1 - نشأة محمد علي
2 - في السبيل إلى الذروة
3 - العمل على الثبوت فوق القمة
4 - بعد التثبت فوق القمة
5 - أيام محمد علي الأخيرة
6 - وصف محمد علي وتقدير عمله
1 - نشأة محمد علي
2 - في السبيل إلى الذروة
3 - العمل على الثبوت فوق القمة
4 - بعد التثبت فوق القمة
نامعلوم صفحہ
5 - أيام محمد علي الأخيرة
6 - وصف محمد علي وتقدير عمله
محمد علي
محمد علي
سيرته وأعماله وآثاره
تأليف
إلياس الأيوبي
محمد علي في أواخر أيامه.
الفصل الأول
نشأة محمد علي
نامعلوم صفحہ
ألق أيها القارئ نظرة على خريطة شبه جزيرة البلقان تر في جنوب إقليم مكدونيا، على ضفاف خليج كونتسا، من جهته الشمالية، ما بين نهري الهبرو والستريمون المكتنفين سهل «سرس»، وعند نهاية هذا السهل صخرة تلج البحر كأنها فرس جمحت براكبها، فلما توسطت الماء أفاقت إلى نفسها، فوقفت تتفكر.
وقف أنت أيضا متفكرا، فإنك إنما ترى أرضا تزدحم فيها تذكارات التاريخ؛ فمكدونيا وطن الإسكندر الأكبر، أول من جمع العالم القديم المعروف تحت لوائه، وساسه بصولجانه، ووطن البطالسة الفخام، خلفاء ذلك البطل العظيم على عرش مصر ومؤسسي مدرسة الإسكندرية العلمية الفلسفية ومكتبتها النفيسة، التي قضت عليها يد الأقدار، فيد الحمق الديني، وفي سهل «سرس» بتت معركة فيلپي في مصير العالم الروماني، ففاز فيها أنطونيس وأكتاڨيس (العاملان - تحت ستار الانتقام لقيصر والثأر لمقتله - على الاستئثار بالأمر لنفسيهما) على بروتس وكسيس، آخري الرومانيين والمدافعين عن الحقوق الجمهورية، ولم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة التي انحازت الأقدار فيها إلى جانب الباطل، ونصرته على الحق؛ فالأقدار عمياء القلب، ووقوفها في غالب الأحيان مؤازرة للغشمرية، علة من العلل الكبرى التي تجعل تقدم البشرية نحو الكمال بطيئا، كثير الاضطراب. •••
على تلك الصخرة الفرسية الشكل أقيمت منذ القدم مدينة صغيرة، ما مر بها الإسكندر الأكبر ورأى شكل قاعدتها؛ إلا وأبدل اسمها (جالپسو) باسم بوسيفلا نسبة لبوسفلس، جواده الشهير.
فبقيت معروفة بهذا الاسم، المذكر بالمكدوني العظيم، حتى وردها البندقيون، فينيقيو الأعصر الوسطى، وهم يجولون رايتهم التجارية الاستعمارية على سواحل بحر الأرخبيل، فلما رأوا هم أيضا شكلها - وكانوا كفينيقيي القدم - لا يهتمون لمفاخر التاريخ وتذكاراته ولا يعنون إلا بالاتجار وأرباحه، أطلقوا عليها اسم «لاكافالا»؛ أي الفرس باللغة الإيطالية، واتخذوها مستودعا لبضائعهم، فلما آلت إلى حكم الأتراك حرفوا الاسم وجعلوه «قوله». •••
في هذه المدينة، وفي سنة من أخصب سني التاريخ البشري برجال عظام، ولد محمد علي الباشا الكبير مؤسس الأسرة العلوية الكريمة، وخليفة الإسكندر والبطالسة مواطنيه، على عرش مصر السني.
إن التاريخ لا يدري بالتمام في أي يوم من أي شهر ولد؛ لأن العادة الحميدة - عادة تقييد المواليد في سجلات رسمية مدنية - لم يعرفها الشرق إلا قبيل أيامنا هذه، بفضل عواهل الأسرة المصرية النبيلة، ولكنه يعرف أنه ولد في سنة 1769؛ لأنه هو نفسه أكد ذلك فيما بعد.
وكأني بالعناية الإلهية قصدت غرضا معينا لديها في أنها أنبتته في السنة عينها التي تشرفت بمولد
Cuvier ؛ العالم الفرنساوي الذي اكتشف من مكنونات الطبيعيات أكثر مما اكتشفه كولمبس من مجهول البلدان، و
Humboldt ؛ العالم الألماني، منشئ علم الجغرافيا النباتية وعلم المناخ المقارن، وشاتو بريان؛ الكاتب الفرنساوي البليغ الناثر نثرا أعذب من الشعر، صاحب كتاب «رينيه» و«أتلا» و«كتاب الشهداء» وكتاب «آخر بني سراج»، وولتر سكت؛ الشاعر الإسكتلندي، صاحب الروايات التاريخية الممتعة، التي تلذذ كل منا بمطالعتها في صباه، ومن أهمها «إيفانهو» و«الطلسم»، وهذه الأخيرة هي المنجم الذي أخذ منه فقيد العلم والأدب، المرحوم الشيخ نجيب الحداد روايته التمثيلية الشهيرة المسماة «صلاح الدين الأيوبي»، وشلر؛ الشاعر الألماني الأكبر ذي الروح الأبية الزكية والشعور الرقيق، صاحب رواية «غليوم تل»، منقذ سويسرا من الاسترقاق النمساوي، ورواية «عذراء أورليان»، منقذة فرنسا من الاسترقاق الإنجليزي، وولنجتن؛ القائد البريطاني السعيد الطالع، الذي كتبت له الأقدار الفوز على ناپوليون في واقعة واترلو، وناپوليون، وكفى باسمه تعريفا.
ويلوح لنا أن الغرض المعين الذي قصدته العناية الإلهية من جعلها مولد محمد علي في سنة ميلاد جميع هؤلاء الأعاظم هو أن يرى الشرق في شخصه وفي أعمال حياته مجموعة مصغرة للمجهودات والأعمال التي سجلها التاريخ لأولئك النوابغ، كما سنرى ذلك في حينه. •••
نامعلوم صفحہ
وكان اسم والد محمد علي إبراهيم أغا، وأما اسم والدته فإن التاريخ - بفضل العادات الشرقية التي كانت ولا تزال تأبى على المرأة أن يعرف اسمها خارج بيتها - جهله، فلم يعرفنا به، على أننا كنا نود معرفته، لنحيطه بهالة المجد التي تبدو لنا أسماء أمهات الرجال العظام محاطة بها؛ لأننا موقنون أن محمد علي مدين لتلك الأم - أكثر مما هو مدين لأبيه - بالصفات الكريمة، والأخلاق القويمة، والعقلية السامية التي نهضت به من الحضيض إلى ذروة العلاء والفخار.
فقد كانت أمه هذه امرأة حادة الشعور، حمساء الخيال، يدل على ذلك المنام الذي يقال إنها رأته وهي حامل بابنها المجيد، وفسره لها بعض العرافين، فأكد لها أنه يبشر بمستقبل عظيم لثمرة بطنها، فلما بلغ ولدها - في أول صباه - من السن ما جعله قادرا على التفهم، فإنها ما فتئت تخبره بذلك المنام، لتوجد في فؤاده الميل إلى عظائم الأمور وتنميه وتعززه.
وأما إبراهيم أغا، والده، رئيس خفر الطرق في بلده، فإن هم المعيشة كان يكده كدا لم تكن صفات نفسه - على فرض وجودها - تجد معه سبيلا إلى الانتشار؛ وذلك لأن مربوط وظيفته كان ضئيلا، لا يقوم أود عائلته، حتى لو قبضه كاملا، فكيف به وهو لم يكن يتقاضاه إلا ناقصا، أو لا يتقاضاه البتة؟! (شأن موظفي الدولة العثمانية في ذلك العهد، وحتى أواخر القرن الماضي، بل حتى أواخر حكم عبد الحميد في عصرنا هذا.) ولولا أن الموت قصف زهرة كل أولاده، وهم في صباهم الأول، لما استطاع إلى القيام بشئون تربيتهم سبيلا. ولكنه، ولم يبق له منهم سوى محمد علي، فإنه حصر كل حنانه واهتمامه فيه، وحاطه بعناية خاصة، تجلت في المظهر الذي تتجلى فيه العناية عند الوالدين الجهلاء؛ أي إنه تركه يشب وشأنه، دون أن يعلمه - على أن العلم لم يكن في ذلك العهد مرغوبا فيه إلا قليلا، لا سيما في الشرق، حيث لم يكن من علم سوى ما كان الدين أساسه، أو ما اصطبغ منه بصبغة الدين - ودون أن يفكر في تهذيب ميوله، وتوجيهها نحو غرض معلوم في الحياة، يكون للفتى في البلوغ إليه أمان من الحاجة والفقر، فأخذت الجيرة، لذلك، تتحدث في شأن الصبي، وتندب حظه، وتتداول قولا كهذا: «ماذا عسى أن يكون نصيب هذا الغلام التعس من الحياة، إذا أفقده الدهر والديه فجأة، وهو لا يملك شروى نقير، ولا علم عنده، ولا صنعة لديه؟!»
فبلغ الحديث مسامع محمد علي، وكانت أمه - على ما قلنا - مجتهدة في جعل فؤاده حادا وروحه كريمة، فأثر فيه تأثيرا عميقا، وأوقد فيه جذوة نار ما فتئت متقدة منذ ذلك الحين. وقد قال محمد علي فيما بعد: «إني، مذ سمعت ذلك القول، عزمت عزما أكيدا على تغيير ما بي، وترويض نفسي على امتلاك زمام أهوائي، فقد حدث لي، بعد ذلك، أني استمررت، أحيانا، على الجري يومين كاملين لا أتناول من الطعام إلا القليل، ولا أنام إلا اليسير؛ لأقوي عضلاتي، وأتمرن على خشونة المعيشة. ولم يعد يهدأ لي بال حتى فقت جميع أقراني في جميع التمارين الرياضية. وإني لأذكر سباقا بالمجداف قمنا به في بحر عجاج متلاطم الأمواج، كان الغرض منه البلوغ بالقوارب إلى جزيرة قريبة من الشاطئ، فإن أقراني ما لبثوا أن كلوا، وخارت عزائمهم، وأما أنا، فإني بالرغم من تسلخ جلد راحتي، وقد كان لا يزال ناعما، ما فتئت أجدف، مقاوما الموج والريح، حتى أدركت الجزيرة، وهي اليوم ملكي!» - وهي جزيرة طشيوز!
على أن الموت - ولا نخطئ إذا دعوناه ملاكا أعمى؛ فإنه جدير بهذه التسمية أكثر مما كان جديرا بها إله الغرام عند قدماء اليونان والرومان - مر يوما بمنجله ببيت إبراهيم أغا، فحصد حياة أم محمد علي، والشاب في أول يفاعته. ولم يكد الغلام يجفف دموعه إلا وعاد ذلك الملاك إلى المرور بالبيت عينه، وما غادره إلا وخرج منه وراءه النعش الراقدة فيه جثة إبراهيم أغا. •••
فبات محمد علي يتيما وحيدا، يرى الدنيا حوله كأنها قفر مقفر ولا يدري ما المصير! فما كان أشبه حاله - إذ ذاك - بحال فتى آخر سبقه إلى الوجود بنحو ألف ومائتي سنة ، فتيتم من أبيه، وهو في بطن أمه، وتيتم من أمه، وهو في السادسة من عمره، فبات والله وحده كفيله ونصيره.
وكما أنه - سبحانه وتعالى - وكل بذلك اليتيم المعد له أبهى الطوالع جده أولا، ولما لبى جده داعي المنون، فعمه، فكان له مربيا وعئولا، هكذا وكل بمحمد علي، الذي كان أعده لإخراج مصر - كنانته في أرضه - من الظلمات إلى النور، عمه طوسن أغا، أولا، فلما داهم ملاك الموت ذلك العم بعد ذلك بقليل - كأنه يأبى أن يبقي من أسرة محمد علي أحدا حيا - عطف عليه قلب شوربجي قوله - أي حاكمها - وقد كان صديقا قديما لعائلته فضمه إلى بيته، وآواه تحت سقفه، ورباه مع ابنه.
فما أقام محمد علي قليلا في تلك الدار، إلا وتعرف به فرنساوي يقال له المسيو ليون، كان على رأس محل تجاري في قوله منذ سنة 1771، فاستوقف انتباهه ذكاء الغلام الفطري النادر، وحسن حكمه على الأمور في شئون قلما يدركها من كان في مثل سنه، فأحبه كثيرا، وأخذ يزوده بالنصائح والإرشادات الثمينة، ويبشره على مسمع من الشوربجي وعائلته بمستقبل سعيد، فيما لو وجد من صروف الدهر تعضيدا، فكان لحب هذا الفرنساوي الأبوي أثر عميق في قلب محمد علي، جعله منذ ذلك الحين ميالا إلى الفرنساويين أكثر منه إلى كل جنسية غربية أخرى. وحمله في سنة 1820 - لما استتبت قدماه على السدة المصرية - على البحث عن المسيو ليون، لمعرفة ما آل إليه أمره، فلما علم أنه عاد إلى مرسيليا - مسقط رأسه - كتب إليه ملحا بالمجيء لزيارته على ضفاف النيل، فأجاب المسيو ليون الدعوة، ولكن ملاك الموت الأعمى مر به في نفس اليوم الذي كان عينه لسفره، فأرداه، فلما بلغ محمد علي الخبر المؤلم بعث إلى أخت المتوفى بكتاب تعزية بليغ، وأرسل إليها - رفقته - هدية ثمينة فاخرة؛ إظهارا لاعترافه بجميل أخيها عليه.
وتعرف محمد علي، في بيت الشوربجي، بشيخ وقور جاوز السبعين من عمره، كان يتردد كثيرا على منزل ذلك الحاكم، وكانت له فيه منزلة خاصة؛ لما اشتهر عنه من درايته بتفسير الأحلام، وهي دراية كان لها في عالمنا الشرقي منزلة كبيرة جدا، كثيرا ما أدت بمن تحلى بها إلى أرفع المناصب؛ ألم يصبح يوسف بن إسرائيل - عليهما السلام - بفضلها وحدها؛ عزيز مصر على عهد أحد فراعنتها الهكسوس؟!
