فلما أحس المماليك بالقوى المتقدمة لقتالهم، أدركوا أن تفرقتهم ضارة بهم جدا، وأخذ عقلاؤهم يسعون إلى مصالحة البرديسي والألفي، واتفقوا على أن يتقابل هذان الزعيمان في جزيرة قبالة طرا، أقيمت فيها خيام لهذا الغرض، فأتاها البرديسي أولا، وما لبث أن نزل الألفي إليها أيضا. ولكنه لم يخط بضع خطوات فيها إلا ورأى على الشاطئ ثعبانا مقطوعا نصفين، فتطير وظن أن في الأمر خيانة وغدرا، وعاد من حيث أتى، فاستمر الشقاق بين المماليك على ما كان.
وفي الأثناء تقدمت فرقتا السلحدار ومحمد علي حتى بلغتا المنيا، وكانت في يد المماليك، فحاصرها القائدان الألبانيان ستة وخمسين يوما، واستوليا عليها بعد عناء شديد، وبعد عدة وقعات ظهرت فيها قلة جدارة السلحدار وكثرة كفاءة محمد علي.
على أنه بينما كانت القوات الألبانية تبلي هذا البلاء الجيد، كان خورشد باشا يسعى سعيا حثيثا - تساعده الأستانة فيه - إلى هدم كيان تلك القوات، وتفريقها أيدي سبأ، وذلك باستحضار قوات أخرى إلى القطر تحل فيه محلها. تلك القوات الجديدة كانت تعرف باسم الدلاة أو الدالتية أي المجانين بالتركية، وإنما سموا كذلك لشهرتهم بالبسالة المتناهية، وكان معظمهم أكرادا، سلاحهم سيف وطبنجتان وقرابينة، وكانوا يلبسون على رؤوسهم طراطير مخروطية الشكل من الجوخ الأسود طول الواحد منها عشرة قراريط، لا حافة له وتشده على الرأس عصابة.
فأحضر خورشد باشا ثلاثة آلاف منهم، ولما بلغه نبأ وصولهم إلى التخوم المصرية خرج بنفسه إلى مقابلتهم ودخل بهم القاهرة من باب النصر، فكانت باكورة أعمالهم أن انقضوا على السابلة وأرباب الدكاكين، فخطفوا النساء والمردان ونهبوا التجار، كأنهم إنما حضروا لهذا الغرض فقط. بعد ذلك طلبوا علوفاتهم ومرتباتهم بإلحاح ونعير لم ير الباشا معهما بدا من إجابتهم إلى طلبهم، ففرض على تجار كانوا منتظرين حرسا للذهاب إلى ينبع؛ خمسمائة كيس، لإعطائهم ذلك الحرس، وعلى اليهود مائة وعشرين كيسا، وألزم تجارة السويس بما وازى هذين المبلغين معا.
غير أن خبر وصول الدلاة ما بلغ محمد علي وهو في المنيا إلا وأدرك الباعث الذي حمل خورشد باشا على إحضارهم، فاتفق في الحال مع حسن باشا زميله، ونهض كلاهما، وسارا بجنودهما إلى القاهرة، فلما شاع خبر قدومهما اضطرب له خورشد اضطرابا عظيما، فبعث واستدعى إليه المشايخ ونقيب الأشراف والوجاقلية وأرباب الديوان، وقال لهم: «إن محمد علي وحسن باشا راجعان من قبلي من غير إذن، وطالبان شرا، فإما أن يعودا من حيث أتيا ويقاتلا المماليك، وإما أن يذهبا إلى بلادهما، أو أعطيهما ولايات ومناصب في غير أرض مصر ، فإن لدي أمرا من السلطان بذلك، فأطلب إليكم إذا أن تكونوا معي وتعضدوني.» فقر الاتفاق على أن يبيت عنده في القلعة كل ليلة اثنان من المتعممين واثنان من الوجاقلية، وصدر الأمر إلى الدلاة بالخروج بأسلحتهم ومدافعهم إلى ناحيتي طرا والجيزة للوقوف في وجه القادمين.
