كانت قد نقلت قبل ذلك الوقت: «على مستوى المكتبات الخاصة ... وتحديدا مما حيدرة والإمام ابن السيوطي اللتين تحتويان على قدر كبير من المخطوطات ... نقلت المخطوطات إلى مبان أخرى بعيدا عن المستودعات المعتادة.»
بعد عدة أيام من منعه من دخول المبنى، أبلغ عبد الله سيسيه أن أبا زيد كان مقيما بالداخل «مع رجاله». قيل لسيسيه إن أمير تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كان معه أيضا رهائن هناك، من بينهم، لبعض الوقت، مواطنة سويسرية تدعى بياتريس ستوكلي. وفقا للمرشد السياحي باستوس، احتجزت ستوكلي لفترة وجيزة في البنك المقابل لمنزله. وأطلق سراحها، بعد دفع فدية، في يوم الثلاثاء، الموافق الرابع والعشرين من أبريل. وعادت إلى تمبكتو واختطفها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي مجددا في يناير من عام 2016. (2-2) التدمير
الفقرة المقتبسة من رباعيات عمر الخيام، وهو أحد الشعراء المفضلين عند الراحل كريستوفر هيتشنز، هي إعادة صياغة قام بها ريتشارد لي جالين. (أ) مستكشف من فوق مقعده الوثير
أدين بوجود ويليام ديزبورو كولي في هذا العرض إلى بيكا ماسونين، التي تمنحه «الشرف الحقيقي المتمثل في تأسيس الجغرافيا التاريخية الحديثة لأفريقيا السودانية» وتصف كتابه «نيجرولاند العرب، مفحوصة ومشروحة» بأنه «كتاب رائد يصف حقبة مهمة». وبعيدا عن ماسونين، وكتاب كولي، فقد استقيت معلوماتي من دراسة آر سي بريدجز، «دبليو دي كولي، الجمعية الجغرافية الملكية والجغرافيا الأفريقية في القرن التاسع عشر» ومن إدخال بريدجز عن كولي في «قاموس أكسفورد للسير الوطنية». نشر استعراض كولي لكتاب جان بابتيست دوفيل «الرحلة إلى الكونغو والمناطق الداخلية لأفريقيا الاستوائية»، المكون من ثلاثة مجلدات، في فصلية «ذا فورين كوارترلي ريفيو» في عام 1832. المصادر العربية التي استخدمها كولي، وفي ذلك كتابات البكري وابن خلدون، موجودة في كتاب نحميا ليفتسيون وجيه إف بي هوبكنز «متن المصادر العربية المبكرة لتاريخ غرب أفريقيا». كتب جون رالف ويليس مقدمة لطبعة عام 1966 من كتاب كولي «نيجرولاند العرب». (ب) فارس بلا رأس
وصف حياة رجال المكتبات في باماكو في مايو من عام 2012 مستقى من مقابلات أجريت مع الثلاثة كلهم. ورواياتهم مترابطة إلى حد كبير. ووفقا للمكتب الإعلامي التابع لمنظمة اليونسكو، حضر الاجتماع الرفيع المستوى في باماكو، من الثامن عشر من مايو وحتى العشرين من الشهر نفسه، المديرة العامة المساعدة لشئون أفريقيا، للا عائشة بن بركة، ومدير مركز التراث العالمي التابع للمنظمة، كيشور راو، الذي التقى بمسئولين حكوميين كبار، من ضمنهم رئيس الوزراء المؤقت، شيخ موديبو ديارا، ووزيرة الثقافة، ديالو فاديما توريه. رواية ما حدث في الاجتماع هي رواية عبد القادر حيدرة.
وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش الأعمال الوحشية التي ارتكبها المتمردون في الشمال المحتل في تقريرها الصادر في أبريل من عام 2012، «مالي: جرائم حرب ارتكبها متمردو الشمال». تضمنت هذه الأفعال الاغتصاب الجماعي المزعوم لفتاة في الثانية عشرة من عمرها في تمبكتو على يد ثلاثة من رجال الميليشيات العربية، على الرغم من أنني لم أتحقق من ذلك بشكل مستقل.
يستند وصفي للتطرف الذي كان يزحف على تمبكتو بشكل أساسي إلى مقابلات، وتحديدا مع محمد «حامو» ديديو، وهو باحث تمبكتي موقر يعمل في المخطوطات، وهو الذي أخبرني أن زيارات الدعاة السلفيين بدأت في التسعينيات. يميل العديد من التمبكتيين إلى التشديد على أن الجهاديين غرباء عنهم، على الرغم من وجود العديد من الماليين والتمبكتيين المؤثرين بينهم، وفي ذلك عمر ولد حماها، ومحمد آغ موسى، وآغ الحسيني هوكا (هوكا هوكا)، وأحمد الفقي المهدي المعروف أيضا بالاسم الجهادي أبي تراب. اتهمت المحكمة الجنائية الدولية في عام 2015 المهدي، الموصوف في بعض التقارير بأنه صهر هوكا هوكا، بارتكابه جريمة حرب تتمثل في مهاجمة مبان دينية وتاريخية في تمبكتو. وأرسل إلى لاهاي، حيث أقر في الثاني والعشرين من أغسطس من عام 2016 بأنه مذنب في جميع التهم الموجهة إليه وطلب الصفح من شعب تمبكتو. قال: «أود أن ينظروا إلي على أنني ابن ضل طريقه». بعد ذلك حكم عليه بالسجن تسع سنوات. يمكن للقارئ أن يجد نسخا من الأدلة المقدمة في المحاكمة على موقع المحكمة الجنائية الدولية الإلكتروني، على العنوان التالي:
www.icc-cpi.int (راجع خاصة
https://www.icc-cpi.int/Transcripts/CR2016_05767.PDF ). بث فيلم تصويري، تحت اسم «مالي في ظل نظام حكم الإسلاميين»، من صنع الصحفي عثمان آغ محمد عثمان، من موقع «صحراء ميديا» الإخباري، عن الفترة التي أمضاها المهدي قائدا لشرطة تمبكتو الإسلامية، كتقرير خاص على قناة «فرنسا 2» التليفزيونية في الحادي والثلاثين من يناير، عام 2013. ويمكن للقارئ أن يجده على الإنترنت.
كان ثمة بعض الخلط لدى من أجريت معهم المقابلات بشأن هوية من كان يقود الشرطة الإسلامية أثناء الاحتلال. يبدو جليا أن المهدي وموسى كانا مسئولين عن الحسبة، أو فرقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في أوقات مختلفة. ووفقا لكل من قادر خليل ونسخ محاضر محاكمة المحكمة الجنائية الدولية للمهدي، كان التشادي الراحل أداما رئيسا للشرطة الإسلامية في البداية. يصف المراسل المالي بابا أحمد، في تقريره «مالي: أشباح تمبكتو»، رجلا يدعى خوبي بأنه مفوض الشرطة، وحسن ديكو بأنه «مراقب الشرطة»؛ ووفقا لديادي حمدون معيجا عضو لجنة الأزمة، في نهاية الاحتلال كان حسن هو المفوض. ظاهر الأمر أن الحسبة كانت منفصلة عن الشرطة الإسلامية أو فرعا تابعا لها، وأن الأربعة أو الخمسة جهاديين المشار إليهم شغلوا هذه المناصب القيادية في أوقات مختلفة.
فيما يتعلق بوصف دور الفاروق في تمبكتو، أنا مدين بالفضل إلى ميراندا دود، وهي متطوعة سابقة في فيلق السلام عاشت في المدينة سنوات كثيرة وتزوجت من أحد زعماء الطوارق، والذي كان شاعرا ومؤرخا. كان موقعها على الإنترنت
Explore Timbuktu
مصدرا مفيدا فيما يتعلق بالتقاليد المحلية، بينما أخبرني بروس هول أن الأسطورة موجودة في مناطق أخرى من العالم، وأنها فكرة إسلامية منحت مظهرا خارجيا تمبكتيا. وفي شرحه ل «المتراس الروحي» الذي شكلته الأضرحة، قال ساني شريفي ألفا إن عقيدا في الجيش أخبره أنه في عام 1992 أطلق المتمردون ما يكفي من القذائف والصواريخ لتفجير المدينة، ولكن لم يحدث أي ضرر: قال ألفا: «لم يفهم العقيد قط كيف ... قذفت جميعها ولم تنفجر واحدة منها.» ثم أردف: «قال لي إنه لا يستطيع تفسير الأمر علميا».
أجرى شيخ ديوارا مقابلة مصورة بالفيديو مع محمد قاسي، وهو اسم على مسمى، وأعطاني المقطع المصور، الذي يمكن أيضا العثور عليه على موقع قناة الجزيرة الإلكتروني. ذكرت مسيرة الحادي والعشرين من أبريل، 2012، إلى معسكر الجيش في تقرير الجمعيتي آغ موتشلت، «تمبكتو، مسيرة ضد جماعة أنصار الدين/تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في نهاية هذا الأسبوع». رواية هجوم يوم الجمعة، الموافق الرابع من مايو، على قبر سيدي محمود مأخوذة من تقارير إخبارية معاصرة، تشمل تقريرا بعنوان «المقاتلون الإسلاميون الماليون «يهدمون» قبر أحد أولياء تمبكتو» وتقريرا بعنوان «مالي: تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي يدنس ضريحا في تمبكتو»، ومن تقرير «القرارات التي اعتمدتها لجنة التراث العالمي في دورتها السادسة والثلاثين» الصادر عن منظمة اليونسكو. بابا أكيب حيدرة وشيخ عمر سيسوكو عقد معهما لقاء من أجل التقرير الإخباري «مالي: حالة سخط لدى الفنانين والمثقفين بعد عمليات التدنيس التي جرت في تمبكتو». نشر نداء استغاثة المدينة يوم الرابع عشر من مايو على الموقع الإلكتروني
tombouctoumanuscripts.org
وعلى مواقع أخرى. إن تفسير حماها للاعتقاد السلفي في أن القبر لا يجوز أن يتجاوز ارتفاعه الكاحل سجله ديوارا. أفصح عبد القادر حيدرة عن مخاوفه بشأن المولد النبوي لي في مقابلات، بينما شرح لي إسماعيل ديادي حيدرة وفطومة هاربر مسألة الاحتفال بالمولد النبوي نفسها. (ج) بابا تمبكتو
من حسن حظ من يدرسون أعمال هاينريش بارت أن لديهم سردا حديثا لحياته ورحلته الاستكشافية إلى وسط أفريقيا في كتاب ستيف كيمبر «متاهة من الممالك»، الذي استقيت منه ترجمة كتاب جوستاف فون شوبرت، صهر بارت. التفاصيل الأخرى لحياة بارت مأخوذة من مقدمة إيه إتش إم كيرك-جرين لكتاب «رحلات بارت في نيجيريا» ومن كتاب «هاينريش بارت: مستكشف في أفريقيا»، تحرير هاينريش شيفرز. إن أعظم مصدر عن بارت هو، بالطبع، كتاب المستكشف البارز «رحلات واكتشافات في شمال ووسط أفريقيا». تحتوي طبعة لونجمان (1857-1858) على رسوم إيضاحية موحية رسمها يوهان مارتن بيرناتز، استنادا إلى رسومات بارت الأولية. يمكن الاطلاع عليها عبر الإنترنت على موقع المكتبة البريطانية على الإنترنت:
www.bl.uk .
