كانت هذه الليلة عيدا شاملا لكل من احتوته دار التمثيل، سواء في ذلك الممثلون أو المتفرجون. أما تأثير الرواية فتصور قنبلة تنفجر في مكان آهل، ثم تصور ما يكون لها من دوي يهز الجماد ويحرك الصخور!
ظهرت الرواية على أثر المظاهرات التي اشتركت فيها جميع الطبقات، وقد راعينا أن ندخل في صلب الرواية ألحانا وطنية على ألسنة كل طائفة من الطوائف التي قامت بهذه المظاهرات، بحيث لم ندع واحدة منها إلا أرضيناها بما كان يلقيه الممثلون، حين يتقمصون شخصيات أفراد تلك الطوائف على المسرح، واحدة بعد أخرى.
وناهيك بأزجال يضعها بديع ويلحنها سيد درويش!
وإذا كان للنسيان أن يجر أذياله على الذكريات جميعا، فإني على يقين من أنه لن يمحو من مخيلتي، ذلك المظهر الفاتن الذي بدا من الجمهور في اللحظة التي تحرك فيها الستار مرتفعا عن الفصل الأول في هذه الرواية في كل مساء!
هتاف يرتفع إلى عنان السماء، وتصفيق يكاد يصم الآذان، أما حين أظهر على المسرح بعد ذلك، فلك أنت يا سيدي القارئ أن تقدر ما كنت أقابل به من الجمهور!
دعني أقرب لك الواقع فأقسم أن الدموع كانت تغالب الموقف في عيني، وكان قلبي يطفر اعترافا بالجميل لأبناء الوطن، الذين تهافتوا على أخ لهم يشعر أنه لم يؤد من الواجب عليه إلا قليلا. ومع ذلك فقد ارتفع في نظرهم قدره وسما بينهم ذكره، حتى كدت والله أعذر حسادي فيما فعلوا من محاربتي، لأن هذه المظاهرة الكاملة - بل وأقل منها - كان يكفي لكمدهم ولإشعال نار الحقد بين ضلوعهم.
وبعد أن انتهت الأيام التي قدرناها لرواية (قولوا له)، كنا قد أعددنا الرواية التالية واخترنا لها اسم (رن) ... وقد جاءت كسابقتها شعلة من الوطنية متأججة، ولهبا من الحماس تشتعل ناره ويلتهب أواره، وقد ظهر فيها مع (كشكش بك) تابعه وأمينه (زعرب)، ونجحت بالفعل رواية (رن) كما نجحت سابقاتها.
ماذا أديت للفن؟
على أنه يحلو لي في هذا الوقت أن أعترف بحقائق لم أكن أطالع بها إذ ذاك غير المخلصين من المحبين. فإنني كنت كلما خلوت بنفسي وحاسبتها على ما أديت للفن من خدمات تستحق أن توصلني إلى ذروة الشهرة التي اعتليتها، وإلى أفق الصيت الذي لا يحد مداه، أقول إنني كنت أحاسب نفسي، فأجد أعمالي كلها من الناحية الفنية - صفرا على الشمال! وليس لها من قيمة إلا ما فعلت في الأفئدة من إشعال جذوة الوطنية بين الجماهير، وهذا وحده ليس كافيا لأن يكون مطية ذلولا تطفر بي في ميدان الشهرة هذه الطفرات المتواليات، ولذلك أردت أن أشبع حاستي الفنية، وأن أستبدل بهذا النوع الحالي من الفن نوعا جديدا أرضي به ضميري وجمهوري في آن واحد!
ولكنني بعد أن أعملت الفكر كثيرا، خفت أن يرى الناس نوعا لم يألفوه من قبل. وبذلك يهجرونني فأكون كالغراب حين فتنه مشي العصفور فعمد إلى تقليده، ولما أعيته الحيل فضل العودة إلى مشيته الأصيلة ولكنه كان قد نسيها، فظل على الحال التي نراه بها من القفز الثقيل الظل.
نامعلوم صفحہ