دخلت كلية الحقوق - وكان اسمها «مدرسة الحقوق الخديوية» - في أكتوبر سنة 1904، ومقرها وقتئذ بميدان عابدين في المكان الذي به الآن ثكنات الحرس الملكي، وكان ناظرها المسيو جرانمولان، ووكيلها عمر بك لطفي. واقتضى دخولي المدرسة انتقالي وإقامتي بالقاهرة في شهور الدراسة. (8) متى تتلمذت لمصطفى كامل؟ (سنة 1904)
بدأ وعيي السياسي يتقدم في مدرسة الحقوق، وأخذت في قراءة الصحف قراءة فهم وإدراك. وكان الطلبة يجتمعون في أوقات الفراغ ويتحدثون عن السياسة وما وصلت إليه حالة البلاد تحت الاحتلال البريطاني. واخترنا لقضاء أوقات الفراغ والسمر قهوة راقية بشارع عابدين على ملتقاه بشارع الصنافيري (علي باشا ذو الفقار الآن) تدعى «قهوة الحقوق» لصاحبها الخواجة أندريا، وقد أعجبنا اسم القهوة، واخترناها لذلك منتدى لنا نقرأ فيه الصحف على اختلاف ميولها ومذاهبها، وأهمها «اللواء» و«المؤيد» و«الأهرام».
انتقلت إذن من قهوة «الحاج أحمد» بالإسكندرية، إلى قهوة «الخواجة أندريا» بالقاهرة، وكان لهاتين القهوتين أثر كبير في اتجاهي الوطني والسياسي. وبدأت أقرأ اللواء قراءة فهم وإدراك، فتعجبني روحه ومقالاته، وقد تتلمذت لمصطفى كامل (صاحب اللواء) منذ أواخر تلك السنة قبل أن أراه، وصار لي «اللواء» بمثابة المدرسة التي تلقيت عنها مبادئ الوطنية، كما أنه كان مدرسة الوطنية للجيل كله.
أما أول مرة قابلت فيها «مصطفى كامل» ففي فبراير سنة 1906، أثناء إضراب طلبة الحقوق، فقد تاقت نفسي إلى رؤيته، وكان «اللواء» يناصر الطلبة في مطالبهم الحقة، فذهبت مع لفيف من زملائي إلى دار اللواء بشارع الدواوين - نوبار باشا الآن - تجاه وزارة العدل - وكان اسمها وزارة الحقانية. وقابلت الزعيم لأول مرة، وسمعت حديثه، وشعرت بتأثيره الروحي ينفذ إلى أعماق قلبي، وصار لي بمثابة أبي الروحي في المبادئ، وأكثرت من التردد على دار اللواء لكي أقابله وأراه وأسمع صوته، فكان يفيض علينا من الأحاديث التي غرست في نفسي مبادئ الوطنية، ولعله رحمه الله قد توسم في أن أكون من تلاميذه الحافظين لعهده، فعرض علي سنة 1907 أن يوفدني في بعثة صحفية إلى باريس للتخصص في الصحافة بعد حصولي على إجازة الحقوق، فقبلت هذه الثقة شاكرا، ولكن المنية عاجلته في فبراير سنة 1908 قبل تخرجي من المدرسة. (9) نادي المدارس العليا
كانت مدرسة الحقوق أول بيئة للشباب ظهرت فيها روح اليقظة الوطنية ولبت دعوة الزعيم مصطفى كامل؛ إذ كانت الغالبية العظمى من طلبة الحقوق قد استجابت إلى ندائه.
وإذ كان الشعور الوطني الصادق يستتبع النشاط الاجتماعي والعلمي؛ فقد ظهرت بيننا روح التكتل وتنظيم الكفاح، وكان تأسيس نادي المدارس العليا أول مظهر لهذه الروح، ولقد عبرت عن هذا التطور بقولي في كتاب «مصطفى كامل»: تفتحت في قلوب الشباب زهرة الوطنية التي أنبتتها دعوة مصطفى كامل وأخذت تجيش بالشعور الوطني وتتحرك نحو أغراضه وأهدافه، وبدأت علائم اليقظة والحياة تظهر فيهم بشكل عملي سنة 1905، وكان أول مظهر لهذه الحياة الجديدة أن فكر طائفة منهم في إنشاء ناد للمدارس العليا يجمع بين طلبة هذه المدارس وخريجيها.
فكر طلبة الحقوق في إنشاء هذا النادي سنة 1905 وشاركهم في الفكرة طلبة المدارس العليا الأخرى، واجتمعت أول جمعية عمومية له - الجمعية التأسيسية - يوم الجمعة 8 ديسمبر سنة 1905 بإحدى قاعات مدرسة الطب لانتخاب مجلس الإدارة. وبلغ عدد الحاضرين من الطلبة مائتي طالب من مختلف المدارس العليا، وحضره كذلك لفيف من المتخرجين، وكان اشتراكهم في ناد للطلبة دليلا واضحا على تقديرهم للشباب المثقف وما نالوه من ثقة أسلافهم من الخريجين؛ فإنهم لم يجدوا غضاضة في أن يجتمعوا وإياهم في ناد واحد. وفي الحق إنهم كانوا رجالا في شبابهم وأخلاقهم وأساليبهم، فنالوا بذلك تقدير مواطنيهم ممن كانوا يكبرونهم سنا، بل كان بعضهم أساتذة لهم.
اشتركت في الجمعية العمومية التأسيسية لنادي المدارس العليا؛ إذ كنت طالبا في مدرسة الحقوق ومن المشتركين في تأسيسه، وأسفرت عملية الانتخاب عن اختيار المرحوم عمر بك لطفي - وكان وكيلا لمدرسة الحقوق - رئيسا للنادي، وكان من خاصة أصدقاء مصطفى كامل وأنصاره هو وشقيقه المرحوم أحمد بك لطفي.
كملت معدات تأسيس النادي، واتخذ دارا له بالمنزل رقم 4 بشارع قصر النيل بالقرب من سافواي أوتيل القديمة، وافتتح يوم الخميس 5 أبريل سنة 1906. وقد حضرت حفلة الافتتاح مع إخواني المشتركين فيه من طلبة الحقوق. وكان هذا الاحتفال يوما مشهودا، وأخذنا نجتمع بالنادي؛ وبذلك انتقلنا من «قهوة الخواجة أندريا» إلى نادي المدارس العليا. وبدا لنا الفرق كبيرا بين القهوة والنادي؛ فلقد كان بناء فخما تحيط به حديقة غناء، وبه غرف واسعة مؤثثة تأثيثا فاخرا، الأمر الذي لم نعهده من قبل، لا في قهوة الخواجة أندريا، ولا في قهوة الحاج أحمد بالإسكندرية.
وكان اجتماعنا بالخريجين مما زاد في نضجنا العلمي والثقافي، وتعددت المحاضرات والاجتماعات في النادي، فكان لنا شبه معهد علمي عال أكملنا فيه دراستنا وزدنا من ثقافتنا، وقد أفدت منه كثيرا، وكانت به مكتبة غنية بالكتب والصحف والمجلات ساعدتني على توسيع مداركي وترقية أفكاري، ولم تفتني محاضرة ألقيت فيه، وظللت عضوا به إلى أن أقفل بأمر السلطة العسكرية البريطانية سنة 1914 في أوائل الحرب العالمية الأولى، وكان مقره حين أقفل بميدان حليم باشا بعمارة الخاصة الخديوية على ملتقى شارع بولاق «فؤاد» بشارع كامل «إبراهيم باشا». (10) إضراب سنة 1906
نامعلوم صفحہ