الأقواس في قول بارت «أن أكون «نافعا» للبشر» هي من عندي.
ظهر نقد كتاب بارت «رحلات على شواطئ البحر المتوسط القرطاجية والقورينية» (الذي نشر باللغة الألمانية فقط) في مجلة «أثينيوم» في عام 1850.
نشرت ثمانية مجلدات تضم يوميات جيمس ريتشاردسون بعد وفاته على هيئة كتاب بعنوان «سرد لبعثة إلى وسط أفريقيا جرت في عامي 1850-1851». كان ريتشاردسون مهتما بشدة بالأشخاص الذين شكلوا رحلته الاستكشافية، وفيما يختص بالقارئ المعاصر، فإن روايته أكثر إخبارا وجاذبية إلى حد ما من قصة بارت. رأي جي دبليو كرو في ريتشاردسون مذكور في كتاب كيمبر، «متاهة من الممالك».
أرفقت ترجمتا جون نيكلسون لقصيدتين كتبهما البكاي لسلطان ماسينا، دفاعا عن بارت، على هيئة ملحق في كتاب المستكشف «رحلات واكتشافات في شمال ووسط أفريقيا».
الرأي القائل بأن تصوير بارت للحياة الاقتصادية للمدينة التاريخية لا يمكن أن يكون أفضل من ذلك مأخوذ من كتاب إلياس سعد «التاريخ الاجتماعي لتمبكتو». تفاصيل الجنازة التي دفن فيها أقارب بارت المفجوعون جميع ممتلكات المستكشف، الذي كان لا يزال على قيد الحياة، موجودة في كتاب كيمبر، «متاهة من الممالك».
لم يعد إدوارد فوجل حيا إلى أوروبا. فقد قتل عام 1856 في وارا، عاصمة مملكة وداي، على يد سلطان تلك المملكة. (د) عملاء سريون
كانت الصلة بين التدمير الثقافي واليونسكو مفهومة جيدا لدى التمبكتيين. قال سانيه شريفي ألفا: «في كل مرة تحدثت فيها اليونسكو عن المخطوطات، كنا نقول لهم: «لا، لا، حقا، لا تتحدثوا عنها؛ لأنكم إن فعلتم، فستكون هذه هي الطريقة التي سيرد بها [الجهاديون]».» ومع ذلك، كانت المنظمة الأممية في موقف صعب، كما أوضحت لي المديرة العامة إيرينا بوكوفا في عام 2016: «أعلم أن ثمة رأيا يقول إنه لا يتعين علينا استفزازهم، وأن علينا استرضاءهم ... [لكن] علينا أن نتحدث عن الأمر.»
يوجد العديد من التقارير الإخبارية المعاصرة عن معركة جاو، وفي ذلك تقرير «شمال مالي: جاو في أيدي الإسلاميين». أما أفضل المصادر لرواية أحداث الدمار في تمبكتو فهي مقاطع الفيديو التي التقطها الصحفيون الذين أطلعوا مسبقا على ما كان سيحدث. يمكن مشاهدة واقعة تحطيم باب مسجد سيدي يحيى في فيلم عثمان آغ محمد عثمان «مالي في ظل نظام الإسلاميين» (موقع صحراء ميديا الإخباري). إن سؤال سندة ولد بوعمامة «ما اليونسكو هذه؟» أورده سيرج دانيال في تقريره الإخباري «هدم الأضرحة في مالي: باماكو تستنكر الغضب المدمر». اقتبس جوليوس كافنديش أقوال حماها في تقريره الإخباري «تدمير تمبكتو: الجهادي الذي ألهم هدم الأضرحة». أيضا كانت محاضر جلسات محاكمة المحكمة الجنائية الدولية لأحمد الفقي المهدي (خاصة «23 أغسطس 2016، قاعة المحاكمات رقم ثمانية، محضر الجلسة»،
https://www.icc-cpi.int/Transcripts/CR2016_05767.PDF ؛ و«24 أغسطس 2016، قاعة المحاكمات رقم ثمانية، محضر الجلسة»،
https://www.icc-cpi.int/Transcripts/CR2016_05772.PDF ) مفيدة في أن أعيد في مخيلتي بناء ما حدث في تلك الأيام.
جمع رد الفعل تجاه هدم الأضرحة من التقارير الإخبارية المعاصرة للأحداث، ومن بينها تقرير «الانفصاليون الماليون مستعدون للعمل على هدم المقابر» و«هدم أضرحة تمبكتو: «جريمة حرب» بحسب المحكمة الجنائية الدولية». تم التأكد من صحة صفحات المذكرة التي كتبها عبد المالك دروكدال بواسطة خبير مكافحة الإرهاب الفرنسي ماتيو جيدير. ظهرت أجزاء منها في تقرير روكميني كاليماشي «في تمبكتو، القاعدة تترك وراءها بيانا»، وتقرير جان-لوي لو توزيه، «خارطة طريق تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في مالي»، بينما نشرت الوثيقة الكاملة المكونة من ثمانين صفحة في تقرير نيكولا تشامبو، «مشروع زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بشأن مالي». يتضمن بحث جيدير «رسائل تمبكتو: رؤى جديدة حول تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» تحليلا لتفاصيل العلاقة المتوترة بين دروكدال وبلمختار.
وبحسب حيدرة، رافقه معيجا وإسماعيل إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، حيث التقوا بأمين عام الوزارة، والمستشار المسئول عن معهد أحمد بابا، والمدير الوطني للتعليم العالي.
لم يرغب حيدرة في ذكر اسم الصديق الذي دفع ثمن تذكرته إلى جنيف، أو أسماء معارفه الآخرين الذين التقى بهم هناك.
حكيت لي رواية إنقاذ معهد أحمد بابا بالأساس من قبل القاضي معيجا، وبويا حيدرة، وحسيني تراوري، ومحمد دياكيتي، وعبد القادر حيدرة. توافقت رواياتهم المنفردة في معظم الجوانب المهمة. أكد إدريسا دياكيتي، الموظف الحكومي المسئول عن معهد أحمد بابا في هذا الوقت، «حفل الكوكتيل الصغير» الذي عرض فيه على رجال الوزارة المخطوطات التي أجليت. كان الوزير المسئول عن المعهد في هذا الوقت، الذي وبخ معيجا على نقل المخطوطات دون إذن، هو هارونا كانتيه.
الأقوال المقتبسة من جمعة الماجد استحضرها عبد القادر حيدرة من ذاكرته، مع أن مركز جمعة الماجد أكد مساهمته في عملية الإجلاء. (2-3) التحرير (أ) حياة العلماء
نشرت رسالة هاينريش بارت، المؤرخة في الخامس عشر من ديسمبر 1853، والتي أعلن فيها اكتشاف كتاب «تاريخ السودان»، في عام 1855 بعنوان «رسالة من د. بارت إلى البروفيسور روديجر» في «دورية الجمعية الشرقية الألمانية». بحث كريستيان رالفس «مساهمات في تاريخ وجغرافيا السودان قدمها د. بارت» ظهر لاحقا في الدورية نفسها.
وصف عبد الرحمن السعدي المستوطنين الأوائل في تمبكتو بأنهم من الطوارق ومسوفة. ووفقا لجون هنويك في كتاب «تمبكتو وإمبراطورية السونجاي»، فقد خلط المؤرخ بين مجموعات أمازيغية متمايزة؛ إذ كانت قبيلة مسوفة جزءا من الاتحاد القبلي العظيم المعروف باسم صنهاجة، الذي سيطر على منطقة تمبكتو وتحدث بلهجة زناكة، بينما يتحدث الطوارق لهجة تماشق، وهي لهجة أمازيغية مختلفة. يرى هنويك أن الاشتقاق المعقول لاسم تمبكتو مأخوذ من جذر ب-ك-ت بلهجة زناكة، ويعني «بعيد أو مخفي»، مقترنا بأداة الملكية المؤنثة «تن». ويشير إلى أن المدينة تقع في غور طفيف.
يصف السعدي أيضا حكم أسكيا الحاج محمد ونسله بأنه استمر «مائة سنة وسنة» من الثاني من أبريل 1493 إلى الثاني عشر من أبريل 1591؛ وهذه الفترة بالطبع سبعة وتسعون عاما فقط. في الواقع، الأسكيون المنحدرون من محمد مذكورون في كتاب «تاريخ السودان» حتى عام 1656 على الأقل، ولكن بعد الغزو المغربي انقسموا إلى أولئك الذين خاضوا حرب عصابات من منطقة سيطرة أقل كثيرا، وأولئك الذين أصبحوا دمى للحكم المغربي. ومع ذلك، فإن عبارة «مائة سنة وسنة» تتوافق على نحو فضفاض مع الفترة التي حكم فيها الأسكيون باستقلالية في جاو.
أفضل عمل معروف لأحمد بابا، «كفاية المحتاج»، هو نسخة مختصرة ومراجعة من كتابه «نيل الابتهاج»، الذي كان القصد منه أن يكون مكملا لكتاب «الديباج المذهب» (وهو قاموس تراجم لفقهاء المذهب المالكي) الذي كتبه برهان الدين بن فرحون، وهو علامة من المدينة المنورة، والذي توفي في عام 1397. أخذت ترجمة أوجست شربونو من مخطوطتين دقيقتين دقة معقولة أرسلهما إليه تلاميذه، وفقا لبحثه «أطروحة في الأدب العربي للسودان وفقا لكتاب «تكملة الديباج» لأحمد بابا التمبكتي».
