أما التعصب الضيق فلا ظل له، نقرأ في أمر من أوامره، أصدره إلى محافظ دمياط «بأنه علم بالاحتفالات التي قوبل بها الآي حسين بك من الأهالي والقناصل وبما تفوه به علي أغا ناظر السلخانة، وقوله في محفل الاستقبال: صار الفلاحون العمي عساكر! مهما كانوا لا يكونون مثل عساكرنا الترك. وعليه فاضربوه 100 نبوت على أليته وينفى وإن عاد يصلب»، هذا ما حدث لعلي أغا عندما أخذته النعرة القومية، وعندما تحرج الأمر بين مصر والدول العظمى، وتحمس الناس في حاضرتيها - القاهرة والإسكندرية - لدفع العدوان عن وطنهم وألفوا «حرسا وطنيا» أسند محمد علي لرؤسائهم - وهم من أبناء البلد - رتبا عسكرية نظامية؛ فالرجل لا يتردد في إعطاء من يقبل على العسكرية أو غيرها حقه كاملا. •••
وكيف يغمط محمد علي للمصريين حقا أو يطوي لهم فضلا وقد عز عليه أن يرى العقول المصرية تضيع هباء، كما عز عليه أن يرى الموارد المصرية يبددها الجهل والفوضى، فعول على أن ينقذ لمصر تلك الثروة العقلية التي لا تعدلها ثروة. «ابتكر حسين جلبي عجوة - من أهل رشيد - بفكره صورة دائرة، وهي التي يدقون بها الأرز، وعمل لها مثالا من الصفيح، تدور بأسهل طريقة بحيث إن الآلة المعتادة إذا كانت تدور بأربعة أثوار فيدير هذه ثوران، وقدم ذلك المثال للباشا فأعجبه وأنعم عليه بدراهم»، ثم استمر الجبرتي في روايته، قال: «ولما رأى الباشا هذه النكتة من حسين جلبي قال: إن في أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف، فأمر ببناء مكتب بحوش السراية ورتب فيه جملة من أولاد البلد ومماليك الباشا، وجعل عليهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي يقرر لهم قواعد الحساب»، أي أن إنشاء المدارس بدأ لما رآه محمد علي من نجابة المصريين وقابليتهم للمعارف.
ولم يكن العلم غريبا عن مصر؛ فقد كان طلبه فريضة على المسلمين.
وكان لعلماء الأزهر - كما قال رفاعة - «اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العملية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الاثني عشر وكالمنطق والوضع وآداب البحث والمقولات وعلم الأصول المعتبر، ولمثل هذا فليعمل العاملون»، وقد أثمرت أعمالهم في ذلك العصر وما سبقه بقليل ثمرتين عظيمتين: «تاج العروس» و«تاريخ الجبرتي».
ولكن من الباحثين من يرى أن الحملة الفرنسية أثرت أثرا سيئا في الحركة العلمية، لا لأن الفرنسيين عارضوها أو مسوها بأذى، ولكن لما أحدثه قدومهم وخروجهم من الاضطراب الفكري، والثابت على كل حال أن النصف الأول من القرن التاسع عشر قل - أو انعدم - فيه التصنيف المبتكر في علوم اللغة والدين، ولكن فرق بين هذا وبين ما زعمه المستشرق الطبيب «برون» من أن علماء القاهرة في زمنه - منتصف القرن التاسع عشر - لا يعرفون حتى أسماء أمهات الكتب العربية، وإن كانوا يظنون أنهم يعرفون كل شيء، وأن ليس فيهم عشرة يستطيعون استخدام معجم لغوي، وليس من شك في أن علماء ذلك الزمان ضيقوا على أنفسهم دائرة المعرفة.