هذا الشيخ ما لبث أن أصبح هو أيضا شغوفا بالشاب كبير الميل إلى محادثته وملازمته، فلكثرة ما كان الكلام بينهما - وفي بيئتهما - يدور على المنامات وتفسيرها، فإن المنام الذي رأته أم محمد علي، وهو في بطنها، وقصته عليه في أوائل صبوته، أخذ يتردد كثيرا على مخيلته، ويوقظ فيها أوهاما غريبة، جعلته يحلم ذات ليلة أنه ظمئ ظمأ شديدا، فشرب كل ماء النيل ولم يرتو، فلما كان الصباح قص منامه على الشيخ، فقال هذا له: «أبشر يا بني؛ فإن منامك يعني أنك ستملك وادي النيل بأسره، ولن تكتفي به، بل ستسعى إلى امتلاك أقطار غيره!» فهزأ محمد بالتفسير، لأنه استبعد الأمر جدا، ولكنه بالرغم من ذلك رأى أن مخيلته أخذت تزداد تغذيا بما كان يساورها من أوهام. •••
نامعلوم صفحہ
وكأني بالخرافة - بعد أن بلغ محمد علي أوج مجده وشهرته - رأت بعيون مخيلتها الملتهبة ما كانت تتغذى به مخيلة محمد علي في تلك الفترة من حياته، فأرادت أن تعطي للأحلام جسما وتلبسها لباس الواقع، اتباعا لما هي عادتها في أحاديثها عن عظماء رجال التاريخ، فروت أن بطلنا لما بلغ سن نضوج الشباب أقدم على أعمال فروسية عجيبة، كتطهير البلاد من اللصوص العائثين فيها فسادا، ومن الحيوانات الكاسرة التي كانت تفتك في الشتاء بالأهلين؛ ما لفت إليه أنظار السلطان العثماني وحمله على تقليده إمارة ألاي من الجند، أتى به محمد علي من الغرائب في ميدان مطاردة اللصوص وعصاباتها العجب العجاب، فكبرت منزلته وعلت درجته في عيني الخليفة وطارت شهرته في العالم وبات مجرد النطق باسمه يلقي الرعب في قلوب قطاع الطرق، فرأى أمير المؤمنين أن يعهد إليه بقيادة أسيطيل لمطاردة قرصان البحار، وقطع دابرهم كما قطع دابر لصوص الجبال والبطاح، فتعقب محمد علي أولئك القرصان، وما انفك يوقع بهم ويدمر مراكبهم ويهلك جموعهم حتى استأصل شأفتهم ونظف منهم بحر مرمرة وبحر الأرخبيل، فقرت به عينا السلطان وأدناه من نفسه، وأراد أن يقلده وظيفة سامية في بلاطه، ولكن محمدا فضل العودة إلى بلده والإقامة في مكان مسقط رأسه، بين صحبه وخلانه.
على أن التاريخ إن جهل هذه الاختلاقات الخرافية، إلا أنه يذكر لمحمد علي الواقعة الحقيقية الآتية: لما بلغ الشاب الثامنة عشرة من عمره، اتفق أن أهالي قرية يقال لها پراوستا، واقعة في دائرة أحكام شوربجي قوله، رفضوا دفع الأموال المفروضة عليهم، وإذ لم يكن لدى الشوربجي من القوة العسكرية ما يكفيه لإرغامهم على دفعها عنوة، احتار في أمره، وبدت على وجهه أمارات الكدر والاضطراب، فلحظ محمد علي منه ذلك، ولما وقف على السبب، عرض عليه خدمته قائلا إنه يتكفل بإجبار أهل پراوستا على دفع الأموال، ولا يطلب منه لنفاذ ما يدور في خلده سوى عشرة رجال كاملي السلاح، فوضعهم الشوربجي تحت تصرفه، وترك له حرية العمل؛ لما قرأه من أكيد العزم في عينيه.
فذهب محمد علي إلى پراوستا، ودخل مسجدها، وأدى فيه الصلاة على مرأى من الجميع، حتى إذا فرغ منها، أرسل في طلب أربعة من أعيان الناحية، بحجة تبليغهم نبأ ذا أهمية خطيرة، فأسرع الأربعة في المجيء، وهم أبعد ما يكونون عن كل ظن، ولكنهم ما كادوا يتجاوزون عتبة المسجد، إلا وانقض رجال محمد علي عليهم وشدوا وثاقهم، فصاحوا واستغاثوا، فاجتمع أهل الناحية عليهم في هياج، فتوسط محمد علي رجاله العشرة بالأسرى الأربعة، وهدد قومهم بذبحهم، إذا أبديت أقل حركة لإنقاذهم من بين يديه، ولما كانت كل مظاهره تؤكد لأهل پراوستا أن الفتى غير مازح في تهديده، لم يجسر أحد على التعرض له، فسار بالأسرى إلى قوله، وسلمهم إلى شوربجيها، فما كان من أهل براوستا إلا أنهم بادروا من غد بالأموال المطلوبة منهم، وافتدوا أعيانهم.
هذه الحادثة تبدي شخصية محمد علي في أتم حقيقتها، وتظهر معدن نفسه إظهارا جليا، فنراها مزيجا عجيبا من ترو سريع، فإدراك سريع ، فعزم سريع، فإقدام جسور، فشجاعة نادرة.
لذلك كبرت منزلته في عيني الشوربجي، فرفعه إلى درجة بلوك باشي، وأزوجه من قريبة له ذات ثروة واسعة، كانت مطلقة، فبنى بها واستولدها خمسة أولاد؛ منهم ثلاثة ذكور سماهم: إبراهيم وطوسن وإسماعيل؛ إكراما وذكرا لإبراهيم أبيه، وطوسن عمه، وإسماعيل الشوربجي المحسن إليه. وبنتان تزوجتا فيما بعد؛ الكبرى بمحرم بك أمير الأسطول المصري والذي تسمى باسمه أحد أحياء الإسكندرية الأكثر اتساعا، والصغرى بأحمد بك الدفتردار، فاتح الكردفان وسنار والمشتهر بقسوة لا حد لها.
ودل تاريخ حياة محمد علي التالي على أن زوجته هذه كانت طالع سعد عليه، كما كانت أمنا خديجة - رضي الله عنها - طالع سعد على نبينا
صلى الله عليه وسلم ، وكما كانت جوزفين طالع سعد على ناپوليون الأول. وفي ماجريات الحوادث من الغرائب والأسرار ما ليس في وسع فلسفة إدراك كنهه البتة، فكيف بتفسيره؟!
على أن زواج محمد علي، إن مكنه من النظر إلى المستقبل بعين لم تعد تثقلها هموم المعيشة المادية، ومكنه من الاندماج في سلك تجار التبغ برأسمال يضمن النجاح، بقدر ما يمكن أن يضمنه مال؛ فإنه - بما قدمه له من هناء في الحياة، وبسطة في العيش - أخذ يطفئ شيئا فشيئا في فؤاده لهب النزاع إلى المعالي وجذوة الرغبة في المجد والفخار، وبات يهدده بخمول الذكر وانطفاء الاسم مع انطفاء الحياة؛ فمعظم رجال التاريخ من الفقراء، لا من الأغنياء.
ناپوليون بوناپرت بلباسه الشرقي.
ولكن الأقدار التي أوقدت في السماء نجمه، مذ اقترن بقرينته، لم تكن لتسمح بذلك، فما لبثت أن أتاحت له الظرف المناسب لتذكية ذلك اللهب وتلك الجذوة، وفتحت له الميدان الواسع، لنشر ما أوتي من ميزات عزيزة فيه، فدلت بذلك على أن العبقرية بلا فرص لنار بلا وقود، وصدقت قول جراي “Gray”
نامعلوم صفحہ
الشاعر الإنجليزي في قصيدته المعنونة «مرثية في مقبرة»: «ألا كم من ميت مدفون في هذه الترب، كان يكون شاعرا مفلقا، أو خطيبا مصقعا، أو بطلا مروعا، أو فاتحا مدوخا، لو وجدت عبقريته الطبيعية من الفرص توفيقا!»
ذلك الظرف الأمثل الذي أوجدته الأقدار الرءوفة بمصر لعبقرية محمد علي؛ إنما كان إقدام الباب العالي على إخراج الحملة الفرنساوية من مصر، تلك الحملة التي أتى بها إلى هذه الديار الجنرال بوناپرت، فمكثت فيها ثلاث سنوات، كانت كأنها الضيب المستمر، لم ينقطع فيه وميض البروق وانقضاض الصواعق، وظنها من عاصرها من الشرقيين أكبر المصائب وأفدح الكوارث، ولكنها كانت في الحقيقة كالصيب الذي يثور في جو قاتم مدلهم، فيزيل ما به من انبعاثات فاسدة وينظفه، ويجعله صالحا لسطوع الشمس البهية فيه، كما أنه يجلي أو يقتل ما على سطح الأرض من ميكروبات، ويهيئها للزرع الجيد، فما وردت أوامر الأستانة إلى شوربجي قوله تلزمه بتجنيد ثلثمائة رجل من دائرة حكمه، إلا وبذل إسماعيل أغا جهده لامتثالها. وما لبث أن تمكن من نفاذها؛ لأن الدعوة إلى الحرب والجلاد ما فتئت على ممر القرون تعمل عمل السحر في نفس الأمة التركية، فجند الفرقة المطلوبة، ووضعها تحت قيادة ابنه، ثم استدعى (محمد علي) إليه، وكلفه الانضمام إلى ولده، والسير معه لإخراج «الكفار» من مصر.
فقارن محمد علي - في الحال - بين هناء المعيشة الذي يطلب إليه تركه، والمشقات والأخطار التي يضطره القبول أن يتعرض لها، فعز عليه هناؤه فرفض بتاتا، ولم يجد في تحويله عن عزمه صخبا ولا تهديدا، وخرج من حضرة ولي نعمته، وهو مصمم التصميم كله على نبذ الطاعة وعدم مفارقة وطنه!
هكذا أبى صلاح الدين يوسف بن أيوب الذهاب إلى مصر مع حملة عمه أسد الدين شيركوه الثالثة، ولم يرض بالذهاب في نهاية الأمر إلا مكرها، فأوصلته الطريق التي ولجها - رغم أنفه - إلى أعلى ذروات المعالي البشرية! فليتباه بعد هذا متباه بحسن رأيه وصدق إحساسه!
محمد علي بالعمامة.
وبينما محمد علي عائد إلى محل تجارته، قابل في طريقه الشيخ الوقور الذي كان قد فسر له منامه، فاقترب الشيخ منه، وأخذ من يده شبكه، ودخن به قليلا - ومحمد علي لا يرى في ذلك حرجا؛ لما بينهما من الألفة - ثم تفرس في وجهه وقال له: «ما بالك ؟ فكأني أراك مضطربا!»
أجاب محمد علي: «إنهم يريدون إرسالي إلى مصر لمقاتلة الكفار!» فقال الشيخ: «وبما أجبت؟» قال محمد: «بالرفض طبعا؛ فالوطن خير وأبقى، والمرء يجد فيه إخوانا ورفاقا يصافحهم ويصافحونه، والحياة تنقضي فيه هنيئة.»
فقال الشيخ، وقد زاد على وجهه الوقار، واكتست ملامحه كلها جدا: «أنت غلطان يا صديقي، أجل إن الطريق لطويلة، ولكنها توصل إلى العلا، فأنت غلطان، غلطان جدا!»
فرنت كلماته هذه في آذان محمد علي كأنها صوت المستقبل، وفتحت أمام عينيه آفاقا زاهرة، وقد قال هو نفسه فيما بعد: «إن كلام ذلك الشيخ الذي كنت أثق به وثوقا كبيرا أقنعني، فعدت إلى الشوربجي، ووضعت نفسي تحت تصرفه!» •••
وكأني بالحوادث - مذ خطا محمد علي خطواته الأولى في سبيله الجديد - أرادت أن تحقق شطرا من قول ذلك الشيخ، وتبرر نصيحته، فإن ابن الشوربجي - وكانت متاعب السفر البحري ومشاقه قد أنهكت قواه - ما وضع رجله على رمال الشواطئ المصرية إلا واقتنع بأن لا شيء في ميوله ومزاجه يتفق مع بقائه تحت السلاح، فتخلى عن فرقته لمحمد علي، وعاد إلى بلده.
نامعلوم صفحہ
فأصبح محمد علي بذلك بمباشيا.
الفصل الثاني
في السبيل إلى الذروة
هذه الخطوة الأولى تلتها خطوات أخرى سريعة، فإن بسالة محمد علي وإقدامه استوقفا حالا انتباه رؤسائه، وجعلاهم يكلون إليه جل المهمات.
ولكن بطلنا ما لبث أن أدرك أن البسالة والإقدام قد ينفعان، وأما التقدم السريع فلا يدرك إلا بالتقرب من الرؤساء، فأخذ من وقته يبحث عن سند ينفعه لدى ذوي الأمر، فوجده في شخص رجل يقال له حسن أغا، أحد ضباط القبطان باشا الأخصاء، فتوسط له حسن أغا هذا، فألحقه القبطان باشا بخدمة خسرو باشا، وأفهم خسرو باشا هذا أن محمدا رجل يعتبر اكتسابه مغنما.
وكان خسرو باشا قد تعين واليا على القطر المصري بفضل مساعي القبطان باشا سيده، في الأستانة، فرأى أن يعتز برجل أوصاه به ولي نعمته خيرا. وإظهارا لمحظوظيته من محمد علي أهداه بعد قليل حصانا من جياد أربعة قدمت له على سبيل الهدية، ورفعه في أواخر سنة 1801 إلى رتبة ساري ششمه، أي جنرال أو لواء كما يقولون الآن.
فتمكن محمد علي - من هذا الموقف العالي الذي بلغه في أقل من سنتين - أن يلقي نظرة على مجاري الأمور حوله، وأن يزن الأحوال والرجال بميزان تقديره الراجح.
فرأى أن الأحوال فوضى، يتنازع الأمر فيها ثلاث قوات: الجيش الإنجليزي والجيش التركي والأمراء المماليك. •••
أما الجيش الإنجليزي، فبعد فراغه من إجلاء الفرنساويين عن مصر لم تكن له مهمة محدودة، لأن سياسة الحكومة الإنجليزية في ذلك العهد، كسياسة الحكومة الإنجليزية في أيامنا هذه، كانت متخبطة بين الاحتفاظ بمصر أو الجلاء عنها، وبين نصرة الباب العالي على المماليك أو المماليك على الباب العالي، لا تدري أين تستقر، ولا بأية صبغة تصطبغ. وما لبثت كذلك حتى أبرمت بين إنجلترا وفرنسا معاهدة (أميين) التي قضت على الجيش الإنجليزي بالجلاء عن مصر، فسلم الإسكندرية وقلاعها إلى الأتراك في 14 مارس سنة 1803 وغادر البلاد.