في كتابه «التاريخ الاجتماعي لتمبكتو»، قدر إلياس سعد أنه بحلول عام 1325، عندما دمجت تمبكتو في إمبراطورية مالي، كان عدد سكانها حوالي عشرة آلاف نسمة. غالبا ما يستشهد بوجود المدينة في الأطلس الكتالوني عام 1375 باعتباره دليلا على مكانتها كمركز تجاري في منتصف القرن الرابع عشر. واستمرت في النمو؛ سعد هو أيضا مصدر التقديرات بأنه في ذروتها في القرن السادس عشر كانت تضم 150 إلى 180 كتابا لتحفيظ القرآن، حيث كان يجري تدريس مبادئ القراءة وتلاوة القرآن، وبلغ الحد الأقصى للملتحقين بها من أربعة إلى خمسة آلاف طالب. اقترح نحميا ليفتسيون وبيكا ماسونين وآخرون أن مائتين إلى ثلاثمائة فرد تمكنوا من بلوغ مكانة العلماء المؤهلين تأهيلا كاملا في القرن السادس عشر. مع ذلك، لا يتفق الجميع مع تصوير المدينة كمركز فكري: يجادل تشارلز ستيوارت بأن الأهمية التاريخية لتمبكتو كانت موضع مبالغة كبيرة على حساب مراكز العلم السودانية الأخرى، التي تقع فيما يعرف الآن بموريتانيا، ويرجع ذلك جزئيا إلى أحمد بابا الغزير الإنتاج. كتب لي ستيوارت: «ربما لم يكن يوجد مطلقا ما يستحق أن يوصف بأنه مركز للتعلم في تمبكتو، حيث لم يترك المؤلفون الأوائل هناك أي أثر تقريبا لتدريس اللغة العربية». يتناقض هذا مع قوله إن «الأراضي الواقعة جهة الغرب حيث كانت قواعد اللغة العربية موضوعا مكتسحا لهي مؤشر واضح على ثقافة عربية طموحة ومتوسعة ومتنورة ... هذا لا ينفي أهمية جمع الكتب في القرن العشرين في تمبكتو وما حولها أو المكتبات الحالية هناك، ولكن ثمة بالتأكيد أدلة خلافية على أن الشهرة الحديثة ليست قائمة على قدر كبير من الأساس التاريخي».
تصويري لحياة بارت اللاحقة مستمد من كتابات ستيف كيمبر، وبيكا ماسونين، وآر مانسيل بروثيرو. ظهر نقد دبليو دي كولي لعمل بارت في كتاب «اكتشافات بارت في أفريقيا». لم يعترف اعترافا كاملا بإسهام بارت في معرفة العالم بأفريقيا إلا بعد قرن من وفاته، مع كتاب هاينريش شيفرز «هاينريش بارت: مستكشف في أفريقيا»، الذي عرض بالتفصيل التقدم الذي أحرزه بارت في مجالات التاريخ والجغرافيا وعلم النبات والطب واللغويات، وعلم الآثار وعلم الأعراق البشرية. (ب) الثنائي الرهيب
قدم تصوير الحياة في المنزل الكائن في حي إيه سي آي 2000 من مصادر قريبة من العملية فضلت عدم الكشف عن هويتها. أقر عبد القادر حيدرة بأنه كان يعمل في منزل ستيفاني دياكيتي، وأجزاء من رواية التكوين المبكر لعملهما معا مأخوذة من مقابلات معه. تفاصيل الاتصالات بين سافاما وصندوق الأمير كلاوس قدمتها ديبورا ستولك. كما أقرت بأن دياكيتي هي التي كتبت الكثير من مراسلاتهما.
روى العديد من الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات في تمبكتو عن قمع حامد موسى للنساء، والذين كانوا لا يزالون غاضبين من الأمر بعد مرور سنوات. في هذا الشأن، كانت تينا تراوري مصدرا قيما، وهي بائعة سمك تعرضت للاضطهاد على يد موسى ورجاله؛ إذ كانت إحدى المحرضات على مسيرة النساء في السادس من أكتوبر، عام 2012، وكانت من ضمن النساء اللواتي مثلن أمام القادة الجهاديين. ظهرت لمحات عن المسيرة في تقرير أدمانا ديارا، وتيموكو ديالو، وأجاث ماتشكورتر «مسيرة نسائية ضد الشريعة في تمبكتو»، وتقرير بابا أحمد، «مالي: في تمبكتو، مسيرة من حوالي 200 امرأة تخرج ضد الإسلاميين»، والذي قدر عدد من شاركن بنحو مائتي امرأة. وصفت آسا آغ غالي الاضطهاد الذي تعرضت له على يد موسى، وفي ذلك الوقت الذي قضته في «سجن» النساء، الذي زرته في أكتوبر من عام 2014، عندما كان قد عاد يستخدم ككشك ماكينة الصراف الآلي كما كان في السابق.
قالت ديبورا ستولك إنها تلقت رسالة البريد الإلكتروني التي تحوي عبارة «الفرصة السانحة» بين العاشر والسابع عشر من أكتوبر، عام 2012. ذكرت التكلفة التقريبية البالغة أربعين دولارا (خمسة وعشرين ألف فرنك غرب أفريقي) للسفر بين باماكو وتمبكتو في هذا الوقت على لسان المسافر المتمرس القاضي معيجا. نشر مقال «ذا نيو ريببلك» عن الإجلاء، «محبو الكتب الجسورون: كيف خدع فريق من رجال المكتبات المتسللين تنظيم القاعدة» بقلم يوتشي دريزن، على الإنترنت مع إحدى الصور الفوتوغرافية، التي التقطت كإثبات، والتي كانت قد أرسلت إلى ستولك.
قصة المشكلات التي واجهت مكتب سافاما في تمبكتو والخلاف اللاحق بين محمد توريه والجهاديين حكاها أبطالها الأربعة كلهم (ألفا، وديادي، وتوريه، وحيدرة). كان من الصعب تحديد توقيت الأحداث؛ إذ حدد ألفا تاريخ التهديد بالاستيلاء على المكتب بأنه في أغسطس، لكن يبدو أن هذا يتعارض مع عبارة توريه التي قالها للمفوض بأنه كان ينقل المخطوطات قبل الموسم المطير، الذي يدوم في تمبكتو من يوليو إلى سبتمبر.
أيد حيدرة رواية توريه عن «أسوأ رحلة» له، غير أن رب عمل توريه قال إنه لم يكن مسافرا بمفرده: «كان يوجد أربعة أشخاص مسافرون مع الخزائن»، بحسب حيدرة.
روى حيدرة واقعة الاختطاف بالقرب من نيافونكي. لم أتمكن من التحقق من صحتها من آخرين.
تذكر ديادي وآخرون التجمع في إساكان. أورد زان رايس رقم ثلاثمائة شاحنة صغيرة في تقريره «يوم جاء جهادي أعور إلى تمبكتو». شاهد العيان على هدم خمسة أضرحة أخرى باستخدام «المعاول والمجارف» كان عثمان آغ محمد عثمان من موقع «صحراء ميديا» الإخباري، الذي تحدث إلى قناة «فرنسا 24» التليفزيونية في تقرير بعنوان «في تمبكتو المنعزلة عن العالم، يسود المكر». مطالبات إياد آغ غالي من الحكومة المالية والهجوم التالي على الجنوب مأخوذان من تقارير إعلامية، من بينها تقرير لوران توشار، «مالي: نظرة على معركة كونا الحاسمة»، وتقرير موسى سيديبي، «كيف عايش الناس معركة كونا واحتلال المناطق الشمالية»، علاوة على صفحة «معركة كونا» على
wikipedia.fr .
مخاوف شاميل جيبي بشأن التدخل العسكري أعرب عنها إلى فيفيان والت في تقريرها «من أجل كنوز تمبكتو، لحظة خطر شديد.» مصدر تاريخ الرابع من يناير لزيارة حيدرة ودياكيتي لتوماس شترايدر هو السفارة الألمانية في باماكو؛ إذ أخبرني به شترايدر، القائم بالأعمال السابق. أتيحت محاضرة دياكيتي في جامعة أوريجون، «إجلاء مخطوطات تومبوكتو وحياتها في المنفى: جهد حملة «تي 160 كيه»»، في الثالث عشر من مارس، 2013، على القناة الإعلامية للجامعة وهي متاحة على العنوان التالي:
http://media.uoregon.edu/channel/archives/5647 . الروايات عن لقاء دياكيتي وحيدرة بالهولنديين، وعن تبرعاتهم، مستندة على مقابلة أجريت مع تو تجيوكر والسفير الهولندي، مارتن بروير، وعلى وثائق وزارة الخارجية الهولندية الداخلية. أنا ممتن لكلاس تجيوكر لإرساله لي الصور الفوتوغرافية التي التقطها هو وتو للمخطوطات في باماكو في أواخر يناير 2013. تفاصيل طقوس «الأوتو-دا-في» وحرق النازيين للكتب مأخوذة من كتاب جيه إم ريتشي، «حرق النازيين للكتب». (ج) ثقالة أوراق الملك ليوبولد
ظهرت رواية كونراد «قلب الظلام» لأول مرة على هيئة سلسلة من ثلاثة أجزاء في مجلة «بلاكوود» في عام 1899، وتضمنها كتابه الصادر عام 1902 الذي بعنوان: «الشباب: سردية، وقصتان أخريان». تقدير العشرة ملايين حالة وفاة تحت حكم ليوبولد مستقى من كتاب آدم هوكشيلد «شبح الملك ليوبولد»، الذي يستشهد بلجنة حكومية بلجيكية أنشئت عام 1919 ومصادر أخرى. أقوال جورج إف دبليو هيجل مقتبسة من ترجمة جون سيبري في كتاب «فلسفة التاريخ» (1900).
يوجد خلاف حول الأسباب الدقيقة للتصارع على أفريقيا، لكن الدوافع التي كثيرا ما يشار إليها هي تلك التي ذكرتها، وتشمل الركود الاقتصادي الغربي، والفجوة التكنولوجية، والعنصرية، والأجواء التنافسية الناتجة عن أنشطة ليوبولد، وفرنسا، وأطراف فاعلة أخرى؛ للاطلاع على مزيد من النقاش، انظر إم إي تشامبرلين في كتاب «التصارع على أفريقيا». في «التقسيم الأوروبي لأفريقيا وغزوها: نظرة عامة»، يذكر جي إن أوزويجوي أنه على الرغم من أن مؤتمر برلين لم يوزع أجزاء محددة من أفريقيا على دول معينة، فإنه وضع الإطار القانوني للقيام بذلك. قال: «الحجة القائلة بأن المؤتمر، خلافا للرأي الشائع، لم يقسم أفريقيا، صحيحة فقط بالمعنى الحرفي ... لجميع المقاصد والأغراض، تم بالفعل الاستيلاء على الأراضي في المؤتمر ومسألة التخصيص المستقبلي واضحة ضمنيا في قراراته. وفي الواقع، بحلول عام 1885، كانت الخطوط العريضة للتقسيم النهائي لأفريقيا قد رسمت بالفعل».
ألقيت ملاحظات صامويل بيكر العنصرية في مأدبة لتكريمه في برايتون عام 1874، وأوردتها صحيفة «ذا تايمز»، بينما ملاحظات إيه بي نيوتن مذكورة في عمل إيه أدو بواهين، «أفريقيا تحت السيطرة الاستعمارية 1880-1935».