علم بذلك رفاعة وقرر وجوب «معرفة سائر المعارف البشرية المدنية التي لها مدخل في تقدم الوطنية ... لا سيما وأن هذه العلوم الحكمية العملية التي يظهر الآن أنها أجنبية هي علوم إسلامية نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية»، ثم أضاف إلى هذا «أن من اطلع على سند شيخ الجامع الأزهر الشيخ أحمد الدمنهوري - ولم يكن العهد به إذ ذاك بعيدا، فقد أدركه الجبرتي وكانت وفاته في عام 1192 هجرية - رأى أنه قد أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير»، وهذا رفاعة نفسه نعلم كيف اصطفاه الشيخ حسن العطار، وكيف رسم له خطة الدرس في أوروبا، وقد تحدث رفاعة في رسالة للعلامة الفرنسي جومير بعد عودته من فرنسا عن حسن استقبال العلماء له، وعن قراءة شيخ الإسلام لرسالته في وصف رحلته، وعن عزم الشيخ علي رجاء الوالي أن يطبع الرسالة ليحبب للمسلمين التغرب في طلب العلم من أجل منفعة مواطنيهم.
الحق أن من علماء ذلك الزمان من أوجس خيفة من ذلك الاتصال بعلم الغرب؛ لا استنكارا لذلك العلم في حد ذاته ولكن إشفاقا مما يؤدي إليه الاتصال من النتائج الوخيمة، فاتخذوا خطة سلبية وسمها من درسها من الأوروبيين باسم «الخطة الوهابية».
وقد روى مؤرخ الحرب الصليبية «ميشو» في رسائله من مصر في سنة 1831م حديثه مع عالم من من هذا الطراز وهو مفتي المنصورة، قال المفتي: «إن مثل الشرقيين في محاكاتهم الغربيين والنقل عنهم مثل الرجل الكفيف الذي ارتطم في وهدة يدعو المارة إلى مده بقبس من النار، وماذا ينفعه القبس؟ أنتم معشر الغربيين تتهمون الشرقيين بأنهم جامدون وأنهم دائما حيث كانوا، ولكنكم أنتم لا تعرفون متى وأين تقفون، وبذلك تذهبون إلى أبعد مما تقصدون، وعندي أن مجاوزة الهدف أسوأ من العجز عن بلوغه، هذه مثلا نظرياتكم السياسية الجديدة، هل نفعت عامتكم حقا؟ أنشرت النور حقا؟ لا، لم تؤد - فيما سمعت - إلا إلى الثوران والاضطراب، فما أشبه مدينتكم بتلك الوسائل المتخمرة التي تحطم الإناء الذي نصبها فيه.»
وهذا المستشرق «لين» يصور لنا سوء ظن العامة بمن عاشر الأوروبيين من المسلمين، قال: «كنت جالسا يوما عند أحد باعة الكتب فأتى رجل يطلب نسخة من رحلة رفاعة، فسأل أحد الحاضرين عما في هذا الكتاب، فتطوع رجل لإجابته بطريقة تهكمية تبين رأي العامة فيه، قال ذلك المتطوع: أنا أقص عليك نبأ هذه الرحلة بالحق، إنها تحتوي على وصف سفر رفاعة من الإسكندرية لمرسيليا وعلى ما جرى له في أثناء هذا السفر عندما سكر وعربد، عند ذلك أمر الربان بشد وثاقه إلى صاري السفينة وجلده، ثم نزل بلاد الإفرنج حيث طاب له لحم الخنزير ومعاشرة النساء الإفرنجيات، ثم بعد أن ارتكب من الموبقات كل ما يعد له مقعده من النار عاد إلى مصر.»
تلك الحالة التي تصورها هذه الأحاديث هي ما حدا ببعض الباحثين الأوروبيين - في ذلك الزمان - إلى الاعتقاد بأن أول واجب على الحاكم المصلح في البلاد الشرقية هو أن يهدم البناء القديم؛ فلا خير فيه لأهله، وأن ينبذ تلك العلوم والمعارف التي طلبوها مئات السنين دون أن يحققوا بها لأنفسهم أو للإنسانية نفعا، ثم ينشئ بعد ذلك معاهد جديدة تعلم فيها العلوم الأوروبية باللغات الأوروبية، قال بذلك قائلون منهم في المغرب الإسلامي، وقد دخل في حكم الفرنسيين وفي الهند البريطانية، وليس أوضح في بيان هذه المشكلة الإسلامية الكبرى مما جرى في الهند سنة 1835.
نامعلوم صفحہ