وكانت شهرة ما بذله وما لم يكن يفتأ يبذله من الجهود في سبيل النهضة القومية والعلمية في بلاده وفي سوريا، قد جعلت أكاديميات أوربا ومعاهدها وأوساطها الأدبية تكبر من شأنه، وتتحدث بآلائه، فرأت الأكاديميات الألمانية - قبل الجميع - أن تتشرف بإدماجه في عضوية هيآتها، فبعثت إليه بالبراءات المنبئة بذلك، والتمست ألا يبخل عليها بإنالتها الفخر الذي كانت راغبة فيه، وما لبثت باقي الأكاديميات الأوربية الهامة أن اقتدت بها.
ورأى السلطان عبد المجيد أن يشرف نفسه بإظهار حقيقة تقديره لرجل الشرق الإسلامي المعاصر الأكبر، بالرغم من أنه قاتل دولته، وكاد يقضي عليها، فقرر رفعه إلى رتبة الصدارة العظمى وتقليده وسامها ما دام حيا، وأرسل إليه بذلك خطا شريفا، ودعاه لزيارته في الأستانة.
فلبى محمد علي الطلب، وبالرغم من أنه بات على أبواب الثمانين من عمره السعيد، ركب البحر، وذهب إلى دار السعادة، حيث قوبل بما لا يمكن وصفه من مظاهر التعظيم والإجلال، وحيث أنفق نيفا وعشرة ملايين من الفرنكات في أعمال البر والإحسان.
بعد أن أقام في ضيافة السلطان أياما - كان إبراهيم ابنه البطل المجيد، في خلالها يزور فرنسا، بعد أن زار إيطاليا، ويلقى من حفاوة الملك لويس فيليب والشعب الفرنساوي به ما يثلج صدره هناء، ثم ينتقل إلى زيارة إنجلترا وينزل ضيفا كريما على جلالة الملكة فكتوريا - أقلع محمد علي من الأستانة إلى قوله مسقط رأسه، وقضى فيها زمنا يستنشق هواء سني صبوته وحداثته وشبابه اليانع الأول، ويغدق على مواطنيه برا ظنوا معه أن العناية الإلهية زارتهم في شخص ذلك الشيخ الوقور الجليل.
ثم عاد إلى مصر، ولكنه لم يقم فيها إلا قليلا وشعر بداء في المعدة والأمعاء، فأشار عليه الأطباء بالذهاب إلى مالطا، للتطبب منه بتغيير الهواء، فذهب إليها مصطحبا معه أرتين بك يوسفيان والد يعقوب باشا أرتين الذي عرفناه وكيل وزارة المعارف في عهدنا هذا، وكان أرتين بك قد أخلف على ثقة محمد علي المتناهية، وزيره المخلص بوغوص بك يوسف.
ولكن تغيير الهواء لم يفد، بل زاد الداء استعصاء، وما لبث أن سرب خرفا إلى ذلك العقل السامي الذي كان نوره قد أضاء على قطرنا المصري نيفا وثماني وأربعين سنة.
فعاد الأمير إلى القطر، وقد هزلت قواه الجسدية والعقلية معا، فتسلم إبراهيم ابنه - البطل المغوار - زمام الأحكام، وزار - هو أيضا - الأستانة، لتقلد الأمر فيها على مصر رسميا، ولكنه - بعد أن عاد منها - لم يمكث على قيد الحياة إلا أياما معدودة، ولم تكمل ثلاثة شهور على قيامه على سدة أبيه إلا ووافاه أجله، فخلفه عباس الأول.
وكان محمد علي قد انزوى عن العالم، يقضي أيامه تارة في أعماق سراي رأس التين وطورا في شبرا، في الحديقة الغناء والقصر الجميل المنشأين هناك، لا يعلم بما يجري حوله من الأمور.
فلما كان صيف سنة 1849 غادر مصر القاهرة، للمرة الأخيرة، وذهب يستنشق هواء البحر الملح - بحر أيامه الأولى - في الإسكندرية، ولكن الأجل المحتوم وافاه في سراي رأس التين يوم 2 أغسطس، فوضع جسده في وسط قاعة فسيحة وغطي بالأكفان النفيسة، وقام ابنه محمد سعيد باشا يستقبل وفود المعزين، فمر القناصل والوجهاء أمام الجثة الراقدة المغطاة، ووقفوا مأخوذين أمامها يفكرون في عظمة الحياة التي انطفأ سراجها ومجدها، ويمرون بمخيلتهم على الحوادث العجيبة التي كان النفس الذي رحل بطلها!
ثم نقل ذلك الجسد المجيد إلى العاصمة ودفن في المسجد الرخامي المرمري الذي أنشأه محمد علي على جبهة قلعة الجبل، وهو راقد هناك إلى يومنا هذا يشرف من علاه على القطر المصري برمته، ومن يدريني أن روحه لا تأتي أحيانا فتزور ذلك المكان - كاعتقاد المصريين القدماء - وتبارك من ذلك المقام الرفيع البلاد بأسرها!
نامعلوم صفحہ