أسباب رفض بارت من قبل الأكاديمية الملكية للعلوم في برلين يستجليها كتاب ستيف كيمبر، «متاهة من الممالك»، ومقدمة إيه إتش إم كيرك-جرين لكتاب «رحلات بارت في نيجيريا»؛ وكتاب هاينريش شيفرز، «هاينريش بارت: مستكشف في أفريقيا». إن روايتي عن الغزو الفرنسي لأفريقيا مأخوذة على نحو رئيسي من كتاب روبرت ألدريتش، «فرنسا الكبرى»، وكتاب إيه إس كانيا-فورستنر، «غزو غرب السودان». وردت الإشارة إلى نقص كراسي الأستاذية الجامعية في مجال التاريخ الأفريقي على لسان بيكا ماسونين في كتاب «إعادة نظر في نيجرولاند». تفاصيل ما جرى لمخطوطات لويس أرشينار المنهوبة مأخوذة من كتاب نور الدين غالي ومحمد ماهيبو «جرد كتب المكتبة العمرية بسيجو». أيضا يجرد الكتاب محتويات المكتبة، التي كانت تتضمن نسخة من 189 صفحة من «كتاب السودان »؛ ونسخة من 363 صفحة من كتاب أحمد بابا «نيل الابتهاج»؛ وأطروحة مشهورة عن العبودية لنفس المؤلف؛ وشذرات من كتاب «تاريخ الفتاش»؛ والعديد من الرسائل من أحمد البكاي. وتوجد سيرة ذاتية عن أرشينار بقلم ريتشارد روبرتس في كتاب إيمانويل كيه أكيمبونج وهنري لويس جيتس الابن «قاموس أعلام أفريقيا»، المجلد السادس. رواية جوزيف جوفر لإعادة احتلاله للمنطقة موجودة في كتاب «مسيرتي إلى تمبكتو».
أفضل مصدر لرحلة فيليكس دوبوا هو كتابه «تمبكتو الغامضة». يمكن للقارئ أن يجد المزيد من التفاصيل عن حياته، وحياة والده رئيس الطهاة الشهير، في كتاب إيف-جان سان-مارتان «فيليكس دوبوا 1862-1945: المراسل الكبير ومستكشف بنما في تمنراست». إهداء دوبوا لنسخة من كتاب «تاريخ السودان» إلى المكتبة الوطنية الفرنسية مذكور في مقدمة أوكتاف هودا لترجمته الفرنسية الصادرة عام 1900، التي تشتمل أيضا على تفاصيل عن المخطوطات المختلفة التي استعان بها هو وإدمون بينوا في عمله. وجد جون هنويك المزيد من النسخ من المخطوطة في مجموعة أحمد بابا وفي المكتبة الوطنية الجزائرية، بالجزائر العاصمة، من أجل ترجمته الصادرة عام 1999، والتي يشتمل عليها كتابه «تمبكتو وإمبراطورية السونجاي». تفاصيل حياة السعدي وكتاب تاريخ السودان مأخوذة من كتابات هودا وبينوا ومن كتابات هنويك، والمقتطفات المأخوذة من كتاب «تاريخ السودان» مستقاة من ترجمة هنويك. يمكن للقارئ أن يجد سيرة ذاتية قصيرة عن هودا بقلم آلان مسعودي وجان شميتز في كتاب «قاموس المستشرقين الناطقين بالفرنسية».
يظل كتاب فلورا شو «تابعة استوائية» عملا رائعا عن تلك الحقبة. تفاصيل حياتها المدهشة موجودة في كتاب دوروثي أو هيلي «فلورا شو وصحيفة «ذا تايمز»: امتهان الصحافة، والدفاع عن إمبراطورية». تناولي المتشكك لاحتمال أن يكون أسطول مالي قد وصل إلى المكسيك يحذو حذو تناول ماسونين في كتاب «إعادة نظر في نيجرولاند»، ولكن يوجد الكثير من المؤيدين المعاصرين للنظرية، من بينهم إيفان فان سيرتيما، في كتابه «جاءوا قبل كولومبوس»، وجاوسو دياوارا، في كتابه «أبو بكر الثاني، المستكشف المالي». (د) محرقة الكتب
أود أن أعرب عن امتناني للشيخ ديوارا لمشاركته معي ذكرياته عن كونه موجودا في الطرف المتلقي للغارات الجوية الفرنسية خلال عملية سيرفال. تفاصيل ما تبقى من قصر القذافي بعد قصفه سجلها درو هينشو، في تقريره «في فيلا القذافي بتمبكتو، انسحاب لتنظيم القاعدة». ويتذكر ديادي أن الاجتماع الأخير بين لجنة الأزمة والجهاديين كان قبل يوم من مقتل الشاب على يد الجهاديين، والذي سجلته تقارير وسائل الإعلام في الثالث والعشرين من يناير. وكان ديفيد بلير هو من أجرى مقابلة مع شقيقة القتيل في تقرير «تمبكتو: النساء اللواتي وقعن فريسة للاضطهاد»، الذي أورد إطلاق النار على مصطفى بسبب هتافه «تحيا فرنسا!» على ناصية أحد الشوارع.
مثل عبد الله سيسيه، يتذكر إير مالي، الذي كان يعيش بالقرب من مبنى أحمد بابا في سانكوري، اللحظة التي أدرك فيها أن المخطوطات قد أتلفت. قال: «استيقظنا في الصباح، ووجدنا المخطوطات على الفور. كانوا قد أخذوها إلى الفناء وجمعوها معا. كل ما استطاعوا الوصول إليه أحرقوه». (ه) كتاب «تاريخ الفتاش»
أدلى أوكتاف هودا وموريس ديلافوس بسرد تفصيلي عن الصعوبات التي واجهاها مع كتاب «تاريخ الفتاش» في المقدمة التي وضعاها لعملهما التوليفي، «تاريخ الفتاش أو تاريخ الباحث»، في عام 1913. ذكر ماورو نوبيلي ومحمد شاهد ماثي، في كتاب «نحو دراسة جديدة لما يعرف باسم «تاريخ الفتاش»»، حججا جازمة تفيد بأن ما ظن هودا وديلافوس أنه كتاب تاريخ واحد هو في الحقيقة نصان منفصلان، أحدهما ألفه في القرن السابع عشر عالم يعرف باسم ابن المختار، والآخر عبارة عن نص مزور ألفه في القرن التاسع عشر أحد مستشاري أحمد لوبو، سلطان ماسينا، والذي نسب زورا إلى محمود كعت. في عام 2011، نشر كريستوفر وايز وهالة أبو طالب ترجمة إنجليزية، «تاريخ الفتاش: وقائع تاريخ تمبكتو 1493-1599»، غير أنهما فشلا في أن يأخذا في حسبانهما مشكلات النص. المقاطع المقتبسة هنا في الكتاب هي ترجماتي لنسخة هودا وديلافوس الفرنسية، وينبغي التعامل معها بحرص. «العنوان الإنجليزي الكامل» لكتاب «تاريخ الفتاش» وضعه بول إي لفجوي في كتابه، «العلم الإسلامي وفهم التاريخ في غرب أفريقيا قبل عام 1800».
اعتبار تمبكتو القرن السادس عشر «مدينة علماء» مأخوذ من كتاب إلياس سعد «التاريخ الاجتماعي لتمبكتو»، وكذلك تقدير أن تعداد السكان لم يكن يزيد عن خمسين ألف نسمة: «تشير البيانات المتوفرة لدينا إلى أن عدد سكان المدينة تراوح بين ثلاثين ألفا وخمسين ألف نسمة في القرن السادس عشر عندما مرت تمبكتو «بعصرها الذهبي» من الازدهار والمعرفة الإسلامية.» تعبير «ولع شديد باقتناء الكتب» مأخوذ من كتاب برنت سينجلتون «الأفارقة المولعون بالكتب: الكتب والمكتبات في تمبكتو في العصور الوسطى». قاموس محمود كعت النادر، الذي ورد ذكره في كتاب «تاريخ الفتاش»، كان هو «القاموس المحيط». سعر كتاب «شرح الأحكام» مأخوذ من كتاب سعد، والقاموس الذي كان في ثمانية وعشرين مجلدا كان كتاب «المحكم في اللغة»، أيضا مذكور في كتاب سعد. تفاصيل تكلفة نسخ المخطوطات مأخوذة من كتاب سينجلتون.
مصادر ما أوردت هنا في الكتاب عن الغزو المغربي لسونجاي وحكم أحمد المنصور تشمل كتاب ستيفن كوري «الرجل الذي سيصبح خليفة»، وأيضا كتابي «تاريخ السودان» و«تاريخ الفتاش». معظم رواية أحداث يوم الخراب مأخوذة من كتاب «تاريخ السودان»، الذي يحتوي على القدر الأكبر من التفاصيل؛ وتتفق الفقرات المتصلة بالموضوع في كتاب «تاريخ السودان» مع النقاط الرئيسية. للاستزادة بتفاصيل حول حياة أحمد بابا، انظر كتاب محمود زوبر «أحمد بابا التمبكتي».
الفقرة المقتبسة من قصيدة أحمد بابا عن الاشتياق إلى تمبكتو سجلها العلامة المغربي محمد الصغير الإفراني، الذي ولد في عام 1669-1670. وهي مكتوبة على مدخل مبنى أحمد بابا القديم ويمكن للقارئ أن يجدها في كتاب جون هنويك، «تمبكتو وإمبراطورية السونجاي». (و) لحظة من الواقع تحاكي أفلام إنديانا جونز!
رواية أحداث التقدم الفرنسي نحو تمبكتو حكاها لي الكولونيل فريدريك جوت. كان هو من تذكر عرض الكولونيل جيز على الضباط في مهبط الطائرات في جوندام أن يتناولوا الشراب، وشغف الجنرال باريرا بكاييه، وزيارتهم للمنزل الذي كان المستكشف قد أقام فيه في عام 1828.
أتت التقارير الإخبارية عن الحريق في معهد أحمد بابا من مصادر عديدة. يحدد الخط الزمني لتويتر في الثامن والعشرين من يناير، 2013، توقيت تغريدة توماس فيسي «حرق مخطوطات قديمة» بأنه كان في الثامنة وسبع وأربعين دقيقة، وذلك الخاص بتغريدة جنان موسى بأنه كان في الساعة التاسعة وثماني دقائق. تقرير لوك هاردينج الإخباري في صحيفة «ذا جارديان» كان بعنوان «رئيس بلدية تمبكتو: متمردو مالي أحرقوا مكتبة تضم مخطوطات تاريخية». لم يصدق الجميع أن ما قاله رئيس البلدية سيسيه؛ فقد ألمح جيفري يورك في تقريره الإخباري «السباق السري لإنقاذ مخطوطات تمبكتو» إلى أن الكثير من المخطوطات كان قد نقل، بينما علق محمود زوبر في تقرير فيفيان والت «مالي: سكان تمبكتو المحليون ينقذون بعض مخطوطات المدينة القديمة من أيدي الإسلاميين» قائلا إن «المخطوطات التي كانت هناك [في المعهد] في أمان».