وأما الجيش التركي، فإن قواده كانوا مزودين من لدن الباب العالي بتعليمات تلزمهم - بعد الفراغ من إخراج الفرنساويين - بالقضاء على المماليك، ليستقيم عود الأحكام في القطر المصري على مثال ما كان في باقي الولايات العثمانية، فلم يكن إذا لأولئك القواد من دأب سوى العمل على تنفيذ تلك التعليمات. ولولا وقوف الجيش الإنجليزي أمامهم موقف المعارض في ذلك والمدافع عن قضية المماليك؛ لتمكن يوسف باشا الصدر الأعظم وقائد الجيش البري، وقجك حسين قبطان باشا أمير الجيش البحري؛ من تنفيذها - إلى حد ما - من باب الاحتيال والقدر.
نامعلوم صفحہ
وأما المماليك فإنهم بعد كسراتهم المتتابعة التي أصابتهم على أيدي الفرنساويين وما وقع بهم من فناء فيها، كانوا قد تضاءلوا وأمسى عددهم لا يزيد على خمسة آلاف، ولم يكن في استطاعتهم تجديد قواهم؛ لأن الباب العالي الراغب في القضاء عليهم كان قد أصدر أمرا حال بينهم وبين ذلك بتحظيره بيع الشبان في إقليمي الكرج والشركس. غير أنهم مع ذلك كانوا يمنون نفوسهم بالعودة إلى ما كانوا عليه قبل الحملة الفرنساوية من الاستبداد بالأحكام. ولو كانوا متحدين متناصرين ، ربما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولكن زعيميهم الأكبرين: عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي؛ نزعا إلى منافسة فتحاسد فتباغض، فعداء صريح؛ فأوجب ذلك وهن قوة الأمراء ومكن أعداءهم منهم.
على أن ما كان بين البرديسي والألفي من منافسة كان أيضا بين يوسف باشا الصدر الأعظم، وقجك حسين باشا أمير البحر. ولكن نفوذ هذا - وكان رفيق صبوة السلطان سليم الثالث، ومجدد بهجة العمارة العثمانية - تغلب على نفوذ ذاك فتمكن من جعل الباب العالي يقلد مملوكه خسرو باشا ولاية مصر - كما قلنا - وأن يعهد إليه في مهمة القضاء على المماليك.
فلما قدم خسرو باشا إلى القاهرة واستلم مهام وظيفته انسحب يوسف باشا إلى سوريا، غير مخلف في القطر من جيشه الزاخر سوى 13 ألف رجل. وأقلع القبطان باشا بسفنه تاركا لمحسوبه 4 آلاف ألباني كانوا من أولئك الثلاثة عشر ألفا بمثابة القلب من الجسد.
فأسرع خسرو باشا إلى اغتنام العداوة القائمة بين البرديسي والألفي، وشرع يعمل على إضعاف قواهما بالدسائس تارة وبالترغيب أخرى. وكان المماليك - بعد أن تحققوا من نيات تركيا نحوهم - قد نزعوا إلى القتال، وأخذوا يجتاحون البلاد ويمنعون الأموال عن الحكومة.
فسير خسرو لقتالهم فرقتين من الجند: إحداهما تحت قيادة يوسف بك، أحد المقربين إليه، والأخرى تحت قيادة محمد علي.
فتقدمت القوتان بسرعة نحو دمنهور حيث كان ثمانمائة مملوك تحت قيادة عثمان بك البرديسي قد اتخذوا موقعا حصينا يهددون منه العاصمة ويتمكنون فيه من الاتصال بالإنجليز - وكان جيشهم لا يزال بالإسكندرية - ولكن يوسف بك سبق محمد علي، وفي صباح اليوم الثالث والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1802، صف وراء دمنهور جيشه، وكان يزيد على سبعة آلاف مقاتل، وشرع في إطلاق النيران على المماليك، فما كان من عثمان بك البرديسي إلا أنه انقض بفرسانه على جنب الجيش التركي اليسار - وكان مكشوفا - فاخترقه، وداس الرجال تحت حوافر جياده؛ فذعر العثمانيون وأركنوا إلى الفرار، فركب البرديسي برجاله ظهورهم وأعمل فيهم السيوف فقتل منهم أكثر من خمسة آلاف رجل، بينما لم يقتل من رجاله سوى ستين . ثم عاد واستولى على جميع مدافع أعدائه وذخيرتهم. ولم ينج يوسف بك من هذه الكارثة إلا بكل مشقة. ولكي يخفف من وطأة المسئولية عليه، رأى - بالرغم من أن عدد الجيش الذي قاتل به الثمانمائة مملوك؛ كان تسعة أضعاف هؤلاء - أن ينسب انكساره لدى خسرو باشا إلى تخلي محمد علي عنه في المعركة.
ومن المؤكد أن محمد علي كان يستطيع - لو شاء - الإسراع بجنده، والاشتراك مع يوسف بك في القتال.
ولكن محمد علي كان قد انتهى من النظرة التي ألقاها على مجاري الأمور حوله إلى أنه أدرك أن القطر ممزق مدوس، وأن القوم يشتغلون كل لمصلحته بتأثير منفعة كل منهم الشخصية، ولو أدى تحقيق هذه المنفعة إلى خراب عام. وإلى أنه ليس بين كبار قواد العثمانيين واحد فقط كفؤا للمهمة التي وضعها الباب العالي نصب أعينهم. ووزن خسرو باشا رئيسهم الأعلى، فوجده ناقصا لا يصلح لمهمات الأمور؛ لأن إدارته أظهرته رجلا سيئ التدبير، غير محسن التصرف، محبا لسفك الدماء غير مترو في ذلك، لا يضع شيئا في محله، يتكرم على من لا يستحق، ويبخل على من يستحق، كثير الغرور، ومطاوعا لمن أحدق به من قرناء السوء، فحكم بأنه إذا هو وضع كفاءته في خدمته كان مغفلا.
ورأى محمد علي من جهة أخرى، أن المماليك - على ما بهم من وهن - لا يفترون منشقين بعضهم على بعض. ووزن رئيسيهم الأكبرين؛ فوجد أن عثمان بك البرديسي - وإن لم تعوزه صفة واحدة من صفات البطولة الحقة - لم يكن يصلح لتولي زمام الأمور؛ لأنه كان رجلا قصير النظر، ليس لديه شيء من الحكمة والفطنة اللازمتين لمن يريد أن يحكم الناس ويسوسهم، يغلب عليه تسليم زمام أعماله إلى انفعال أهوائه، وانفعال أهوائه إلى وساوس الخناسين من الأبالسة والناس. ووجد أن محمد بك الألفي - على بطولته التي لم تكن تحتمل أن يشك فيها - كان رجلا كبير الغرور بنفسه، كبير الميل إلى اللذات، متقلب الأهواء، فخورا، يهمه أن يتزوج من كل بدوية تعجبه، على أن يطلقها بعد أسبوع أو أسبوعين ، وأن يرتدي الملابس الفاخرة الساطعة. وأما الشئون العامة فلا تهمه إلا بقدر ما هي ينبوع تنعم ونفوذ له.
فحكم بأن رأي الدولة العلية في المماليك صائب، وأن مصير البلاد إلى أيديهم مصيبة كبرى عليها، وأنهم، إن لم يرعووا ويقلعوا عن فوضاهم، ويمتثلوا للأحكام، ويكونوا جزءا من الهناء العام بدلا منهم معكريه؛ كانت مطاردتهم واجبة، وكان استئصال شأفتهم بجميع الوسائل الممكنة أمرا مرغوبا فيه وعملا مبرورا.
نامعلوم صفحہ
ثم وزن نفسه بدقة وبدون محاباة، فوجد أنه الرجل الوحيد الذي يمكنه أن يكفي الأستانة ومصر شر المماليك، والوحيد الذي يمكنه أن يحكم البلاد حكما يصلحها ويعلي من شأنها، ورأى أن ما خصه به الباري - دون سواه - من مزايا البطولة الحقة والرجولة الحقة، ومن ميزات الرجل المخلوق للإمرة والإدارة، يكفل له تحقيق المنام الذي فسره له الشيخ الوقور، والبلوغ إلى الذروة، إذا هو عرف كيف يستفيد من الظروف، وكيف يجعل الفرص تثمر الثمر المرغوب فيه، بأن لا يستخدم كفاءته إلا في مصلحة فريق يؤدي انتفاعه بها إلى القضاء المبرم على خصمه، وكيف يسير بحكمة سفينة طالعه وآماله.
فدخل بها بحر تلك الفوضى العجاج بجانب قوارب الضاربين فيها، ولم يكن بينهم أحد يعلم المصير، بل كانوا يمخرون حيثما تذهب بهم رياح تصرفات الأيام. وبينما هم غافلون ربط سفينة مطامعه - بحبال خفية - بكل قارب من تلك القوارب، وربط دفات الجميع بدفة سفينته، من حيث لا يشعر أحد، فأصبح كل يجذف بمجذافه، ويظن أنه يجذف لنفسه وفي مصلحتها، بينما هو في الحقيقة يجذف ليوصل إلى الفرضة الأمينة سفينة ذلك الربان الحاذق، الذي كان يدير الدفات كلها في الخفاء - وهو على ظهر سفينته، ونجمته القطبية المنيرة له السبيل بين الشعاب - تحقيق الحلم الذي رآه.
هكذا نرى واضع الأنغام عند الغربيين يضع لكل وتر نغما، ولكل بوق نفخا، ولكل منشد ترنيما، فيعزف العازفون، ويغني المغنون، وكل واحد لا يدري ما نغم رفيقه، فيجتهد بإتقان نغمه، ظنا منه أنه الفائز باستحسان الجمهور وتصفيقهم، وما هو في الحقيقة عامل إلا على نجاح مجموع النغم، وإظهار حذق الواضع واكتساب الشهرة والفخر له.
وكما أن واضع روايات قره قوز يدير من وراء ستار حركات جميع الممثلين فيها، مع أنها تبدو للعيان كأنها حركاتهم الشخصية، هكذا شرع محمد علي يدير حركات الضاربين في تلك القوارب، والملأ يعتقد أنهم هم القائمون بها.
فامتنع لذلك جميعه عن الاشتراك في معركة دمنهور.
ولما كان الذكاء لا يعوز خسرو باشا - وإن أعوزته صفات الرجولة الحقة - فإنه أدرك في الحال سبب امتناع محمد علي من الاشتراك في تلك المعركة. ولدى تصوره أن الرجل مدين له بتقدمه كله ثارت في فؤاده ثورة غضب هائلة، وصمم على الإيقاع به، فأرسل يستدعيه إليه بعد صلاة العشاء؛ بحجة المفاوضة معه في أمر خطير، فلم تنطل الحيلة على محمد علي، وأجاب أنه سيذهب إلى مقابلة الوالي في رابعة النهار وبمعية جنده.
وبما أن البرديسي، بعد وقعة دمنهور وارتحال الجيش الإنجليزي، كان قد سار إلى الصعيد وانضم إلى مماليك إبراهيم بك الكبير، واستولى معهم على مدينة المنيا، فقطع كل اتصال بين القاهرة ومصر العليا، فإن خسرو - لاضطراره إلى إزالة هذا الخطر الجديد، واحتياجه في ذلك إلى محمد علي - أجل النظر في أمر معاقبته إلى فرصة أخرى. وأرسل يستقدمه هو وقائدا آخر يقال له طاهر باشا إلى مصر، ليسيرا منها بعساكرهما إلى المنيا لاستردادها.
ولكن محمد علي رأى أن الوقت حان لإزالة خسرو عن المسرح، فحرك عليه في الخفاء العساكر، فأبوا الزحف إلا إذا دفعت لهم متأخراتهم، فأحالهم خسرو على الدفتردار، وهذا أحالهم على محمد علي، كأني به قد أدرك من أين الضربة آتية، فأجابهم محمد علي أنه لم يصله شيء من مرتباتهم، فاستشاط الجنود غيظا؛ لأنهم اعتقدوا أن الدفتردار ومولاه يهزأون بهم. وعادوا فحاصروا بيت الدفتردار، فأبلغ الدفتردار الخبر إلى خسرو باشا، فثارت في رأس الوالي ثورة الغضب، وأمر بإطلاق مدافع القلعة على الجنود، فطار صواب هؤلاء، فتركوا الدفتردار وشأنه، وتدفقوا إلى سراي الوالي يهاجمونها، فرأى طاهر باشا - بإيعاز من محمد علي - أن يتوسط بينهم وبين الوالي. ولكن خسرو لم يخيب رأي محمد علي فيه، وأبى بغلظة مقابلة طاهر، فانقلب طاهر عدوا صريحا. وأخذ معه فرقة من العساكر، وسار بها إلى القلعة، فأغلق حفظتها أبوابها في وجهه. ولكن بعض جنوده تمكنوا من النفوذ إلى داخل سورها الأول، وأفسدوا على الحكم قلوب الحرس المقام هناك، فلم يعد يستطيع خازندار خسرو، المتولي أمر ذلك الحرس؛ المقاومة، وفتح في الحال الأبواب لطاهر ومن معه، فدخلوها وأخذوا يمطرون القنابل منها على سراي الوالي، فأدرك هذا أن القلعة سقطت في أيدي العصاة، فجمع حرسه النوبي وزهاء مائة عثماني ونفرا من الفرنساويين كانوا في خدمته، ونساءه، وخرج من سرايه، وسار بجمعه إلى المنصورة.
فخلا الجو لطاهر باشا واضطر قاضي الديار إلى المناداة به قائمقام الولاية حتى ترد أوامر الأستانة. وكان الدور المخصص في فكر محمد علي لطاهر هذا السعي إلى مصالحة المماليك ليتساعد بهم على الفراغ من أمر خسرو وعلى الوقوف في وجه الانكشاريين وخلافهم فيما لو أراد أحد استخدامهم لمعاقبة الثائرين على خسرو.
فكاتب طاهر المماليك واستدعاهم إليه، فنزل الأمراء من الصعيد وأتوا وأقاموا معسكرهم في الجيزة.
