وكان الجنرال فريزر في الأثناء - لرغبته في الثأر لشرف الجيش البريطاني - قد سير حملة أخرى إلى رشيد مؤلفة من أربعة آلاف رجل تحت قيادة الجنرال ستيورت، فاستولت على حماد، وأقامت على آكام أبي مندور بطاريتين، أخذتا تطلقان قنابلهما على المدينة، وإذا بالفرقة التي يقودها حسن باشا ظهرت أمام الجيش البريطاني، وانفصلت منها قوة مؤلفة من مشاة وفرسان وهاجمت حماد، فردت على أعقابها، ولكن بلكا من البلكات الخمسة الإنجليزية التي صدتها تاه وهو يتعقب أثر المرتدين وضل عن رفاقه، فلما رآه فرسان الترك والألبان بعيدا عن معسكره كروا عليه وأحاطوا به، وقتلوا عشرين من رجاله، وأسروا خمسة عشر، ثم قطعوا رؤوس المقتولين والجرحى، وذهبوا بها - علامة لنصرهم - إلى بونيال، حيث كان قد وصل الكتخدا وعسكره، فقام في الحال بفرقته، وانضم إلى فرقة حسن باشا، وسار بجنده مجموعا واجتاز به النيل، وأقامه على بعد فرسخ فوق معسكر الجيش الإنجليزي.
فأول ما علم الميجر ووجلسند، قائد القوات البريطانية في حماد بهذه الحركة، بعث إلى الجنرال ستيورت يطلب منه مددا، فأمر هذا الكرنل مكلود بالذهاب مع خمسة بلكات لنجدته، ولما كان يوم 22 أبريل، تحرك الترك في الساعة السابعة صباحا، وتقدموا للهجوم، فرأى الكرنل مكلود أن مركزه غير أمين، فانسحب إلى بحيرة إدكو، وأضاف إلى هذه الغلطة غلطة تقسيم قوته إلى ثلاثة أقسام، كل واحد منها بعيد جدا عن الآخر، فهاجم فرسان الترك بعنف يمنة هذه القوى، وداسوا تحت حوافر جيادهم مائتي رجل كانوا هناك تحت قيادة الميجر مور، وأسروا قائدهم هذا، ثم تعدوا إلى القلب، فنظم الكرنل مكلود مائة اسكتلندي مربعا، وقاوم المهاجمين ببسالة، وأبعدهم عنه، فلما رأت مشاة الأتراك ذلك، أسرعت إلى نجدة الفرسان، فرأى مكلود أن يعمل على الاقتراب من الميجر ووجلسند، ولكنه أصيب إذ ذاك بجرح مميت في رأسه، فقام مكانه يوزباشي يقال له ميكاي وحاول إتمام الحركة المرغوب فيها، ولذلك غير نظام الجند من مربع إلى كتيبة عمودية، فما رأى الفرسان ذلك إلا وتدفقوا عليها كالسيل الجارف وأعدموها ما عدا سبعة من رجالها واليوزباشي؛ فإنهم تمكنوا من الانضمام إلى ووجلسند، حينئذ تجمهرت قوى الأتراك كلها، وانقلبت على هذا الأخير، وكان - مع بلكاته الخمسة ومدفع واحد فقط - مقيما على منخفض من الأرض تحيط به آكام رمل، فلم يستطع المقاومة بفائدة، واضطر عقب قتال عنيف، وبعد أن فقد نصف رجاله، إلى تسليم سلاحه.
فلما نظر الجنرال ستيورت ما آل إليه القتال، لم ير أن في استطاعته البقاء في مركزه، واعتبر الانسحاب الوسيلة الوحيدة للنجاة، فأمر به، بعد أن أتلف ذخيرته وسمر مدافعه، وما زال يرتد، والجيش التركي يتعقبه، حتى بلغ خليج أبي قير، حيث كانت في انتظاره مراكب عادت به إلى الإسكندرية، هكذا فاز نجم محمد علي على نجم بريطانيا العظمى في ذلك اليوم! وكان فوزا مبينا، أثبته لشعب القاهرة وصول خمسمائة أسير إنجليزي، ومرورهم منهوكي القوى، لاهثين ظمأ أمام رؤوس رفاقهم المشكوكة على الحراب في الأزبكية!