تكرم إنوسنت تشوكووما من مؤسسة فورد بتقديم تفاصيل مراسلات المنظمة مع عبد القادر حيدرة في الأيام الأخيرة للاحتلال، وفي ذلك مقولة الدكتور جيتاري الخالدة «لحظة من الواقع تحاكي أفلام إنديانا جونز!» ولدى سؤاله عن سبب استمرار الحاجة إلى نقل المخطوطات إلى باماكو بعد تحرير المدينة، قال حيدرة إنه من الأفضل إكمال الإجلاء بدلا من تركها في القرى. (ز) حمى المخطوطات
نشر وصف جون هنويك لتأسيس مركز أحمد بابا في مقال بعنوان «سيدراب: مركز أحمد بابا للتوثيق والأبحاث في تمبكتو». يمكن للقارئ أن يجد لمحات موجزة عن المكتبات الرئيسية الأخرى في تمبكتو على الموقع الإلكتروني لمشروع مخطوطات تمبكتو، على العنوان التالي:
tombouctoumanuscripts.org .
أبرز جان لوي تريو في كتابه «تمبكتو أو عودة الأسطورة» الدور الذي لعبه الفيلم الوثائقي لهنري لويس جيتس الابن في تضخيم شهرة المخطوطات. ذكر تريو، الذي لم يرد التقليل من أهمية وقيمة هذه الوثائق، أن زيارة جيتس كانت قد أدت إلى الاحتفاء بها بقدر أكبر بكثير من مجرد كونها تراث المعرفة الثري الذي كانت عليه بالفعل. كتب يقول: «ثمة قدر من إضفاء صبغة الملحمة البطولية والأسطورية في إعادة اكتشافها المعتمدة على وسائل الإعلام». لمزيد من التفاصيل حول زيارة جيتس، راجع الملاحظات على الفصل الأول.
يوجد مزيد من التفاصيل عن زيارة تابو إيمبيكي إلى تمبكتو في قسم شاميل جيبي «اكتشاف/إعادة اكتشاف تمبكتو» من كتاب «معاني تمبكتو». (ح) مصنع الأساطير
قول جان-ميشيل دجيان نقلته عنه ليلى عزام زنجنه في مقالتها بعنوان «هل فقدت مكتبة تمبكتو الكبرى؟» بحسب زنجنه، كان رئيس البلدية سيسيه قد أبلغ عن طريق «ملحق الاتصالات» التابع له، الذي كان قد هرب للتو من المدينة، بأن مركز أحمد بابا قد أحرق وأن أكثر من نصف مخطوطاته قد التهمتها النيران. أوردت زنجنه في مقالتها: «ومع ذلك، بدا وكأنه يلمح إلى أنه لم يحدث إتلاف لجميع مخطوطات المدينة». مقالتا تريستان ماكونيل كانتا بعنوان «تعرف على المجموعة غير المحتملة التي أنقذت مخطوطات تمبكتو» و«كيف أنقذت تمبكتو كتبها؟». كان خبر صحيفة «دير شبيجل» على الإنترنت، بالإنجليزية، بعنوان «معظم مخطوطات تمبكتو أنقذت من الهجمات.» رقم ال 377491 مخطوطة خاصة التي أنقذت أعطاه لي حيدرة في ديسمبر عام 2015.
في الثامن والعشرين من مايو، عام 2013، أرسلت رسالة بريد إلكتروني من حملة «تي 160 كيه» موقعة باسم ستيفاني دياكيتي إلى القائمة البريدية «مانسا 1»، تفيد بأن «التكلفة التقديرية البالغة سبعة ملايين دولار هي هدف طموح، ولكن جمع هذا المال أمر ضروري». لم يكن كل مستقبلي هذا النداء سعداء به. رد أحد علماء الأنثروبولوجيا البارزين: «شكرا على الاحتيال، ولكني لا أصدق هذا ... من المخزي أنك تستخدمين شبكات أكاديمية لتسويق مشروعك الوهمي». رقم المليون دولار في العام الذي دفعته وزارة الخارجية الألمانية ومؤسسة جيردا هنكل ذكر لي في مقابلة مع مصدر على صلة وثيقة بالمشروع. بعض من هذا المال تحصلت عليه مكتبات أخرى في مالي.
للمزيد من التفاصيل حول مشروع «نهضة تمبكتو»، زر موقع
www.timbukturenaissance.org . العرض المقدم من شركة جوجل لتصوير لقطات فيلمية للمدينة، وخطط إقامة جامعة تمبكتو، أخبرتني بهما ندياي راماتولاي ديالو، وزيرة الثقافة المالية. يمكن للقارئ أن يجد تفاصيل منح عبد القادر حيدرة جائزة مؤسسة أفريقيا الألمانية لعام 2014 على الموقع الإلكتروني لمؤسسة أفريقيا الألمانية.
عقد المؤتمر الذي أقيم في جامعة برمنجهام تحت اسم «ندوة لتكريم باولو فرناندو دي مورايس فارياس» في يومي الثاني عشر والثالث عشر من نوفمبر، عام 2015. في وقت كتابة هذا الكتاب الماثل بين يدي القارئ، كان من المقرر أن تنشر ورقة بروس هول البحثية «إعادة التفكير في مكان تمبكتو في التاريخ الفكري لمنطقة غرب أفريقيا المسلمة» ضمن مجموعة من الأوراق البحثية التي قدمت في المؤتمر.
في أبريل عام 2016، ظهر اسم ستيفاني دياكيتي على السطح في دعوى قضائية غريبة متعلقة بمبلغ 4,25 ملايين دولار لا صلة لها بعملية إجلاء المخطوطات. في دعوى رفعت أمام المحكمة العليا في إلينوي، اتهمت بأنها «محتالة» نسقت «سلسلة من الرشاوى غير القانونية لمسئولين حكوميين في مالي» مقابل الحصول على وثائق مزيفة (تقرير فرانك مين، «مسجون، يقول إن رشاوى أدت إلى اتهامه في قضية احتقار للمحكمة، أفرج عنه بإطلاق سراح مشروط»، صحيفة «شيكاجو صن-تايمز»، السادس والعشرين من أبريل، 2016). قيل للمحكمة إن الوثائق التي حصلت عليها دياكيتي قد أثبتت إدانة رجل مالي، يدعى بنجالي سيلا، والذي كان قد حكم عليه بالسجن ست سنوات. أيضا، بحسب ما زعم، لم تكن دياكيتي محامية كما كانت قد ادعت في بعض الأحيان. ذكر محام للشركة التي قيل إنها كانت قد عينتها في قضية سيلا أنه لا يوجد دليل على دفع رشاوى غير قانونية. لا تزال القضية جارية حتى وقت كتابة هذه السطور. ’حلا
الرقم الرسمي الذي يحدد عدد المخطوطات المفقودة من معهد أحمد بابا بأنه 4203 مخطوطات أعطاه لي القاضي معيجا. كان من المستحيل تحديد تلك المخطوطات بالضبط. قال عبد الله سيسيه إنها كانت وثائق كان المركز قد حصل عليها، ولكن لم تكن قد دخلت بعد في طور التجهيز، ولذلك لم يكن يعرف عنها الكثير.
الدراسة عن وثائق مكتبة فوندو كاتي أجرتها سوزانا مولينز ليتيراس من جامعة كيب تاون من أجل أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه التي بعنوان «أفريقيا تبدأ من جبال البرانس: فوندو كاتي، بين الأندلس وتمبكتو». لم تكن الأطروحة قد أتيحت علنا للاطلاع عليها وقت كتابة هذه السطور، ولكن فقرة مقتبسة منها، نشرت على الإنترنت، أشارت إلى أن رسالة الدكتوراه «تثير تساؤلات حول موثوقية الهوامش، من حيث تواريخ الإصدار والتأليف».
حول موضوع نقل المكتبات بعد التحرير، قال لي مالك المخطوطات التمبكتي عبد الواحد حيدرة: «كانت ثمة مكتبتان أو ثلاث مكتبات نقلت بعد التحرير مباشرة، في الوقت الذي كان فيه القائمون على منظمة سافاما قد أعلنوا بالفعل أنهم قد أخرجوا كل المخطوطات من تمبكتو، وتعين عليهم أن يجدوا مكتبات أخرى لتعقبها.» ذكر أن أسماء هذه المجموعات هي مكتبة أحمد بابا أبو العباس، ومكتبة مولاي، ومكتبة زاوية الكنتي، وأعطى توقيتات لمحادثات محددة كان قد أجراها مع ملاك المكتبات حول عمليات النقل هذه التي أعقبت التحرير. (3) كلمات أخيرة
في سبتمبر من عام 2016، وضعت عددا من المزاعم التي أثيرت، أثناء البحث في هذا الكتاب، أمام عبد القادر حيدرة، وستيفاني دياكيتي، وبعض الشخصيات المختارة عبر البريد الإلكتروني. تحديدا، طلبت منهم الرد على مسألة ما إذا كان التهديد الذي تتعرض له المخطوطات مبالغا فيه، إلى جانب أعدادها وقصة إنقاذها.
رد عبد القادر حيدرة بأنه لم يسمع المزاعم من أحد سواي. قال: «لم نر ولا قرأنا أي شيء عنها. هل أنت الوحيد الذي يمتلك هذه المعلومات؟ ما هي مصادرك؟» لقد عمل هو وزملاؤه بجد في هذا المجال لمدة سبعة وعشرين عاما وكانوا يعرفون العدد التقريبي للمخطوطات منذ الوقت الذي أمضوه في العمل منقبين محترفين عن المخطوطات. وعمل هو أيضا بجد لبناء علاقات ثقة مع شركائه، الذين جاءوا جميعهم إلى مالي لمراقبة الإجراءات التي اتخذت في باماكو أثناء حالة الطوارئ وعملية إجلاء المخطوطات. وقال إنه من الغباء أن «يكذب على العالم كله».
وكتب: «نظل مقتنعين بأنه لم يقدنا إلى الاضطلاع بما أنجزناه أي شيء سوى حب تراثنا والضمير الذي يدفعنا لحماية هذا التراث.» ثم أردف: «لم نختلق قصة. اليوم، مخطوطاتنا في أمان وسنواصل العمل من أجل الحفاظ عليها بكل الموارد المالية والبشرية والتكنولوجية التي تتوافر لنا في هذه اللحظة».
رفضت ستيفاني دياكيتي التعليق، سواء بشأن هذا الأمر أو بشأن القضية المعروضة أمام المحكمة العليا في إلينوي.