نامعلوم صفحہ
ولكن محمد علي ما لبث أن وزن طاهرا، فلم يجده كفؤا للقيام بالدور؛ لأن طاهرا بدا رجلا سليبا مهووسا، يميل إلى السلباء والمجاذيب والدراويش؛ عمل له خلوة في الشيخونية، كان يبيت فيها كثيرا، ويصعد مع الشيخ عبد الله الكردي إلى السطح في الليل، ويذكر معه، أو يجتمع بأشكال من الناس مختلفي الصور، فيذكر معهم ويجالسهم، ويظهر الاعتقاد فيهم، فأدى ذلك إلى أن كثيرين من الأوباش تزيوا بما سولت لهم نفوسهم من الأزياء المستغربة، ولبسوا طراطير طوالا ومرقعات ودلوقا، وعلقوا جلاجل وبهرجانات وعصيا مصبوغة فيها شخاشيخ وشراريب، وطبلات يدقون عليها، وأخذوا يصرخون ويزعقون، ويتكلمون بكلمات مستهجنة وألفاظ موهمة بأنهم من أرباب الأحوال، حتى كادت العاصمة تصبح عاصمة مجانين، وشوارعها ودروبها طرقات بيمارستان عظيم. ويقول الجبرتي: إنه لو طال عمر طاهر باشا هذا لأهلك الحرث والنسل.
ولم يكن الجند العثماني قد اشترك مع الألبانيين في ثورتهم على خسرو، ولو أنه كانت لهم متأخرات هم أيضا، فاستعملهم محمد علي من وراء ستار؛ لإزاحة طاهر من السبيل، وحمل من أوعز إليهم مطالبته بتلك المتأخرات، المرة بعد المرة، فماطلهم طاهر في بادئ الأمر، ولكنه صرح لهم في النهاية بأنه غير مسئول عن مرتبات الجند إلا منذ يوم قيامه على سدة الأحكام، وأنه يجب على المطالبين إذا توجيه طلباتهم إلى سلفه، فلم يقنعهم القول، ولما كان يوم 25 مايو، ذهب ضابطان عثمانيان إلى سرايه، وطلبا إليه مرة أخرى النظر في أمر المتأخرات فرفض؛ فحمي وطيس الجدال بينهم، وعلت تهديدات طاهر، فانقض الضابطان عليه، وطعناه بيطقاناتهما (نوع من السيوف الألبانية)، ثم قطعا رأسه وقذفا به من النافذة التي كان جالسا بجانبها، فما رأى الألبانيون رأس زعيمهم مقطوعا إلا وجنوا غيظا، وهبوا للانتقام من العثمانيين، فدارت بين الفريقين معركة هائلة جرت فيها الدماء أنهارا، وانتهت بإحراق السراي. ثم اجتمع زعماء العثمانيين للنظر في الأمر، فقرروا تقليد الولاية رجلا يقال له أحمد باشا كان، مارا بالقطر المصري في طريقه إلى جدة، فلم يستطع الرفض، ولكنه لشعوره هو وقومه بالقوة الخفية المسيرة الأمور أرسل في المساء أكابر المشايخ ليحملوا (محمد علي) على الرضاء به. وكان اعتدال محمد علي الظاهري قد أمال القلوب إليه وزاده ما انضم إلى جنده من جند طاهر باشا بعد قتله عزيمة واقتدارا، فرأى أنه يستطيع القضاء على حزب العثمانيين، فرفض بلطف وثبات معا استماع أقوال رسل أحمد باشا، واغتنم قرب معسكره من معسكر المماليك الذين استدعاهم طاهر باشا، لإبرام محالفة معهم، فلما وقعوها وتآخى محمد علي مع البرديسي، بأن جرح كل منهما نفسه وشرب من دم أخيه، أرسلوا - جميعهم معا - رسالة إلى أحمد باشا يكلفونه فيها بالانسحاب ومغادرة القطر، فامتثل الرجل على شرط أن يعطى من الوسائل ما يمكنه من السفر إلى جدة، ولكنه تحصن مع ذلك هو وجماعته في مسجد الظاهر، الذي كان الفرنساويون حولوه مدة إقامتهم في مصر إلى حصن دعوه سولكفسكي، فسير إليه المتحالفون ألفي ألباني استولوا عليه عنوة، أما أحمد باشا فإنه أبقي أسيرا، وأما الضابطان اللذان قتلا طاهر باشا، ثم انضما إلى أحمد باشا ليفرا من ثأر الألبانيين لقائدهم المغدور به؛ فقطع رأساهما.
أمين بك المملوك الشارد.
بعد ذلك أعلن عفو عام باسم محمد علي وإبراهيم بك وعثمان بك البرديسي - وأما الألفي فكان قد توجه إلى إنجلترا مع الجيش الإنجليزي - واستولى المماليك على القلعة واحتل الألبانيون القاهرة.
وما استتب الأمر للمتحالفين إلا وأخذوا يتجهزون للقضاء النهائي على خسرو باشا. وكان هذا الوالي - وقد طارده طاهر باشا حتى ألجأه إلى الاعتصام بدمياط - غادر هذا الثغر وسار إلى مصر أول ما بلغته أنباء الثورة على طاهر. ولكنه علم وهو في الطريق انكسار أحمد باشا ودخول المماليك العاصمة، فارتد على عقبيه. وما عتمت قوى المتحالفين تحت قيادة محمد علي والبرديسي أن أتت وعددها عشرة آلاف مقاتل، وشددت عليه الحصار، فاستولت على دمياط عنوة ونهبتها، فلجأ خسرو إلى حصن عند مصب النيل، ولكنه ما لبث أن نزل على حكم أعدائه ووقع في أسرهم، فأرسله الفائزون إلى مصر وأقاموا إبراهيم بك عليه حارسا.
في هذه الأثناء وردت أوامر الأستانة التي كان طاهر باشا بعث يطلبها بعد المناداة به قائمقاما، فهل تظن أيها القارئ أنها تضمنت توبيخا على ما اقترف ضد خسرو باشا، واليها الرسمي، أو أية إشارة كانت إليه؟ ولا في المنام! ولكنها قضت بالاعتراف بولاية أحمد باشا، الذي كان إذ ذاك في السجن يندب سوء طالعه.
على أن الأستانة، لما بلغتها تفاصيل الحوادث كلها، أحست بأنها إن هي سكتت على تحالف المماليك والألبانيين ضاعت مصر عليها، فلملافاة هذا الخطر المداهم رأت أن ترسل واليا جديدا من لدنها، وتعززه بألف رجل، كأن ألف رجل قوة يؤبه لها أمام أربعة آلاف ألباني وخمسة آلاف أمير مملوك.
وكان اسم الوالي الجديد علي باشا الجزائرلي. وهذا اللقب أتاه من أنه بدأ حياته العملية بصفة مملوك باي الجزائر.
وأما الأعمال التي استحق من أجلها أن يرفعه الباب العالي إلى منصب ولاية مصر الرفيع، فهي أنه فر من قصر باي الجزائر لدى موت مولاه إلى سفينة حسن باشا أمير الأسطول العثماني، مهدى إليه من صهر باي الجزائر، الذي أبى الاحتفاظ به لأن أخا علي المدعو سعيدا كان في حيازته، واشمأز صهر الباي هذا من الجمع بين الأخين، فلما كبر علي جعل مولاه الجديد الديوان يعينه واليا على طرابلس الغرب - وكانت في قبضة أخي حمودة باشا والي تونس - فذهب علي إليها وحاصرها واستولى عليها بولس من أهلها، فكافأهم على خدمتهم له بنهبها وسلبها وارتكاب كل أنواع الفظائع فيها. ولكن أخا حمودة باشا عاد إليها بقوة، فلم يجسر علي على مقابلته، وفر بخزي مصطحبا معه غلامين بصفة رهينتين. ولخوفه من الذهاب إلى الأستانة، لتوقعه عقابا صارما فيها، توجه إلى مصر، والتجأ إلى مراد بك، زعيم المماليك في تلك الأيام، فما استقر لديه إلا ووردت أوامر الديوان بنفيه إلى قلعة أبريم في النوبة. ولكن عليا، بدل الذهاب إليها، قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ومعه غلاماه، فعرفه بعض حجاج طرابلسيين. وتربصوا به حتى ضبطوه وهو متلبس بفاحشة مع الغلامين في دائرة الحرم، فحكم عليه أمير الحج الدمشقي بالضرب بالسياط حتى يموت. ولكن بعض الأمراء المصريين توسطوا له، وهو تحت العصا، وحملوا الأمير على إبدال بقية الحكم بحلق لحية الجاني؛ تخجيلا له وتحقيرا؛ لأن اللحية كان ينظر إليها أهل ذلك العصر بأنها علامة الرجولة؛ فنجا علي من الموت بذلك، وعاد إلى كنف مراد. فلما داهمت الحملة الفرنساوية مصر خرج مع مراد للقتال، ولكنه هابه ونجا بنفسه مع من فر من المماليك إلى سوريا، وأقام هناك إلى أن عاد برفقة الصدر الأعظم يوسف باشا، فأرسله هذا الصدر - بعد هزيمته في عين شمس - إلى الأستانة، ونال له صفحا عما مضى، فأقام علي في الأستانة، تحت رعاية الوزير، لا يدري التاريخ له عملا، حتى عينته هذه الرعاية واليا على مصر، في ظروف كانت تقتضي منتهى التبصر في التعيين.
إبراهيم باشا بلباسه العسكري.
نامعلوم صفحہ
فنزل علي باشا إلى الإسكندرية في 8 يوليو سنة 1803 وأرسل أخاه سعيدا للاستيلاء على رشيد فتمكن سعيد من ذلك بخدعة، فزحف محمد علي والبرديسي توا إليها واسترداها عنوة، وأرسلا سعيدا مأسورا إلى إبراهيم بك الكبير، فلما بلغ نبأ ذلك علي باشا أوجس خيفة، وشرع يتحصن في الإسكندرية، وعزم البرديسي فعلا على محاصرته فيها، ولكنه - وهو يتأهب لذلك - إذا بشيخ جاوز المائة من العمر حضر للسلام عليه في خيمته، وكان البرديسي يعتقد ببركة الشيوخ أمثاله، فأراد أن يقف منه على مصير المحالفة بين المماليك والألبانيين، فأجابه الشيخ: «ستقع فتنة كبيرة في عيد الأضحى، وستجري الدماء فيها!» فسأل البرديسي: «وماذا يسبب هذه الفتنة؟ وأي دم يسيل فيها؟ ولمن يكون الفوز؟» فأجاب الشيخ: «إن الذئاب ستفترس الأجانب!»
فوقعت هذه الإجابة من قلب البرديسي موقعا أليما؛ لأنه لم يكن يجهل أن أهل البلد كانوا يسمون المماليك بالأجانب، وتوقع فناء طائفته.
واتفق أن النيل شح في ذلك العام، فعلت الأسعار، وبات أمر تموين الجنود متعذرا، ودب الجوع إلى صفوفهم، فضجوا وتذمروا، وبات من المحال متابعة الأعمال الحربية بهم، فاجتهد محمد علي في تفهيم البرديسي ذلك. وبعد أن طلب منه بتكرار مرتبات جنوده، ورأى طلباته تذهب أدراج الرياح؛ اقتلع خيامه، وسار بألبانييه إلى مصر، فبلغها في أواسط سبتمبر، فاضطر البرديسي إلى العدول عن مهاجمة علي باشا الجزائرلي في الإسكندرية، وعاد هو أيضا بمماليكه إلى القاهرة، وإذا بالخزائن فارغة، وليس لدى إبراهيم بك الكبير - الذي كانت الإدارة الملكية أوكلت إليه أثناء تغيب محمد علي والبرديسي - ولا اليسير من النقود. وكان - مع ذلك - لا بد من دفع مرتبات الجنود، وإلا ثاروا، فلم يجد البرديسي مفرا من فرض ضريبة جسيمة على أهل العاصمة نفرت منه القلوب.
فلما توقفت الحركات العسكرية رأى علي باشا الجزائرلي أن يغتنمها فرصة لدسائس يدسها بين المتحالفين يفرق بها بينهم ويبلغ منهم مرامه، فأرسل من فاوض محمد علي سرا وأطمعه فيما لو تخلى عن المماليك. وأرسل من فاوض المماليك سرا، ووعدهم خيرا فيما لو تخلوا عن الألبانيين. ولما كانت فرنسا وإنجلترا أخذتا تتزاحمان على النفوذ في مصر وعلى استمالة البرديسي، أطلع محمد علي هذا الأمير على ما فاتحه فيه علي باشا الجزائرلي، فحمله بذلك على زيادة الوثوق به والانقياد إلى مؤثراته، ولم يجد بعد ذلك صعوبة في إقناعه بأن الالتجاء إلى هذه أو تلك من الدولتين المتنازعتين النفوذ، ينشئ خطرا هائلا على مصالح الجميع. ثم عرض عليه فكرة العمل من باب الحيلة على إخراج علي باشا من مركزه الحصين بالإسكندرية، فوافقه البرديسي، فحمل محمد علي العلماء - وكانت قد استمالتهم مظاهر تقواه واعتداله - على الكتابة إلى الجزائرلي واستدعائه إلى مصر، مؤكدين له أن الكل يرغبون سرا في حضوره، وأن مجرد حضوره يزيل كل صعوبة ويقوم كل معوج.
فصدق الرجل الكلام واستعد للسفر، وبعث ينبئ الأمراء بذلك، فاستعجل المماليك حضوره. ولكنهم - لعلمهم بأن الباب العالي كان قد أرسل إليه أمدادا متتابعة - رسموا له بألا يصطحب معه سوى ألف رجل، وأن يسير بهم من دمنهور إلى القاهرة على شاطئ النيل الأيسر، فوعدهم علي باشا بالامتثال لمرسومهم، وقام من الإسكندرية في 23 ديسمبر سنة 1803، ولكن بألفين وخمسمائة من المشاة، وخمسمائة فارس. وقبل الوصول إلى دمنهور حاول الاستيلاء على رشيد مفاجأة، فلما وجد حاميتها يقظة، وأرسل الأمير المملوك قائدها يستفهم منه لماذا حاد عن الطريق المرسوم له، اعتذر وأجاب أنه إنما فعل ذلك ليقصر المحجة، ولكنه لا ينوي لرشيد سوءا، فصدقوه، غير أنه ما انسدلت سدول المساء إلا وقبض خفراء المدينة على جنديين من جنود علي. وقادوهما أمام يحيى بك الأمير المملوك، فسألهما عما يريدان، فقالا إنهما يحملان كتبا من علي باشا إلى عمر بك قائد الألبانيين. وكان عمر بك حاضرا، ففض الكتب علانية، وإذا هي ملأى وعودا يبذلها علي باشا للألبانيين ليفصلهم عن المماليك؛ فاستشاط الحضور غيظا، واستعدوا لقتال المخاتل، وإذا به قد ظهر أمام مدينتهم، وهو يعتقد أن كتبه عملت عملها من التغرير؛ فوجد القوم متربصين خارج الأسوار، فلم يجسر على مهاجمتهم، وعاد صاغرا إلى الطريق التي رسمت له. وليعوض جنده من عدم الاستيلاء على رشيد، سمح لهم بنهب القرى في السبيل.
