اشتد الخلاف في تلك السنة بين أعضاء لجنة التعليم على ماذا تكون عليه خطتها، أتستمر الحكومة على ما جرت عليه حتى ذلك الوقت من الإنفاق على المعاهد القديمة التي تدرس فيها معارف الوثنيين بالسنسكريتيه ومعارف المسلمين بالعربية والفارسية، أم تعدل عن ذلك وتخصص المال لإنشاء معاهد جديدة تدرس فيها العلوم الأوروبية باللغة الإنجليزية؟ انقسم الأعضاء إلى فريقين: فريق انتصر للسياسة القديمة وعرف أصحابه باسم المستشرقين أو أنصار الثقافة الشرقية، وفريق انتصر للسياسة الجديدة وعرف أصحابه باسم أنصار الثقافة الغربية، وتولى زعامة الفريق الثاني الكاتب المشهور «ماكولي» وكان إذ ذاك في الهند يعمل في جمع القوانين، وقد فوضت إليه الحكومة رياسة لجنة التعليم وأعد للدفاع عن قضيته مذكرة مشهورة، اعترف فيها ماكولي بجهله اللغات الهندية واللغتين العربية والفارسية، ولكنه استعاض عن ذلك بأن قرأ كل ما تيسرت له قراءته مما نقل من آداب تلك اللغات إلى اللغات الأوروبية، وتحدث في أمرها مع أهل العلم بها من الأوروبيين، وقال: إنه لم يجد من المستشرقين من ينكر أن ما يحمله رف واحد من الكتب الأوروبية يساوي كل آداب الهنود والعرب، وحتى دواوين الشعر التي هي أفضل ما في تلك الآداب هي دون الشعر الأوروبي في نظره، ثم إذا انتقل الباحث إلى التصانيف التي تتعلق بجمع الحقائق واستخلاص النواميس الكونية فإنه لا يستطيع إلا إيثار التصانيف الغربية من هذا النوع، مثل هذا يقال عن كتب التاريخ والأخلاق والطبيعة وغيرها.
ثم تساءل: أما والأمر كذلك، أيجوز لنا أن نفضل على تعليم العلم الصحيح باللغة الإنجليزية تعليم لغات لا تؤدي إلى علم خليق بهذا الاسم؟ أيجوز لنا ألا نعلم العلم الصحيح والفلسفة الصحيحة والتاريخ الصحيح وأن نشجع من أموال الدولة طلب نوع من الطب يستحي بيطار إنجليزي أن ينسب إليه، ونوع من الفلك يثير قهقهة البنات في مدرسة إنجليزية ريفية، ونوع من التاريخ هو عبارة عما جرى لملوك طول قامة الواحد منهم ثلاثون قدما وعمر الواحد منهم يزيد على ثلاثين ألف سنة، ونوع من الجغرافيا تتكون من وصف بحار من العسل أو من الزبدة؟ وكيف يحق للمشرفين على حكم الهنود من الإنجليز أن يفعلوا هذا والتاريخ كفيل بهدايتهم السبيل السوي؟
فهذه الأمم الأوروبية نفسها في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر أدركت أو أدرك زعماؤها أن لغاتها الوطنية لا تفتح لها خزائن العلوم والآداب، بل إنها لن تدرك بغيتها إلا بدراسة ما خلفه اليونان والرومان باليونانية واللاتينية، فأقبلوا على تلك الدراسات القديمة، وكانت ثمرة هذا الإقبال النهضة الأوروبية المشهورة. وهذه الروسيا في القرن السابع عشر، أحس ملكها العظيم «بطرس الأكبر» بما هي عليه من التأخر فعمل على إنهاض أمته عن طريق إنشاء أرستقراطية مستنيرة متحضرة بحضارة الغرب، لا عن طريق تشجيع رعيته على الاستمرار في خزعبلاتها وصرف العمر في تقرير مسائل من نوع «هل خلق الله العالم يوم 13 سبتمبر أم لا.»
وقد رد المستشرقون على «ماكولي» بحجج يزينها رجحان العقل وبعد النظر واتساع أفق التفكير، فأشاروا إلى تأصل الحضارة والثقافة في أرض الهنود، وإلى أن علومهم وآدابهم ليست السخافات التي صورها «ماكولي» ثم قرروا أن البريطانيين قد قطعوا على أنفسهم عهدا باحترام عادات الهنود ونظمهم الاجتماعية، فكيف يجوزون لأنفسهم أن يهدموا ما تعهدوا باحترامه، وبينوا أن إحياء العربية والسنسكريتيه هو بالضبط مقابل لإحياء اللاتينية واليونانية في تاريخ الثقافة الأوروبية، وختموا كلامهم بالحجة الدامغة، وهي: أن لا خير لأمة في إبعادها عن الجو الروحي الذي نمت فيه نفسها، وأن نظم التربية والتعليم إن لم تقم قواعدها على ثقافة القوم بقيت أمرا سطحيا، لا نفع فيه ولا دوام له.