أخبرني ديمتري بونداريف، الذي يقود الأبحاث في المخطوطات في مركز دراسات ثقافات المخطوطات بجامعة هامبورج، أنه يعتقد أن بعض المتخصصين الدوليين بدءوا مؤخرا في تغيير نبرتهم لتكون أقل إدانة وأكثر واقعية؛ «قد يأتي قريبا الوقت الذي يشعر فيه الآخرون بعدم الارتياح حيال أحكامهم القاطعة بشأن ما حدث في عام 2012 (أيا كان جانب «الحقيقة» الذي يتخذونه) كما أشعر الآن كلما تعين علي تقديم تلميحات عن «عملية الإنقاذ».» وكتب أنه كان «هناك الكثير من اللاعقلانية في عقول زملائي العقلانية»، لدرجة أنه وجد ضغط دمه يرتفع. في رأيه، كان التقدير الحالي بوجود حوالي 377000 مخطوطة خاصة «واقعيا؛ لأن المرء يأخذ في الاعتبار النهج المختلفة بشأن ما يشكل مخطوطة». أما فيما يتعلق بتعاملاته مع منظمة سافاما، والتي كانت صعبة في يوم من الأيام، قال: «بيننا الآن علاقة أفضل بكثير؛ فهذه الأشياء تستغرق وقتا طويلا وتتطلب الصبر، خاصة في غرب أفريقيا وخاصة إذا كان المرء يريد أن يكون عمليا أكثر من كونه ناقدا مدمرا.»
أما بروس هول، فتمسك بأن جوانب من قصة سافاما كانت «احتيالا ضخما».
جون ليديارد.
رجل يقف مع مخطوطات محترقة.
جنود استعماريون يرفعون علم فرنسا.
عبد القادر حيدرة.
إسماعيل ديادي حيدرة.
مسجد سانكوري.
متظاهرات ضد الحركات الجهادية.
خزانات مملوءة بالمخطوطات.
المراجع
Abu al-Ma’ali, Mohammed Mahmoud. “Al-Qaeda and Its Allies in the Sahel and the Sahara.” Al Jazeera Centre for Studies, April 30, 2012.
Abun-Nasr, Jamil M.
A History of the Maghrib in the Islamic Period . Cambridge, England: Cambridge University Press, 1987.
Adams, Robert.
The Narrative of Robert Adams, a Sailor, Who Was Wrecked on the Western Coast of Africa, in the Year 1810, Was Detained Three Years in Slavery by the Arabs of the Great Desert, and Resided Several Months in the City of Tombuctoo.
London: John Murray, 1816.
Ag Ghaly, Iyad. Transcript of audio message to the people of Timbuktu. Translated by Aaron Y. Zelin. Cited at jihadology.net.
Ag Mohamed, Houday.
Tombouctou 2012: La ville sainte dans les ténèbres du jihadisme.
Bamako: La Ruche à Livres, 2013.
Ag Mouchallatte, Aljimite. “Tombouctou: Manifestation anti Ansar Adine/ AQMI ce weekend.” Toumast Press, April 24, 2012.
Ahmed, Baba. “Mali: À Tombouctou, près de 200 femmes marchent contre les islamistes.”
Jeune Afrique , October 8, 2012. --- . “Mali: Le fantômes de Tomboctou.”
Jeune Afrique , May 25, 2012.
Akyeampong, Emmanuel K., and Henry Louis Gates, Jr.
Dictionary of African Biography . Oxford: Oxford University Press, 2012.
Aldrich, Robert.
Greater France: A History of French Overseas Expansion . Basingstoke, England: Macmillan, 1996. “Alexander Gordon Laing.” In Robert Chambers, ed.,
A Biographical Dictionary of Eminent Scotsmen , vol. 3. Glasgow: Blackie and Son, 1835.
American Foreign Policy Council.
World Almanac of Islamism.
Lanham, MD: Rowman & Littlefield, 2014.
Amnesty International.
Mali: Five Months of Crisis: Armed Rebellion and Military Coup.
May 2012.
Apollonj Ghetti, Pietro M.
Étude sur les mausolées de Tombouctou . Paris: UNESCO, 2014.
Archinard, [Louis].
Le Soudan en 1893 . Le Havre: Société des Anciens Courtiers, 1895. --- .
Le Soudan français en 1889-1890: Rapport militaire ...
1891.
Banks, Joseph.
The
Endeavour
Journal of Sir Joseph Banks (1768-1771). Teddington, England: Echo Library, 2006.
Barrett, Ward. “World Bullion Flows, 1450-1800.” In
The Rise of Merchant Empires Long Distance Trade in the Early Modern World, 1350-1750 , edited by James D. Tracy. Cambridge, England: Cambridge University Press, 1991.
Barth, Heinrich. “Schreiben des Dr. Barth an Prof. Rödiger.”
Zeitschrift der Deutschen Morgenländischen Gesellschaft 9 , no. 1 (1855): 261-308. --- .
Travels and Discoveries in North and Central Africa: Being a Journal of an Expedition Undertaken Under the Auspices of H.B.M.’s Government, in the Years 1849-1855.
London: Longman, Brown, Green, Longmans & Roberts, 1857-1858. --- .
Wanderungen durch das punische und kyrenäische Küstenland oder Mâg’reb, Afrikîa und Barká [Wanderings Along the Punic and Cyrenaic Shores of the Mediterranean ...]. Volume 1 of
Wanderungen durch die Küstenländers des Mittelmeeres ausgefuhrt in den Jahren 1845, 1846 und 1847.
London: Williams & Norgate, and David Nutt; Berlin: Wilhelm Herz;
Blair, David. “Timbuktu: The Women Singled Out for
The Daily Telegraph , February 3, 2013.
Blanchard, Ian.
Mining, Metallurgy and Minting in the Middle Ages , vol. 3:
Continuing Afro-European Supremacy, 1250-1450.
Wiesbaden: Franz Steiner Verlag, 2005.
Boahen, A. Adu, ed.
Africa Under Colonial Domination 1880-1935 . Volume 7 of
General History of Africa . Paris: UNESCO; London: Heinemann; Berkeley: University of California Press, 1985.
Bonnel de Mézières, Albert. “Major Gordon Laing, and the Circumstances Attending His Death.”
The Geographical Journal
39, no. 1 (1912): 54-57.
Bovill, E. W., ed.
Missions to the Niger , vol. 1:
The Journal of Friedrich Hornemann’s Travels from Cairo to Murzuk in the Years 1797-98
and
The Letters of Major Alexander Gordon Laing, 1824-26 . Cambridge, England:
1964. --- .
Missions to the Niger , vols. 2-4:
The Bornu Mission, 1822-25.
Cambridge, England: Published for the Hakluyt Society at the University
Brenner, Louis, and David Robinson. “Project for the Conservation of Malian Arabic Manuscripts.”
History in Africa
7 (1980): 329-32.
Bridges, R. C. “W. D. Cooley, the RGS and African Geography in the Nineteenth Century. Part I: Cooley’s Contribution to the Geography of Eastern Africa.”
The Geographical Journal
142, no. 1 (1976): 27-47. --- . “William Desborough Cooley (1795?-1883).” In
Oxford Dictionary of National Biography.
Burton, Richard F.
Zanzibar: City, Island, and Coast . London: Tinsley Brothers, 1872.
Caillié, René.
Journal d’un voyage à Temboctou et à Jenné, dans l’Afrique centrale ... pendant les années 1824-1828.
--- .
Travels Through Central Africa to Timbuctoo; and Across the Great Desert, to Morocco, Performed in the Years 1824-1828.
London: Henry Colburn and Richard Bentley, 1830.
Callimachi, Rukmini. “In Timbuktu, al Qaida Left Behind a Manifesto.” Associated Press, February 14, 2013.
Carter, Harold B.
Sir Joseph Banks 1743-1820.
London: British Museum (Natural History), 1988.
Cavendish, Julius. “Destroying Timbuktu: The Jihadist Who Inspires the Demolition of the Shrines.”
Time , July 10, 2012.
Chamberlain, M. E.
The Scramble for Africa.
London: Longman, 1999.
Chambers, Neil, ed.
The Letters of Sir Joseph Banks: A Selection 1768-1820.
River Edge, NJ: Imperial College Press, 2000.
Champeaux, Nicolas. “Le projet du chef d’Aqmi pour le Mali.” RFI/
Libération , October 6, 2013.
Chatwin, Bruce.
Anatomy of Restlessness: Uncollected Writings . Edited by Jan Borm and Matthew Graves. London: Jonathan Cape, 1996.
Cherbonneau, Auguste. “Essai sur la littérature arabe du Soudan d’après le
Tekmileted-dibadje
d’Ahmed-Baba, le tombouctien.”
Annuaire de la Societé Archéologique de la Province de Constantine
2 (1854-1855).
Cissoko, Sékéné Mody.
Tombouctou et l’empire Songhay: Épanouissement du Soudan nigérien aux XVe-XVIe siècles.
Conrad, Joseph.
Heart of Darkness . London: Penguin, 2012.
Cooley, W. D. “Barth’s Discoveries in Africa; Made During an Expedition Undertaken Under the Auspices of H. M. Government, 1849-1855.”
The Edinburgh Review
109 (1859). --- .
The Negroland of the Arabs Examined and Explained; or, An Inquiry into the Early History and Geography of Central Africa.
London: J. Arrowsmith, 1841. Reprinted London: Frank Cass, 1966. --- .Review of Jean-Baptiste Douville,
Voyage au Congo et dans l’intérieur de l’Afrique équinoxiale. The Foreign Quarterly Review
10 (August 19, 1832): 163-206.
Cory, Stephen. “The Man Who Would Be Caliph: A Sixteenth-Century Sultan’s Bid for an African Empire.”
The International Journal of African Historical Studies
42, no. 2 (2009): 179-200.
Crone, G. R., ed.
The Voyages of Cadamosto and Other Documents on Western Africa in the Second Half of the Fifteenth Century.
London: Hakluyt Society, 1938.
Curtin, Philip D.
Disease and Empire: The Health of European Troops in the Conquest of Africa.
Cambridge, England: Cambridge University Press, 1998. --- . “The End of the 'White Man’s Grave’? Nineteenth-Century Mortality in West Africa.”
The Journal of Interdisciplinary History
21, no. 1 (1990): 63-88. --- .
The Image of Africa: British Ideas and Action, 1780-1850.
Madison: University of Wisconsin
Daniel, Serge. “Mausolées détruits au Mali: Bamako denónce une furie destructrice.” AFP, in
La Presse (Canada), June 12, 2012. --- . “Timbuktu’s History at Risk As Rebellion Moves In.” AFP, in
National Post (Canada), April 3, 2012. “Dans Tombouctou coupée du monde, le régne de la débrouille.” Les Observateurs, France 24, January 2, 2013.
Davidson, Basil.
Africa in History: Themes and Outlines.
London: Phoenix Press, 2001.
De Jorio, Rosa. “The Fate of Timbuktu’s Sufi Heritage: Controversies Around Past Traces and Current Practices.” In
Cultural Heritage in Mali in the Neoliberal Era , 116-34. Urbana: University of Illinois Press, 2016. [Demarin, John Peter.]