وكان القوم في مصر مطلعين على جميع حركاته، فلما علموا أنه اقترب من العاصمة، خرج البرديسي إليه ومعه محمد علي وألبانيوه، وعسكروا أمامه بين شلقان وشبرا، ولما جن الليل هاجموا معسكره، فذعر جنده وفروا بدون قتال، فتذمر علي من هذه المعاملة، ولكن أعداءه لم يبالوا به، ولم يجيبوه بشيء، فأراد الخروج من معسكره والدخول إلى القاهرة فمنعوه، فسأل عن سبب هذا التصرف فقالوا له: «لأنك أخليت بالشروط.» فأجاب معتذرا بأن معظم الجند الذي معه يقصد الحج، وأبى أن يتركه حتى يقبض متأخراته، فما صدقه أحد وقال له البرديسي: «إنك إذا استمررت مصطحبا معك كل هؤلاء العساكر فلا بد لي من معاملتك كعدو.» فطلب علي حينئذ أن يسمحوا له بالعودة إلى الإسكندرية، فرفضوا، فوجد أن القتال بات محتما، وأخذ يستعد له. ولكن عسكره تخلوا عنه قائلين إن أوامر الباب العالي لا تقضي عليهم بالقتال، وإن قلة عددهم لا تجعل الإقدام عليه محمودا.
فقام علي من ساعته، واصطحب معه ابن أخته ونفرا يسيرا، وقصد خيمة البرديسي، وسلم نفسه إليه، فأكرم الأمير وفادته. ثم أقبل على جيشه، فجرده من سلاحه، وسيره مهينا إلى التخوم السورية، غير مستثن سوى ستة من رؤسائه تعرفهم بأنهم من أصحاب السوابق في المشاغبات والاضطرابات، فقطع رؤوسهم، ولكن علي باشا - بالرغم من أنه أصبح فريدا، وأنه في ضيافة البرديسي - أبى إلا الاستمرار على دسائسه، فكتب رسالتين: إحداهما إلى عثمان بك حسن، أحد كبار الأمراء المماليك، والأخرى إلى الشيخ السادات؛ ففي الأول وعد عثمان بك بأن يجعله وكيله إذا هو انشق على إخوانه وانضم إليه، وفي الثانية شرح للشيخ كيف يمكنه إثارة ثائرة الشعب على المماليك، فوقعت الرسالتان في يد عثمان بك البرديسي، وأوقدتا في قلبه غيظا لا حد له، فاستدعى علي باشا إليه، ووضعهما تحت نظره، فغض الشقي عينيه خجلا. ولما أقبل المساء أتاه من قبل البرديسي رجل وقال له: «إن الخيل معدة، وهي في انتظارنا.» فقال علي: «لماذا؟ وإلى أين تريدون توصيلي؟» قال: «إلى سوريا، فإن سلوكك جعلك لا تستحق أن تستمر بيننا!»
فأركبوه مع ابن أخته وتوابعه، واحتاط بهم جمع قوي من المماليك. فلما بلغوا ناحية القرين وجلسوا ليستريحوا، ما كان من المماليك إلا أنهم صوبوا بنادقهم وأطلقوها عليهم. ثم أجهزوا عليهم باليطقانات، فأصيب علي باشا برصاصتين، وبينما هو يموت أخرج كفنه من خرجه - وكان لا يفارقه أبدا - ورجا قاتليه بألا يحرموه من الدفن.
على أن محمد علي وألبانييه - ولو أنهم ساعدوا على الإيقاع بالرجل، بل كانوا هم المحرضين على الإيقاع به - لم يتدخلوا في قتله، وما فتئوا واقفين وراء ستار.
ولما عاد المتحالفون إلى القاهرة بلغهم نبأ وصول رسول من لدن الباب العالي، فذهب وفد من البكوات إلى الإسكندرية لاستقباله، وعادوا به باحتفال عظيم، فلما استقر العاصمة أخرج الفرمان الذي حضر به وناوله إلى القاضي، فقرأه بصوت عال؛ أفتدري أيها القارئ الكريم، ماذا كان مضمونه؟ إنه كان يؤيد علي باشا الجزائرلي على ولاية مصر!!!
نامعلوم صفحہ
غير أن البرديسي ومحمد علي إن هزآ بمضمون ذلك الفرمان السخيف، ما لبثا أن وجدا من صروف الأيام سببا لقلق أخطر بكثير من الذي تلافياه بموت علي باشا الجزائرلي.
قلنا إن الجيش الإنجليزي لما انجلى عن الإسكندرية اصطحب معه إلى إنجلترا محمد بك الألفي، زعيم المماليك الثاني، لتتخذ الحكومة الإنجليزية منه آلة لتنفيذ مراميها في القطر المصري في مستقبل الأيام، فرأت هذه الحكومة في أوائل سنة 1804 أن الوقت حان لذلك، فأعادت الألفي إلى القطر، ومعه تحف وأموال كثيرة ليشتري بها الذمم والقلوب.
فما بلغ خبر نزوله مسامع منافسه عثمان بك البرديسي إلا وأظلمت الدنيا في وجهه؛ لأن الألفي كان - لسماحة كفه - محبوبا في الأقاليم. وكان أتباعه ومريدوه من المماليك كثيرين. ولم يكونوا مدة غيابه يطيعون البرديسي إلا بتذمر، وكثيرا ما أطلع الألبانيون هذا الأمير على ما كان أولئك الأتباع والمريدون يراودونهم عليه من قتله، فيذكون بذلك كرهه لمنافسه البعيد. وبلغ البرديسي في الوقت ذاته أن الألفي الصغير - الذي كان الألفي الكبير تركه على رأس حزبه لما غادر الديار - ما سمع بعودة مولاه إلا واستدعى رجاله، وأمرهم بالاستعداد للانضمام إلى سيدهم فزاد اضطرابه، وقصد محمد علي - وكان منذ أن تحالفا معا قد اتخذه ناصحا ومرشدا - واستفتاه فيما يجب عمله، فدامت مداولاتهما يومين كاملين. وكان محمد علي قد نظر إلى الحادث الجديد بعين بصيرة ونظر ثاقب، ووزن بروية حقيقته ونتائجه، فأدرك أن الألفي إنما يعني أصبع الإنجليز، وأن هذه الدولة لم تعده إلى القطر، إلا لأغراض خفية لم يكن يمكن أن تكون سوى إعادة سلطة المماليك ووضع زمامهم في يد الألفي محسوبها، مقابل امتيازات تنالها منه، واتفقت معه عليها نظير مساعدتها له. وأنه إذا انضم الألفي إلى البرديسي، وعملا معا بإخلاص وبمساعدة الإنجليز، فقد خسر هو الصفقة وهلك، أو اضطر إلى مغادرة القطر، فعزم - في الحال - على منع حدوث مثل هذا. وما أتاه البرديسي مسترشدا إلا وأشار عليه بوجوب القضاء على الألفي، قبل أن يتمكن الألفي من القضاء عليه بمساعدة الإنجليز.
فاقتنع البرديسي بذلك - وكان بغضه للألفي يعمي بصيرته عن مصلحته ومصلحة قومه، وتعاهد مع محمد علي على العمل سويا لتنفيذ ما صمما عليه، فانتقل - منذ الليلة التالية - إلى بر الجيزة، وباغت الألفي الصغير المعسكر هناك، فتخلى مدفعيو هذا عنه ولم يبق معه إلا بضعة رجال هرب بهم على أجنحة السرعة، فتحول محمد علي إلى فريق من مماليكه كانوا راقدين في إمبابة وداهمهم في نومهم، وقتلهم عن آخرهم.
وفي أثناء ذلك كان الألفي الكبير يصعد النيل في مركب القنصل البريطاني، الخافقة الراية البريطانية عليها، وتتبعه طائفة من القوارب، تحمل التحف والأموال التي جاء بها من بلاد الإنجليز، فلما بلغ بها منوف رأى مراكب موثوقة بألبانيين تتقدم لمقابلته، فسأل رجاله الجند: «ماذا تطلبون؟» فأجابوا: «نطلب محمد بك الألفي!» فقال رجاله: «ها هو هنا!» ولكن الألبانيين لم يتعرضوا له، بل تحرشوا بالقوارب الحاملة التحف والأموال وشرعوا ينهبونها، فرأى الألفي حينذاك أنه يحسن به النزول إلى البر، فنزل وقصد ناحية كانت قبيلة بدوية ضاربة فيها خيامها، فاستقبلته امرأة منها، وأعطته حصانا ودليلين بهجينين، ابتعد بهما من الغد، وتبعه مماليكه سيرا على الأقدام. وبينما البرديسي يضرب في طول القليوبية وعرضها للظفر به بلغ الألفي الخانقاه، فهاجمه فيها جمع من العرب. وما نجا الألفي منهم إلا بفضل سرعة حصانه، وذهب هائما على وجهه.
فعاد البرديسي إلى القاهرة، وهو طروب بفوزه، ولكن عمله ضد أخيه أساء طائفة من أصدقائه، فابتعدوا عنه، فنظر الرجل حوله، وإذا بأكثر من نصف المماليك الذين كان يعتز بهم قد فارقوه إما للانضمام إلى الألفي وإما لاستنكارهم عمله، فاغتنم الألبانيون الفرصة، وطالبوه بمتأخرات ثمانية شهور من رواتبهم، وضجوا حوله، وهددوه بشر الأعمال إذا هو ماطل في الدفع. وما هي لحظة إلا وحضر محمد علي نفسه على رأس فرقته، ولكنه تظاهر أنه مسوق إلى ذلك سوقا، وأنه إنما حضر للتوفيق بين الفريقين.
فوعد البرديسي بالدفع في الغد، وفرض في الحال مالا جسيما على كل «الشراقوة» والفرنج المقيمين في القاهرة، فاحتج القناصل، ولكن البرديسي لم يبال، وجمع الضريبة عنوة، غير أنها لم تف بطلبات الجند، ففرض البرديسي ضريبة فادحة على أهل العاصمة، فضجوا وثاروا، وقتلوا نفرا من المحصلين، وتجمهروا في الأزهر وحوله، فتداخل محمد علي في الأمر، وذهب بمفرده إلى الثائرين ولاطفهم، ووعد العلماء بأن الضريبة المفروضة لن تجبى، فهدأت الثورة في الحال، وعاد الأقوام إلى منازلهم وهم يدعون له، فبات محمد علي مضطرا إلى منع البرديسي من جباية تلك الضريبة. وكان بعض أمراء المماليك قد أخذوا يسيئون الظن في صداقته لهم، ووجدت أسباب حملت محمد علي على الاعتقاد بأن إبراهيم بك الكبير - على الأخص - أدرك غامض نياته، وأنه أوعز إلى مماليكه بالعمل على الإيقاع به خيانة وغدرا. ورأى المكدوني من جهة أخرى أن البرديسي قد فرغ من لعب الدور الذي خصصه له، فلم ير بدا من نزع اللثام عن وجهه، والبروز في حقيقة مقاصده أمام أنظار أعدائه.
فاستمال إلى نفسه في الأول عثمان بك حسن ومماليكه الناقمين على البرديسي. وفي ظهر اليوم الثاني عشر من شهر مارس سنة 1804 سيرهم للإحاطة بمنزل إبراهيم بك الكبير، ووجه جنودا عديدة للإحاطة بدار البرديسي، وكان يدافع عنها جمع من الترك، استمالهم محمد علي إليه برشوة، فحولوا مدافعهم على من في الدار بدلا من تحويلها على الألبانيين، وشرعوا يدكون جدرانها دكا، فأمر البرديسي رجاله بامتطاء جيادهم، وحمل ما ثمن وخف من أمتعته على ظهور هجن، ثم فتح الأبواب بغتة. وانقض على صفوف الألبانيين المحيطة بداره، ففتح له ولمن معه منفذا فيها، وعدا برجاله وأمتعته نحو البساتين. وإبراهيم بك الكبير من جهته تمكن من الانسلال عند الفجر من منزله إلى ساحة الرميلة، وفر منها إلى الصحراء. ولما علم المدفعيون المقيمون في القلعة أن الأمراء أسيادهم فروا؛ انقضوا على دار السكة، فنهبوها، ثم ولوا - هم أيضا - الأدبار من باب الجبل، فلم يبق في القاهرة من سلطة سوى سلطة محمد علي، ولو كان قليل التبصر كطاهر باشا، لاقتدى به وتسلم زمام الحكم، ولكنه كان داهية من أكبر دواهي الزمان، ولم يكن ليجهل أن الفرص لا تزال غير مناسبة، وأنه يجدر به أن يستمر عاملا على إنضاجها.
ففي نفس اليوم الذي طرد المماليك من القاهرة فيه، صعد إلى القلعة، وأنزل منها خسرو باشا المسجون فيها ليعيده إلى كرسي الولاية. ولكن الزعماء الألبانيين زملاءه - بتحريض من ولدي أخي طاهر باشا - أبوا عليه التعيين، فأنزلوا خسرو عن ذلك الكرسي، وأرسلوه مخفورا إلى رشيد، ومحمد علي لا يمانع؛ لأنه لم يكن ليهمه البتة أن يتولى خسرو، وإنما كان يهمه أن تبقى مقاصده تحت ستار وأن يؤمن الباب العالي بولائه، ويزداد تعلق العلماء به لاعتداله.
فانضم إلى الزعماء في اجتماعهم للتداول فيمن ينتخبونه للولاية، فأجمعت آراؤهم على تعيين خورشد باشا محافظ الإسكندرية المولى عليها من قبل خسرو الوالي المخلوع، وكان خورشد آخر من تبقى في القطر ممن يصح أن تتجه إليهم الأبصار، فإذا جرب ولم يفلح هو أيضا أصبح من السهل حمل القوم على انتخاب محمد علي.
نامعلوم صفحہ
فذهبت فرقة ألبانية وأتت بخورشد من الإسكندرية في 2 أبريل، وفي 28 منه أتاه فرمان التثبيت من الأستانة.
وكان خورشد رجلا أذكى ممن سبقوه وأشد مراسا، فحاول جهده للخروج من قبضة الرجل القدير الذي أراد تحريكه على المسرح كما حرك عليه أسلافه. ولكن محمد علي لم يمكنه من ذلك، ووقف له بالمرصاد، يستفيد من كل غلطة يرتكبها، لينفر منه النفوس، ويثير عليه الضغائن.
