فنزل علي باشا إلى الإسكندرية في 8 يوليو سنة 1803 وأرسل أخاه سعيدا للاستيلاء على رشيد فتمكن سعيد من ذلك بخدعة، فزحف محمد علي والبرديسي توا إليها واسترداها عنوة، وأرسلا سعيدا مأسورا إلى إبراهيم بك الكبير، فلما بلغ نبأ ذلك علي باشا أوجس خيفة، وشرع يتحصن في الإسكندرية، وعزم البرديسي فعلا على محاصرته فيها، ولكنه - وهو يتأهب لذلك - إذا بشيخ جاوز المائة من العمر حضر للسلام عليه في خيمته، وكان البرديسي يعتقد ببركة الشيوخ أمثاله، فأراد أن يقف منه على مصير المحالفة بين المماليك والألبانيين، فأجابه الشيخ: «ستقع فتنة كبيرة في عيد الأضحى، وستجري الدماء فيها!» فسأل البرديسي: «وماذا يسبب هذه الفتنة؟ وأي دم يسيل فيها؟ ولمن يكون الفوز؟» فأجاب الشيخ: «إن الذئاب ستفترس الأجانب!»
فوقعت هذه الإجابة من قلب البرديسي موقعا أليما؛ لأنه لم يكن يجهل أن أهل البلد كانوا يسمون المماليك بالأجانب، وتوقع فناء طائفته.
واتفق أن النيل شح في ذلك العام، فعلت الأسعار، وبات أمر تموين الجنود متعذرا، ودب الجوع إلى صفوفهم، فضجوا وتذمروا، وبات من المحال متابعة الأعمال الحربية بهم، فاجتهد محمد علي في تفهيم البرديسي ذلك. وبعد أن طلب منه بتكرار مرتبات جنوده، ورأى طلباته تذهب أدراج الرياح؛ اقتلع خيامه، وسار بألبانييه إلى مصر، فبلغها في أواسط سبتمبر، فاضطر البرديسي إلى العدول عن مهاجمة علي باشا الجزائرلي في الإسكندرية، وعاد هو أيضا بمماليكه إلى القاهرة، وإذا بالخزائن فارغة، وليس لدى إبراهيم بك الكبير - الذي كانت الإدارة الملكية أوكلت إليه أثناء تغيب محمد علي والبرديسي - ولا اليسير من النقود. وكان - مع ذلك - لا بد من دفع مرتبات الجنود، وإلا ثاروا، فلم يجد البرديسي مفرا من فرض ضريبة جسيمة على أهل العاصمة نفرت منه القلوب.
فلما توقفت الحركات العسكرية رأى علي باشا الجزائرلي أن يغتنمها فرصة لدسائس يدسها بين المتحالفين يفرق بها بينهم ويبلغ منهم مرامه، فأرسل من فاوض محمد علي سرا وأطمعه فيما لو تخلى عن المماليك. وأرسل من فاوض المماليك سرا، ووعدهم خيرا فيما لو تخلوا عن الألبانيين. ولما كانت فرنسا وإنجلترا أخذتا تتزاحمان على النفوذ في مصر وعلى استمالة البرديسي، أطلع محمد علي هذا الأمير على ما فاتحه فيه علي باشا الجزائرلي، فحمله بذلك على زيادة الوثوق به والانقياد إلى مؤثراته، ولم يجد بعد ذلك صعوبة في إقناعه بأن الالتجاء إلى هذه أو تلك من الدولتين المتنازعتين النفوذ، ينشئ خطرا هائلا على مصالح الجميع. ثم عرض عليه فكرة العمل من باب الحيلة على إخراج علي باشا من مركزه الحصين بالإسكندرية، فوافقه البرديسي، فحمل محمد علي العلماء - وكانت قد استمالتهم مظاهر تقواه واعتداله - على الكتابة إلى الجزائرلي واستدعائه إلى مصر، مؤكدين له أن الكل يرغبون سرا في حضوره، وأن مجرد حضوره يزيل كل صعوبة ويقوم كل معوج.
فصدق الرجل الكلام واستعد للسفر، وبعث ينبئ الأمراء بذلك، فاستعجل المماليك حضوره. ولكنهم - لعلمهم بأن الباب العالي كان قد أرسل إليه أمدادا متتابعة - رسموا له بألا يصطحب معه سوى ألف رجل، وأن يسير بهم من دمنهور إلى القاهرة على شاطئ النيل الأيسر، فوعدهم علي باشا بالامتثال لمرسومهم، وقام من الإسكندرية في 23 ديسمبر سنة 1803، ولكن بألفين وخمسمائة من المشاة، وخمسمائة فارس. وقبل الوصول إلى دمنهور حاول الاستيلاء على رشيد مفاجأة، فلما وجد حاميتها يقظة، وأرسل الأمير المملوك قائدها يستفهم منه لماذا حاد عن الطريق المرسوم له، اعتذر وأجاب أنه إنما فعل ذلك ليقصر المحجة، ولكنه لا ينوي لرشيد سوءا، فصدقوه، غير أنه ما انسدلت سدول المساء إلا وقبض خفراء المدينة على جنديين من جنود علي. وقادوهما أمام يحيى بك الأمير المملوك، فسألهما عما يريدان، فقالا إنهما يحملان كتبا من علي باشا إلى عمر بك قائد الألبانيين. وكان عمر بك حاضرا، ففض الكتب علانية، وإذا هي ملأى وعودا يبذلها علي باشا للألبانيين ليفصلهم عن المماليك؛ فاستشاط الحضور غيظا، واستعدوا لقتال المخاتل، وإذا به قد ظهر أمام مدينتهم، وهو يعتقد أن كتبه عملت عملها من التغرير؛ فوجد القوم متربصين خارج الأسوار، فلم يجسر على مهاجمتهم، وعاد صاغرا إلى الطريق التي رسمت له. وليعوض جنده من عدم الاستيلاء على رشيد، سمح لهم بنهب القرى في السبيل.
