وما زال أمر هذه المرأة يكبر ويعظم حتى نمى إلى محمد علي، فجعله يوجس خيفة من أن يستغل طماع مركزها، فيحدث فتنة قد تكون خطرة على سلطته في تلك الآونة الكبيرة الحرج، فصمم على رؤية الشيخة - كما كانوا يسمونها - وبعث بأربعة من المشعوذين إليها لإحضارها معهم واعدا كلا منهم بعشرة أكياس إذا هم أحضروها، فوافوها وهي في دار الباش أغا - رئيس خفر الليل - وقد التف حولها جم غفير، وأرادوا أخذها إلى الوالي، فمانعهم الحضور، ومنعوهم من إتمام مأموريتهم، لئلا تنهار الدار على من فيها، فعاد المشعوذون من حيث أتوا، والخزي يحيط بهم، وتبجح المعتقدون فيها بأن شيخها حماها وفاز على الوالي نفسه.
فكبر شأن المرأة، وأصبحت لا تمر في شوارع العاصمة إلا وهي راكبة جوادا ومحاطة بجمهور من الأتباع يتغنون بمدائحها.
فعزم محمد علي على التخلص منها، وأصدر أمره إلى رئيس الشرطة بإحضارها إليه، فجاءه الرئيس بها قبيل الغروب يتبعها جمهور لا يحصى عدده من الناس، أتوا ليشاهدوا ما يكون من أمرها مع الأمير.
وكان محمد علي جالسا في ظل جميزة يدخن شيشته، فما بصر بالشيخة، قال لها إنه بعد إذنها يريد أن يتكلم مع الشيخ الذي عليها ، فأجابت بأن هذا غير مستطاع إلا في الليل؛ لأن الشيخ ذهب في ذلك الوقت لأداء صلاة المغرب في مسجد سيدنا الحسين، فسألها الباشا: «أو يغيب حتى يحضر؟» قالت: «كلا! سيكون هنا بعد صلاة العشاء.» فصعد الباشا إلى دار حريمه ليتعشى، وبقيت الشيخة مع بعض المفضلين في قاعة بأسفل الدار.
فلما جن الليل نزل محمد علي وسأل: «هل حضر السيد؟» قالت: «نعم.» فأمر - بناء على طلبها - بإطفاء الأنوار، ولكنه أوصى سرا خدمه بإحضار غيرها، حالما يبدي لهم إشارة بذلك، ثم جلس وقال للشيخة: «استدعي أستاذك!» فنادته قائلة: «يا شيخ علي!» وإذا بصوت كأنه خارج من أعماق الأرض أجاب النداء، وأخذ يزيد جلاء ووضوحا كلما زادت عليه الأسئلة، وظهر حينا للحضور كأنه يكلم كلا منهم في أذنه، فسرت في الجميع قشعريرة، وأعلن محمد علي أنه آمن بولاية الشيخة، ثم طلب أن يشرفه السيد بإعطائه يده ليقبلها، فمدت إليه أطراف أنامل فقط، فما اكتفى محمد علي بها، وألح بإعطائه اليد كلها، فقدمت له، فقبض عليها بقوة، وأبدى الإشارة المتفق عليها، فانتشرت الأنوار فجأة في القاعة، وإذا بالشيخة تجتهد وسعها لتمليص يدها من قبضة محمد علي، فلما رأت أن أمرها افتضح خرت عند قدمي الأمير، وطلبت العفو منه، ولو كان الحاضرون من ذوي الأفهام المفتوحة لأدركوا في الحال إفك المرأة وانفضوا من حولها، ولكنهم كانوا على جانب عظيم من الغباوة، فاعتقدوا أن محمد علي انتهك حرمة الشيخ، وطفقوا يتململون ويتذمرون، فصرخ بهم محمد علي: «أيها المجانين الجهلاء، أفيخدعكم مثل هذا الكذب الظاهر؟!» ثم التفت إلى حرسه، وأمرهم بإلقاء الشيخة في النيل، فما سمع الحاضرون هذا الأمر إلا وضجوا وهاجوا، وماج لهياجهم الجمع المحتشد بالباب، وكادت تقوم فتنة، ولكن الباشا قال بثبات جأش عجيب: «مم تضجون ولم تصخبون؟ فإما أن هذه المرأة عليها شيخ حقيقة، وهو لن يتخلى عنها، بل ينقذها من الغرق، وإما لا شيخ عليها، وتكون قد خدعتكم، فلا يصيبها إلا ما هي به جديرة!» فأمن القوم على كلامه، وألقيت المرأة الشقية في اليم! ومكث جمهور عظيم من أتباعها ينتظرون دهرا رجوعها وظهورها، على جناحي الشيخ علي القديرين، ولولا تعنت الجهلاء المؤمنين بها لاكتفى محمد علي بإظهار كذبها ولما رماها في النيل.