فما استقر خورشد في كرسيه إلا ورأى المال يعوزه، فأمر بتحصيل الميري عن السنة كلها مقدما؛ فنفر هذا الأهالي منه، ثم شرع يبحث عن كل من له علاقة بالمماليك ويصادره. ولكن المماليك ثأروا لمريديهم ولأنفسهم بمنع الوارد من غلال وأقوات عن العاصمة، فجاعت وزاد جوعها في نفورها من خورشد، وازدادت أمام خورشد صعوبة الحصول على المال اللازم، فما كان منه إلا أنه أرسل يوما واستدعى إليه في القلعة الست نفيسة أرملة مراد بك، وكانت - لفضلها وبرها وتقواها - محبوبة ومحترمة جدا من الجميع، وأخذ يتذرع بحجج شتى لاستخلاص نقود منها، فبلغ الأمر مسامع القاضي ومشايخ الأزهر، فأسرعوا إلى الوالي، وبينوا له مقدار الخطأ الذي ارتكبه. فادعى أن نفيسة هانم تفسد عليه جنوده في مصلحة المماليك، وتعدهم إن هم انفضوا عنه بدفع مرتباتهم لهم، ففاتح المتعممون الست نفيسة في ذلك، فقالت: «إنه لم يعد لي بين المماليك لا أب، ولا زوج، ولا أخ، فبأي داع أخدم مصلحتهم؟ إني أرى أن كل هذا تحايل لابتزاز أموال مني ليس لدي منها ظلها، لأني قد أصبحت في حال لا تمكني من القيام بواجبي نحو نفس من خدمني ويخدمني!» فعاد المتعممون إلى خورشد، واجتهدوا في حمله على إطلاق أسيرته فأبى، وبالرغم من إلحاحهم وتوسلهم أصر على الإباء، فنفروا حينذاك منه، وقالوا له إن إصراره هذا إنما يعتبرونه امتهانا منه لكرامتهم. فتداخل بعض كبار المرتبة في الشأن، وانتهى الأمر بتصريح خورشد للست نفيسة بالإقامة في بيت الشيخ السادات. وكانت عديلة هانم - بنت إبراهيم بك الكبير - قد لجأت إليه أول ما بلغها ما أصاب نفيسة هانم؛ خشية أن تصاب بمثله.
ولما أدرك خورشد أن معاملته للست نفيسة زادت في إبعاد القلوب عنه، بدون أن تجديه نفعا، لجأ إلى وسيلتين أخريين للحصول على نقود، فجمع الوجاقلية وفرض عليهم ألف كيس وأبقى بعضهم لديه رهائن، ثم فرض خمسمائة كيس على الأقباط ومائة وخمسين كيسا على المسيحيين السوريين المقيمين بمصر. ومع أن «ميري» السنة الجارية لم يستطع تحصيله، أمر بتحصيل «ميري» السنة التالية. وأخيرا فرض ضريبة على أرباب الحرف والصنائع في العاصمة. ولكن هؤلاء ثاروا في الحال، واحتشدوا في الأزهر، وجاهروا بالتمرد والعصيان، فاضطر خورشد إلى تسيير مناد في المدينة ينادي بأن الفقراء يعفون من دفع الضريبة، ولم يكن بين أرباب الحرف والصنائع من غني البتة.
الأمير بشير الشهباني.
على أن عدم وجود نقود عند الوالي جعله لا يستطيع دفع رواتب الجند. وعدم حصول الجند على رواتبهم أدى بهم إلى التعدي على الأهلين والتجار وسلبهم، فنجم عن ذلك أن التجار أغلقوا حوانيتهم، والأهلين امتنعوا عن الخروج من منازلهم، فوقفت حركة الأعمال، وبدت المدينة كأنها مهجورة، لا يتجول فيها سوى الجنود والألبانيين، فرأى خورشد أن يصادر نساء المماليك، اللائي كن رهائن لديه، فابتز منهن ألفا ومائتي كيس. وكان قد أتى فرمان من الأستانة يتضمن شكرا لمن ساعد على البطش بالمماليك، فعقد خورشد ديوانا كبيرا لتلاوته، وبعد الفراغ من قراءته استدعى العلماء إلى قاعة الاستقبال، وألبسهم فراوي من سمور كالمعتاد، وألبس كذلك مدير دار السكة، ومراقب عموم المالية واثنين وعشرين وجيها من الأقباط، ولكنه طلب إليهم في اليوم التالي، مقابل ما نالوا من إكرام على يديه، أن يدفعوا له ألف كيس على سبيل العارية الإجبارية.
السلطان محمود الثاني.
هذه الحال المؤلمة استمرت إلى أن مل المماليك البقاء على مناوشات لا طائل تحتها، حول القاهرة، فاقتلعوا خيامهم وساروا إلى الصعيد. وكان الخوف كله - حتى هذا الانسحاب - في أن ينضم رجال الألفي إلى رجال البرديسي ورجال إبراهيم بك؛ فإن الألفي - وكان بعد ما أصابه من نكبة، مختبئا عند شيخ من مشايخ عرب الشرقية - ما درى بما حصل في مصر للبرديسي إلا وخرج من مخبئه وأتى على رأس جانب من رجاله، وأقام في قرية على ضفة النيل اليمنى على مسيرة يومين من القاهرة، وأخذ من جهة يسعى إلى التقرب من البرديسي، ويراسل من جهة أخرى خورشد باشا في السر للوصول إلى اتفاق معه، فاستقبل خورشد رسوله بحفاوة وأهداه محمد علي جوادا مطهما.
وبينما الوالي وزعيم الألبانيين يجتهدان في إبقاء الألفي على الحياد، كان محمد علي لا يفتر عن مقاتلة مماليك البرديسي في المعتمدية، والإيقاع بهم والرجوع يوميا إلى القاهرة برؤوس بعضهم مشكوكة على رؤوس الحراب. ولما ابتعد المماليك نحو تخوم القليوبية، ليحملوا جند الولاية على الخروج إليهم من استحكاماتهم، لم يجسر سوى محمد علي على اقتفاء آثارهم ومطاردتهم من القليوبية إلى المنوفية، فلما أن فعل ذلك عاد إلى القاهرة لاضطراره إلى دفع مرتبات جنوده، وإذ كان يعلم أن مطالبة خورشد بها لا تجدي نفعا، قبض على اثنين من أغنى وجهاء المدينة ومن محسوبي الوالي، ولم يخل سبيلهما حتى دفعا بين يديه خمسمائة كيس.
مؤسس الوهابية.
نامعلوم صفحہ
غير أن مصادرة خورشد نساء المماليك في القاهرة أغضبت الألفي وجعلته - بالرغم من أن خورشد قلده ولاية جرجا - يعلن عداءه للوالي وينضم في قتاله إلى باقي المماليك إخوانه، فأرسل إلى خورشد، في هذا المعنى، رسالة ضمنها من المطاعن المرة عليه ما أطار عقل الرجل غضبا، وحمله على الأمر بقطع رأس الرومي المسكين الذي حمل تلك الرسالة إليه.
وعلى ذلك زحف المماليك من كل جهة، إلى العاصمة، ولكن بدون تفاهم بينهم، فخرج محمد علي إلى مقابلتهم، وما فتئ يناوشهم مناوشات عنيفة يحاول بها إلقاء الاضطراب في صفوفهم، حتى وقع مع ثمانمائة من أتباعه في كمين في جهة البساتين، لم ينج منه إلا بأعجوبة. ولكنه ثأر لنفسه بعد قليل بأن أبلغ عثمان بك حسن والألفي أنه مل الحال، وأنه إذا أبى خورشد مصالحة المماليك، فإنه هو - محمد علي - سيتقرب منهم، فصدقاه وأغفلا الاحتراس، فسار محمد علي بألف رجل تحت جنح الدجى إلى طرة، وهاجم أعداءه وهم نائمون، وأثخن فيهم، ولولا أن الألبانيين خالفوا أوامره وأطلقوا الرصاص قبل إتمام الإحاطة بالقرية لما نجا أحد من المماليك المبيتين.
فحملت هذه الواقعة المماليك على الابتعاد عن القاهرة - كما قلنا - بعد أن بالغوا في تضييق الخناق عليها، وعاد الفلاحون إلى جلب الأقوات لها؛ فزالت شبه المجاعة التي كانت أصابتها، ونسب أهلها الفضل في ذلك إلى محمد علي بحق.
وكان قد ورد على خورشد باشا، قبل ذلك بيومين، أمر من الأستانة يقضي بإرسال خمسمائة رجل إلى ينبع لدفع الوهابيين عنها، وورد على زعماء الألبانيين فرمان استصدره خورشد الراغب في التخلص منهم، يأذن لهم بالعودة بجنودهم إلى بلادهم، فرضي بالأمر بعضهم وأزمعوا الرحيل، ولكن الجند منعهم إلا إذا دفعوا لهم متأخراتهم، فكادت تقع فتنة، لولا أن خورشد - ليتخلص من أولئك الزعماء وعسكرهم - دفع هو نفسه المتأخرات، على أن الزعماء عدلوا حينذاك عن الرحيل. ولم يجن خورشد من تسرعه سوى خسارة المال الذي دفعه.
ووقع بعد انسحاب المماليك حادث أظهر مقدار ما بلغ إليه نفوذ محمد علي في نفوس جنوده بعد انتصاراته المتتابعة على المماليك؛ ذلك أن جنديين من الأرناؤوط تشاجرا مع فرنساوي يقال له روجيه، كان رئيس الصيادلة في الحملة الفرنساوية، وتخلف عنها في مصر، وأرادا قتله، فعاجل الفرنساوي أحدهما بضربة أودت به، وأطلق خادم من خدمه الرصاص على الثاني فجرحه جرحا خطيرا، فاجتمع العساكر وأرادوا نهب الحارة، وكثر الهرج والمرج، ولكن الخبر بلغ إلى محمد علي، فحضر إلى محل الواقعة ماشيا على قدميه، وليس معه إلا نفر قليل، وأمر بفتح باب الحارة، لئلا يكسره الجند، فيحدث ذلك ما لا تحمد عقباه، ثم وضع خفراء عليه، ومنع العسكر الهائج من ارتكاب أية معصية كانت، وما زال بهم من جهة، وبالقنصل الفرنساوي من جهة أخرى؛ حتى حمل القنصل على دفع أربعة آلاف قرش لأخ المقتول، على سبيل الدية وحمل أخا المقتول على قبولها، والجند على الاكتفاء بها ثأرا.
ثم وقع في خلده أن يرى مقدار ما بلغت إليه منزلته عند الشعب، فاصطحب ذات صباح أحمد بك، الذي كان يقاسمه الإمرة على الأرناؤوط، وذهبا معا إلى الوالي، وأظهرا له الرغبة في الرجوع إلى بلادهما، فطار عقل خورشد فرحا واعتبر التخلص من محمد علي غنيمة كبرى. ولما كان قد عينه منذ بضعة أيام حاكما على جرجا أقاله من هذه الوظيفة، وعين سلحداره مكانه فيها. وذاع في الشعب الخبر، وتأكيدا لحقيقته، شرع محمد علي في بيع أملاكه ودوابه.
فاضطربت حينذاك المدينة عن بكرة أبيها، وأقفلت الأسواق والدكاكين، وازدحم الناس في الشوارع والدروب، وبدت على القوم أمارات الأسف الشديد على رحيل الرجل الذي كانوا يعدونه الحامي الوحيد لبيضة أمنهم من تعدي الأجناد عليها، وكاد يخامرهم يأس على أعمارهم، وكأني بالعسكر أرادوا أن يثبتوا لهم حقيقة تقديرهم، فما علموا أن محمد علي راحل إلا وانتشروا في الأحياء يفسدون ويخطفون، وكاد الدم يهدر.
ولكن محمد علي - وقد اكتفى بما رأى من منزلته في القلوب - نزل وطاف المدينة على قدميه، مهدئا المخاوف، زاجرا الجند، ومعاقبا بالقتل كل من تجاوز منهم حد المحتمل، وإرهابا للأشرار أمثال المعاقبين، أبقى الرؤوس المقطوعة عدة أيام معلقة على الأبواب. وانتهى الأمر بأن سافر مائتا ألباني ومعهم أحمد بك. وأما محمد علي فإنه أعلن بقاءه إرضاء للرأي العام، فجعل لنفسه بذلك منة في رقبة الشعب.
فلما تأكد خورشد من عدوله عن السفر، رأى أن يستخدم ميزاته العسكرية في الحملة التي صمم على تسييرها ضد المماليك فيبعده بألبانييه عن العاصمة، ويغتنمها فرصة للتخلص منهم بضربة تصيبهم على أيدي جنود غيرهم أرسل يستدعيهم من سوريا وغيرها.
فقلد محمد علي قيادة ثلاثة آلاف رجل بيم مشاة وفرسان وسيره إثر سلحداره الزاحف بمقدمة الجيش وقدرها أربعة آلاف جندي.
نامعلوم صفحہ
فلما أحس المماليك بالقوى المتقدمة لقتالهم، أدركوا أن تفرقتهم ضارة بهم جدا، وأخذ عقلاؤهم يسعون إلى مصالحة البرديسي والألفي، واتفقوا على أن يتقابل هذان الزعيمان في جزيرة قبالة طرا، أقيمت فيها خيام لهذا الغرض، فأتاها البرديسي أولا، وما لبث أن نزل الألفي إليها أيضا. ولكنه لم يخط بضع خطوات فيها إلا ورأى على الشاطئ ثعبانا مقطوعا نصفين، فتطير وظن أن في الأمر خيانة وغدرا، وعاد من حيث أتى، فاستمر الشقاق بين المماليك على ما كان.
وفي الأثناء تقدمت فرقتا السلحدار ومحمد علي حتى بلغتا المنيا، وكانت في يد المماليك، فحاصرها القائدان الألبانيان ستة وخمسين يوما، واستوليا عليها بعد عناء شديد، وبعد عدة وقعات ظهرت فيها قلة جدارة السلحدار وكثرة كفاءة محمد علي.
على أنه بينما كانت القوات الألبانية تبلي هذا البلاء الجيد، كان خورشد باشا يسعى سعيا حثيثا - تساعده الأستانة فيه - إلى هدم كيان تلك القوات، وتفريقها أيدي سبأ، وذلك باستحضار قوات أخرى إلى القطر تحل فيه محلها. تلك القوات الجديدة كانت تعرف باسم الدلاة أو الدالتية أي المجانين بالتركية، وإنما سموا كذلك لشهرتهم بالبسالة المتناهية، وكان معظمهم أكرادا، سلاحهم سيف وطبنجتان وقرابينة، وكانوا يلبسون على رؤوسهم طراطير مخروطية الشكل من الجوخ الأسود طول الواحد منها عشرة قراريط، لا حافة له وتشده على الرأس عصابة.