هذه أوجه تلك المشكلة العامة، أوضحنا شيئا من عموميتها واختلاف الآراء فيها، فكيف واجهها محمد علي؟ اتخذ بين المستشرقين والمستغربين خطة وسطا، يدلك على ذلك أن «ماكولي» استشهد بما علمه محمد علي في مصر لتأييد ما ذهب إليه من ضرورة تعليم العلوم الحديثة، كما أن خصوم «ماكولي» من أنصار الثقافة الشرقية استشهدوا أيضا بمحمد علي لتأييد ما ذهبوا إليه من ضرورة وصل حاضر الأمة بغابرها، فقالوا - وكان حقا قولهم: إن مصلح مصر يعلم العلوم الحديثة، ولكنه يعلمها باللغة العربية وإن التعليم الذي صح أن يوصف بأنه التعليم القومي وهو التعليم المنتشر في قرى مصر وحواضرها قد أبقاه محمد علي على أوضاعه المألوفة .
أي أن محمد علي واجه مشكلة الثقافة عموما ومسائل التربية والتعليم خصوصا بروح الاعتدال وتغليب المنفعة على النظريات، فتجنب الإملاء على الناس كما تجنب الفصل بين نظم ونظم، فلم يخلق «ثنائية» في معهد التعليم بل تمت تلك الثنائية في أيام الجيلين الحاضر والسابق من المصريين، وبرضاء أبناء الجيلين الحاضر والسابق تماما فكان الانقسام إلى معسكري القديم والجديد، ولم تعرف أيام محمد علي «الشهادة» مفتاحا وحيدا لولوج معهد ما، كما أنها لم تعرف إلا ثقافة عربية إسلامية في كل مكان، أضاف إليها إعدادا فنيا في أمكنة معينة.
وأثبت محمد علي أمرا أساسيا آخر، هو: أن التربية والتعليم شأن من شئون الدولة، تتكفل به مهما كلفها، وأن زمان ترك شئون التعليم للأفراد والطوائف تقوم به أو تهمله قد انقضى، ولكنه ترك للأفراد وللطوائف قدرا عظيما من الحرية، هو أثمن ما خلفه في سياسته التعليمية. •••
تلك السياسة التعليمية كانت - فضلا عما ترمى إليه من نشر الاستنارة العامة - أداة مهمة من أدوات خلق الفنيين من رجال الأرستقراطية المحمدية العلوية، وتلك الأرستقراطية قد ألممنا بمهمتها في نظر محمد علي، ونصيبها في اصطناع قوة الحديد والعلم والمال.
والمال - بأعم معانيه - ينال بتنمية الموارد للإنتاج، وقد رأينا فيما سبق كيف رفع محمد علي تنمية الموارد واستغلال المرافق إلى مرتبة عرفان نعمة الله - سبحانه وتعالى - وحمده عليها، ينمى الموارد؛ لأنه لا يستطيع أن يحتمل رؤية الخراب أو الصائر إلى الخراب، وينميها لأنه يريد أن يعلم وأن ينشئ جيوشا وأساطيل ليحيي عالما راكدا ليوقظ أمما من سبات الدهور، ولا يطلب شيئا لنفسه، فذوقه ذوق البساطة الأنيقة، تملأ العيون هيبته بإشعاع من خلقه وخلقه متلائما مع اختفاء الجواهر والألوان، تلك هيئته في ركوبه وفي منزله، يفيض على من حوله من سحر الحديث وأدب المجلس ما بهر القريب والغريب وفعل في النفوس ما لا تفعل أبهة الحراس والحاشية والهيئات المبهرجة والسيوف المنتضاة، قال مرة لزائر أجنبي: انظر ماذا ترى حولي من هيئة الباشوات؟ لم يبق منها الكثير: بعض القواسين، أصحاب العصي المفضضة وبعض الدواوين، ولكن نقش خاتمي كان دائما: «محمد علي».
فطلب المال للعمران (أو كما كانوا يقولون إذا ذاك للعمارية)، ولقوة المال ويهمنا - جريا على خطتنا - أن نضع سياسته الاقتصادية موضعها الصحيح في التطور الإسلامي.
نامعلوم صفحہ