بعد هذه الكسرة لم تقم للحملة الإنجليزية قائمة، فإن الجنرال فريزر اكتفى بفصل الإسكندرية عن باقي القطر، بقطعه حاجز بحيرة مريوط، وأقام ينتظر ما تسفر عنه مفاوضات رسل أرسلهم إلى المماليك ليذكرهم بوعود الألفي، ويحضهم على الانضمام إليه، لاسترجاع الأحكام إلى أيديهم، كما كانت قبل الحملة الفرنساوية، ولكن المماليك، لما علموا ما أصاب الإنجليز من فشل، صموا آذانهم عن سماع ذلك الحض، وأظهروا للرسول كبير اندهاشهم من أن جندا كالأتراك والألبان لم يكونوا - هم المماليك - يعبئون بهم؛ يفوزون مثل ذاك الفوز البين على جنود أوربية منظمة، فلم يبق للجنرال فريزر سوى الانسحاب، وبينما محمد علي يتأهب للزحف إليه بثلاثة آلاف من المشاة وألف فارس بمدفعية جيدة، أتاه من لدنه مندوب ليفاوضه في شأن الجلاء عن الإسكندرية، وكان ذلك بأمر من الوزارة البريطانية، اضطرت إلى إصداره على أثر عقد معاهدة تلست بين ناپوليون وإسكندر إمبراطور الروس، وتفرغ ناپوليون لقتال الإنجليز في صقاليا.
فقال محمد علي للمندوب إنه قائم بنفسه للاقتراب من الجنرال فريزر ومفاوضته مباشرة، وسار في الحال إلى دمنهور، حيث قابل الجنرال شربروك المرسل لملاقاته من الجنرال فريزر، فأبدى له طلبات الإنجليز، ولم تكن سوى التماس إعادة أسراهم إليهم، فأجابه محمد علي إلى ذلك، وأرسل يستدعي الأسرى من مصر، فلما وصلوا سلمهم إلى قوادهم، فاستعد الإنجليز للرحيل، وفي يوم 14 سبتمبر سنة 1807 أقلعت عمارتهم بهم، واستلم محمد أغا طبوز أوغلو الكتخدا مدينة الإسكندرية.
14 سبتمبر! ألا ليت شعري! من كان يدري أهل ذلك العصر - الفائزين والمهزومين على السواء - أن حملة إنجليزية أخرى سوف تقدم إلى البلاد بعد خمس وسبعين سنة، وتحتل عاصمتها وقلعتها في يوم 14 سبتمبر هذا عينه، فتقلبه من تذكار سنوي لنصر باهر إلى تذكار سنوي لخطب جلل يوجب احتجاجا دائما؟!
ولما علم محمد علي بانسحاب الإنجليز، ودخول جنوده الإسكندرية، أسرع إليها، ودخلها على دوي المدافع وفي وسط تهاليل الشعب ومظاهر ابتهاجه!
هكذا انقضت تلك الحملة الإنجليزية المشئومة الطالع، وهكذا زال عن محمد علي أكبر خطر هدد سلطته الناشئة، فهنأته الأستانة على فوزه، وأعادت إليه ابنه إبراهيم بك.
ولكن إنجلترا حفظتها له ضغينة، لم تنسها مدى الدهر. •••
وأما روح التمرد في العسكر، فإنه كان يكاد لا يفارق الجنود غير النظاميين البتة، وكان كل فوز يحرزونه ينميه فيهم نموا هائلا، وذلك بالرغم من أن محمد علي طهر عسكريته من الطوائف الأكثر نزوعا إلى العصيان، والعبث بالطمأنينة والأمن، (كالدلاة، مثلا، فإنه، بعد جلوسه على السدة بمدة يسيرة، صرفهم عن القطر، وكلف فرقة ألبانية بمرافقتهم حتى التخوم السورية، على أنهم لم ينجلوا إلا بعد أن نهبوا الوجه البحري نهبا مخيفا ترتعد له الفرائص لدى قراءة تفاصيله في الجبرتي)، وبالرغم من أنه لم يفتأ متيقظا لإخماد كل فتنة تبدو من الباقين، ولكبح جماح كل من تنكب عن جادة النظام العسكري، ليعكف على النهب والسلب، ولكن تيقظه هذا عينه كثيرا ما أثار حول سدته أنواء وأعاصير كادت تذهب بها، المرة تلو المرة.
نامعلوم صفحہ