فأحضر خورشد باشا ثلاثة آلاف منهم، ولما بلغه نبأ وصولهم إلى التخوم المصرية خرج بنفسه إلى مقابلتهم ودخل بهم القاهرة من باب النصر، فكانت باكورة أعمالهم أن انقضوا على السابلة وأرباب الدكاكين، فخطفوا النساء والمردان ونهبوا التجار، كأنهم إنما حضروا لهذا الغرض فقط. بعد ذلك طلبوا علوفاتهم ومرتباتهم بإلحاح ونعير لم ير الباشا معهما بدا من إجابتهم إلى طلبهم، ففرض على تجار كانوا منتظرين حرسا للذهاب إلى ينبع؛ خمسمائة كيس، لإعطائهم ذلك الحرس، وعلى اليهود مائة وعشرين كيسا، وألزم تجارة السويس بما وازى هذين المبلغين معا.
غير أن خبر وصول الدلاة ما بلغ محمد علي وهو في المنيا إلا وأدرك الباعث الذي حمل خورشد باشا على إحضارهم، فاتفق في الحال مع حسن باشا زميله، ونهض كلاهما، وسارا بجنودهما إلى القاهرة، فلما شاع خبر قدومهما اضطرب له خورشد اضطرابا عظيما، فبعث واستدعى إليه المشايخ ونقيب الأشراف والوجاقلية وأرباب الديوان، وقال لهم: «إن محمد علي وحسن باشا راجعان من قبلي من غير إذن، وطالبان شرا، فإما أن يعودا من حيث أتيا ويقاتلا المماليك، وإما أن يذهبا إلى بلادهما، أو أعطيهما ولايات ومناصب في غير أرض مصر ، فإن لدي أمرا من السلطان بذلك، فأطلب إليكم إذا أن تكونوا معي وتعضدوني.» فقر الاتفاق على أن يبيت عنده في القلعة كل ليلة اثنان من المتعممين واثنان من الوجاقلية، وصدر الأمر إلى الدلاة بالخروج بأسلحتهم ومدافعهم إلى ناحيتي طرا والجيزة للوقوف في وجه القادمين.
ففعلوا، ولكنهم لم يجسروا على التعرض لمحمد علي ومن معه. ولما أرسل محمد علي إليهم يقول لهم: «إننا إنما جئنا في طلب المرتبات ولسنا بالمخالفين ولا بالمعاندين.» وعزز قوله بالهدايا والتحف، قال الدلاة بعضهم لبعض: «إذا كان الأمر كذلك، فالقوم محقون فيما يعملون.» وأجابوا من أرسله خورشد لتأنيبهم على جبنهم وتساهلهم: «إذا كنتم تمنعون وتحاربون من يطلب حقه فكذلك تفعلون معنا، إذا خدمناكم زمنا، ثم طلبنا علائفنا!» واستمروا لا يبدون حراكا، فدخل محمد علي وزميله بجنودهما القاهرة ونزلا في بيتيهما.
فبلغت الفوضى حينذاك أقصاها؛ فأخلاط العسكر في مصر - ولا سيما الدالاتية - يأكلون الزرع والقوت، ويخطفون ما يجدونه مع الفلاحين والمارين، بل يخطفون النساء والأولاد. والمماليك في الأقاليم، وعند أبواب العاصمة ذاتها؛ يأخذون من البلاد الأموال والكلف عنوة واغتصابا. والعرب والبدو يغيرون على القرى وينهبونها، ويحرقون الأجران ويسبون النساء، ويضربون ويقتلون من يتعرض لهم بدفاع. وأسراب الأولاد الصغار يصرخون في أسواق القاهرة والمدن الأخرى، ويأمرون الناس بغلق الحوانيت، ويسبون المشايخ ويشتمونهم ويرجمونهم بالحجارة إذا ما صادفوهم في الشوارع، لاعتقاد الملأ أن المشايخ لو تجاسروا وأرادوا لتمكنوا من رفع تلك البلايا. والباشا لا يرى للأمور دواء إلا العمل على إخراج محمد علي وفرض الأموال على الناس، كأنه لا يكفيهم ما هم فيه من بلاء وشقاء.
فلإخراج محمد علي حمل الأستانة على تعيينه واليا على جدة. وكان محمد علي - منذ أن عاد إلى منزله - متظاهرا بالاعتدال التام، يتحبب إلى العلماء بما يحادثهم من محادثات عذبة، وما يشترك معهم فيه من تأدية فرائض الدين، ويزيد في اجتذاب قلوب الناس إليه بمنع كل تعد من جنوده الخاصة عليهم، ويقوي تعلق جنوده به ببذله لهم مرتباتهم في أوقاتها، وبمضاعفتها أحيانا.
فلما أتاه فرمان التولية على جدة تظاهر بقبول المنصب، ولكنه رفض ما دعاه إليه خورشد من الصعود إلى القلعة ليتقلده فيها. ومن يعلم كيف فتك خورشد هذا غدرا - بعد ذلك بنحو عشرين سنة - بعلي باشا تبلن والي ينينا؛ لا يسعه إلا أن يقر محمد علي على قلة ثقته به، وحتم عليه النزول إلى المدينة لقراءة الفرمان المنبئ بذلك في بيت شيخ وقور يقال له سعيد أغا، فنزل الوالي على مضض، وخلع على محمد علي، وألبسه فروة المنصب الجديد وقاووقه، فشكر محمد علي وخرج يريد الركوب، ولكن عسكره - بإيعاز سري سابق منه - أوقفوه، وطلبوا منه العلوفة، فقال لهم: «ها هو الباشا عندكم فطالبوه!» وركب وذهب إلى داره بالأزبكية، وهو ينثر الذهب في الطريق، فأحاط العسكر بخورشد باشا، ومنعوه من الخروج أو يدفع المرتبات. وأشيع في المدينة أنهم حبسوه، ففرح الناس وباتوا مسرورين.
ولكنه تمكن في الليل من الصعود إلى القلعة، وفي الصباح التالي - لخوفه من أن ينضم الدلاة إلى الأرناؤوط في المطالبة بالعلوفة؛ فلا يبقى له نصير - بعث إليهم يبيح لهم نهب مديرية القليوبية ليحصلوا منها مطلوباتهم، فعاث الدلاة في البلاد فسادا، وارتكبوا من المنكرات ما لا يتصوره عقل.
نامعلوم صفحہ
فطفحت بالناس الكأس، فركب المشايخ إلى بيت القاضي واجتمع فيه عدد عظيم جدا من المتعممين والعامة والأولاد، حتى غصت بهم الدار، وامتلأ بهم صحنها، وصرخ الجميع: «شرع الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم!» وطلبوا من القاضي أن يرسل بإحضار المتكلمين في الدولة إلى مجلس الشرع، فلما حضروا واستقر بهم المكان، قر الرأي على كتابة عريضة بالشكاوي والمطالب إلى الوالي، فكتبت ورفعت إليه، فأجاب يستدعي القاضي ونقيب الأشراف والعلماء إليه في القلعة ليشاورهم في الأمر، فغلب على ظنهم أنها خديعة منه. وحضر بعد ذلك من أخبرهم - ولا ندري مقدار ما كان في أخباره من الصدق - أن الوالي أعد أشخاصا لاغتيالهم في الطريق، فتملكهم الغيظ والحنق. وفي الغد - وكان يوم 14 مايو سنة 1805 - ركب الجميع ساعة العصر وذهبوا إلى محمد علي، وقالوا له: «إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا، ولا بد من عزله من الولاية!» فقال: «ومن تريدون أن تولوا مكانه؟» قالوا: «لا نرضى إلا بك واليا، لما نتوسمه فيك من العدالة والخير!»
فامتنع أولا؛ لكيلا يقال إنه هو المحرض، ولكنه - أمام إلحاح القوم - رضي، فأحضروا له كركا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر مكرم - نقيب الأشراف - والشيخ الشرقاوي، فألبساه إياه. ونادوا بذلك في المدينة، فاستبشرت وهللت، ثم أرسلوا الخبر إلى خورشد باشا وطلبوا إليه اعتزال الأمر فأجاب: «أنا مولى من طرف السلطان، فلا أعزل بأمر الفلاحين، ولا أنزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة!» وشرع يستعد للمقاومة، وانضم إليه فيها زعيمان ألبانيان: عمر بك وصالح أغا أق قوش، حسدا منهما وغيرة من محمد علي، وأخذ ثلاثتهم يخابرون حسن باشا، زميل محمد علي ليحملوه على التحيز لهم، وكتب خورشد إلى سلحداره في المنيا يستنجده، وإلى المماليك يدعوهم إلى محالفته، وإلى الدلاة يأمرهم بالإسراع إلى الالتفاف حوله.
فاضطر محمد علي إلى محاصرة القلعة من كل جهة، بينما السيد عمر مكرم والمشايخ، ومعهم الكثير من العامة والوجاقلية يحافظون على المدينة بأسلحة وعصي ونبابيت، بعد أن حرروا إعلاما وقعه المفتي بشرعية الحركة، فرأى خورشد أن يرسل عمر بك إلى السيد عمر مكرم ليحمله، هو والعلماء، على العدول عما هم فيه، فدارت بين العمرين مناقشة طويلة، من جملتها أن عمر بك قال: «كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم، وقد قال الله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم؟» فقال النقيب: «أولي الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وصاحبك رجل ظالم، وجرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور.» قال عمر بك: «كيف تحصروننا وتمنعون عنا الماء والأكل وتقاتلوننا؟! أنحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟!» قال النقيب: «نعم؛ فقد أفتى العلماء والقاضي بجواز قتالكم ومحاربتكم، لأنكم عصاة!» قال عمر بك: «إن القاضي هذا كافر!» - وكان تركيا مثلهم، ومعينا من قبل السلطان - فقال النقيب: «إذا كان قاضيكم كافرا فكيف بكم؟!» فأفحم عمر بك وعاد من حيث أتى.
وزاد التشديد في الحصار، ثم أتى في الأيام التالية كبار الدلاة إلى محمد علي واعترفوا بولايته، وأعلنوا انفضاضهم بتاتا عن خورشد، وهو الذي كان أحضرهم ليستعين بهم على محمد علي وألبانييه، فما كان أحراه بترديد قول الشاعر:
وأعوان تخذتهم دروعا
فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائبات
فكانوها، ولكن في فؤادي
فخلع عليهم محمد علي خلعا وكساوي، وارتحلوا بقصد الذهاب إلى محاربة الألفي وأتباعه، والعرب الذين معه، ولكنهم لم يذهبوا إلى ما وجهوا إليه، وساروا إلى البلاد والقرى ينهبون ويقتلون ويفسقون.
وفي 9 يوليو وصل إلى مصر كابجي من دار السعادة، وكان محمد علي منذ أن قبل الولاية، قد بعث بالهدايا النفيسة إلى رجالها، ليحملهم على إقرار ما فعله علماء مصر، فبعد أن تردد الديوان كثيرا وماطل كثيرا، انقاد في نهاية الأمر إلى نصائح السفير الفرنساوي هناك (وكان قد أوصاه بمحمد علي خيرا القنصل الفرنساوي بمصر واسمه ماتييه دي لسبس، وهو أبو فردينان دي لسبس صاحب قناة السويس) واتخذ عبرة من المصاعب التي قامت حتى تلك الساعة دون أن تستتب في مصر سلطة الباشاوات المرسلين إليها من الأستانة، أو المعينين منها مباشرة، فصدق على اختيار الشعب، وأرسل مرسوما مع ذلك الكابجي بتأييد محمد علي على ولاية مصر، وعزل خورشد باشا، وتسفيره إلى الإسكندرية مكرما حتى يتعين على ولاية أخرى.
نامعلوم صفحہ
فأرسلت صورة من المرسوم إلى خورشد باشا، فأجاب بأنه والي مصر بمقتضى خط شريف وأنه لا يعزل إلا بخط شريف، ولكنه مع ذلك أبطل إطلاق النار من القلعة، وطلب مقابلة مندوب الباب العالي فرفض.
فعاد خورشد إلى مفاوضة المماليك، وكان سلحداره قد رجع من المنيا، فاتفق الجميع معا على عمل مشترك يقلبون به مجن الدهر في وجوه أعدائهم.
ولكن محمد علي كان يقظا، فبرز للمماليك وردهم على أعقابهم، ثم تحول إلى سلحداره خورشد فأدبه، وضيق أهل البلد الخناق على الباشا المعزول، وكان أشدهم عليه وطأة رجل من جهة السيدة عائشة يقال له حجاج الخضري، اشتهر بالبسالة والإقدام منذ أيام الفرنساويين .
وبينما الحرب دائرة سجالا ورد نبأ بقدوم عمارة القبطان باشا إلى أبي قير في يوم 17 يوليو تحمل ألفين وخمسمائة مقاتل، وتلا النبأ قدوم سلحدار القبطان باشا نفسه، ومعه مكاتبة إلى خورشد باشا، مضمونها الأمر له بالنزول من القلعة، ساعة وصول الخطاب إليه، من غير تأخير، ومكاتبة إلى محمد علي بتثبيته في مركزه.
فلما اجتمع السلحدار بخورشد باشا في القلعة أذعن خورشد للأمر، ووعد بالرحيل، على أن تدفع مرتبات من خدمه من الزعماء والجند، ولكنه عاد فأخلف وعده، وأخرج من بالقلعة من النساء والأولاد، واحتفظ بالرجال، وبالاتفاق مع سلحداره والمماليك، أثار نار معركة جديدة، ولكن محمد علي أطفأها بسرعة، وأخذ احتياطاته لمنع تجديد مثلها.
فرأى سلحدار القبطان باشا والكابجي أن عدم تتميم المهمة التي حضرا من أجلها ينقصهما جدا فعادا إلى الاجتماع بخورشد وما زالا به حتى أقنعاه بوجوب التسليم والإذعان فقبل، فصعد في 3 أغسطس سنة 1803 حسن أغا سار ششمه محمد علي بجملة من العساكر إلى القلعة، وتسلمها من خورشد، ونزل الباشا المخلوع من باب الجبل في الساعة الرابعة على الحساب العربي من صباح اليوم التالي، إلى جهة باب النصر، ومر من خارجه إلى جهة الخروبي، وذهب إلى بولاق يصحبه كتخدا محمد علي وعمر بك وصالح أغا أق قوش، وفي 9 أغسطس ركب سفنا من بولاق، وارتحل إلى رشيد.
فكان آخر وال عثماني على مصر تأتيه الأوامر من الأستانة رأسا، وخلا الجو منه لمحمد علي، فجلس بدله على سدة الولاية. •••
وهكذا صدق قول الشيخ الوقور له، وأوصلته الطريق الطويلة الوعرة التي سلكها - عملا بنصيحته - إلى ذروة المعالي.