واتفق في سنة 1825 أن النيل شح وأخذت مياهه في الهبوط منذ شهر أغسطس، فأمر محمد علي بإقامة صلاة الاستسقاء، ودعا إليها أحبار جميع الأديان والمذاهب، قائلا: «إنها تكون مصيبة كبرى إن لم يوجد بين جميع هذه الأديان دين واحد جيد!»
وكان أبا محبا لأولاده، كبير الشفقة والتعلق بهم، فمن أحسن ما يروى عنه للدلالة على ذلك الحادثة الآتية: تمكن الوهابيون يوما من حصر ابنه طوسن باشا في الطائف، وكان محمد علي في مكة، ليس لديه من الجنود إلا القليل، فأشار عليه أخصاؤه وقواده بالمسير إلى جدة، ليكون على مقربة من مراكبه، فيستطيع الرجوع إلى مصر إذا ما اضطرته الظروف إلى ذلك، أي إنهم أشاروا عليه بترك ابنه وشأنه، فأجابهم محمد علي: «كلا، إني لا أريد الابتعاد، بل إني قائم لإنقاذ ولدي!» وارتحل برفقة أربعين مملوكا فقط، ووصل إلى قرب الطائف، وهو لم يدبر بعد تدبيرا، فاختار أن يرتاح أولا، وبعد أن أوصى أحد مماليكه بإيقاظه إذا طرأ طارئ، توسد الأرض ونام، وبينما هو غارق في سبات نوم عميق، أتي بجاسوس وهابي أسر وهو يجوس خلال الجيرة، ولكن المملوك المكلف بحراسة محمد علي اضطرب لما سمع الجلبة، وأسرع فأيقظ مولاه برعبة جعلت فرائص محمد علي ترتعد، لأنه اعتقد أن جيش الوهابيين داهمه، فاعترته لذلك شهقة لم تعد تفارقه، وأخذت تنتابه كلما اشتدت عليه وطأة انفعال ما، ولكنه ما لبث أن هدأ روعه، وأقبل يستجوب الجاسوس بنفسه، فاسترشد بإجاباته، وقال له: «إني على رأس مقدمة جيش محمد علي، فإذا شئت أن تحمل إلى طوسن باشا خبر قدوم والده إليه، فإنه يعطيك مكافأة قدرها مائة ريال.» فقبل العربي الجشع وذهب بالرسالة إلى طوسن ونال منه الجائزة التي وعد بها، ولكنه أسرع بعد ذلك إلى معسكر الوهابيين، وأنبأهم باقتراب محمد علي على رأس جيش زاخر ، فنجحت حيلة محمد علي أيما نجاح، وما هي لحظة إلا واقتلع الوهابيون خيامهم وتفرقوا عن الطائف أيدي سبأ.
فأنقذ محمد علي ابنه بهذه الكيفية وأحرز فوزا باهرا جزاء مخاطرته المدهشة في سبيل إنقاذه.
وكان صديقا صدوقا كثيرا ما آلمته مصائب رفاقه وأبكاه موتهم، ولم يدع واحدا منهم إلا وأشركه في تدرجه نحو المعالي، ورقاه معه إليها، ثم أغدق عليه العطايا والنعم.
وكان بارا بمواطنيه المكدونيين، يقابل أيا كان منهم ببشاشة وعطف، بارا ببلاده وبمسقط رأسه؛ ما فتئ طول حياته يدفع عن أهل قوله الضرائب المفروضة عليهم، وما فتئ محافظا على المنزل الذي ولدته فيه أمه.
نامعلوم صفحہ