ففعلوا، ولكنهم لم يجسروا على التعرض لمحمد علي ومن معه. ولما أرسل محمد علي إليهم يقول لهم: «إننا إنما جئنا في طلب المرتبات ولسنا بالمخالفين ولا بالمعاندين.» وعزز قوله بالهدايا والتحف، قال الدلاة بعضهم لبعض: «إذا كان الأمر كذلك، فالقوم محقون فيما يعملون.» وأجابوا من أرسله خورشد لتأنيبهم على جبنهم وتساهلهم: «إذا كنتم تمنعون وتحاربون من يطلب حقه فكذلك تفعلون معنا، إذا خدمناكم زمنا، ثم طلبنا علائفنا!» واستمروا لا يبدون حراكا، فدخل محمد علي وزميله بجنودهما القاهرة ونزلا في بيتيهما.
فبلغت الفوضى حينذاك أقصاها؛ فأخلاط العسكر في مصر - ولا سيما الدالاتية - يأكلون الزرع والقوت، ويخطفون ما يجدونه مع الفلاحين والمارين، بل يخطفون النساء والأولاد. والمماليك في الأقاليم، وعند أبواب العاصمة ذاتها؛ يأخذون من البلاد الأموال والكلف عنوة واغتصابا. والعرب والبدو يغيرون على القرى وينهبونها، ويحرقون الأجران ويسبون النساء، ويضربون ويقتلون من يتعرض لهم بدفاع. وأسراب الأولاد الصغار يصرخون في أسواق القاهرة والمدن الأخرى، ويأمرون الناس بغلق الحوانيت، ويسبون المشايخ ويشتمونهم ويرجمونهم بالحجارة إذا ما صادفوهم في الشوارع، لاعتقاد الملأ أن المشايخ لو تجاسروا وأرادوا لتمكنوا من رفع تلك البلايا. والباشا لا يرى للأمور دواء إلا العمل على إخراج محمد علي وفرض الأموال على الناس، كأنه لا يكفيهم ما هم فيه من بلاء وشقاء.
فلإخراج محمد علي حمل الأستانة على تعيينه واليا على جدة. وكان محمد علي - منذ أن عاد إلى منزله - متظاهرا بالاعتدال التام، يتحبب إلى العلماء بما يحادثهم من محادثات عذبة، وما يشترك معهم فيه من تأدية فرائض الدين، ويزيد في اجتذاب قلوب الناس إليه بمنع كل تعد من جنوده الخاصة عليهم، ويقوي تعلق جنوده به ببذله لهم مرتباتهم في أوقاتها، وبمضاعفتها أحيانا.
فلما أتاه فرمان التولية على جدة تظاهر بقبول المنصب، ولكنه رفض ما دعاه إليه خورشد من الصعود إلى القلعة ليتقلده فيها. ومن يعلم كيف فتك خورشد هذا غدرا - بعد ذلك بنحو عشرين سنة - بعلي باشا تبلن والي ينينا؛ لا يسعه إلا أن يقر محمد علي على قلة ثقته به، وحتم عليه النزول إلى المدينة لقراءة الفرمان المنبئ بذلك في بيت شيخ وقور يقال له سعيد أغا، فنزل الوالي على مضض، وخلع على محمد علي، وألبسه فروة المنصب الجديد وقاووقه، فشكر محمد علي وخرج يريد الركوب، ولكن عسكره - بإيعاز سري سابق منه - أوقفوه، وطلبوا منه العلوفة، فقال لهم: «ها هو الباشا عندكم فطالبوه!» وركب وذهب إلى داره بالأزبكية، وهو ينثر الذهب في الطريق، فأحاط العسكر بخورشد باشا، ومنعوه من الخروج أو يدفع المرتبات. وأشيع في المدينة أنهم حبسوه، ففرح الناس وباتوا مسرورين.
ولكنه تمكن في الليل من الصعود إلى القلعة، وفي الصباح التالي - لخوفه من أن ينضم الدلاة إلى الأرناؤوط في المطالبة بالعلوفة؛ فلا يبقى له نصير - بعث إليهم يبيح لهم نهب مديرية القليوبية ليحصلوا منها مطلوباتهم، فعاث الدلاة في البلاد فسادا، وارتكبوا من المنكرات ما لا يتصوره عقل.
نامعلوم صفحہ