ومن البشيع الواقع في زماننا في الوصاف أنْ بَنَى السلطانُ رشيد ابن الشريف جسرَ سبو، فصنع له بعضهم أبياتًا كتبت فيه برسم الإعلام أولها:
صاغ الخليفة ذا المجاز ... ملك الحقيقة لا المجاز
فحمله اقتناص هذه السجعة والتغالي في المدح والاهتبال بالاسترضاء على أن جعل ممدوحه ملكًا حقيقيًا لا مجازيًا، وإنما ذلك هو الله تعالى، وكل ملك دونه مجاز، الممدوح وغيره. ونسبة الألوهية إلى غيره تعالى كفر صراح، وهذا مقتضى اللفظ، وقائله يتأوله بحقيقة دون حقيقة لأنه موحد، ولكنه في غاية الإبهام وغاية البشاعة والقبح، وقد أنكر الإشبيلي وغيره ممن ألف في لحن العامة ما هو أخف من هذا بكثير.
وأما اليوسي فأصله اليوسفي كما مرّ من أن يوسف هو أبو القبيلة ويسقطون الفاء في لغتهم.
وأما ذكري لما مرّ من النسب فلفوائد منها أن يعرفه من يقف عليه ذوي القرابة للتوصل إلى صلة الرحم والموارثة والمعاقلة وغير ذلك من الأحكام وهذا مما لا بد منه، وقد قال سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁: تعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم، وقد حمل الأمر في كلامه على الوجوب وذلك أصله. الثانية أن يعلم انقطاع النسب عند انتهائه إلى القرى فيظهر معنى قول مولانا عمر أيضًا ﵁ فيما يؤثر عنه أنه قال: تعلموا أنسابكم ولا تكونوا كالقبط ينتسبون إلى القرى، وليس هذا مخصوصًا بالقبط بل المدن كلها تتلف الأنساب كما قال العراقي ﵀:
وضاعت الأنساب بالبلدان ... فنسب الأكثر للأوطان
وسبب ذلك أن الإنسان إنما احتاج إلى التمدن للقيام بالمتاجر والحرف وسائر الأسباب التي ينتظم بها أمر المعاش والتعاون على المنافع الدينية والدنيوية، ولا يتأتى ذلك عادة إلاّ بكثرة الناس لتحصل عمارة الأسواق، ويحصل من كل حرفة وصناعة وسبب وعمل عارف أو أكثر يقوم بها، ولا يكون ذلك عادة من عشيرة واحة بل ولا من قبيلة وعمارة بل من أخلاط شتى وأفواج جمة، وذلك لسببين: أحدهما أن هذا هو مظنة الكثرة الكافية فيما ذكر، الثاني أن عادة الله تعالى لم تجرِ باختصاص رهط أو حي واحد من الناس بالتفرد بالمعارف والاستقلال بالمصالح الدينية والدنيوية من دون سائر أصناف الخلق حتى ينتظم بهم الأمر وحدهم وتحصل لهم المزية بذلك والذكر فيه دون " من " سواهم، بل بث الله تعالى بلطيف حكمته الخصائص والمزايا في الناس، فيوجد في هذا الرهط عالم، وفي آخر شاعر، وفي آخر صانع أو تاجر وهكذا ليتم التعاون ويحظى الخلق كلهم من مائدة الله تعالى في باب الخصوصيات بنصيب..
ولما كانت المدينة تجمع أخلاط الناس صار ساكنها في الغالب غريبًا عن نسبه، فقد لا يكون بينه وبين جار بيته نسب ولا معرفة، فإذا نشأ نسله انتسبوا غاليًا إلى البلد لا إلى قومهم من وجهين: أحدهما أنه كثيرًا ما ينقطع ما بينهم وبين قومهم فلا يعرفونهم، الثاني أن الإنسان يعجب ببلده ويتبجح به لثلاثة أوجه أحدها أنه لا يعرف غالبًا غيره، الثاني أن الله تعالى حبب إلى الناس منازلهم ليلازموها فتنتظم عمارة الأرض على ما قدر الله تعالى كما قال ﷺ: " اللَّهم حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ ". الثالث الإلف الطبيعي، فإن كل واحد يألف تربته كإلفه لأمه وأبيه، ولذا لا يزال يحن إلى مسقط رأسه ومحط لهوه وأنسه، وقالوا: الكريم يحن إلى وطنه، كما يحن النجيب إلى عَطَنِهِ.
وقال الأعرابي:
أحب بلاد الله ما بين منعج ... إليَّ وسلمى أن يصوب سحابها
بلادٌ بها حل الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وقال الآخر:
بلدي ألفت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أثواب الشّباب
وقال الآخر:
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
1 / 8