وهذا المعنى كثير شهير. ومن الأسباب في ذلك أنها أول بقعة ذاق فيها النعمة وأول جهة ألف منها الرفق وآنس الإحسان، وفي الحديث: " جُبِلَتِ القُلُوبُ عَلَى حُبّ مَنْ أحْسَنَ إلَيْهَا " ولك في الحديث وجهان: أحدهما لطيف، وهو أن القلوب الطاهرة عن الهوى، الصافية من رعونات النفس، الزاهرة بأنوار المعرفة جبلت على حب الله تعالى لأنه هو المحسن إليها لا غير. والثاني ظاهري وهو أن القلوب من حيث هي جبلت على الميل إلى المحسن من حيث هو، ولا شك أن كل محسن دون الله تعالى لا أثر له، وإنما هو جهة يرد منها إحسان الله تعالى، ومع ذلك يحب، فكذا تربة الإنسان أول جهة ورد منها عليه الإحسان الإلهي، فيحبها قبل غيرها من الترب حبًا متمكنًا كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
وقال الآخر:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل
ومن أسباب المحبة والحنين حب من كان فيها من ذوي القرابة والأحباب وتذكارهم عند تذكارها، وقد قيل: إن قوله ﷺ في أحد: " جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ " إن المراد من كان فيه من الأصحاب كحمزة ومن معه ﵃، وقال المجنون:
أمرّ على الديار ديار ليلى ... أُقَبِّلُ ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
وقال الآخر يخاطب وطنه:
تقسم فيك الترب أهلي وجيرتي ... ففي الظهر أحيائي وفي البطن أمواتي
وهذا سبب ذكر الديار والمنزل والأوطان ولا ينحصر ما قيل في ذلك، وسنلم بشيء منه إن شاء الله في هذا الكتاب؛ ثم إذا انتسب إلى البلد ذهب قوه، وتنوسيت أسلافه، فصار النسب مجهولًا لا باعث على حفظه ولا حامل على تعرفه وهذا بخلاف أهل البادية فإنهم يحفظون أنسابهم إذ لا ملجأ لهم في الانتساب غير قومهم فيبقى الأب الأول محفوظًا وبحفظه وذكره ما بينه وبينهم من سلسلة النسب، وإنما كان ذلك فيهم لوجهين: أحدهما أنه لا قرار لهم في باديتهم فينتسبوا إليه، بل منازلها عندهم سواء. الثاني أنهم خالصون غالبًا من كثير الشوب، فكل واحد غالبًا ينازل قومه، إذ لا حاجة بهم إلى التمدن في باديتهم اكتفاء بالحاضرة، فكل حي فيها يعيشون وحدهم، ومتى خالطهم غيرهم لم يزل معروفًا بكونه ملصقًا، وقد يكون من القرى ما يكون كذلك، لانقطاعه عن الاختلاط وعدم التمدن فيمكنهم حفظ أنسابهم أيضًا.
ومن هذا حفظت قلايش أنسابها مع كونها في قرية، وكذا الخزرج في طيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وكذا نحوها، وقد يكون في المدائن من يحفظ نسبه أيضًا، ولا سيما من له نسب مخصوص كالعلوية، أو من يكون في محلة منعزلة في المصر فيكون كالقرية السابقة.
الثالثة أن يعلم أن حفظ الأنساب ليس خصوصية للعرب وإن كان لهم مزيد اهتمام بها ومزيد ارتفاع الهمة، وكنت أنا قبل أن أخالط قومي أظن ذلك وأقول: إن العجم إنما هم كالمعزى ليس بين الأم وبين ولدها عهد إلاّ أن يرعى فيذهب حيث شاء، وأما الأب فلا سؤال عنه، فلما باحثت قومي في هذا ألفيت الأمر على خلاف ما كنت أظن، ووجدتهم يحفظون أنسابهم كما مر، وإذا فيهم نسابون يحققون الفصائل والشعوب على نحو ما كانت العرب تفعل في أنسابها، والوهن وإن كان يمكن أن يداخل شيئا من ذلك فليس بعجب، فإن غيرهم أيضًا ما كان يسلم من ذلك، وقد قال ﷺ: " كَذَبَ النَّسّابُونَ ". قَالَ تعالى:) وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلكَ كَثيرًا (وكون هؤلاء أيضًا يكتفون بالقرى ويضيعون أَنسابهم فذلك غير مختص بهم، فقد وقع أيضًا للعرب حين دخلت قرى الشام والعراق ومصر والمغرب وغيرها، فلا تزال تلقى حلبيًا أو حمصيًا أو كوفيًا أو بصريًا أو قرطبيًا أو باجيًا، وهو تميمي أو قيسيّ أو أزديّ أو غيره، وكثير منهم لا يرفع نسبه، وإنما قال سيدنا عمر ﵁ ما قال قبل أن يقع هذا الواقع أو قاله خوفًا منه ثم وقع كما ظن.
ويتعلق بأمر النسب أبحاث: الأول: اعلم أن نسب الإنسان الأصلي هو الطين، قال تعالى:) وَبَدَأ خَلْقَ الإنْسَانِ منْ طينٍ (وقال ﷺ: " أنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وآدَمُ منْ تُرَابٍ ". ويقال لآدم ﵇: عرق الثرى وأعراق الثرى، قال امرؤ القيس:
1 / 9