A Treatise upon the Trade from Great-Britain to Africa, Humbly Recommended to the Attention of Government, by an African Merchant.
London: R. Baldwin, 1772. “Destruction des mausolées de Tombouctou: Un 'crime de guerre’ selon la CPI.”
Le monde , July 1, 2012.
Diarra, Admana, Tiémoko Diallo, and Agathe Machecourt. “Manifestation de femmes contre la charia à Tombouctou.” Reuters, October 6, 2012.
Diawara, Gaoussou.
Abubakari II, explorateur mandingue . Paris: L’Harmattan, 2010.
Dreazen, Yochi. “The Brazen Bibliophiles of Timbuktu: How a Team of Sneaky Librarians Duped Al Qaeda.”
The New Republic , April 25, 2013.
Dubois, Félix.
Timbuctoo the Mysterious . Translated by Diana White. London: William Heinemann, 1897.
Farias, P. F. de Moraes.
Arabic Medieval Inscriptions from the Republic of Mali: Epigraphy, Chronicles and Songhay-Tuāreg History.
Oxford: Published for the British Academy by Oxford University Press, 2003.
Fletcher, Pascal. “Timbuktu Librarians Protect Manuscripts from Rebels.” Reuters, April 11, 2012.
Fowler, Robert R.
A Season in Hell: My 130 Days in the Sahara with Al Qaeda.
Toronto: HarperCollins Canada, 2011.
Fyfe, Christoper. “Alexander Gordon Laing (1794-1826).” In
Oxford Dictionary of National Biography. --- . “Mungo Park (1771-1806).” In
Oxford Dictionary of National Biography . Gates, Henry Louis, Jr. Excerpts from diary. In “Explore Gates’ Diary: The Road to Timbuktu.”
Wonders of the African World , PBS,
http://www.pbs.org/wonders/fr_gt.htm . (Cited as being from
The New Yorker .)
Gelfand, Michael. “Rivers of Death in Africa, an Inaugural Lecture Given at the University College of Rhodesia and Nyasaland” (1963). London: Oxford University Press, 1964.
Ghali, Noureddine, and Mohamed Mahibou, with Louis Brenner.
Inventaire de la Bibliothèque 'Umarienne de Segou (conservée à la Bibliothèque Nationale-Paris).
Centre National de la Recherche Scientifique, 1985.
Gobineau, Arthur de.
The Moral and Intellectual Diversity of Races: With Particular Reference to Their Respective Influence in the Civil and Political History of Mankind.
Edited and expanded by H. Hotz and J. C. Nott.
Gout, Frédéric.
Libérez Tombouctou! Journal de guerre au Mali.
2015.
Grossman, Ron. “African Manuscripts Rewriting History: Northwestern Professor Uncovers 16th Century Writings by a Black African That Contradict Many Western Preconceptions.”
Chicago Tribune , April 9, 2001.
Guidère, Mathieu. “The Timbuktu Letters: New Insights about AQIM.”
Res Militaris
4, no. 1 (Winter-Spring 2014).
Haidara, Abdel Kader. “An Overview of the Major Manuscript Libraries in Timbuktu.” In
The Trans-Saharan Book Trade: Manuscript Culture, Arabic Literacy and Intellectual History in Muslim Africa , edited and translated by Graziano Krätli and Ghislaine Lydon, 241-64. Leiden: Brill, 2011.
Haidara, Ismael Diadié.
Une cabane au bord de l’eau . Málaga, Spain: Fondo Kati, 2015.
Hall, Bruce S.
A History of Race in Muslim West Africa 1600-1960 . Cambridge, England: Cambridge University Press, 2001.
Hallett, Robin, ed.
Records of the African Association 1788-1831.
London: Thomas Nelson and Sons, 1964.
Hammer, Joshua.
The Bad-Ass Librarians of Timbuktu and Their Race to Save the World’s Most Precious Manuscripts.
New York: Simon & Schuster, 2016. --- . “The Race to Save Mali’s Priceless Artifacts.”
Smithsonian Magazine , January 2014.
Hampâté Bâ, Amadou, and Roger Gaetani.
A Spirit of Tolerance: The Inspiring Life of Tierno Bokar.
Bloomington, IN: World Wisdom, 2008.
Harding, Luke. “Timbuktu Mayor: Mali Rebels Torched Library of Historic Manuscripts.”
The Guardian , January 28, 2013.
Harmon, Stephen A.
Terror and Insurgency in the Sahara-Sahel Region: Corruption, Contraband, Jihad and the Mali War of 2012-2013.
Burlington, VT: Ashgate, 2014.
Harris, James.
Hume: An Intellectual Biography.
New York: Cambridge University Press, 2015. “Head of UN Cultural Agency Urges Warring Factions in Mali to Safeguard Timbuktu.” UN News Centre, April 2, 2012.
Helly, Dorothy O. “Flora Shaw and the
Times : Becoming a Journalist, Advocating Empire.” In
Women in Journalism at the
Fin de Siècle: “Making a Name for Herself,”
edited by F. Elizabeth Gray, 110-28. Basingstoke, England: Palgrave Macmillan, 2012.
Herbert, Eugenia. “Timbuktu: A Case Study of the Role of Legend in History.” In
West African Culture Dynamics: Archaeological and Historical Perspectives , edited by B. K. Swartz, Jr., and Raymond E. Dumett, 431-54. The Hague: De Gruyter Mouton, 1980.
Hinshaw, Drew. “In Gadhafi’s Timbuktu Villa, an al Qaeda Retreat.”
The Wall Street Journal , February 4, 2013.
Hochschild, Adam.
King Leopold’s Ghost: A Story of Greed, Terror, and Heroism in Colonial Africa.
Boston: Houghton Mifflin, 1998.
Houdas, Octave, trans.
Tarikh es-soudan par Abderrahman Ben Abdallah Ben 'Imran Ben 'Amir es-Sa'di.
Edmond Benoist, published Paris: Ernest Leroux, 1898.
Houdas, Octave, and Maurice Delafosse, trans.
Tarikh el-fettach ou chronique du chercheur ... par Mahmoûd Kâti Ben El-Hâdj El-Motaouakkel Kâti et l’un de ses petits-fils.
1913.
Human Rights Watch.
Mali: War Crimes by Northern Rebels.
April 2012.
Hunwick, John O. “Ahmad Baba and the Moroccan Invasion of the Sudan (1591).”
Journal of the Historical Society of Nigeria
2, no. 3 (1962): 311-28. --- .
Arabic Literature of Africa , vol. 4:
Writings of Western Sudanic Africa.
Leiden: Brill, 2003. --- . “CEDRAB: The Centre de Documentation et de Recherches Ahmad Baba at Timbuktu.”
Sudanic Africa
3 (1992): 173-81. --- . “Timbuktu: A Refuge of Scholarly and Righteous Folk.”
Sudanic Africa
14 (2003): 13-20. --- .
Timbuktu and the Songhay Empire: Al-Sa'di’s Ta’rīkh al-sūdān down to 1613 and Other Contemporary Documents.
Leiden: Brill, 1999.
Hunwick, John O., Alida Jay Boye, and Joseph Hunwick.
The Hidden Treasures of Timbuktu: Historic City of Islamic Africa.
London: Thames & Hudson, 2008.
International Criminal Court. “Al Mahdi Case.
The Prosecutor v. Ahmad Al Faqi Al Mahdi,
ICC-01/12-01/15.”
https://www.icc-cpi.int/mali/al-mahdi .
International Crisis Group.
Mali, Avoiding Escalation . July 18, 2012.
International Organization for Migration.
The Mali Migration Crisis at a Glance
March 2013. “Isaaco’s Journal of a Voyage After Mr. Mungo Park, to Ascertain His Life or Death.”
Annals of
4, no. 23 (November 1814): 369-85.
Jefferson, Thomas.
Autobiography of Thomas Jefferson: 1743-1790 . New York: G. P. Putnam’s Sons, 1914.
Jeppie, Shamil. “Re/discovering Timbuktu.” In Jeppie and Diagne,
The Meanings of Timbuktu .
Jeppie, Shamil, and Souleymane Bachir Diagne, eds.
The Meanings of Timbuktu . Cape Town: HSRC Press in association with CODESRIA, 2008.
Jobson, Richard.
The Golden Trade; Or, A Discovery of the River Gambra, and the Golden Trade of the Aethiopians (1623). London: William Dawson & Sons, 1968.
Joffre, General [Joseph].
My March to Timbuctoo.
London: Chatto & Windus, 1915.
Kaba, Lansiné. “Archers, Musketeers, and Mosquitoes: The Moroccan Invasion of the Sudan and the Songhay Resistance (1591-1612).”
The Journal of African History
22, no. 4 (1981): 457-75.
Kanya-Forstner, A. S.
The Conquest of the Western Sudan: A Study in French Military Imperialism.
London: Cambridge University Press, 1969.
Katz, Marion Holmes. “Women’s 'Mawlid’ Performances in Sanaa and the Construction of 'Popular Islam.’”
International Journal of Middle East Studies
40, no. 3 (2008): 467-84.
Kemper, Steve.
A Labyrinth of Kingdoms: 10,000 Miles Through Islamic Africa.
New York: W. W. Norton, 2012.
Kirk-Greene, A. H. M. Introduction to
Barth’s Travels in Nigeria: Extracts from the Journal of Heinrich Barth’s Travels in Nigeria, 1850-1855.
London: Oxford University Press, 1962.
Kryza, Frank T.
The Race for Timbuktu: In Search of Africa’s City of Gold.
New York: Ecco, 2006.
Lacher, Wolfram. “Organized Crime and Conflict in the Sahel-Sahara Region.” In
in the Sahara , edited by Frederic Wehrey and Anouar Boukhars, 61-85. Washington, DC: Carnegie Endowment for International Peace, 2013.
Laing, Alexander Gordon.
The Letters of Major Alexander Gordon Laing, 1824-26 . In Bovill,
Missions to the Niger , vol. 1.
Le Touzet, Jean-Louis. “La feuille de route d’Aqmi au Mali.”
Libération , October 7, 2013.
Lebovich, Andrew. “The Local Face of Jihadism in Northern Mali.”
CTC Sentinel , June 25, 2013.
Ledyard, John.
A Journal of Captain Cook’s Last Voyage to the Pacific Ocean, and in Quest of a North-West
Hartford: Nathaniel Patten, 1783.
Leo Africanus. “Description of the Middle Niger, Hausaland and Bornu.” In Hunwick,
Timbuktu and the Songhay Empire .
Levtzion, Nehemia.
Ancient Ghana and Mali.
London: Methuen, 1973. --- . “A Seventeenth-Century Chronicle by Ibn al-Mukhtār: A Critical Study of 'Ta’rīkh al-fattāsh.’”
Bulletin of the School of Oriental and African Studies (University of London), 34, no. 3 (1971): 571-93.