الفصل الثالث
العمل على الثبوت فوق القمة
نامعلوم صفحہ
ولكنه ما استوى على سدة الولاية إلا ووجدها خشبا يبسا كله شظايا، ووجد أن شوك المصاعب يكتنفها من كل صوب، وجيش الهموم يزدحم حوله من كل باب، فأيقن أن الصعوبات التي اجتازها للوصول إلى السدة لم تكن شيئا بجانب التي يلزمه التغلب عليها للثبوت فوق القمة، وأن أقل خطوة مخطئة يخطوها تدهوره حتما إلى الأعماق.
الدكتور كلوت بك .
فأقام لحظة يتبصر في أمره، ويتفرس مليا بالصعاب المحيطة به، فإذا هي:
أولا:
عدم خلوص نية الباب العالي من جهته ومبدأ الديوان القاضي بعدم إبقاء وال على كرسي ولاية مصر أكثر من سنة.
ثانيا:
قيام الدسائس البريطانية حوله، وسعي إنجلترا سعيا حثيثا سرا وجهارا لإسقاطه وتسليم القطر المصري إلى المماليك.
ثالثا:
نزوع جنده إلى الثورات بين حين وحين تحت تأثير شتى المؤثرات.
رابعا:
نامعلوم صفحہ
قيام المماليك عليه، لرغبتهم في الانتقام منه، وفي العودة إلى منصة الأحكام.
خامسا وأخيرا:
عدم التمكن من التغلب على هذه الصعاب الأربع إلا بالمال، وعدم وجود المال في خزائنه، ووجوب الحصول عليه بدون تنفير قلوب الناس منه.
أما عدم خلوص نية الباب العالي من جهة، فإنه ظهر جليا في سلوك القبطان باشا التالي لما بدا منه في تثبيت محمد علي على سدة خورشد، فإن القبطان باشا هذا لم يبرح الإسكندرية بعد انقضاء مهمته وأقام فيها كأنه - عملا بأوامر سرية - متربص للطوارئ، فكاتبه محمد بك الألفي، وعرض عليه أن يضم مماليكه إلى قوى سلحدار خورشد باشا - وكان لا يزال في الجيزة ويأبى الاعتراف بولاية محمد علي - وإلى الألفين والخمسمائة مقاتل الذين حضر بهم القبطان باشا نفسه، وأن يزحف الجميع إلى القاهرة، فيستخلصوها من يد محمد علي، ويطردوا الألبانيين من القطر، وعضد الإنجليز مقترحات صديقهم الألفي بك، ووعدوا بالمساعدة والمال، وأومضوا بريق وعيد يؤخذ منه أن بريطانيا العظمى - إذا أهمل القبطان باشا إجابة طلب الألفي - قد تنزل جيشا إلى الساحل يعمل بالاتحاد مع المماليك على التخلص من محمد علي.
ولكن الفرنساويين - لعدائهم للإنجليز - أفهموا القبطان باشا أنه إذا انصاع إلى محرضات الألفي، وعمل باقتراحاته، أساء إلى دولته إساءة كبرى، وأساء إلى مصر إساءة أكبر؛ لأن الحوادث الماضية دلت دلالة صريحة على أن محمد علي خير من يصح الاعتماد عليه في تنظيم الأمور في القطر، لما بدا من عزمه وحزمه ومتانة أخلاقه، وبلغ من التحيز الفرنساوي لبطلنا أن السفير الفرنساوي في الأستانة بتأثير كتابات القنصلين الفرنساويين في القطر المصري - ماتييه دي لسبس ودروفتي - ما فتئ يلح على رجال الديوان بوجوب عدم التعرض لمحمد علي بسوء، لا سيما وأنه محبوب من العلماء والعامة، وأنه آخذ في تجهيز مهمات حملة ضد الوهابيين، أعداء السلطنة والدين.
ولم يتوان محمد علي من جهته، ولعلمه بما للهدايا من التأثير الكبير في نفوس رجال تركيا؛ عن غمر القبطان باشا ورجال الديوان بها.
أما القبطان باشا، فإنه أمام هذه المؤثرات المختلفة، أقام مترددا مدة، فاغتنمها محمد علي للقضاء على سلحدار خورشد باشا، واضطراره إلى التسليم، والتخلي عن جنده ومهماته، واللحاق بمفرده بخورشد باشا مولاه في الإسكندرية، وأما الأستانة فإنها أصاخت سمعا إلى أقوال السفير الفرنساوي، وطابت قلبا لهدايا محمد علي مرة أخرى، فأرسلت إلى القبطان باشا تأمره بالعودة إلى مياه البوسفور بعمارته، فأقلع الرجل في 28 أكتوبر سنة 1805 وأخذ معه خورشد باشا، وقد قال بعض المؤرخين إنهم وجدوا في مذكرات هذا القبطان ورقة كتب عليها ما يأتي، مشيرا إلى محمد علي: «إني أترك خلفي رجلا سوف يصبح يوما ما أكبر متمرد على الدولة العلية، وأن سلاطيننا لم يوفقوا البتة إلى سياسي داهية كهذا، ولا إلى رجل قوي العزم والحزم مثله!»
سليمان باشا الفرنساوي.
وأما مبدأ الباب العالي في عدم إبقاء وال على مصر أكثر من سنة، فإنه تجلى في ظهور عمارة عثمانية في ميناء الإسكندرية في أول يوليو التالي، تحت قيادة أمير بحر غير السابق، وعليها ثلاثة آلاف جندي من جنود النظام الجديد وموسى باشا والي سلانيك المعين خليفة لمحمد علي، وما استقر المقام في الثغر لأمير تلك العمارة، إلا وأرسل رسولا بفرمان من الباب العالي إلى محمد علي يأمره فيه بالتخلي عن ولايته إلى موسى باشا، والذهاب لتولي ولاية سلانيك مكانه.
فأظهر محمد علي رغبته في الامتثال، وأرسل مع الكابجي رسولا إلى القبطان باشا يقول له إن جل رغبة مولاه الابتعاد عن قطر الفتن فيه معششة ومفرخة، ولكن الجنود - ولهم متأخرات يبلغ مقدارها عشرين ألف كيس - يمانعون في ارتحاله، ولكي يظهر أن قوله هذا حقيقة لا إيهام ، جعل عسكرا يرافقونه أينما يتنقل، ويطالبونه بعلوفاتهم جهارا، ثم أراد أن يتأكد من نفسية قواده، ومقدار عطفها عليه، فجمعهم وقال لهم إنه مستعد للخضوع والطاعة والسفر، فهتف جميعهم: «ولكنا لا نسمح لك بذلك البتة!» فقال محمد علي بحماسة: «أوكيف؟ أتريدون منعي من تنفيذ الأوامر التي صدرت إلي، وليس في استطاعتكم المدافعة إذا ما هوجمنا؟! فجنودكم لا تفتأ عابثة بالنظام، فاتكة بالأهالي، ملحة علي في كل حين بإعطائها أجورها، وأنتم رؤساؤهم وقوادهم، أتدرون كيف تعملون على إبقائهم في حدود الواجب؟ وألا تفضلون لذات الراحة ونعيمها على مشقات الحروب وأخطارها؟! أنتم تتمتعون بهناء بالأموال التي جمعتموها، وأنا وحدي هدف لضربات الأعداء، وأنوء وحدي بعبء الأمور الثقيل، فإذا شئتم أن أبقى معكم، رفيقا أمينا وزميلا صادقا، مثلما كنت في الماضي، فأقسموا لي على القرآن الشريف بأنكم لن تتركوني ولن تتخلوا عني، وأنكم تموتون إذا اقتضت الحال في سبيل قضية هي قضيتنا جميعا!»
نامعلوم صفحہ
فألهبت هذه الخطبة الوجيزة البليغة أفئدة جميع الحاضرين - وكانوا أكثر من سبعين زعيما - فأقسموا في الحال القسم المطلوب منهم، ولكي يجعلوه مقدسا قداسة لا يتمكن أحد معها من العبث به - مهما اشتدت صروف الليالي - أحاطوه بسياج، عادة ألبانية قديمة: فأمسك اثنان منهم - وكانا أكبر الموجودين سنا - حسام محمد علي من طرفيه ومداه، فمر الجميع فوقه واحدا بعد الآخر، ولم يكن يمكن بعد ذلك - إلا للموت - أن يحل عروة تعهد عقدت بمثل هذا الشكل.
ثم أقدم الحضور على اكتتاب فيما بينهم، فجمعوا - من وقتهم - ألفي كيس سلموها إلى محمد علي، وسرعان ما أرسل هذا رسولا من قبله إلى الأستانة بالتحاويل السمينة، وسرعان ما جد بعد ذلك في تجهيزاته الحربية.
ثم جمع العلماء وعلى رأسهم السيد عمر النقيب والشيخ عبد الله الشرقاوي، وفاوضهم في الأمر، فأجمع رأيهم على إرسال كتابة إلى الباب العالي يشرحون له الحال، ويعرضون بالأمراء المماليك بجارح الكلام، ويحبذون أعمال محمد علي، ولكن بكياسة لا تجعل مجالا للاعتقاد بأن الكتابة موحى بها منه، ثم إذ أتاهم كتاب من القبطان باشا يعرفهم فيه بما قر عليه رأي الديوان، سألوا محمد علي عما يجب أن تكون إجابتهم عليه، فقال لهم: «سأرسل إليكم غدا بصورة الرد.» وفي اليوم التالي أرسلها إليهم فنسخوها، وإذا بها تقول للقبطان باشا إن الجند قد لا يطيعون أميرهم، وقد يثورون إذا علموا باضطراره إلى الرحيل، فيعبثون بالأمن والنساء، وسموه رحيم لا يرضى بذلك.
فاتضح من هذا جميعه أن محمد علي مصمم عل عدم تنفيذ أوامر الديوان، وأن لا شيء يحوله عن تصميمه، وفاتح - هو نفسه - بعض أخصائه في الأمر، فقال لهم: «أيظنون أن مصر دار حمام مفتوحة يدخلها من يشاء؟ إني قد اكتسبتها بحد حسامي! ولن أتخلى عنها إلا مكرها بقوة السلاح، أنا أعرف الأتراك؛ هم قوم يبيعون أنفسهم إذا وجدوا من يشتريها، فأنا سأشتريها، قد فزت بالولاية العام الماضي وأنا على رأس خمسمائة جندي فقط مقلقلي العزم، أفأتخلى عنها اليوم ولدي ألف وخمسمائة بطل كلهم ولاء لي؟!»
وبينما موسى باشا على ظهر سفينة يلح على القبطان باشا بتنفيذ أوامر الديوان، وبينما القنصل البريطاني بالإسكندرية يهتم اهتماما فائقا لحمل القبطان على العمل، ويرسم له خططا للهجوم، ويجند أرواما وإيطاليين في الإسكندرية ويرسلهم مددا إلى الألفي الذي كان في ذلك الوقت يحاصر دمنهور، ويجتهد في تفهيم محمد علي بأن إنجلترا تضمن له البقاء واليا على سلانيك إذا هو رضي بالذهاب إليها، وبينما الألفي - وكان قد وعد الأستانة بألف وخمسمائة كيس، بضمانة الخزينة البريطانية، إذا هي أخرجت محمد علي من مصر - يجد لحمل باقي الأمراء على الاشتراك معه في دفعها ولا يفلح؛ أقبل قنصل فرنسا يضع الألغام تحت مساعي زميله القنصل البريطاني، ويحول إلى محمد علي خدمة خمسة وعشرين مملوكا فرنساويا كانوا تحت لواء الألفي، وما فتئ يؤكد للسفير الفرنساوي في الأستانة أن محمد علي صديق صدوق لفرنسا، وأن بقاءه واليا على مصر يتفق دون وجود سواه - أيا كان - مع المصالح الفرنساوية في القطر، وأقبل السفير الفرنساوي في الأستانة يعضد مساعي الرسول الذي أرسله محمد علي إليها بالحوالات السمينة ، ويعضدها بكل النفوذ الذي كان يستمده من مولاه ناپوليون الأول، صاحب الكلمة العليا في أوروبا، بعد أن قهر النمساويين والروس في وقعة اوسترلتز سنة 1805.
فبعث الديوان إلى القبطان باشا يكل إليه التصرف المطلق في الأمر، وكان القبطان باشا قد أرسل مندوبا إلى الألفي ليأتيه بالألف والخمسمائة كيس السابق ذكرها، فعاد المندوب إليه وقال: «إن الأمير محمد بك الألفي، لعدم تمكنه من الاتفاق مع زملائه على أن يقوموا جميعهم بدفع ذلك المبلغ، يعرض على سموكم أن تقبلوا منه وحده خمسمائة كيس!» فاستشاط القبطان غيظا وقال: «أيظن هذا الرجل أن لحية الصدر الأعظم ولحيتي هزأة؟!» وأقبل في الحال على مخابرة محمد علي في اتفاق يبرمانه.
فاستقر الرأي على أن يدفع محمد علي أربعة آلاف كيس، وأن الديوان والقبطان يبقيانه مقابل ذلك في منصبه، على أن يعود العلماء والأعيان إلى التماس ذلك بعريضة؛ لكيلا يقال إن ذمة الديوان اشتريت، فكتب العلماء والأعيان العريضة وسافر إبراهيم بك ابن الوالي الأكبر بها وبهدايا فاخرة إلى أمير البحر، وبقي رهينة حتى يفي أبوه بتعهده المالي، وأرسل القبطان باشا كتخداه إلى القاهرة بالمرسوم المثبت محمد علي في ولايته، على أن يمتنع عن محاربة المماليك ويتصالح معهم، ففرحت القاهرة ثلاثة أيام متواليات.
وأقلع القبطان باشا في اليوم الثالث من أكتوبر بعمارته، وعاد بموسى باشا والي سلانيك من حيث أتى به، وفي 2 نوفمبر - وكان محمد علي قد دفع الأربعة آلاف كيس - قدم كابدجي من الأستانة بفرمانين: أحدهما يقر محمد علي على سدته، والثاني يأمره بتسفير الحج والمحمل وإرسال ستة آلاف إردب بر إلى جدة.
واستمر الأمر كذلك من دفع أموال سنويا، وتثبيت سنوي، حتى استتبت قدما محمد علي، وأصبح مركزه في مأمن من تقلبات أهواء الديوان. •••
على أنه لم يثبت في مأمن من دسائسه ومكائده إلا بعد أن قضى كتخداه محمد بك لازوغلو على لطيف باشا، آخر من استعمله الديوان لاستخلاص مصر من يدي محمد علي.
نامعلوم صفحہ