ألق أيها القارئ نظرة على خريطة شبه جزيرة البلقان تر في جنوب إقليم مكدونيا، على ضفاف خليج كونتسا، من جهته الشمالية، ما بين نهري الهبرو والستريمون المكتنفين سهل «سرس»، وعند نهاية هذا السهل صخرة تلج البحر كأنها فرس جمحت براكبها، فلما توسطت الماء أفاقت إلى نفسها، فوقفت تتفكر.
وقف أنت أيضا متفكرا، فإنك إنما ترى أرضا تزدحم فيها تذكارات التاريخ؛ فمكدونيا وطن الإسكندر الأكبر، أول من جمع العالم القديم المعروف تحت لوائه، وساسه بصولجانه، ووطن البطالسة الفخام، خلفاء ذلك البطل العظيم على عرش مصر ومؤسسي مدرسة الإسكندرية العلمية الفلسفية ومكتبتها النفيسة، التي قضت عليها يد الأقدار، فيد الحمق الديني، وفي سهل «سرس» بتت معركة فيلپي في مصير العالم الروماني، ففاز فيها أنطونيس وأكتاڨيس (العاملان - تحت ستار الانتقام لقيصر والثأر لمقتله - على الاستئثار بالأمر لنفسيهما) على بروتس وكسيس، آخري الرومانيين والمدافعين عن الحقوق الجمهورية، ولم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة التي انحازت الأقدار فيها إلى جانب الباطل، ونصرته على الحق؛ فالأقدار عمياء القلب، ووقوفها في غالب الأحيان مؤازرة للغشمرية، علة من العلل الكبرى التي تجعل تقدم البشرية نحو الكمال بطيئا، كثير الاضطراب. •••
على تلك الصخرة الفرسية الشكل أقيمت منذ القدم مدينة صغيرة، ما مر بها الإسكندر الأكبر ورأى شكل قاعدتها؛ إلا وأبدل اسمها (جالپسو) باسم بوسيفلا نسبة لبوسفلس، جواده الشهير.
فبقيت معروفة بهذا الاسم، المذكر بالمكدوني العظيم، حتى وردها البندقيون، فينيقيو الأعصر الوسطى، وهم يجولون رايتهم التجارية الاستعمارية على سواحل بحر الأرخبيل، فلما رأوا هم أيضا شكلها - وكانوا كفينيقيي القدم - لا يهتمون لمفاخر التاريخ وتذكاراته ولا يعنون إلا بالاتجار وأرباحه، أطلقوا عليها اسم «لاكافالا»؛ أي الفرس باللغة الإيطالية، واتخذوها مستودعا لبضائعهم، فلما آلت إلى حكم الأتراك حرفوا الاسم وجعلوه «قوله». •••
في هذه المدينة، وفي سنة من أخصب سني التاريخ البشري برجال عظام، ولد محمد علي الباشا الكبير مؤسس الأسرة العلوية الكريمة، وخليفة الإسكندر والبطالسة مواطنيه، على عرش مصر السني.
إن التاريخ لا يدري بالتمام في أي يوم من أي شهر ولد؛ لأن العادة الحميدة - عادة تقييد المواليد في سجلات رسمية مدنية - لم يعرفها الشرق إلا قبيل أيامنا هذه، بفضل عواهل الأسرة المصرية النبيلة، ولكنه يعرف أنه ولد في سنة 1769؛ لأنه هو نفسه أكد ذلك فيما بعد.
وكأني بالعناية الإلهية قصدت غرضا معينا لديها في أنها أنبتته في السنة عينها التي تشرفت بمولد
Cuvier ؛ العالم الفرنساوي الذي اكتشف من مكنونات الطبيعيات أكثر مما اكتشفه كولمبس من مجهول البلدان، و
Humboldt ؛ العالم الألماني، منشئ علم الجغرافيا النباتية وعلم المناخ المقارن، وشاتو بريان؛ الكاتب الفرنساوي البليغ الناثر نثرا أعذب من الشعر، صاحب كتاب «رينيه» و«أتلا» و«كتاب الشهداء» وكتاب «آخر بني سراج»، وولتر سكت؛ الشاعر الإسكتلندي، صاحب الروايات التاريخية الممتعة، التي تلذذ كل منا بمطالعتها في صباه، ومن أهمها «إيفانهو» و«الطلسم»، وهذه الأخيرة هي المنجم الذي أخذ منه فقيد العلم والأدب، المرحوم الشيخ نجيب الحداد روايته التمثيلية الشهيرة المسماة «صلاح الدين الأيوبي»، وشلر؛ الشاعر الألماني الأكبر ذي الروح الأبية الزكية والشعور الرقيق، صاحب رواية «غليوم تل»، منقذ سويسرا من الاسترقاق النمساوي، ورواية «عذراء أورليان»، منقذة فرنسا من الاسترقاق الإنجليزي، وولنجتن؛ القائد البريطاني السعيد الطالع، الذي كتبت له الأقدار الفوز على ناپوليون في واقعة واترلو، وناپوليون، وكفى باسمه تعريفا.
ويلوح لنا أن الغرض المعين الذي قصدته العناية الإلهية من جعلها مولد محمد علي في سنة ميلاد جميع هؤلاء الأعاظم هو أن يرى الشرق في شخصه وفي أعمال حياته مجموعة مصغرة للمجهودات والأعمال التي سجلها التاريخ لأولئك النوابغ، كما سنرى ذلك في حينه. •••
نامعلوم صفحہ