ليبشرني بالنجاح، فألفاني في حديقة المنزل الصغيرة يجرني أخي أمين في قفص من الجريد جعلنا منه شبه عربة صغيرة نتناوب ركوبها وجرها بحبل، فناداني في لهفة، فتركت القفص أسأله عن الخبر، فهنأني بالنجاح وأطلعني على نسخة اللواء التي فيها اسمي ضمن الناجحين في الشهادة الابتدائية، فضحكت مغتبطا ثم عدت إلى قفص الجريد لنتم أنا وأخي أمين عملية الجر واللعب، وكان هو أيضا من الناجحين في هذا العام. (4) في التعليم الثانوي
لم أكن - إلى أن نلت الشهادة الابتدائية - أعي من أمور الدنيا شيئا ذا بال، وكان جل اهتمامي أن أواظب على دروسي وأستذكرها وأحفظ ما يطلب من التلميذ حفظه.
دخلت القسم الثانوي (قسم فرنسي) بمدرسة رأس التين، ومكثت به ثلاث سنوات وهي مدة الدراسة الثانوية في ذلك العهد. وكنت في معظم سني الدراسة الثانوية لا أعي أيضا شيئا من الشئون العامة ولا أعرف غير منزل والدي ومدرستي.
وكنت أتردد قليلا على مكتبة بلدية الإسكندرية ؛ إذ كان أساتذتنا يذكرونها لنا كمكان يصح أن نقضي فيه أوقات الفراغ والتسلية ...
إلى أن كانت سنة 1904، فبدأت أذهب إلى قهوة بلدية أنيقة بشارع رأس التين تجاه سراي محسن باشا، وكنا نذهب إليها يوم الجمعة من كل أسبوع، وكان صاحبها «الحاج أحمد» يقدم لنا شراب الليمون (الليموناده) ويتقنه كل الإتقان حتى صار علما على قهوته، ويطلعنا على بعض الصحف اليومية التي كانت تصدر في هذا العهد، ومنها «اللواء» لصاحبه ومؤسسه الزعيم «مصطفى كامل»، ولكن لم أتبين بعد منهجه ولا منهج الصحف الأخرى. ولم تكن في ذهني أية صورة عن «مصطفى كامل»؛ إذ لم أكن رأيته بعد أو سمعته، وكنت وقتئذ في الخامسة عشرة من عمري، على أنني أدركت من قراءة الصحف وقتئذ شيئا من الوعي الذي أخذ يتفتح ويتسع مداه في مدرسة الحقوق. وكنت أسمع أثناء دراستي الثانوية من أستاذ لنا في الرياضة وهو المرحوم عثمان بك لبيب، أحاديث يلقيها علينا بين حين وآخر عن حالة البلاد السياسية، وكان رحمه الله من خريجي مدرسة المعلمين العليا القديمة (النورمال) وصار فيما بعد مدرسا بمدرسة المعلمين العليا الحديثة، وكان وطنيا صميما، لا يفتأ يطعن في سياسة الإنجليز ويذكر لنا كيف احتلوا مصر غدرا وحيلة، وكيف يعملون على إرساخ أقدامهم في البلاد ويحاربون الروح الوطنية، وكان يقول لنا خلال أحاديثه: «افهموا يا اولاد كويس»، فكنت أستشعر معاني هذه الأحاديث وآنس لها وأعجب بها، وأحببت من أجلها هذا الأستاذ. وكنت ألاحظ أنه حين يبدأ بالحديث في السياسة يقفل بنفسه باب الفصل لكيلا يسمع حديثه ناظر المدرسة عند مروره بين الفصول، فكان إقفال الباب إشارة إلى بدء دروسه الوطنية، وقد أفدت منها كثيرا.
وأذكر من أساتذتي في القسم الثانوي بمدرسة رأس التين الشيخ أحمد إبراهيم «بك» العالم الفقيه المشهور، والشيخ عرفة علي غراب، والشيخ محمد عابدين، والشيخ عبد الحكيم محمد، ومن أساتذتي الأجانب المسيو هاي والمسيو توندور وكلاهما فرنسي. (5) البكالوريا
وقد نلت الشهادة الثانوية (البكالوريا) من مدرسة رأس التين في مايو سنة 1904، وكان ترتيبي الثالث
5
في الناجحين البالغ عددهم 136. (6) أراد والدي أن يدخلني الأزهر
وأراد والدي أن يدخلني الأزهر، ولكني اعتذرت بصغر سني وبأني تعودت على المدارس النظامية ولم آلف نظام الدراسة في الأزهر؛ وإذ كنت أخجل من مراجعة والدي فقد وسطت لديه بعض الأقارب لإقناعه بالعدول عن فكرته، فأفهموه أن لا محل لتغيير منهجي في الدراسة، وما دام قد اختار هو لي المدارس النظامية فمن الخير أن أستمر فيها، وذكروا له ميلي إلى الدخول في مدرسة الحقوق ورغبوا إليه أن يلحقني بها. فقال لهم إنه يريد أن يجعلني عالما من علماء الأزهر كأبيه وعمومته، فأجابوه أن الزمن قد تطور وما دام هو لا يميل إلى الأزهر فلتختر له المدرسة التي يميل إليها. فقال: أتريدون أن يخرج منها قاضيا أهليا يحكم بغير الشرع؟! فأجابوه: هذه مسألة لا يحين وقت البحث فيها إلا بعد تخرجه من مدرسة الحقوق. وهل من المحتم أن يكون قاضيا؟! فلم يقتنع بهذا الجواب، وأراد أن يخلص من هذا الإحراج، فأعرب عن رغبته في أن يلحقني بإحدى الوظائف بالبكالوريا - وكانت لها قيمة كبيرة في ذلك العصر - فقالوا له: إنه لا يميل الآن إلى التوظف، وهو صغير السن ولا يصح أن يرهق بالوظيفة. فقال لهم: إني أختار له وظيفة «معاون إدارة» وهي وظيفة سهلة لا تحتاج إلى عناء. فعرضوا علي الأمر، فاعتذرت، وقلت لهم ولوالدي: إني صغير السن ولا أحتمل أعباء الوظيفة، وإن الدراسة لا تتعبني، فدعوني أدخل المدرسة التي تميل إليها نفسي. وإزاء هذا الإلحاح قبل والدي ما طلبت، وأدخلني مدرسة الحقوق. (7) في مدرسة الحقوق
نامعلوم صفحہ