الأماكن التي تستلفت نظر الزائر قبل غيرها في بلاد فرنسا هي الكنائس والتماثيل والمتاحف، وهاته الأخيرة أكثرها استلفاتا للنظر فإنها تحوي من بدائع الفن ومن الأدلة الناطقة على ذوق أهل البلاد ومن الآثار التاريخية ما يأخذ بالفؤاد؛ لذلك أسرعت إلى متحف كلرمنت، وهو وإن بات صغيرا فإنه حيوي كثيرا، ويحوي من كل شيء ومن كل ما يخص مقاطعة كلرمون، يحوي التماثيل والملابس والأحجار والنقوش والصور وكل هذه الأشياء الفنية التي يعشقها الفرنساويون، والتي تربي إلى حد كبير الذوق والعقل والإحساس، ومن الصور التي أخذت بنظري من القليل الذي رأيت صورة لغروب الشمس على شواطئ النرمندي والليل يسقط فوق النهار وتنساب ظلماته وسط الضوء المتضائل والشفق الأحمر يتفانى هو الآخر تحت قوة الظلام، كذلك صورة مثل فيها الشباب في صورة فتى غض جميل يلمح الإنسان على وجهه ذلك الأثر الذي تخلفه سن القوة القوة والجمال، وفي نظراته معنى الحياة والرغبة، وفي شفاهه القبلة الحائرة لا تدري أين تقع.
على مقربة من كلرمون تقع روايا ويصل الترام ما بينهما، فلما نزلت منه صعدت أريد قمه الجبل ولكن بلغ بي الملال حين رأيتني بعد أن أجهدت نفسي أرى القمة لا تزال على بعدها الأول، وإنما أمسك علي قوتي أن رأيت الماء يتخدد الجبل وينزل فيدير معامل غسيل أقيمت عند منتهى السفح، أمسك ذلك علي قوتي لأني أردت أن أتبع الماء إلى منبعه، فتركت الطريق العام وما يحيط به من الصخر عن جانب ومن الوهاد المبنية فيها المعامل على الآخر، وسرت فوق العشب على عكس تيار الماء، ثم وصلت إلى مرتفع من الجبل قد قام فوقه الشجر وهو لا يزال من أثر الشتاء أجرد فقيرا، فهالني أن أجاهد لارتقاء هذا المرتفع وقد أخذ مني الجهد وكدني السير، فجلست مستظلا بجزع شجرة يداري عني قرص الشمس، وبقيت حول الساعة أرقب ذلك الماء المتدفق ينساب بقوة هائلة مدفوعا بقوة الانحدار، وهو لا يقدر من أمره على شيء، ويرغي ويزبد لضعفه أمام الطبيعة فلا ينفعه إرغاؤه، ويظل في انحداره حتى يتلقاه عند أسفل السفح عفريت السموات والأرض - الإنسان - فيستخدمه لأغراضه، ويحسب أنه مختار في ذلك في حين أنه ليس أقل من هذا الماء خضوعا لقانون الطبيعة العاتية.
وانحدرت مع الطريق المعتدل راجعا فأدت بي إلى منازل روايا، وهي عندي أحسن نظاما من كلرمون، وسرت إلى محطة الترام فقابلني في الطريق ما يسمونه الكوبري الكبير، وهو من غير شك حقيق بهذا الاسم، إن لم يكن بأفخم منه، فهو قائم فوق بطن من الأرض منخفض يرتفع عن سطحها خمسين مترا بالأقل، ويبلغ طوله أكثر من مائتي متر، وتمر من فوقه ومن تحته الطرق، وهو من الحجر قائم فوق عمد من الحجر يبلغ من خمسة عشر إلى عشرين مترا في السعة، ويضاهي بعظمته الآثار الكبيرة الخالدة.
ورجعت إلى كلرمون بعد أن قضيت النهار سيرا.
18 مارس (في الطريق من كلرمون إلى نيم)، قمت من كلرمون بقطار الساعة السابعة صباحا، وأنا أعلم أني سأصل إلى نيم حوالي الساعة السادسة من المساء ... إحدى عشرة ساعة في السكة الحديد! كيف يمكنني أن أمضيها وأنا وحيد؟ ... اصطحبت كتابا من حكايات موباسان، وابتدأت أقرأه لأول ما تحرك القطار، الحكايات ألذ ما يكون، ولا بد سأتي عليها في سويعات، فما عسى أنا صانع بعد ذلك؟
وبعد محطة من كلرمون ركب القطار معي شيخ فرنسي، وجعلنا نتحادث ويسألني عن مصر، وينصح لي كما ينصح كل أوربي أن أطمئن للحكم الإنجليزي الذي ملأ بلد الفراعنة خيرا ونعمة ... وله ولكل أوربي العذر فيما يقول؛ فعلى الشكل الذي يفهمون به الحوادث والأشياء من بعيد لا نعمة تعدل نعمة الحكم الإنجليزي عندنا، أمن سائد حيث لا تقوم مذابح يقتل فيها الأوربيون تقتيلا، ووفرة ونعمة لأن لمصر تجارة تزيد على أربعين مليونا وإن كان القسم الأكبر منها لا يتعلق بثروة مصر، وتعليم راق لأن هناك أسماء مدارس كأسماء المدارس العالية في أوربا ... فماذا يريد المصريون فوق هذا؟
المصريون يريدون أن تكون مصر للمصريين.
وتركني الشيخ بعد قليل ورجعت إلى كتابي، ولكني لم أبق طويلا حتى إذا بالقطار دخل فجأة من ذلك السهل الذي كان يرمح فيه لتحيط به جبال عالية يبقى بينها يخرقها لحظة ويتهاوى على سفوحها أخرى، تظله أشجارها من ناحية ويطربه خرير نبوعها من ناحية حتى يتخلص منها إلى نيم، ويكون بذلك قطع طريق وسط جنة منيعة ملأى بآمال الربيع وثلوج الشتاء.
تلك هي الأوفرن البديعة.
سار القطار بين جبالها يظهر مرة فتظهر أمامه حزون وبطون، وفوق الحزن تقوم الأشجار قاتمة اللون لا تزال في مأتم الشتاء، وتصعد على السفح حتى تختلط هي والجبل بالسحاب الرفيع، وتتدفق في البطون مياه المنبع متلاطمة مرغية مزبدة، ما دامت في مبدأ نزولها من موضع رفعتها فإذا هي استوطأت مهادها الوضيع الغائر في الأرض هدأت ورقصت فوق سطحها موجات لطيفة دائمة الابتسام، كأنما هي حلم ذلك الماء المستسلم بعد ثورته.
نامعلوم صفحہ