مهربو كتب تمبكتو
مهربو كتب تمبكتو: السعي للوصول إلى المدينة التاريخية والسباق من
اصناف
في صباح ضبابي في باماكو، عاصمة دولة مالي المعاصرة في غرب أفريقيا، سارت سيارة تويوتا لاند كروزر ببطء نحو نهاية طريق خرساني وتركته لتنخرط في زحام السيارات الصباحي. في مقعدها الأمامي جلس رجل ضخم ذو مظهر مميز يرتدي عباءة فضفاضة وقبعة صلاة مستديرة. كان في السابعة والأربعين من عمره، وطوله يزيد عن الأقدام الست، ووزنه يقارب مائتي رطل، وعلى الرغم من وجود شارب صغير فرنسي الطراز متوازن بأناقة فوق شفته العليا، كان ثمة شيء يوحي بالقيادة في مظهره. في عينيه البنيتين البارزتين كان يكمن ذكاء حاد يكاد أن يكون خبيثا. كان هذا هو عبد القادر حيدرة، أمين مكتبة من تمبكتو، والذي كان اسمه سيصبح عما قريب شهيرا في أنحاء العالم.
لم يكن حيدرة رجلا مترددا، ولكن في ذلك الصباح، بينما كان سائقه يقود السيارة الثقيلة عبر الحشود الكثيفة من الدراجات البخارية الصينية الصنع التي تمر محدثة أزيزا والحافلات الصغيرة الخضراء المتهالكة التي طوت شوارع المدينة، كان واقعا في معاناة من التردد. كان راديو السيارة، المضبوط على إذاعة فرنسا الدولية، يفيض بتحديثات مقلقة عن الوضع في الشمال، بينما امتلأت باستمرار الهواتف المحمولة الرخيصة، التي كانت في متناول يده دوما، بإفادات من معارفه في تمبكتو، التي تبعد ستمائة ميل. كان المتمردون يتقدمون عبر الصحراء، ويجبرون القوات الحكومية واللاجئين على التراجع أمامهم. كانت محطات الحافلات تعج بالنازحين؛ كانت الطرق السريعة تزدحم بالدراجات البخارية والشاحنات الصغيرة والشاحنات الكبيرة القديمة التي تتأرجح تحت ثقل السكان الفارين. كان حيدرة قد عرف عندما غادر شقته أن قيادة السيارة في هذه الفوضى ستكون خطرة، لكن حينئذ بدأ الأمر يبدو مثل مهمة انتحارية. سرعان ما ضاق ذرعا بالأمر؛ فتحدث إلى سائقه، وبعد ذلك توجها صوب الغرب من جديد، عائدين إلى حواف العاصمة الأفريقية المترامية الأطراف.
ليست هناك كلمات كثيرة أفضل لوصف أمين المكتبة هذا من كلمة «مسئول». لقد كان مسئولا عن شريحة ضخمة من التاريخ المهمل، المتمثلة في مخطوطات تمبكتو، التي هي مجموعة كبيرة من الوثائق المكتوبة بخط اليد حتى إنه لم يكن أحد يعرف عددها على وجه الدقة، لكنه هو نفسه كان سيحصيها بمئات الآلاف. كان قلة من الناس قد فعلوا أكثر مما فعل حيدرة للكشف عن هذه المخطوطات. وفي الشهور التالية، لن ينال أحد فضلا أكثر مما سينال على إنقاذها.
من الناحية الشخصية كان أمين المكتبة رجلا ذا هيبة يصافحك مصافحة رقيقة رقة مذهلة، ويحييك تحية عابرة تبقى في الذاكرة. كان على دراية كبيرة بتاريخ ومحتوى الوثائق، لكنه لم يبد عالما بقدر ما بدا رجل أعمال كان يتولى شئونه بلغات مختلفة عبر هواتفه المحمولة، أو شخصيا من وراء مكتب بحجم قارب صغير. لم يكن المالك الوحيد للمخطوطات في المدينة، لكن بصفته مالك أكبر مجموعة منها ومؤسس «سافاما»، وهي منظمة مكرسة للمحافظة على تراث المدينة المكتوب، ادعى أنه يمثل أكثرية عائلات تمبكتو المالكة للمخطوطات.
نشأ حيدرة في منزل ضخم في تمبكتو مصنوع من قرميد البانكو ومبني حول ساحة، شأنه شأن مائة ألف منزل آخر في المنطقة. كان واحدا من أربعة عشر ابنا من أبناء مما حيدرة، الذي كان عالما من تمبكتو، وكانت المدينة التي نشأ فيها قد تغيرت قليلا على مدى مائة عام. في قلب المدينة كانت تقع المساجد الثلاثة الكبيرة؛ جينجربر، «المسجد الكبير» في الغرب؛ وسيدي يحيى في المركز؛ وسانكوري في الشمال. كانت المساحات بين المساجد مليئة بالمنازل والأسواق، وكانت المدينة القديمة، التي كانت على شكل قطرة دمع كبيرة، على مسافة ميل ونصف في الجوار. كان الناس قد دفنوا أقاربهم بالقرب من منازلهم، وبينما تنامت المدينة، كانت المدافن قد استوعبتها شبكة الأزقة والشوارع. كان الأحياء والأموات الآن يتواجدون جنبا إلى جنب، وفي تقليد الإسلام الصوفي الباطني، لم يعد الفاصل بينهم واضحا؛ الأسلاف الأكثر قداسة، العلماء والقضاة والقادة من الأزمنة السابقة، كانوا يرقدون في أضرحة كبيرة حيث كانوا يعظمون باعتبارهم أولياء. كان أحد ما قد ذكر أن عددهم 333 وليا، وإذ كان هذا الرقم رقما مباركا، فقد صار هذا هو ما أصبحت تمبكتو تطلقه على نفسها، «مدينة ال 333 وليا».