Levtzion, N., and Hopkins, J. F. P., eds.
Corpus of Early Arabic Sources for West African History.
Translated by J. F. P. Hopkins. Cambridge, England: Cambridge University Press, 1981.
Lovejoy, Paul E. “Islamic Scholarship and Understanding History in West Africa Before 1800.” In
The Oxford History of Historical Writing , vol. 3:
1400-1800 . Oxford: Oxford University Press, 2012. “Mali: L’indignation des artistes et intellectuels après les profanations de Tombouctou.” RFI Afrique, May 6, 2012. “Mali: Un mausolée profané par Aqmi à Tombouctou.”
L’express
and AFP, May 6, 2012. “Mali Islamist Militants 'Destroy’ Timbuktu Saint’s Tomb.” BBC News, May 6, 2012. “Mali Separatists Ready to Act over Destruction of Tombs.” CNN, July 2, 2012.
Marin La Meslée, Valérie. “Tombouctou, patrimoine mondial aux mains des islamistes?”
Le point , April 4, 2012.
http://www.lepoint.fr/monde/tombouctou-patrimoine-mondial-aux-mains- des-islamistes-04-04-2012-1448503_24.php .
Masonen, Pekka.
The Negroland Revisited: Discovery and Invention of the Sudanese Middle Ages.
Helsinki: Finnish Academy of Science and Letters, 2000.
McConnell, Tristan. “How Timbuktu Saved Its Books.”
Harper’s Magazine , February 4, 2013. --- . “Meet the Unlikely Group That Saved Timbuktu’s Manuscripts.” GlobalPost, February 3, 2013.
McIntosh, Roderick J., and Susan Keech McIntosh. “The Inland Niger Delta Before the Empire of Mali: Evidence from Jenne-Jeno.”
The Journal of African History
22, no. 1 (1981): 1-22.
McIntosh, Susan Keech, and Roderick J. McIntosh. “West African
American Scientist
69, no. 6 (1981): 602-13.
Meek, C. K. “The Niger and the Classics: The History of a Name.”
The Journal of African History
1, no. 1 (1960): 1-17.
Messaoudi, Alain, and Jean Schmitz, “Octave Houdas.” In
Dictionnaire des orientalistes de langue française,
edited by François Pouillon. Paris: Institut d’Études de l’Islam et des Sociétés du Monde Musulman and Karthala, 2008.
Molins Lliteras, Susana. “Africa Starts in the Pyrenees: The Fondo Kati, Between al-Andalus and Timbuktu.” Ph.D. thesis, University of Cape Town, August 2015. --- . “The Making of the Fondo Ka'ti Archive: A Family Collection in Timbuktu.”
Islamic Africa
6 (2015): 185-91.
Nobili, Mauro, and Mohamed Shahid Mathee. “Towards a New Study of the So-Called
Tarikh al-fattash .”
History in Africa
42 (2015): 37-73. “Nord du Mali: Gao est aux mains des islamistes.” RFI Afrique, June 27, 2012.
Norris, H. T. “Sanhājah Scholars of Timbuctoo.”
Bulletin of the School of Oriental and African Studies (University of London), 30, no. 3 (1967): 634-40.
O’Brian, Patrick.
Joseph Banks: A Life.
London: Collins Harvill, 1989.
Oxford Dictionary of National Biography.
Edited by H. C. G. Matthew and Brian Harrison. Oxford: Oxford University
The Life and Travels of Mungo Park.
Edinburgh: William and Robert Chambers, 1838. --- .
Travels in the Interior Districts of Africa, Performed Under the Direction and Patronage of the African Association, in the Years 1795, 1796, and 1797.
London: G. and W. Nicol, 1799.
Journal of World-Systems Research 7, no. 2 (2001): 265-83.
Discovery of the Interior Parts of Africa . London: C. Macrae, 1810. Reprint of issues from 1788 through 1810.
The Geographical Journal
124, no. 3 (1958): 326-37.
Description de la nigritie.
Amsterdam: Maradan, 1789.
Hakluytus Posthumus or, Purchas His Pilgrimes (1625). Cambridge, England: Cambridge University Press, 2014.
Ralfs, C[hristian]. “Beiträge zur Geschichte und Geographie des Sudan, Eingesandt von Dr. Barth.”
Zeitschrift der Deutschen Morgenländischen Gesellschaft
9, no. 2 (1855): 518-644. “Report of the UNESCO Meeting of Experts on the Utilisation of Written Sources for the History of Africa Held at Timbuktu, 30 November-7 December 1967.”
Research Bulletin (Centre of Arabic Documentation, University of Ibadan), 4 (1968): 52-69. “Révélations sur les hommes qui sément la terreur au nord Mali.”
La dépêche , January 9, 2013. maliweb.net.
Review of Heinrich Barth,
Wanderings Along the Punic and Cyrenaic Shores of the Mediterranean (Wanderungen durch das punische und kyrenäische Küstenland). The Athenaum , no. 1166 (March 2, 1850): 229-30.
Review of René Caillié,
Journal d’un voyage à Temboctoo [sic] et a Jenné, dans l’Afrique centrale, &c. The Quarterly Review
42, no. 84 (March 1830): 450-75.
Rice, Xan. “Day a One-Eyed Jihadist Came to Timbuktu.”
Financial Times , January 25, 2013.
Richardson, James.
Narrative of a Mission to Central Africa Performed in the Years 1850-51.
Edited by Bayle St. John. London: Chapman and Hall, 1853.
Ritchie, J. M. “The Nazi Book-Burning.”
Modern Language Review
83, no. 3 (1988): 627-43.
Rousseau, Jean-Baptiste Louis Jacques. Excerpts of letters.
Bulletin de la Société de Géographie
7, no. 54 (October 1827): 176-77; 9, no. 63 (July 1828): 41.
Saad, Elias N.
Social History of Timbuktu: The Role of Muslim Scholars and Notables, 1400-1900.
Cambridge, England: Cambridge University Press, 1983.
Saint-Exupéry, Antoine de.
Wind, Sand and Stars. [Translated by Lewis Galantière.] London: Pan Books, 1975.
Saint-Martin, Yves-Jean.
Félix Dubois 1862-1945: Grand reporter et explorateur de Panama à Tamanrasset.
Sanche de Gramont.
The Strong Brown God: Story of the River Niger.
New York: Mariner, 1991.
Sattin, Anthony.
The Gates of Africa: Death, Discovery, and the Search for Timbuktu.
New York: St. Martin’s Press, 2005.
Scheele, Judith.
Smugglers and Saints of the Sahara: Regional Connectivity in the Twentieth Century.
Cambridge, England: Cambridge University Press, 2012.
Schiffers, Heinrich, ed.
Heinrich Barth: Ein Forscher in Afrika . Wiesbaden: Franz Steiner Verlag, 1967.
Schubert, Gustav von.
Heinrich Barth, der Bahnbrecher der deutschen Afrikaforschung: Ein Lebens-und Charakterbild . Berlin: Reimer, 1897.
Shaw, Flora [Dame Flora Louise Lugard].
A Tropical Dependency: An Outline of the Ancient History of the Western Soudan with an Account of the Modern Settlement of Northern Nigeria.
London: James Nisbet, 1905.
Sidibe, Moussa. “Comment les populations ont vécu la bataille de Konna et l’occupation des régions du nord.” Maliweb.net, March 8, 2013.
Singleton, Brent D. “African Bibliophiles: Books and Libraries in Medieval Timbuktu.”
Libraries & Culture
39, no. 1 (2004): 1-12. “Smuggled Out: Most Timbuktu Manuscripts Saved from Attacks.”
Der Spiegel (English website), February 25, 2013.
Sparks, Jared.
Memoirs of the Life and Travels of John Ledyard from His Journals and Correspondence.
London: Henry Colburn, 1828.
Spurr, David.
The Rhetoric of Empire: Colonial Discourse in Journalism, Travel Writing, and Imperial Administration.
Durham, NC: Duke University Press, 1993.
Touchard, Laurent. “Mali: Retour sur la bataille décisive de Konna.”
Jeune Afrique , January 30, 2014.
Triaud, Jean-Louis. “Tombouctou ou le retour du mythe: L’exposition médiatique des manuscrits de Tombouctou.” In
L’Afrique des savoirs au sud du Sahara, XVIe-XXIe siècle: Acteurs, supports, pratiques , edited by Daouda Gary-Tounkara and Didier Nativel. Paris: Karthala, 2012.
UNESCO.
Decisions Adopted by the World Heritage Committee at Its 36th Session (Saint-Petersburg, 2012). World Heritage 36 COM.
United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization Convention Concerning the Protection of the World Cultural and Natural Heritage, World Heritage Committee, Thirty-sixth Session. Saint Petersburg, June 24-July 6, 2012.
Uzoigwe, G. N. “European Partition and Conquest of Africa: An Overview.” In Boahen,
Africa Under Colonial Domination 1880-1935 , 19-44.
Van Sertima, Ivan.
They Came Before Columbus: The African Presence in Ancient America.
New York: Random House, 2003.
Walpole, Horace.
Letters of Horace Walpole, Earl of Orford, to Sir Horace Mann: His Britannic Majesty’s Resident at the Court of Florence, from 1760 to 1785 , vol. 2. London: R. Bentley, 1843.
Walt, Vivienne. “For the Treasures of Timbuktu, a Moment of Grave Peril.”
Time , January 26, 2013. --- . “Mali: Timbuktu Locals Saved Some of City’s Ancient Manuscripts from Islamists.”
Time , January 28, 2013.
Wesseling, H. L.
Divide and Rule: The
. Translated by Arnold J.
Wise, Christopher, and Haba Abu Taleb, trans.
Ta’rīkh al fattāsh: The Timbuktu Chronicles 1493-1599: English Translation of the Original Works in Arabic by Al Hajj Mahmud Kati.
Edited by Christopher Wise. Trenton, NJ: Africa World
York, Geoffrey. “The Secret Race to Save Timbuktu’s Manuscripts.”
Globe and Mail , December 27, 2012.
Zanganeh, Lila Azam. “Has the Great Library of Timbuktu Been Lost?”
The New Yorker , January 29, 2013.
Zouber, Mahmoud.
Ahmad Baba de Tombouctou (1556-1627): Sa vie et son oeuvre
Maisonneuve et Larose, 1977.
مصادر الصور
Man with burned manuscripts:
John Ledyard:
Dartmouth College.
Colonial troops raising the French flag:
Abdel Kader Haidara:
© Klaas Tjoelker.
Ismael Diadié Haidara:
© Dr. Susana Molins Lliteras, Tombouctou Manuscripts Project, University of Cape Town.
The Sankore mosque:
© Ian Nellist/Alamy Stock Photo.
Anti-jihadist demonstrators:
Lockers filled with manuscripts:
Tjoelker.
نامعلوم صفحہ