وكان القوم في مصر مطلعين على جميع حركاته، فلما علموا أنه اقترب من العاصمة، خرج البرديسي إليه ومعه محمد علي وألبانيوه، وعسكروا أمامه بين شلقان وشبرا، ولما جن الليل هاجموا معسكره، فذعر جنده وفروا بدون قتال، فتذمر علي من هذه المعاملة، ولكن أعداءه لم يبالوا به، ولم يجيبوه بشيء، فأراد الخروج من معسكره والدخول إلى القاهرة فمنعوه، فسأل عن سبب هذا التصرف فقالوا له: «لأنك أخليت بالشروط.» فأجاب معتذرا بأن معظم الجند الذي معه يقصد الحج، وأبى أن يتركه حتى يقبض متأخراته، فما صدقه أحد وقال له البرديسي: «إنك إذا استمررت مصطحبا معك كل هؤلاء العساكر فلا بد لي من معاملتك كعدو.» فطلب علي حينئذ أن يسمحوا له بالعودة إلى الإسكندرية، فرفضوا، فوجد أن القتال بات محتما، وأخذ يستعد له. ولكن عسكره تخلوا عنه قائلين إن أوامر الباب العالي لا تقضي عليهم بالقتال، وإن قلة عددهم لا تجعل الإقدام عليه محمودا.
فقام علي من ساعته، واصطحب معه ابن أخته ونفرا يسيرا، وقصد خيمة البرديسي، وسلم نفسه إليه، فأكرم الأمير وفادته. ثم أقبل على جيشه، فجرده من سلاحه، وسيره مهينا إلى التخوم السورية، غير مستثن سوى ستة من رؤسائه تعرفهم بأنهم من أصحاب السوابق في المشاغبات والاضطرابات، فقطع رؤوسهم، ولكن علي باشا - بالرغم من أنه أصبح فريدا، وأنه في ضيافة البرديسي - أبى إلا الاستمرار على دسائسه، فكتب رسالتين: إحداهما إلى عثمان بك حسن، أحد كبار الأمراء المماليك، والأخرى إلى الشيخ السادات؛ ففي الأول وعد عثمان بك بأن يجعله وكيله إذا هو انشق على إخوانه وانضم إليه، وفي الثانية شرح للشيخ كيف يمكنه إثارة ثائرة الشعب على المماليك، فوقعت الرسالتان في يد عثمان بك البرديسي، وأوقدتا في قلبه غيظا لا حد له، فاستدعى علي باشا إليه، ووضعهما تحت نظره، فغض الشقي عينيه خجلا. ولما أقبل المساء أتاه من قبل البرديسي رجل وقال له: «إن الخيل معدة، وهي في انتظارنا.» فقال علي: «لماذا؟ وإلى أين تريدون توصيلي؟» قال: «إلى سوريا، فإن سلوكك جعلك لا تستحق أن تستمر بيننا!»
فأركبوه مع ابن أخته وتوابعه، واحتاط بهم جمع قوي من المماليك. فلما بلغوا ناحية القرين وجلسوا ليستريحوا، ما كان من المماليك إلا أنهم صوبوا بنادقهم وأطلقوها عليهم. ثم أجهزوا عليهم باليطقانات، فأصيب علي باشا برصاصتين، وبينما هو يموت أخرج كفنه من خرجه - وكان لا يفارقه أبدا - ورجا قاتليه بألا يحرموه من الدفن.
على أن محمد علي وألبانييه - ولو أنهم ساعدوا على الإيقاع بالرجل، بل كانوا هم المحرضين على الإيقاع به - لم يتدخلوا في قتله، وما فتئوا واقفين وراء ستار.
ولما عاد المتحالفون إلى القاهرة بلغهم نبأ وصول رسول من لدن الباب العالي، فذهب وفد من البكوات إلى الإسكندرية لاستقباله، وعادوا به باحتفال عظيم، فلما استقر العاصمة أخرج الفرمان الذي حضر به وناوله إلى القاضي، فقرأه بصوت عال؛ أفتدري أيها القارئ الكريم، ماذا كان مضمونه؟ إنه كان يؤيد علي باشا الجزائرلي على ولاية مصر!!!
نامعلوم صفحہ