لم تكن توجد سيارات أو شاحنات في تمبكتو حينما كان حيدرة يترعرع؛ فلم تحظ المدينة بأول مضخة وقود حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي. كانت بدلا من ذلك مليئة بالحيوانات. كانت الأغنام والماعز والماشية والدجاج تلتقط طعامها من النباتات المتناثرة ومن الفضلات التي تلقى في الشوارع. كانت قوافل الحمير تجلب الحبوب من الميناء النهري إلى الجنوب، بينما كانت أكبر أحداث العام هي عمليات وصول قوافل الملح، التي كانت تضم آلاف الجمال، من المناجم في الصحراء.
في السادسة من عمره، أرسل حيدرة إلى كتاب ليتعلم النصوص المقدسة، وبعد ذلك إلى مدرسة كانت الدراسة فيها باللغتين الفرنسية والعربية ليتعلم كل الأمور الأخرى. وكان يتذكر أن طفولته كانت طفولة خالية من القلق، لكن مثل معظم التمبكتيين لم تكن العائلة تمتلك الكثير من المال. كانت أصولها الرئيسية هي المخطوطات. كانت تلك المخطوطات مخزنة في سائر أنحاء المنزل، كما سيتذكر حيدرة لاحقا، على أرفف كانت تنحني تحت وطأة الورق، وفي بيوت الأقارب وفي أنحاء تمبكتو. كانت في الأغلب مكتوبة باللغة العربية، وكانت مغلفة بجلد جمل أو غزال، أكلت أرضة الأرض نسيجه وتلطخ بالماء. وكانت تغطي كل موضوع موجود تقريبا. وكانت توجد أعمال في الفلك، والشعر، والطب، وكذلك وثائق ملكية، وأحكام قانونية، وسندات بيع عادية. وكانت في أغلبها وثائق إسلامية؛ تفاسير للنصوص المقدسة وتأويلات لمعانيها الشرعية.
استخدم والد حيدرة المخطوطات للتدريس. كان الطلاب يأتون من أنحاء الإقليم ليتعلموا من هذا العالم وكتبه، بينما كان أصدقاؤه - «الشخصيات العظيمة»، قادة المناطق المجاورة ووجهاء تمبكتو - يأتون ليجلسوا ويتبادلوا الآراء. في بعض الأحيان كان والده يطلب منه أن يجلب وثيقة معينة، وكان من شأن حيدرة أن يبحث في غرف المنزل ليعثر على الشيء المراد. لاحقا بدأ ينسخ أجزاء من المخطوطات، وبهذه الطريقة صار يعرفها ويفهمها.
توفي والده في عام 1981، عندما كان عبد القادر في السابعة عشرة من عمره. كان التقليد المتبع هو أن تجتمع عائلة المتوفى وأعيان المدينة لتقسيم التركة، ولهذه الغاية جمعت ممتلكات مما حيدرة في دفتر. لكن المخطوطات نحيت جانبا؛ فلم تكن المخطوطة ستقسم، أو تباع، أو يتخلى عنها. عوضا عن ذلك، كان أحد أفراد الجيل التالي سيكلف بمهمة رعايتها. اختار الكبار عبد القادر، إذ كانوا قد شهدوا طبيعته الميالة إلى حب البحث واكتساب المعرفة. وكان سيغدو هو «المسئول».
في تلك الفترة تقريبا، جاء الحكيم المالي أمادو همباطي با ليتحدث في تمبكتو. كان همباطي با، الذي عاش منذ الأيام الأولى للاستعمار الفرنسي، كاتبا موهوبا، وجامعا للتراث، وخبيرا في ثقافة غرب أفريقيا، ورجلا ذا ذكاء ومكانة عظيمين. ذهب حيدرة ليستمع إليه. قال همباطي با لمستمعيه أن يتخيلوا، من المنظور الثقافي للأمور، أن مدن العالم مصطفة في صف واحد. وقال إنه فيما مضى كانت تمبكتو في مقدمة الصف، لكن بعد ذلك أمر الله الصف أن يدور استدارة كاملة على عقبيه، وحينئذ صارت في المؤخرة. قال همباطي با: «لا نعرف كيف حدث هذا، ولكن يوما ما سيأمر الله باستدارة كاملة أخرى بحيث تعود تمبكتو إلى مكانها من جديد. ينبغي ألا تقفوا مكتوفي الأيدي وتنتظروا تلك اللحظة. يجب عليكم أن تعينوا التاريخ. يجب أن تخرجوا مخطوطاتكم. يجب أن تستخدموها.»
نامعلوم صفحہ